توجيهاتٌ قرآنيةٌ لأصحابِ الدَّعوةِ

توجيهاتٌ قرآنيةٌ لأصحابِ الدَّعوةِ
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين،وعلى آله وصحبه أجمعين،ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإنَّ القرآن الكريم تكلم عن الدعوة إلى الله والدعاة بأساليب وطرق متنوعة،قال تعالى مخاطبا رسوله  : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) } [النحل: 125 - 128]
ادعُ -أيها الرسول- أنت ومَنِ اتبعك إلى دين ربك وطريقه المستقيم،بالطريقة الحكيمة التي أوحاها الله إليك في الكتاب والسنة،وخاطِب الناس بالأسلوب المناسب لهم،وانصح لهم نصحًا حسنًا،يرغبهم في الخير،وينفرهم من الشر،وجادلهم بأحسن طرق المجادلة من الرفق واللين. فما عليك إلا البلاغ،وقد بلَّغْتَ،أما هدايتهم فعلى الله وحده،فهو أعلم بمن ضلَّ عن سبيله،وهو أعلم بالمهتدين.
وإن أردتم -أيها المؤمنون- القصاص ممن اعتدوا عليكم،فلا تزيدوا عما فعلوه بكم،ولئن صبرتم لهو خير لكم في الدنيا بالنصر،وفي الآخرة بالأجر العظيم.
واصبر -أيها الرسول- على ما أصابك مِن أذى في الله حتى يأتيك الفرج،وما صبرك إلا بالله،فهو الذي يعينك عليه ويثبتك،ولا تحزن على مَن خالفك ولم يستجب لدعوتك،ولا تغتم مِن مكرهم وكيدهم; فإن ذلك عائد عليهم بالشر والوبال.
إن الله سبحانه وتعالى مع الذين اتقوه بامتثال ما أمر واجتناب ما نهى بالنصر والتأييد،ومع الذين يحسنون أداء فرائضه والقيام بحقوقه ولزوم طاعته،بعونه وتوفيقه ونصره.
وذكر القرآن الكريم توجيهات كثيرة لأصحاب الدعوة إلى الله،هذه التوجيهات الإلهية هي زاد الداعية إلى الله في كل زمان ومكان .
قال تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60]
فَاصْبِرْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى هُؤلاءِ المُشْرِكِينَ،وَلا تَلْتَفِتْ إلى تَكذِيبِهِم وَمُكَابَرَتِهِمْ،وبَلِّغْهُمْ رِسَالَةَ رَبِّهِمْ،فَإِنَّهُ وَعَدَكَ النَّصْرَ والظَّفَرَ،وسَيُنْجِزُ لَكَ وَعْدَهُ،وَلا يَحْمِلَنَّكَ الذِين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ ( لاَ يُوقِنُونَ ) عَلى الخِفَّةِ والانْفِعَالِ،فَيَصْرِفُوكَ بذلِكَ عَمَّا أَمَرَكَ بهِ رَبُّكَ مِنْ إِبْلاَغِ رسَالاَتِهِ إِلى النَّاسِ .
إنه الصبر وسيلة المؤمنين في الطريق الطويل الشائك الذي قد يبدو أحيانا بلا نهاية! والثقة بوعد اللّه الحق،والثبات بلا قلق ولا زعزعة ولا حيرة ولا شكوك ..الصبر والثقة والثبات على الرغم من اضطراب الآخرين،ومن تكذيبهم للحق وشكهم في وعد اللّه.ذلك أنهم محجوبون عن العلم محرومون من أسباب اليقين.فأما المؤمنون الواصلون الممسكون بحبل اللّه فطريقهم هو طريق الصبر والثقة واليقين.مهما يطل هذا الطريق،ومهما تحتجب نهايته وراء الضباب والغيوم!
وفي هذا الكتاب العديد من هذه التوجيهات لعل الدعاة إلى الله تعالى أن ينتفعوا بها .
أسأل الله تعالى أن ينفع به كاتبه وقارئه وناشره والدال عليه في الدارين .
قال تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [يوسف: 108]
الباحث في القرآن والسنَّة
علي بن نايف الشحود
5 ذو القعدة 1431 هـ الموافق 12/10/2010 م



طريق الدعوة إلى الله

قال تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [النحل: 125]
إن الدعوة دعوة إلى سبيل اللّه.لا لشخص الداعي ولا لقومه.فليس للداعي من دعوته إلا أنه يؤدي واجبه للّه،لا فضل له يتحدث به،لا على الدعوة ولا على من يهتدون به،وأجره بعد ذلك على اللّه.
والدعوة بالحكمة،والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم،والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها.والطريقة التي يخاطبهم بها،والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها.فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه.وبالموعظة الحسنة التي تدخل إلى القلوب برفق،وتتعمق المشاعر بلطف،لا بالزجر والتأنيب في غير موجب.
ولا بفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نية.فإن الرفق في الموعظة كثيرا ما يهدي القلوب الشاردة،ويؤلف القلوب النافرة،ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ.
وبالجدل بالتي هي أحسن.بلا تحامل على المخالف ولا ترذيل له وتقبيح.حتى يطمئن إلى الداعي ويشعر أن ليس هدفه هو الغلبة في الجدل،ولكن الإقناع والوصول إلى الحق.فالنفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها،وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق،حتى لا تشعر بالهزيمة.وسرعان ما تختلط على النفس قيمة الرأي وقيمتها هي عند الناس،فتعتبر التنازل عن الرأي تنازلا عن هيبتها واحترامها وكيانها.والجدل بالحسنى هو الذي يطامن من هذه الكبرياء الحساسة.ويشعر المجادل أن ذاته مصونة،وقيمته كريمة،وأن الداعي لا يقصد إلا كشف الحقيقة في ذاتها،والاهتداء إليها.في سبيل اللّه،لا في سبيل ذاته ونصرة رأيه وهزيمة الرأي الآخر! ولكي يطامن الداعية من حماسته واندفاعه يشير النص القرآني إلى أن اللّه هو الأعلم بمن ضل عن سبيله وهو الأعلم بالمهتدين.فلا ضرورة للجاجة في الجدل إنما هو البيان والأمر بعد ذلك للّه.
هذا هو منهج الدعوة ودستورها ما دام الأمر في دائرة الدعوة باللسان والجدل بالحجة.فأما إذا وقع الاعتداء على أهل الدعوة فإن الموقف يتغير،فالاعتداء عمل مادي يدفع بمثله إعزازا لكرامة الحق،ودفعا لغلبة الباطل،على ألا يتجاوز الرد على الاعتداء حدوده إلى التمثيل والتفظيع،فالإسلام دين العدل والاعتدال،ودين السلم والمسالمة،إنما يدفع عن نفسه وأهله البغي ولا يبغي «وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ».وليس ذلك بعيدا عن دستور الدعوة فهو جزء منه.فالدفع عن الدعوة في حدود القصد والعدل يحفظ لها كرامتها وعزتها،فلا تهون في نفوس الناس.والدعوة المهينة لا يعتنقها أحد،ولا يثق أنها دعوة اللّه.فاللّه لا يترك دعوته مهينة لا تدفع عن نفسها،والمؤمنون باللّه لا يقبلون الضيم وهم دعاة للّه والعزة للّه جميعا.ثم إنهم أمناء على إقامة الحق في هذه الأرض وتحقيق العدل بين الناس،وقيادة البشرية إلى الطريق القويم،فكيف ينهضون بهذا كله وهم يعاقبون فلا يعاقبون،ويعتدى عليهم فلا يردون؟!.
ومع تقرير قاعدة القصاص بالمثل،فإن القرآن الكريم يدعو إلى العفو والصبر،حين يكون المسلمون قادرين على دفع الشر ووقف العدوان،في الحالات التي قد يكون العفو فيها والصبر أعمق أثرا.وأكثر فائدة للدعوة.
فأشخاصهم لا وزن لها إذا كانت مصلحة الدعوة تؤثر العفو والصبر.فأما إذا كان العفو والصبر يهينان دعوة اللّه ويرخصانها،فالقاعدة الأولى هي الأولى.
ولأن الصبر يحتاج إلى مقاومة للانفعال،وضبط للعواطف،وكبت للفطرة،فإن القرآن يصله باللّه ويزين عقباه:«وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ.وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ» ..فهو الذي يعين على الصبر وضبط النفس،والاتجاه إليه هو الذي يطامن من الرغبة الفطرية في رد الاعتداء بمثله والقصاص له بقدره.
ويوصي القرآن الرسول - - وهي وصية لكل داعية من بعده،ألا يأخذه الحزن إذا رأى الناس لا يهتدون،فإنما عليه واجبه يؤديه،والهدى والضلال بيد اللّه،وفق سنته في فطرة النفوس واستعداداتها واتجاهاتها ومجاهدتها للهدى أو للضلال.وألا يضيق صدره بمكرهم فإنما هو داعية للّه،فاللّه حافظه من المكر والكيد،لا يدعه للماكرين الكائدين وهو مخلص في دعوته لا يبتغي من ورائها شيئا لنفسه ..
ولقد يقع به الأذى لامتحان صبره،ويبطئ عليه النصر لابتلاء ثقته بربه،ولكن العاقبة مظنونة ومعروفة «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ» ومن كان اللّه معه فلا عليه ممن يكيدون وممن يمكرون.هذا هو دستور الدعوة إلى اللّه كما رسمه اللّه.والنصر مرهون باتباعه كما وعد اللّه.ومن أصدق من اللّه؟.



التدرج في أحكام القتال في الإسلام

قال تعالى :{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)} [البقرة: 190-193]
ورد في بعض الروايات أن هذه الآيات هي أول ما نزل في القتال.نزل قبلها الإذن من اللّه للمؤمنين الذين يقاتلهم الكفار بأنهم ظلموا .وأحس المؤمنون بأن هذا الإذن هو مقدمة لفرض الجهاد عليهم،وللتمكين لهم في الأرض،كما وعدهم اللّه في آيات سورة الحج:«أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا،وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ.الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا:رَبُّنَا اللَّهُ.وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً.وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ،إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ،الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ،وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» ..
ومن ثم كانوا يعرفون لم أذن لهم بأنهم ظلموا،وأعطيت لهم إشارة الانتصاف من هذا الظلم،بعد أن كانوا مكفوفين عن دفعه وهم في مكة،وقيل لهم:«كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ» ..وكان هذا الكف لحكمة قدرها اللّه ..نستطيع أن نحدس بعض أسبابها على سبيل التقدير البشري الذي لا يحصى ولا يستقصى.
وأول ما نراه من أسباب هذا الكف،أنه كان يراد أولا تطويع نفوس المؤمنين من العرب للصبر امتثالا للأمر،وخضوعا للقيادة،وانتظارا للإذن.وقد كانوا في الجاهلية شديدي الحماسة،يستجيبون لأول ناعق،ولا يصبرون على الضيم ..وبناء الأمة المسلمة التي تنهض بالدور العظيم الذي نيطت به هذه الأمة يقتضي ضبط هذه الصفات النفسية،وتطويعها لقيادة تقدر وتدبر،وتطاع فيما تقدر وتدبر،حتى لو كانت هذه الطاعة على حساب الأعصاب التي تعودت الاندفاع والحماسة والخفة للهيجاء عند أول داع ..ومن ثم استطاع رجال من طراز عمر بن الخطاب في حميته،وحمزة بن عبد المطلب في فتوته،وأمثالهما من أشداء المؤمنين الأوائل أن يصبروا للضيم يصيب الفئة المسلمة وأن يربطوا على أعصابهم في انتظار أمر رسول اللّه - - وأن يخضعوا لأمر القيادة العليا وهي تقول لهم:«كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ» ..ومن ثم وقع التوازن بين الاندفاع والتروي،والحماسة والتدبر،والحمية والطاعة ..في هذه النفوس التي كانت تعد لأمر عظيم.
والأمر الثاني الذي يلوح لنا من وراء الكف عن القتال في مكة ..هو أن البيئة العربية،كانت بيئة نخوة ونجدة.وقد كان صبر المسلمين على الأذى،وفيهم من يملك رد الصاع صاعين،مما يثير النخوة ويحرك القلوب نحو الإسلام وقد حدث بالفعل عند ما أجمعت قريش على مقاطعة بني هاشم في شعب أبي طالب،كي يتخلوا عن حماية الرسول - - أنه عند ما اشتد الاضطهاد لبني هاشم،ثارت نفوس نجدة ونخوة،ومزقت الصحيفة التي تعاهدوا فيها على المقاطعة.وانتهى هذا الحصار تحت تأثير هذا الشعور الذي كانت القيادة الإسلامية في مكة تراعيه في خطة الكف عن المقاومة،فيما يبدو لنا من خلال دراسة السيرة كحركة.
ومما يتعلق بهذا الجانب أن القيادة الإسلامية لم تشأ أن تثير حربا دموية داخل البيوت.فقد كان المسلمون حينذاك فروعا من البيوت.وكانت هذه البيوت هي التي تؤذي أبناءها وتفتنهم عن دينهم ولم تكن هناك سلطة موحدة هي التي تتولى الإيذاء العام.ولو أذن للمسلمين أن يدفعوا عن أنفسهم يومذاك،لكان معنى هذا الإذن أن تقوم معركة في كل بيت،وأن يقع دم في كل أسرة ..مما كان يجعل الإسلام - في نظر البيئة العربية - يبدو دعوة تفتت البيوت،وتشعل النار فيها من داخلها ..فأما بعد الهجرة فقد انعزلت الجماعة المسلمة كوحدة مستقلة،تواجه سلطة أخرى في مكة،تجند الجيوش وتقود الحملات ضدها ..وهذا وضع متغير عما كان عليه الوضع الفردي في مكة،بالنسبة لكل مسلم في داخل أسرته.
هذه بعض الأسباب التي تلوح للنظرة البشرية من وراء الحكمة في كف المسلمين في مكة عن دفع الفتنة والأذى.وقد يضاف إليها أن المسلمين إذ ذاك كانوا قلة،وهم محصورون في مكة،وقد يأتي القتل عليهم لو تعرضوا لقتال المشركين،في صورة جماعة ذات قيادة حربية ظاهرة.فشاء اللّه أن يكثروا،وأن يتحيزوا في قاعدة آمنة،ثم أذن لهم بعد هذا في القتال ..
وعلى أية حال فقد سارت أحكام القتال بعد ذلك متدرجة وفق مقتضيات الحركة الإسلامية في الجزيرة (ثم خارج الجزيرة).وهذه الآيات المبكرة في النزول قد تضمنت بعض الأحكام الموافقة لمقتضيات الموقف في بدء المناجزة بين المعسكرين الأساسيين.معسكر الإسلام ومعسكر الشرك.وهي في الوقت ذاته تمثل بعض الأحكام الثابتة في القتال بوجه عام،ولم تعدل من ناحية المبدأ إلا تعديلا يسيرا في سورة براءة.
ولعله يحسن أن نقول كلمة مجملة عن الجهاد في الإسلام،تصلح أساسا لتفسير آيات القتال هنا،وفي المواضع القرآنية الأخرى،قبل مواجهة النصوص القرآنية في هذا الموضع بصفة خاصة:
لقد جاءت هذه العقيدة في صورتها الأخيرة التي جاء بها الإسلام لتكون قاعدة للحياة البشرية في الأرض من بعدها،ولتكون منهجا عاما للبشرية جميعها ولتقوم الأمة المسلمة بقيادة البشرية في طريق اللّه وفق هذا المنهج،المنبثق من التصور الكامل الشامل لغاية الوجود كله ولغاية الوجود الإنساني،كما أو ضحهما القرآن الكريم،المنزل من عند اللّه.قيادتها إلى هذا الخير الذي لا خير غيره في مناهج الجاهلية جميعا،ورفعها إلى هذا المستوي الذي لا تبلغه إلا في ظل هذا المنهج،وتمتيعها بهذه النعمة التي لا تعدلها نعمة،والتي تفقد البشرية كل نجاح وكل فلاح حين تحرم منها،ولا يعتدي عليها معتد بأكثر من حرمانها من هذا الخير،والحيلولة بينها وبين ما أراده لها خالقها من الرفعة والنظافة والسعادة والكمال.
ومن ثم كان من حق البشرية أن تبلغ إليها الدعوة إلى هذا المنهج الإلهي الشامل،وألا تقف عقبة أو سلطة في وجه التبليغ بأي حال من الأحوال.
ثم كان من حق البشرية كذلك أن يترك الناس بعد وصول الدعوة إليهم أحرارا في اعتناق هذا الدين لا تصدهم عن اعتناقه عقبة أو سلطة.فإذا أبى فريق منهم أن يعتنقه بعد البيان،لم يكن له أن يصد الدعوة عن المضي في طريقها.وكان عليه أن يعطي من العهود ما يكفل لها الحرية والاطمئنان وما يضمن للجماعة المسلمة المضي في طريق التبليغ بلا عدوان ..
فإذا اعتنقها من هداهم اللّه إليها كان من حقهم ألا يفتنوا عنها بأي وسيلة من وسائل الفتنة.لا بالأذى ولا بالإغراء.ولا بإقامة أوضاع من شأنها صد الناس عن الهدى وتعويقهم عن الاستجابة.وكان من واجب الجماعة المسلمة أن تدفع عنهم بالقوة من يتعرض لهم بالأذى والفتنة.ضمانا لحرية العقيدة،وكفالة لأمن الذين هداهم اللّه،وإقرارا لمنهج اللّه في الحياة،وحماية للبشرية من الحرمان من ذلك الخير العام.
وينشأ عن تلك الحقوق الثلاثة واجب آخر على الجماعة المسلمة وهو أن تحطم كل قوة تعترض طريق الدعوة وإبلاغها للناس في حرية،أو تهدد حرية اعتناق العقيدة وتفتن الناس عنها.وأن تظل تجاهد حتى تصبح الفتنة للمؤمنين باللّه غير ممكنة لقوة في الأرض،ويكون الدين للّه ..لا بمعنى إكراه الناس على الإيمان.ولكن بمعنى استعلاء دين اللّه في الأرض،بحيث لا يخشى أن يدخل فيه من يريد الدخول ولا يخاف قوة في الأرض تصده عن دين اللّه أن يبلغه،وأن يستجيب له،وأن يبقى عليه.وبحيث لا يكون في الأرض وضع أو نظام يحجب نور اللّه وهداه عن أهله ويضلهم عن سبيل اللّه.بأية وسيلة وبأية أداة.
وفي حدود هذه المبادئ العامة كان الجهاد في الإسلام.
وكان لهذه الأهداف العليا وحدها،غير متلبسة بأي هدف آخر،ولا بأي شارة أخرى.
إنه الجهاد للعقيدة.لحمايتها من الحصار وحمايتها من الفتنة وحماية منهجها وشريعتها في الحياة وإقرار رايتها في الأرض بحيث يرهبها من يهم بالاعتداء عليها قبل الاعتداء وبحيث يلجأ إليها كل راغب فيها لا يخشى قوة أخرى في الأرض تتعرض له أو تمنعه أو تفتنه.
وهذا هو الجهاد الوحيد الذي يأمر به الإسلام،ويقره ويثيب عليه ويعتبر الذين يقتلون فيه شهداء والذين يحتملون أعباءه أولياء.
وهذه الآيات من سورة البقرة في هذا الدرس كانت تواجه وضع الجماعة المسلمة في المدينة مع مشركي قريش الذين أخرجوا المؤمنين من ديارهم،وآذوهم في دينهم،وفتنوهم في عقيدتهم،وهي - مع هذا - تمثل قاعدة أحكام الجهاد في الإسلام:
وتبدأ الآيات بأمر المسلمين بقتال هؤلاء الذين قاتلوهم وما يزالون يقاتلونهم،وبقتال من يقاتلهم في أي وقت وفي أي مكان،ولكن دون اعتداء:«وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ،وَلا تَعْتَدُوا،إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» ..
وفي أول آية من آيات القتال نجد التحديد الحاسم لهدف القتال،والراية التي تخاض تحتها المعركة في وضوح وجلاء:«وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ»..
إنه القتال للّه،لا لأي هدف آخر من الأهداف التي عرفتها البشرية في حروبها الطويلة.القتال في سبيل اللّه.لا في سبيل الأمجاد والاستعلاء في الأرض،ولا في سبيل المغانم والمكاسب ولا في سبيل الأسواق والخامات ولا في سبيل تسويد طبقة على طبقة أو جنس على جنس ..إنما هو القتال لتلك الأهداف المحددة التي من أجلها شرع الجهاد في الإسلام،القتال لإعلاء كلمة اللّه في الأرض،وإقرار منهجه في الحياة،وحماية المؤمنين به أن يفتنوا عن دينهم،أو أن يجرفهم الضلال والفساد،وما عدا هذه فهي حرب غير مشروعة في حكم الإسلام،وليس لمن يخوضها أجر عند اللّه ولا مقام.
ومع تحديد الهدف،تحديد المدى:«وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» ..والعدوان يكون بتجاوز المحاربين المعتدين إلى غير المحاربين من الآمنين المسالمين الذين لا يشكلون خطرا على الدعوة الإسلامية ولا على الجماعة المسلمة،كالنساء والأطفال والشيوخ والعباد المنقطعين للعبادة من أهل كل ملة ودين ..كما يكون بتجاوز آداب القتال التي شرعها الإسلام،ووضع بها حدا للشناعات التي عرفتها حروب الجاهليات الغابرة والحاضرة على السواء ..تلك الشناعات التي ينفر منها حس الإسلام،وتأباها تقوى الإسلام.
وهذه طائفة من أحاديث الرسول - - ووصايا أصحابه،تكشف عن طبيعة هذه الآداب،التي عرفتها البشرية أول مرة على يد الإسلام:
عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ وُجِدَتِ امْرَأَةٌ مَقْتُولَةً فِى بَعْضِ مَغَازِى رَسُولِ اللَّهِ - -،فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - - عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ .
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - - قَالَ « إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ » .(أخرجه الشيخان) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّهُ قَالَ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - - فِى بَعْثٍ فَقَالَ « إِنْ وَجَدْتُمْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا فَأَحْرِقُوهُمَا بِالنَّارِ » ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - - حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ « إِنِّى أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحْرِقُوا فُلاَنًا وَفُلاَنًا،وَإِنَّ النَّارَ لاَ يُعَذِّبُ بِهَا إِلاَّ اللَّهُ،فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا » . .
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ،قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ:إِنَّ أَعَفَّ النَّاسِ قِتْلَةً أَهْلُ الإِيمَانِ .
وعن عَدِىَّ بْنِ ثَابِتٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ الأَنْصَارِىَّ - وَهُوَ جَدُّهُ أَبُو أُمِّهِ - قَالَ نَهَى النَّبِىُّ - - عَنِ النُّهْبَى وَالْمُثْلَةِ .(أخرجه البخاري) .
وعَنْ عُبَيْدِ بْنِ تِعْلَى،أَنَّهُ قَالَ :غَزَوْنَا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ،فَأُتِيَ بِأَرْبَعَةِ أَعْلاَجٍ مَعَ الْعَدُوِّ،فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُتِلُوا صَبْرًا بِالنَّبْلِ،فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا أَيُّوبَ،فَقَالَ :سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ  يَنْهَى عَنْ قَتْلِ الصَّبْرِ،وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ،لَوْ كَانَتْ دَجَاجَةٌ مَا صَبَرْتُهَا فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ خَالِدٍ،فَأَعْتَقَ أَرْبَعَ رِقَابٍ.(أخرجه أبو داود) .
عَنْ مُسْلِمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُسْلِمٍ التَّمِيمِيِّ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ:بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ فِي سَرِيَّةٍ،فَلَمَّا بَلَغْنَا الْمُغَارَ،اسْتَحْثَثْتُ فَرَسِي،فَسَبَقْتُ أَصْحَابِي،فَتَلَقَّانِي الْحَيُّ بِالرَّنِينِ،فَقُلْتُ:قُولُوا:لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تُحَرَّزُوا،فَقَالُوهَا،فَلاَمَنِي أَصْحَابِي،وَقَالُوا:حُرِمْنَا الْغَنِيمَةَ بَعْدَ أَنْ رُدَّتْ بِأَيْدِينَا،فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ،أَخْبَرُوهُ بِمَا صَنَعْتُ،فَدَعَانِي،فَحَسَّنَ لِي مَا صَنَعْتُ،وَقَالَ:أَمَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ لَكَ بِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ كَذَا وَكَذَا.
وعن مُسْلِمَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُسْلِمٍ التَّمِيمِيِّ،أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ:أَنَّ رَسُولَ اللهِ أَرْسَلَهُمْ فِي سَرِيَّةٍ،قَالَ فَلَمَّا بَلَغْنَا الْمُغَارَ،اسْتَحْثَثْتُ فَرَسِي،فَسَبَقْتُ أَصْحَابِي،قَالَ:وَاسْتَقْبَلْنَا الْحَيَّ بِالرَّنِينِ،فَقُلْتُ لَهُمْ:قُولُوا:لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تُحْرَزُوا،فَقَالُوهَا،وَجَاءَ أَصْحَابِي فَلَامُونِي،وَقَالُوا:حَرَمْتَنَا الْغَنِيمَةَ بَعْدَ أَنْ بَرَدَتْ فِي أَيْدِينَا،قَالَ:فَلَمَّا قَفَلْنَا،ذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ فَدَعَانِي،فَحَسَّنَ مَا صَنَعْتُ،وَقَالَ:" أَمَا إِنَّ اللهَ قَدْ كَتَبَ لَكَ مِنْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ كَذَا وَكَذَا "،قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَإِذَا نَسِيتُ ذَلِكَ،قَالَ:ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ :" أَمَا إِنِّي سَأَكْتُبُ لَكَ كِتَابًا وَأُوصِي بِكَ مَنْ يَكُونُ بَعْدِي مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ " فَفَعَلَ،وَخَتَمَ عَلَيْهِ وَدَفَعَهُ إِلَيَّ،قَالَ:وَقَالَ لِي:" إِذَا صَلَّيْتَ الْغَدَاةَ فَقُلْ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمَ أَحَدًا:اللهُمَّ أَجِرْنِي مِنَ النَّارِ سَبْعَ مَرَّاتٍ،فَإِنَّكَ إِنْ مُتَّ مِنْ يَوْمِكَ ذَلِكَ كَتَبَ اللهُ لَكَ جِوَارًا مِنَ النَّارِ،وَإِذَا صَلَّيْتَ الْمَغْرِبَ،فَقُلْ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمَ أَحَدًا:اللهُمَّ أَجِرْنِي مِنَ النَّارِ سَبْعَ مَرَّاتٍ،فَإِنَّكُ إِنْ مُتُّ مِنْ لَيْلَتِكَ،كَتَبَ اللهُ لَكَ جِوَازًا مِنَ النَّارِ " قَالَ فَلَمَّا قَبَضَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ،أَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ بِالْكِتَابِ،فَفَضَّهَ فَقَرَأَهُ،وَأَمَرَ لِي وَخَتَمَ عَلَيْهِ،ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ عُمَرَ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ،ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ عُثْمَانَ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ . قَالَ مُسْلِمُ بْنُ حَارِثٍ فَتُوُفِّيَ الْحَارِثُ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ،فَكَانَ الْكِتَابُ عِنْدَنَا حَتَّى وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ،فَكَتَبَ إِلَى عَامَلَ قِبَلِنَا أَنْ أَشْخِصْ إِلَيَّ مُسْلِمَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ مُسْلِمٍ التَّمِيْمِيَّ بِكِتَابِ رَسُولِ اللهِ الَّذِي كَتَبَهُ لِأَبِيهِ،قَالَ:فَشَخَصْتُ بِهِ إِلَيْهِ فَقَرَأَهُ،وَأَمَرَ لِي،وَخَتَمَ عَلَيْهِ،ثُمَّ قَالَ:أَمَا إِنِّي لَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ إِلَّا لِتُحَدِّثَنِي بِمَا حَدَّثَكَ بِهِ أَبُوكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ،قَالَ:فَحَدَّثْتُهُ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ "
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ،أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا بَعَثَ الْجُنُودَ نَحْوَ الشَّامِ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ،وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ،وَشُرَحْبِيلَ ابْنَ حَسَنَةَ،قَالَ :لَمَّا رَكِبُوا مَشَى أَبُو بَكْرٍ مَعَ أُمَرَاءِ جُنُودِهِ يُوَدِّعُهُمْ حَتَّى بَلَغَ ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ،فَقَالُوا :يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ،أَتَمْشِي وَنَحْنُ رُكْبَانٌ ؟ فَقَالَ :" إِنِّي أَحْتَسِبُ خُطَايَ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " . ثُمَّ جَعَلَ يُوصِيهِمْ،فَقَالَ :" أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ،اغْزُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ،فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرٌ دِينَهُ،وَلَا تَغُلُّوا،وَلَا تَغْدِرُوا،وَلَا تَجْبُنُوا،وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ،وَلَا تَعْصُوا مَا تُؤْمَرُونَ،فَإِذَا لَقِيتُمُ الْعَدُوَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَادْعُوهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ،فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ وَكُفُّوا عَنْهُمْ،ادْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ،فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ وَكُفُّوا عَنْهُمْ،ثُمَّ ادْعُوهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ،فَإِنْ هُمْ فَعَلُوا فَأَخْبِرُوهُمْ أَنَّ لَهُمْ مِثْلَ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ،وَإِنْ هُمْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَاخْتَارُوا دَارَهُمْ عَلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ فَأَخْبِرُوهُمْ أَنَّهُمْ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ،يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي فَرَضَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ،وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ وَالْغَنَائِمِ شَيْءٌ حَتَّى يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ،فَإِنْ هُمْ أَبَوْا أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ فَادْعُوهُمْ إِلَى الْجِزْيَةِ،فَإِنْ هُمْ فَعَلُوا فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ وَكُفُّوا عَنْهُمْ،وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِينُوا بِاللَّهِ عَلَيْهِمْ فَقَاتِلُوهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ،وَلَا تُغْرِقُنَّ نَخْلًا وَلَا تَحْرِقُنَّهَا،وَلَا تَعْقِرُوا بَهِيمَةً،وَلَا شَجَرَةً تُثْمِرُ،وَلَا تَهْدِمُوا بَيْعَةً،وَلَا تَقْتُلُوا الْوِلْدَانَ وَلَا الشُّيُوخَ وَلَا النِّسَاءَ،وَسَتَجِدُونَ أَقْوَامًا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الصَّوَامِعِ فَدَعُوهُمْ وَمَا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ،وَسَتَجِدُونَ آخَرِينَ اتَّخَذَ الشَّيْطَانُ فِي رُءُوسِهِمْ أَفْحَاصًا،فَإِذَا وَجَدْتُمْ أُولَئِكَ فَاضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ " ..
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدَةَ،أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ،رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَمَّرَ عَلَى الْأَجْنَادِ :يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى جُنْدٍ،وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَلَى جُنْدٍ،وَشُرَحْبِيلَ ابْنَ حَسَنَةَ عَلَى جُنْدٍ،وَأَمَّرَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى جُنْدٍ،ثُمَّ جَعَلَ يَزِيدَ عَلَى الْجَمَاعَةِ،وَخَرَجَ مَعَهُ يُشَيِّعُهُ وَيُوصِيهِ،وَيَزِيدُ رَاكِبٌ،وَأَبُو بَكْرٍ يَمْشِي إِلَى جَنْبِهِ،فَقَالَ يَزِيدُ :يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ إِمَّا أَنْ تَرْكَبَ،وَإِمَّا أَنْ أَنْزِلَ وَأَمْشِيَ مَعَكَ،فَقَالَ :إِنِّي لَسْتُ بِرَاكِبٍ،وَلَسْتُ بِتَارِكِكَ أَنْ تَنْزِلَ , إِنِّي أَحْتَسِبُ هَذَا الْخَطْوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ،يَا يَزِيدُ إِنَّكُمْ سَتَقْدَمُونَ أَرْضًا يُقَدَّمُ إِلَيْكُمْ فِيهَا أَلْوَانُ الْأَطْعِمَةِ،فَسَمُّوا اللَّهَ إِذَا أَكَلْتُمْ،وَاحْمَدُوهُ إِذَا فَرَغْتُمْ،يَا يَزِيدُ،إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ قَوْمًا قَدْ فَحَصُوا أَوْسَاطَ رُءُوسِهِمْ فَهِيَ كَالْعَصَائِبِ،فَفَلَقُوا هَامَهُمْ بِالسُّيُوفِ،وَسَتَمُرُّونَ عَلَى قَوْمٍ فِي صَوَامِعَ لَهُمْ،احْتَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا،فَدَعْهُمْ حَتَّى يُمِيتَهُمُ اللَّهُ فِيهَا عَلَى ضَلَالَتِهِمْ،يَا يَزِيدُ لَا تَقْتُلْ صَبِيًّا،وَلَا امْرَأَةً،وَلَا صَغِيرًا،وَلَا تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا،وَلَا تَعْقِرَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا،وَلَا دَابَّةً عَجْمَاءَ،وَلَا بَقَرَةً،وَلَا شَاةً إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ،وَلَا تَحْرِقَنَّ نَخْلًا،وَلَا تُغَرِّقَنَّهُ،وَلَا تَغْلُلْ،وَلَا تَجْبُنْ "
فهذه هي الحرب التي يخوضها الإسلام وهذه هي آدابه فيها وهذه هي أهدافه منها ..وهي تنبثق من ذلك التوجيه القرآني الجليل:«وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ،وَلا تَعْتَدُوا،إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» ..
وقد كان المسلمون يعلمون أنهم لا ينصرون بعددهم - فعددهم قليل - ولا ينصرون بعدتهم وعتادهم - فما معهم منه أقل مما مع أعدائهم - إنما هم ينصرون بإيمانهم وطاعتهم وعون اللّه لهم.فإذا هم تخلوا عن توجيه اللّه لهم وتوجيه رسول اللّه - - فقد تخلوا عن سبب النصر الوحيد الذي يرتكنون إليه.ومن ثم كانت تلك الآداب مرعية حتى مع أعدائهم الذين فتنوهم ومثلوا ببعضهم أشنع التمثيل ..ولما فار الغضب برسول اللّه - - فأمر بحرق فلان وفلان (رجلين من قريش) عاد فنهى عن حرقهما،لأنه لا يحرق بالنار إلا اللّه .
ثم يمعن السياق في توكيد القتال لهؤلاء الذين قاتلوا المسلمين وفتنو هم في دينهم،وأخرجوهم من ديارهم،والمضي في القتال حتى يقتلو هم على أية حالة،وفي أي مكان وجدوهم.باستثناء المسجد الحرام.إلا أن يبدأ الكفار فيه بالقتال.وإلا أن يدخلوا في دين اللّه فتكف أيدي المسلمين عنهم،مهما كانوا قد آذوهم من قبل وقاتلوهم وفتنوهم:«وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ،وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ - وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ.وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ.فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ.كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ.فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
إن الفتنة عن الدين اعتداء على أقدس ما في الحياة الإنسانية.ومن ثم فهي أشد من القتل.أشد من قتل النفس وإزهاق الروح وإعدام الحياة.ويستوي أن تكون هذه الفتنة بالتهديد والأذى الفعلي،أو بإقامة أوضاع فاسدة من شأنها أن تضل الناس وتفسدهم وتبعدهم عن منهج اللّه،وتزين لهم الكفر به أو الإعراض عنه.وأقرب الأمثلة على هذا هو النظام الشيوعي الذي يحرم تعليم الدين ويبيح تعليم الإلحاد،ويسن تشريعات تبيح المحرمات كالزنا والخمر،ويحسنها للناس بوسائل التوجيه بينما يقبح لهم اتباع الفضائل المشروعة في منهج اللّه.ويجعل من هذه الأوضاع فروضا حتمية لا يملك الناس التفلت منها.
وهذه النظرة الإسلامية لحرية العقيدة،وإعطاؤها هذه القيمة الكبرى في حياة البشرية ..هي التي تتفق مع طبيعة الإسلام،ونظرته إلى غاية الوجود الإنساني.فغاية الوجود الإنساني هي العبادة (ويدخل في نطاقها كل نشاط خير يتجه به صاحبه إلى اللّه).وأكرم ما في الإنسان حرية الاعتقاد.فالذي يسلبه هذه الحرية،ويفتنه عن دينه فتنة مباشرة أو بالواسطة،يجني عليه ما لا يجني عليه قاتل حياته.ومن ثم يدفعه بالقتل ..
لذلك لم يقل:وقاتلوهم.إنما قال:«وَاقْتُلُوهُمْ» ..«وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ» ..أي حيث وجدتموهم.
في أية حالة كانوا عليها وبأية وسيلة تملكونها - مع مراعاة أدب الإسلام في عدم المثلة أو الحرق بالنار.
ولا قتال عند المسجد الحرام،الذي كتب اللّه له الأمن،وجعل جواره آمنا استجابة لدعوة خليله إبراهيم (عليه السلام) وجعله مثابة يثوب إليها الناس فينالون فيه الأمن والحرمة والسلام ..لا قتال عند المسجد الحرام إلا للكافرين الذين لا يرعون حرمته،فيبدأون بقتال المسلمين عنده.وعند ذلك يقاتلهم المسلمون ولا يكفون عنهم حتى يقتلوهم ..فذلك هو الجزاء اللائق بالكافرين،الذين يفتنون الناس عن دينهم،ولا يرعون حرمة للمسجد الحرام،الذي عاشوا في جواره آمنين.
«فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..والانتهاء الذي يستأهل غفران اللّه ورحمته،هو الانتهاء عن الكفر،لا مجرد الانتهاء عن قتال المسلمين أو فتنتهم عن الدين.فالانتهاء عن قتال المسلمين وفتنتهم قصاراه أن يهادنهم المسلمون.ولكنه لا يؤهل لمغفرة اللّه ورحمته.فالتلويح بالمغفرة والرحمة هنا يقصد به إطماع الكفار في الإيمان،لينالوا المغفرة والرحمة بعد الكفر والعدوان.
وما أعظم الإسلام،وهو يلوح للكفار بالمغفرة والرحمة،ويسقط عنهم القصاص والدية بمجرد دخولهم في الصف المسلم،الذي قتلوا منه وفتنوا،وفعلوا بأهله الأفاعيل!!!
وغاية القتال هي ضمانة ألا يفتن الناس عن دين اللّه،وألا يصرفوا عنه بالقوة أو ما يشبهها كقوة الوضع الذي يعيشون فيه بوجه عام،وتسلط عليهم فيه المغريات والمضلات والمفسدات.وذلك بأن يعز دين اللّه ويقوى جانبه،ويهابه أعداؤه،فلا يجرؤوا على التعرض للناس بالأذى والفتنة،ولا يخشى أحد يريد الإيمان أن تصده عنه قوة أو أن تلحق به الأذى والفتنة ..والجماعة المسلمة مكلفة إذن أن تظل تقاتل حتى تقضي على هذه القوى المعتدية الظالمة وحتى تصبح الغلبة لدين اللّه والمنعة:« وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ.فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ» ..
وإذا كان النص - عند نزوله - يواجه قوة المشركين في شبه الجزيرة،وهي التي كانت تفتن الناس،وتمنع أن يكون الدين للّه،فإن النص عام الدلالة،مستمر التوجيه.والجهاد ماض إلى يوم القيامة.ففي كل يوم تقوم قوة ظالمة تصد الناس عن الدين،وتحول بينهم وبين سماع الدعوة إلى اللّه،والاستجابة لها عند الاقتناع،والاحتفاظ بها في أمان.والجماعة المسلمة مكلفة في كل حين أن تحطم هذه القوة الظالمة وتطلق الناس أحرارا من قهرها،يستمعون ويختارون ويهتدون إلى اللّه.
وهذا التكرار في الحديث عن منع الفتنة،بعد تفظيعها واعتبار ها أشد من القتل ..هذا التكرار يوحي بأهمية الأمر في اعتبار الإسلام وينشئ مبدأ عظيما يعني في حقيقته ميلادا جديدا للإنسان على يد الإسلام.
ميلادا تتقرر فيه قيمة الإنسان بقيمة عقيدته،وتوضع حياته في كفة وعقيدته في كفة،فترجح كفة العقيدة.
كذلك يتقرر في هذا المبدأ من هم أعداء «الإنسان» ..إنهم أولئك الذين يفتنون مؤمنا عن دينه،ويؤذون مسلما بسبب إسلامه.أولئك الذين يحرمون البشرية أكبر عنصر للخير ويحولون بينها وبين منهج اللّه ..
وهؤلاء على الجماعة المسلمة أن تقاتلهم،وأن تقتلهم حيث وجدتهم «حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ» ..
وهذا المبدأ العظيم الذي سنه الإسلام في أوائل ما نزل من القرآن عن القتال ما يزال قائما.وما تزال العقيدة تواجه من يعتدون عليها وعلى أهلها في شتى الصور ..وما يزال الأذى والفتنة تلم بالمؤمنين أفرادا وجماعات وشعوبا كاملة في بعض الأحيان ..وكل من يتعرض للفتنة في دينه والأذى في عقيدته في أية صورة من الصور،وفي أي شكل من الأشكال،مفروض عليه أن يقاتل وأن يقتل وأن يحقق المبدأ العظيم الذي سنه الإسلام،فكان ميلادا جديدا للإنسان ..
فإذا انتهى الظالمون عن ظلمهم وكفوا عن الحيلولة بين الناس وربهم فلا عدوان عليهم - أي لا مناجزة لهم - لأن الجهاد إنما يوجه إلى الظلم والظالمين:«فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ» .
ويسمى دفع الظالمين ومناجزتهم عدوانا من باب المشاكلة اللفظية.وإلا فهو العدل والقسط ودفع العدوان عن المظلومين.



شتان بين القاعدين والمجاهدين في سبيل الله

قال تعالى : {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)} [النساء: 95،96]
إن هذا النص القرآني كان يواجه حالة خاصة في المجتمع المسلم وما حوله وكان يعالج حالة خاصة في هذا المجتمع من التراخي - من بعض عناصره - في النهوض بتكاليف الجهاد بالأموال والأنفس.سواء كان المقصود أولئك الذين تخلفوا عن الهجرة احتفاظا بأموالهم،إذ لم يكن المشركون يسمحون لمهاجر أن يحمل معه شيئا من ماله أو توفيرا لعناء الهجرة وما فيها من مخاطر،إذ لم يكن المشركون يتركون المسلمين يهاجرون،وكثيرا ما كانوا يحبسونهم ويؤذونهم - أو يزيدون في إيذائهم بتعبير أدق - إذا عرفوا منهم نية الهجرة ..سواء كان المقصود هم أولئك الذين تخلفوا عن الهجرة - وهو ما نرجحه - أو كان المقصود بعض المسلمين في دار الإسلام،الذين لم ينشطوا للجهاد بالأموال والأنفس - من غير المنافقين المبطئين الذين ورد ذكرهم في درس سابق - أو كان المقصود هؤلاء وهؤلاء ممن لم ينشطوا للجهاد بالأموال والأنفس في دار الحرب ودار الإسلام سواء.
إن هذا النص كان يواجه هذه الحالة الخاصة ولكن التعبير القرآني يقرر قاعدة عامة يطلقها من قيود الزمان،وملابسات البيئة ويجعلها هي القاعدة التي ينظر اللّه بها إلى المؤمنين في كل زمان وفي كل مكان - قاعدة عدم الاستواء بين القاعدين من المؤمنين عن الجهاد بالأموال والأنفس - غير أولي الضرر الذين يقعدهم العجز عن الجهاد بالنفس،أو يقعدهم الفقر والعجز عن الجهاد بالنفس والمال - عدم الاستواء بين هؤلاء القاعدين والآخرين الذين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم ..قاعدة عامة على الإطلاق:«لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ - وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ» ..
ولا يتركها هكذا مبهمة،بل يوضحها ويقررها،ويبين طبيعة عدم الاستواء بين الفريقين:«فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً» ..
وهذه الدرجة يمثلها رسول اللّه في مقامهم في الجنة.ففي الصحيح عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - - قَالَ « مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ،وَأَقَامَ الصَّلاَةَ،وَصَامَ رَمَضَانَ،كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ هَاجَرَ،فِى سَبِيلِ اللَّهِ،أَوْ جَلَسَ فِى أَرْضِهِ الَّتِى وُلِدَ فِيهَا » .قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نُنَبِّئُ النَّاسَ بِذَلِكَ .قَالَ « إِنَّ فِى الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِى سَبِيلِهِ،كُلُّ دَرَجَتَيْنِ مَا بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ،فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ،فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ،وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ،وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ »
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ :"مَنْ بَلَغَ بِسَهْمٍ فَلَهُ دَرَجَةٌ.فَقَالَ رَجُلٌ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،وَمَا الدَّرَجَةُ ؟ قَالَ:أَمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَتَبَةِ أُمِّكَ،مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ مِائَةُ عَامٍ" .
وعَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمْطِ،قَالَ:قُلْنَا لِكَعْبِ بْنِ مُرَّةَ:يَا كَعْبُ،حَدِّثْنَا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَاحْذَرْ،فَقَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ:مَنْ بَلَغَ الْعَدُوَّ بِسَهْمٍ رَفَعَ اللَّهُ بِهِ دَرَجَةً لَهُ،فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ النَّحَّامِ:يَا رَسُولَ اللهِ،وَمَا الدَّرَجَةُ ؟ قَالَ:أَمَا إِنَّهَا لَيْسَتْ بِعَتَبَةِ أُمِّكَ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ مِائَةُ عَامٍ."
وهذه المسافات التي يمثل بها رسول اللّه ،نحسب أننا اليوم أقدر على تصورها بعد الذي عرفناه من بعض أبعاد الكون.حتى إن الضوء ليصل من نجم إلى كوكب في مئات السنين الضوئية! وقد كان الذين يسمعون رسول اللّه - - يصدقونه بما يقول.ولكنا - كما قلت - ربما كنا أقدر - فوق الإيمان - على تصور هذه الأبعاد بما عرفناه من بعض أبعاد الكون العجيب! ثم يعود السياق بعد تقرير هذا الفارق في المستوي بين القاعدين من المؤمنين - غير أولي الضرر - والمجاهدين بأموالهم وأنفسهم،فيقرر أن اللّه وعد جميعهم الحسنى:«وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى » ..
فللإيمان وزنه وقيمته على كل حال مع تفاضل أهله في الدرجات وفق تفاضلهم في النهوض بتكاليف الإيمان فيما يتعلق بالجهاد بالأموال والأنفس ..وهذا الاستدراك هو الذي نفهم منه أن هؤلاء القاعدين ليسوا هم المنافقين المبطئين.إنما هم طائفة أخرى صالحة في الصف المسلم ومخلصة ولكنها قصرت في هذا الجانب والقرآن يستحثها لتلافي التقصير والخير مرجو فيها،والأمل قائم في أن تستجيب.فإذا انتهى من هذا الاستدراك عاد لتقرير القاعدة الأولى مؤكدا لها،متوسعا في عرضها ممعنا في الترغيب فيما وراءها من أجر عظيم:«وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً.دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً.وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً».وهذا التوكيد ..وهذه الوعود ..وهذا التمجيد للمجاهدين ..والتفضيل على القاعدين ..والتلويح بكل ما تهفو له نفس المؤمن من درجات الأجر العظيم ..ومن مغفرة اللّه ورحمته للذنوب والتقصير ..هذا كله يشي بحقيقتين هامتين:
الحقيقة الأولى:هي أن هذه النصوص كانت تواجه حالات قائمة في الجماعة المسلمة كما أسلفنا وتعالجها.وهذا كفيل بأن يجعلنا أكثر إدراكا لطبيعة النفس البشرية،ولطبيعة الجماعات البشرية،وأنها مهما بلغت في مجموعها من التفوق في الإيمان والتربية فهي دائما في حاجة إلى علاج ما يطرأ عليها من الضعف والحرص والشح والتقصير في مواجهة التكاليف،وبخاصة تكاليف الجهاد بالأموال والأنفس،مع خلوص النفس للّه،وفي سبيل اللّه.وظهور هذه الخصائص البشرية - من الضعف والحرص والشح والتقصير - لا يدعو لليأس من النفس أو الجماعة،ولا إلى نفض اليد منها،وازدرائها طالما أن عناصر الإخلاص والجد والتعلق بالصف والرغبة في التعامل مع اللّه موفورة فيها ..ولكن ليس معنى هذا هو إقرار النفس أو الجماعة على ما بدا منها من الضعف والحرص والشح والتقصير والهتاف لها بالانبطاح في السفح،باعتبار أن هذا كله جزء من «واقعها»! بل لا بد لها من الهتاف لتنهض من السفح والحداء لتسير في المرتقى الصاعد،إلى القمة السامقة.بكل ألوان الهتاف والحداء ..كما نرى هنا في المنهج الرباني الحكيم.
والحقيقة الثانية:هي قيمة الجهاد بالأموال والأنفس في ميزان اللّه واعتبار ات هذا الدين وأصالة هذا العنصر في طبيعة هذه العقيدة وهذا النظام.لما يعلمه اللّه - سبحانه - من طبيعة الطريق وطبيعة البشر وطبيعة المعسكرات المعادية للإسلام في كل حين.
إن «الجهاد» ليس ملابسة طارئة من ملابسات تلك الفترة.إنما هو ضرورة مصاحبة لركب هذه الدعوة! وليست المسألة - كما توهم بعض المخلصين - أن الإسلام نشأ في عصر الإمبراطوريات فاندس في تصورات أهله - اقتباسا مما حولهم - أنه لا بد لهم من قوة قاهرة لحفظ التوازن! هذه المقررات تشهد - على الأقل - بقلة ملابسة طبيعة الإسلام الأصيلة لنفوس هؤلاء القائلين بهذه التكهنات والظنون.
لو كان الجهاد ملابسة طارئة في حياة الأمة المسلمة ما استغرق كل هذه الفصول من صلب كتاب اللّه في مثل هذا الأسلوب! ولما استغرق كذلك كل هذه الفصول من سنة رسول اللّه - - وفي مثل هذا الأسلوب.لو كان الجهاد ملابسة طارئة ما قال رسول اللّه  تلك الكلمة الشاملة لكل مسلم إلى قيام الساعة،فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -- « مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ » . .
ولئن كان - - رد في حالات فردية بعض المجاهدين،لظروف عائلية لهم خاصة،كالذي جاء في الصحيح عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو،قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ،فقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ أُجَاهِدُ ؟ فقَالَ:لَكَ أَبَوَانِ ؟ قَالَ:نَعَمْ،قَالَ:فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ." ..لئن كان ذلك فإنما هي حالة فردية لا تنقض القاعدة العامة وفرد واحد لا ينقص المجاهدين الكثيرين.ولعله - - على عادته في معرفة كل ظروف جنوده فردا فردا،كان يعلم من حال هذا الرجل وأبويه،ما جعله يوجهه هذا التوجيه ..فلا يقولن أحد - بسبب ذلك - إنما كان الجهاد ملابسة طارئة بسبب ظروف.وقد تغيرت هذه الظروف! وليس ذلك لأن الإسلام يجب أن يشهر سيفه ويمشي به في الطريق يقطع به الرؤوس! ولكن لأن واقع حياة الناس وطبيعة طريق الدعوة تلزمه أن يمسك بهذا السيف ويأخذ حذره في كل حين! إن اللّه - سبحانه - يعلم أن هذا أمر تكرهه الملوك!
ويعلم أن لا بد لأصحاب السلطان أن يقاوموه.لأنه طريق غير طريقهم،ومنهج غير منهجهم.ليس بالأمس فقط.ولكن اليوم وغدا.وفي كل أرض،وفي كل جيل!
وإن اللّه - سبحانه - يعلم أن الشر متبجح،ولا يمكن أن يكون منصفا.ولا يمكن أن يدع الخير ينمو - مهما يسلك هذا الخير من طرق سلمية موادعة! - فإن مجرد نمو الخير يحمل الخطورة على الشر.ومجرد وجود الحق يحمل الخطر على الباطل.ولا بد أن يجنح الشر إلى العدوان ولا بد أن يدافع الباطل عن نفسه بمحاولة قتل الحق وخنقه بالقوة! هذه جبلة! وليست ملابسة وقتية ...هذه فطرة! وليست حالة طارئة ...ومن ثم لا بد من الجهاد ..لا بد منه في كل صورة ..ولا بد أن يبدأ في عالم الضمير.ثم يظهر فيشمل عالم الحقيقة والواقع والشهود.ولا بد من مواجهة الشر المسلح بالخير المسلح.ولا بد من لقاء الباطل المتترس بالعدد بالحق المتوشح بالعدة ..وإلا كان الأمر انتحارا.أو كان هزلا لا يليق بالمؤمنين! ولا بد من بذل الأموال والأنفس.كما طلب اللّه من المؤمنين.وكما اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ..فأما أن يقدر لهم الغلب أو يقدر لهم الاستشهاد فذلك شأنه - سبحانه - وذلك قدره المصحوب بحكمته ..أما هم فلهم إحدى الحسنيين عند ربهم ..والناس كلهم يموتون عند ما يحين الأجل ..والشهداء وحدهم هم الذين يستشهدون ..هناك نقط ارتكاز أصيلة في هذه العقيدة،وفي منهجها الواقعي،وفي خط سيرها المرسوم،وفي طبيعة هذا الخط وحتمياته الفطرية،التي لا علاقة لها بتغير الظروف.
وهذه النقط لا يجوز أن تتميع في حس المؤمنين - تحت أي ظرف من الظروف.ومن هذه النقط ..الجهاد ..الذي يتحدث عنه اللّه سبحانه هذا الحديث ..الجهاد في سبيل اللّه وحده.وتحت رايته وحدها ..وهذا هو الجهاد الذي يسمى من يقتلون فيه «شهداء» ويتلقاهم الملأ الأعلى بالتكريم ..



الابتلاء والمحن سنة الدعوات

إنَّ النصَّ القرآنيَّ يتوجهُ إلى المؤمنين الذين كانوا يعانون في واقعهم مشقة الاختلاف بينهم وبين أعدائهم من المشركين وأهل الكتاب،وما كان يجره هذا الخلاف من حروب ومتاعب وويلات ..يتوجه إليهم بأن هذه هي سنة اللّه القديمة،في تمحيص المؤمنين وإعدادهم ليدخلوا الجنة،وليكونوا لها أهلا:أن يدافع أصحاب العقيدة عن عقيدتهم وأن يلقوا في سبيلها العنت والألم والشدة والضر وأن يتراوحوا بين النصر والهزيمة حتى إذا ثبتوا على عقيدتهم،لم تزعزعهم شدة،ولم ترهبهم قوة،ولم يهنوا تحت مطارق المحنة والفتنة ..استحقوا نصر اللّه،لأنهم يومئذ أمناء على دين اللّه،مأمونون على ما ائتمنوا عليه،صالحون لصيانته والذود عنه.واستحقوا الجنة لأن أرواحهم قد تحررت من الخوف وتحررت من الذل،وتحررت من الحرص على الحياة أو على الدعة والرخاء.فهي عندئذ أقرب ما تكون إلى عالم الجنة،وأرفع ما تكون عن عالم الطين،قال تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [البقرة: 214]..
هكذا خاطب اللّه الجماعة المسلمة الأولى،وهكذا وجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها،وإلى سنته - سبحانه - في تربية عباده المختارين،الذين يكل إليهم رايته،وينوط بهم أمانته في الأرض ومنهجه وشريعته.
وهو خطاب مطرد لكل من يختار لهذا الدور العظيم ..
وإنها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة ..إن هذا السؤال من الرسول والذين آمنوا معه.من الرسول الموصول باللّه،والمؤمنين الذين آمنوا باللّه.إن سؤالهم:«مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟» ليصور مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة.ولن تكون إلا محنة فوق الوصف،تلقي ظلالها على مثل هاتيك القلوب،فتبعث منها ذلك السؤال المكروب:«مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟» ..
وعند ما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة ..عندئذ تتم كلمة اللّه،ويجيء النصر من اللّه:«أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ» ..
إنه مدخر لمن يستحقونه.ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية.الذين يثبتون على البأساء والضراء.
الذين يصمدون للزلزلة.الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة.الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر اللّه،وعند ما يشاء اللّه.وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها،فهم يتطلعون فحسب إلى «نَصْرُ اللَّهِ»،لا إلى أي حل آخر،ولا إلى أي نصر لا يجيء من عند اللّه.ولا نصر إلا من عند اللّه.
بهذا يدخل المؤمنون الجنة،مستحقين لها،جديرين بها،بعد الجهاد والامتحان،والصبر والثبات،والتجرد للّه وحده،والشعور به وحده،وإغفال كل ما سواه وكل من سواه.
إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة،ويرفعها على ذواتها،ويطهرها في بوتقة الألم،فيصفو عنصرها ويضيء،ويهب العقيدة عمقا وقوة وحيوية،فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها.وعندئذ يدخلون في دين اللّه أفواجا كما وقع،وكما يقع في كل قضية حق،يلقى أصحابها ما يلقون في أول الطريق،حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم،وناصرهم أشد المناوئين وأكبر المعاندين ..
على أنه - حتى إذا لم يقع هذا - يقع ما هو أعظم منه في حقيقته.يقع أن ترتفع أرواح أصحاب الدعوة على كل قوى الأرض وشرورها وفتنتها،وأن تنطلق من إسار الحرص على الدعة والراحة،والحرص على الحياة نفسها في النهاية ..وهذا الانطلاق كسب للبشرية كلها،وكسب للأرواح التي تصل إليه عن طريق الاستعلاء.كسب يرجح جميع الآلام وجميع البأساء والضراء التي يعانيها المؤمنون،المؤتمنون على راية اللّه وأمانته ودينه وشريعته.وهذا الانطلاق هو المؤهل لحياة الجنة في نهاية المطاف ..وهذا هو الطريق ..
هذا هو الطريق كما يصفه اللّه للجماعة المسلمة الأولى،وللجماعة المسلمة في كل جيل.
هذا هو الطريق:إيمان وجهاد ..ومحنة وابتلاء.وصبر وثبات ..وتوجه إلى اللّه وحده.ثم يجيء النصر.ثم يجيء النعيم ..



كيف يواجه أصحاب الدعوة المنكرين لها

قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [البقرة: 258]
إن هذا الملك الذي حاج إبراهيم في ربه لم يكن منكرا لوجود اللّه أصلا إنما كان منكرا لوحدانيته في الألوهية والربوبية ولتصريفه للكون وتدبيره لما يجري فيه وحده،كما كان بعض المنحرفين في الجاهلية يعترفون بوجود اللّه ولكنهم يجعلون له أندادا ينسبون إليها فاعلية وعملا في حياتهم! وكذلك كان منكرا أن الحاكمية للّه وحده،فلا حكم إلا حكمه في شؤون الأرض وشريعة المجتمع.
إن هذا الملك المنكر المتعنت إنما ينكر ويتعنت للسبب الذي كان ينبغي من أجله أن يؤمن ويشكر.هذا السبب هو «أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ» ..وجعل في يده السلطان!
لقد كان ينبغي أن يشكر ويعترف،لولا أن الملك يطغي ويبطر من لا يقدرون نعمة اللّه،ولا يدركون مصدر الإنعام.ومن ثم يضعون الكفر في موضع الشكر ويضلون بالسبب الذي كان ينبغي أن يكونوا به مهتدين! فهم حاكمون لأن اللّه حكمهم،وهو لم يخولهم استعباد الناس بقسرهم على شرائع من عندهم.فهم كالناس عبيد للّه،يتلقون مثلهم الشريعة من اللّه،ولا يستقلون دونه بحكم ولا تشريع فهم خلفاء لا أصلاء! ومن ثم يعجب اللّه من أمره وهو يعرضه على نبيه:«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ؟» ..ألم تر؟ إنه تعبير التشنيع والتفظيع وإن الإنكار والاستنكار لينطلقان من بنائه اللفظي وبنائه المعنوي سواء.
فالفعلة منكرة حقا:أن يأتي الحجاج والجدال بسبب النعمة والعطاء! وأن يدعي عبد لنفسه ما هو من اختصاص الرب،وأن يستقل حاكم بحكم الناس بهواه دون أن يستمد قانونه من اللّه.
«قالَ إِبْراهِيمُ:رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ» ..والإحياء والإماتة هما الظاهرتان المكرورتان في كل لحظة،المعروضتان لحس الإنسان وعقله.وهما - في الوقت نفسه - السر الذي يحير،والذي يلجىء الإدراك البشري إلجاء إلى مصدر آخر غير بشري.وإلى أمر آخر غير أمر المخاليق.ولا بد من الالتجاء إلى الألوهية القادرة على الإنشاء والإفناء لحل هذا اللغز الذي يعجز عنه كل الأحياء.
إننا لا نعرف شيئا عن حقيقة الحياة وحقيقة الموت حتى اللحظة الحاضرة.ولكننا ندرك مظاهرهما في الأحياء والأموات.ونحن ملزمون أن نكل مصدر الحياة والموت إلى قوة ليست من جنس القوى التي نعرفها على الإطلاق ..قوة اللّه ..
ومن ثم عرّف إبراهيم - عليه السلام - ربه بالصفة التي لا يمكن أن يشاركه فيها أحد،ولا يمكن أن يزعمها أحد.وقال وهذا الملك يسأله عمن يدين له بالربوبية ويراه مصدر الحكم والتشريع غيره ..قال:«رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ» فهو من ثم الذي يحكم ويشرع.
وما كان إبراهيم - عليه السلام - وهو رسول موهوب تلك الموهبة اللدنية التي أشرنا إليها في مطلع هذا الجزء - ليعني من الإحياء والإماتة إلا إنشاء هاتين الحقيقتين إنشاء.فذلك عمل الرب المتفرد الذي لا يشاركه فيه أحد من خلقه.ولكن الذي حاج إبراهيم في ربه رأى في كونه حاكما لقومه وقادرا على إنفاذ أمره فيهم بالحياة والموت مظهرا من مظاهر الربوبية،فقال لإبراهيم:أنا سيد هؤلاء القوم وأنا المتصرف في شأنهم،فأنا إذن الرب الذي يجب عليك أن تخضع له،وتسلم بحاكميته:« قالَ:أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ»! عند ذلك لم يرد إبراهيم - عليه السلام - أن يسترسل في جدل حول معنى الإحياء والإماتة مع رجل يماري ويداور في تلك الحقيقة الهائلة.حقيقة منح الحياة وسلبها.هذا السر الذي لم تدرك منه البشرية حتى اليوم شيئا ..وعندئذ عدل عن هذه السنة الكونية الخفية،إلى سنة أخرى ظاهرة مرثية وعدل عن طريقة العرض المجرد للسنة الكونية والصفة الإلهية في قوله:«رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ» ..إلى طريقة التحدي،وطلب تغيير سنة اللّه لمن ينكر ويتعنت ويجادل في اللّه ليريه أن الرب ليس حاكم قوم في ركن من الأرض،إنما هو مصرف هذا الكون كله.ومن ربوبيته هذه للكون يتعين أن يكون هو رب الناس المشرع لهم:«قالَ إِبْراهِيمُ:فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ» ..
وهي حقيقة كونية مكرورة كذلك تطالع الأنظار والمدارك كل يوم ولا تتخلف مرة ولا تتأخر وهي شاهد يخاطب الفطرة - حتى ولو لم يعرف الإنسان شيئا عن تركيب هذا الكون،ولم يتعلم شيئا من حقائق الفلك ونظرياته - والرسالات تخاطب فطرة الكائن البشري في أية مرحلة من مراحل نموه العقلي والثقافي والاجتماعي،لتأخذ بيده من الموضع الذي هو فيه.ومن ثم كان هذا التحدي الذي يخاطب الفطرة كما يتحدث بلسان الواقع الذي لا يقبل الجدل:«فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ» ..
فالتحدي قائم،والأمر ظاهر،ولا سبيل إلى سوء الفهم،أو الجدال والمراء ..وكان التسليم أولى والإيمان أجدر.ولكن الكبر عن الرجوع إلى الحق يمسك بالذي كفر،فيبهت ويبلس ويتحير.ولا يهديه اللّه إلى الحق لأنه لم يتلمس الهداية،ولم يرغب في الحق ولم يلتزم القصد والعدل:«وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ..
ويمضي هذا الجدل الذي عرضه اللّه على نبيه - - وعلى الجماعة المسلمة.مثلا للضلال والعناد وتجربة يتزود بها أصحاب الدعوة الجدد في مواجهة المنكرين وفي ترويض النفوس على تعنت المنكرين! كذلك يمضي بتقرير تلك الحقائق التي تؤلف قاعدة التصور الإيماني الناصع:«رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ» ..
«فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ!» ..حقيقة في الأنفس وحقيقة في الآفاق.حقيقتان كونيتان هائلتان وهما - مع ذلك - مكرورتان معروضتان للبصائر والأبصار آناء الليل وأطراف النهار.
لا تحتاجان إلى علم غزير،ولا إلى تفكير طويل.فاللّه أرحم بعباده أن يكلهم في مسألة الإيمان به والاهتداء إليه،إلى العلم الذي قد يتأخر وقد يتعثر،وإلى التفكير الذي قد لا يتهيأ للبدائيين.إنما يكلهم في هذا الأمر الحيوي الذي لا تستغني عنه فطرتهم،ولا تستقيم بدونه حياتهم،ولا ينتظم مع فقدانه مجتمعهم ..ولا يعرف الناس بدونه من أين يتلقون شريعتهم وقيمهم وآدابهم ..يكلهم في هذا الأمر إلى مجرد التقاء الفطرة بالحقائق الكونية المعروضة على الجميع،والتي تفرض نفسها فرضا على الفطرة،فلا يحيد الإنسان عن إيحائها الملجئ إلا بعسر ومشقة ومحاولة ومحال وتعنت وعناد! والشأن في مسألة الاعتقاد هو الشأن في كل أمر حيوي تتوقف عليه حياة الكائن البشري.فالكائن الحي يبحث عن الطعام والشراب والهواء - كما يبحث عن التناسل والتكاثر - بحثا فطريا،ولا يترك الأمر في هذه الحيويات حتى يكمل التفكير وينضج،أو حتى ينمو العلم ويغزر ..وإلا تعرضت حياة الكائن الحي إلى الدمار والبوار ..والإيمان حيوي للإنسان حيوية الطعام والشراب والهواء سواء بسواء.ومن ثم يكله اللّه فيه إلى تلاقي الفطرة بآياته المبثوثة في صفحات الكون كله في الأنفس والآفاق.



قدرة الله تعالى إحياء الموتى تجعل أصحاب الدعوة يلجئون إليه دائما

قال تعالى : { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة: 259]
من هو «كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ»؟ ما هذه القرية التي مر عليها وهي خاوية على عروشها؟ إن القرآن لم يفصح عنهما شيئا،ولو شاء اللّه لأفصح،ولو كانت حكمة النص لا تتحقق إلا بهذا الإفصاح ما أهمله في القرآن.فلنقف نحن - على طريقتنا في هذه الظلال - عند تلك الظلال.إن المشهد ليرتسم للحس قويا واضحا موحيا.مشهد الموت والبلى والخواء ..يرتسم بالوصف:«وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها» ..محطمة على قواعدها.ويرتسم من خلال مشاعر الرجل الذي مر على القرية.هذه المشاعر التي ينضح بها تعبيره:«أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها؟» ..
إن القائل ليعرف أن اللّه هناك.ولكن مشهد البلى والخواء ووقعه العنيف في حسه جعله يحار:كيف يحيي هذه اللّه بعد موتها؟ وهذا أقصى ما يبلغه مشهد من العنف والعمق في الإيحاء ..وهكذا يلقي التعبير القرآني ظلاله وإيحاءاته،فيرسم المشهد كأنما هو اللحظة شاخص تجاه الأبصار والمشاعر.
«أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها؟» ..كيف تدب الحياة في هذا الموات؟
«فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ.ثُمَّ بَعَثَهُ» ..لم يقل له كيف.إنما أراه في عالم الواقع كيف! فالمشاعر والتأثرات تكون أحيانا من العنف والعمق بحيث لا تعالج بالبرهان العقلي،ولا حتى بالمنطق الوجداني ولا تعالج كذلك بالواقع العام الذي يراه العيان ..إنما يكون العلاج بالتجربة الشخصية الذاتية المباشرة،التي يمتلىء بها الحس،ويطمئن بها القلب،دون كلام!
«قالَ:كَمْ لَبِثْتَ؟ قالَ:لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ!» ..وما يدريه كم لبث والإحساس بالزمن لا يكون إلا مع الحياة والوعي؟ على أن الحس الإنساني ليس هو المقياس الدقيق للحقيقة فهو يخدع ويضل فيرى الزمن الطويل المديد قصيرا لملابسة طارئة كما يرى اللحظة الصغيرة دهرا طويلا لملابسة طارئة كذلك! «قالَ:بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ» ..
وتبعا لطبيعة التجربة،وكونها تجربة حسية واقعية،نتصور أنه لا بد كانت هنالك آثار محسوسة تصور فعل مائة عام ..هذه الآثار المحسوسة لم تكن في طعام الرجل ولا شرابه،فلم يكونا آسنين متعفنين :«فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ» ..وإذن فلا بد أن هذه الآثار المحسوسة كانت متمثلة في شخصه أو في حماره:«وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ - وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ - وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً» ..أية عظام؟ عظامه هو؟ لو كان الأمر كذلك - كما يقول بعض المفسرين إن عظامه هي التي تعرت من اللحم - للفت هذا نظره عند ما استيقظ،ووخز حسه كذلك،ولما كانت إجابته:«لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ».
لذلك نرجح أن الحمار هو الذي تعرت عظامه وتفسخت.ثم كانت الآية هي ضم هذه العظام بعضها إلى بعض وكسوتها باللحم وردها إلى الحياة،على مرأى من صاحبه الذي لم يمسه البلى،ولم يصب طعامه ولا شرابه التعفن.ليكون هذا التباين في المصائر والجميع في مكان واحد،معرضون لمؤثرات جوية وبيئية واحدة،آية أخرى على القدرة التي لا يعجزها شيء،والتي تتصرف مطلقة من كل قيد وليدرك الرجل كيف يحيي هذه اللّه بعد موتها! أما كيف وقعت الخارقة؟ فكما تقع كل خارقة!
كما وقعت خارقة الحياة الأولى.الخارقة التي ننسى كثيرا أنها وقعت،وأننا لا ندري كيف وقعت! ولا ندري كذلك كيف جاءت إلا أنها جاءت من عند اللّه بالطريق التي أرادها اللّه ..وهذا «دارون» أكبر علماء الحياة يظل ينزل في نظريته بالحياة درجة درجة،ويتعمق أغوارها قاعا قاعا،حتى يردها إلى الخلية الأولى ..ثم يقف بها هناك.إنه يجهل مصدر الحياة في هذه الخلية الأولى.ولكنه لا يريد أن يسلم بما ينبغي أن يسلم به الإدراك البشري،والذي يلح على المنطق الفطري إلحاحا شديدا.وهو أنه لا بد من واهب وهب الحياة لهذه الخلية الأولى.لا يريد أن يسلم لأسباب ليست علمية وإنما هي تاريخية في صراعه مع الكنيسة! فإذا به يقول:«إن تفسير شؤن الحياة بوجود خالق يكون بمثابة إدخال عنصر خارق للطبيعة في وضع ميكانيكي بحت!» ..
أي وضع ميكانيكي! إن الميكانيكية هي أبعد شيء عن هذا الأمر الذي يفرض على الإدراك فرضا أن يبحث عن مصدر لهذا السر القائم تجاه الأبصار والبصائر!
وإنه - هو نفسه - ليجفل من ضغط المنطق الفطري،الذي يلجىء الإدراك البشري إلجاء إلى الاعتراف بما وراء الخلية الأولى،فيرجع كل شيء إلى «السبب الأول»! ولا يقول:ما هو هذا السبب الأول؟ ما هو هذا السبب الذي يملك إيجاد الحياة أول مرة،ثم يملك - حسب نظريته هو وهي محل نظر طويل - توجيه الخلية الأولى في طريقها الذي افترض هو أنها سارت فيه صعدا،دون أي طريق آخر غير الذي كان! إنه الهروب والمراء والمحال!!!
ونعود إلى خارقة القرية لنسأل:وما الذي يفسر أن ينال البلى شيئا ويترك شيئا في مكان واحد وفي ظروف واحدة؟ إن خارقة خلق الحياة أول مرة أو خارقة رجعها كذلك لا تفسر هذا الاختلاف في مصائر أشياء ذات ظروف واحدة.
إن الذي يفسر هذه الظاهرة هو طلاقة المشيئة ..طلاقتها من التقيد بما نحسبه نحن قانونا كليا لازما ملزما لا سبيل إلى مخالفته أو الاستثناء منه!
وحسباننا هذا خطأ بالقياس إلى المشيئة المطلقة:خطأ منشؤه أننا نفرض تقديراتنا نحن ومقرراتنا العقلية أو «العلمية!» على اللّه سبحانه! وهو خطأ يتمثل في أخطاء كثيرة:
فأولا:ما لنا نحن نحاكم القدرة المطلقة إلى قانون نحن قائلوه؟ قانون مستمد من تجاربنا المحدودة الوسائل،ومن تفسيرنا لهذه التجارب ونحن محدود والإدراك؟
وثانيا:فهبه قانونا من قوانين الكون أدركناه.فمن ذا الذي قال لنا:إنه قانون نهائي كلي مطلق،وأن ليس وراءه قانون سواه؟
وثالثا:هبه كان قانونا نهائيا مطلقا.فالمشيئة الطليقة تنشئ القانون ولكنها ليست مقيدة به ..إنما هو الاختيار في كل حال.
وكذلك تمضي هذه التجربة،فتضاف إلى رصيد أصحاب الدعوة الجدد،وإلى رصيد التصور الإيماني الصحيح،وتقرر - إلى جانب حقيقة الموت والحياة وردهما إلى اللّه - حقيقة أخرى هي التي أشرنا إليها قريبا.حقيقة طلاقة المشيئة،التي يعنى القرآن عناية فائقة بتقريرها في ضمائر المؤمنين به،لتتعلق باللّه مباشرة،من وراء الأسباب الظاهرة،والمقدمات المنظورة.فاللّه فعال لما يريد.وهكذا قال الرجل الذي مرت به التجربة:«فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ،قالَ:أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
ومن اللمحات البارزة في التوجيه الرباني لرسول اللّه - - أن يجهر - في مواجهة الإعراض والتكذيب والتحدي وبطء الاستجابة ووعورة الطريق - بالحق الذي معه كاملا وهو أنه لا إله إلا اللّه،ولا رب إلا اللّه،ولا معبود إلا اللّه،وأن اللّه هو الواحد القهار،وأن الناس مردودون إليه فإما إلى جنة وإما إلى نار ..وهي مجموعة الحقائق التي كان ينكرها المشركون ويتحدونه فيها ..وألا يتبع أهواءهم فيصانعها ويترضاها بكتمان شيء من هذا الحق أو تأجيل إعلانه! مع تهديده بما ينتظره من اللّه لو اتبع أهواءهم في شيء من هذا من بعد ما جاءه من العلم! ..
وهذه اللمحة البارزة تكشف لأصحاب الدعوة إلى اللّه عن طبيعة منهج هذه الدعوةالتي لا يجوز لهم الاجتهاد فيها! وهي أن عليهم أن يجهروا بالحقائق الأساسية في هذا الدين،وألا يخفوا منها شيئا،وألا يؤجلوا منها شيئا ..وفي مقدمة هذه الحقائق:أنه لا ألوهية ولا ربوبية إلا للّه.ومن ثم فلا دينونة ولا طاعة ولا خضوع ولا اتباع إلا للّه ..فهذه الحقيقة الأساسية يجب أن تعلن أيا كانت المعارضة والتحدي وأيا كان الإعراض من المكذبين والتولي وأيا كان وعورة الطريق وأخطارها كذلك ..وليس من «الحمكة والموعظة الحسنة» إخفاء جانب من هذه الحقيقة أو تأجيله،لأن الطواغيت في الأرض يكرهونه أو يؤذون الذين يعلنونه! أو يعرضون بسببه عن هذا الدين،أو يكيدون له وللدعاة إليه! فهذا كله لا يجوز أن يجعل الدعاة إلى هذا الدين يكتمون شيئا من حقائقه الأساسية أو يؤجلونه ولا أن يبدأوا مثلا من الشعائر والأخلاق والسلوك والتهذيب الروحي،متجنبين غضب طواغيت الأرض لو بدأوا من إعلان وحدانية الألوهية والربوبية،ومن ثم توحيد الدينونة والطاعة والخضوع والاتباع للّه وحده!
إن هذا لهو منهج الحركة بهذه العقيدة كما أراده اللّه سبحانه ومنهج الدعوة إلى اللّه كما سار بها سيدنا محمد - - بتوجيه من ربه ..فليس لداع إلى اللّه أن يتنكب هذا الطريق وليس له أن ينهج غير ذلك المنهج ..واللّه - بعد ذلك - متكفل بدينه،وهو حسب الدعاة إلى هذا الدين وكافيهم شر الطواغيت!



مواساة الرسول على ما يلاقيه من قومه وبيان طريق الدعوة

قال تعالى : {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) } [الأنعام: 33 - 35]
إن مشركي العرب في جاهليتهم - وخاصة تلك الطبقة التي كانت تتصدى للدعوة من قريش - لم يكونوا يشكون في صدق محمد - - فلقد عرفوه صادقا أمينا،ولم يعلموا عنه كذبة واحدة في حياته الطويلة بينهم قبل الرسالة،كذلك لم تكن تلك الطبقة التي تتزعم المعارضة لدعوته تشك في صدق رسالته،وفي أن هذا القرآن ليس من كلام البشر،ولا يملك البشر أن يأتوا بمثله ..
ولكنهم - على الرغم من ذلك - كانوا يرفضون إظهار التصديق،ويرفضون الدخول في الدين الجديد! إنهم لم يرفضوا لأنهم يكذبون النبي - - ولكن لأن في دعوته خطرا على نفوذهم ومكانتهم ..وهذا هو السبب الذي من أجله قرروا الجحود بآيات اللّه،والبقاء على الشرك الذي كانوا فيه ..والأخبار التي تقرر الأسباب الحقيقية لموقف قريش هذا وحقيقة ظنهم بهذا القرآن كثيرة:
عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ:حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ:حُدِّثْتُ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ،وَأَبَا سُفْيَانَ،وَالْأَخْنَسَ بْنَ شَرِيقٍ،خَرَجُوا لَيْلَةً لِيَسْتَمِعُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ وَهُوَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فِي بَيْتِهِ،وَأَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسًا لِيَسْتَمِعَ فِيهِ،وَكُلٌّ لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِ صَاحِبِهِ،فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ حَتَّى إِذَا أَصْبَحُوا وَطَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا،فَجَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ فَتَلَاوَمُوا،وَقَالَ:بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:لَا تَعُودُوا فَلَوْ رَآكُمْ بَعْضُ سُفَهَائِكُمْ لَأَوقَعْتُمْ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا , ثُمَّ انْصَرَفُوا حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ عَادَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى مَجْلِسِهِ،فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا،فَجَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ،فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مِثْلَ مَا قَالُوا أَوَّلَ مَرَّةٍ ., ثُمَّ انْصَرَفُوا فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ أَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسَهُ،فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا،فَجَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ،فَقَالُوا:لَا نَبْرَحُ حَتَّى نَتَعَاهَدَ لَا نَعُودُ،فَتَعَاهَدُوا عَلَى ذَلِكَ،ثُمَّ تَفَرَّقُوا فَلَمَّا أَصْبَحَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ أَخَذَ عَصَاهُ , ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ فِي بَيْتِهِ فَقَالَ:أَخْبِرْنِي يَا أَبَا حَنْظَلَةَ عَنْ رَأْيِكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ فَقَالَ:يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ أَشْيَاءَ أَعْرِفُهَا وَأَعْرِفُ مَا يُرَادُ بِهَا .فَقَالَ الْأَخْنَسُ:وَأَنَا وَالَّذِي حَلَفْتُ بِهِ , ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى أَتَى أَبَا جَهْلٍ،فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ فَقَالَ:يَا أَبَا الْحَكَمِ مَا رَأْيُكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ ؟ فَقَالَ:مَاذَا سَمِعْتَ ؟ تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشَّرَفَ ؛ أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا،وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا،وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا حَتَّى إِذَا تَجَاثَيْنَا عَلَى الرُّكَبِ وَكُنَّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ قَالُوا:مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ،فَمَتَى نُدْرِكُ هَذِهِ ؟ وَاللَّهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ أَبَدًا،وَلَا نُصَدِّقُهُ،فَقَامَ عَنْهُ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ " ..
وروى ابن جرير عَنِ السُّدِّيِّ،فِي قَوْلِهِ:قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ:لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ لِبَنِي زُهْرَةَ:يَا بَنِي زُهْرَةَ،إِنَّ مُحَمَّدًا ابْنُ أُخْتِكُمْ،فَأَنْتُمْ أَحَقُّ مَنْ كَفَّ عَنْهُ،فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ نَبِيًّا لِمَ تُقَاتِلُونَهُ الْيَوْمَ ؟ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا كُنْتُمْ أَحَقَّ مَنْ كَفَّ عَنِ ابْنِ أُخْتَهِ،قِفُوا هَهُنَا حَتَّى أَلْقَى أَبَا الْحَكَمِ،فَإِنْ غَلَبَ مُحَمَّدٌ رَجَعْتُمْ سَالِمِينَ،وَإِنْ غُلِبَ مُحَمَّدٌ فَإِنَّ قَوْمَكُمْ لَا يَصْنَعُونَ بِكُمْ شَيْئًا،فَيَوْمَئِذٍ سُمِّيَ الْأَخْنَسَ،وَكَانَ اسْمُهُ أُبَيًّا .فَالْتَقَى الْأَخْنَسُ وَأَبُو جَهْلٍ،فَخَلَا الْأَخْنَسُ بِأَبِي جَهْلٍ،فَقَالَ:يَا أَبَا الْحَكَمِ،أَخْبِرْنِي عَنْ مُحَمَّدٍ أَصَادِقٌ هُوَ أَمْ كَاذِبٌ ؟ فَإِنَّهُ لَيْسَ هَهُنَا مِنْ قُرَيْشٍ أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُكَ يَسْمَعُ كَلَامَنَا .فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ:وَيْحَكَ،وَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَصَادِقٌ،وَمَا كَذَبَ مُحَمَّدٌ قَطُّ،وَلَكِنْ إِذَا ذَهَبَ بَنُو قُصَيٍّ بِاللِّوَاءِ وَالْحِجَابَةِ وَالسِّقَايَةِ وَالنُّبُوَّةِ،فَمَاذَا يَكُونُ لِسَائِرِ قُرَيْشٍ ؟ فَذَلِكَ قَوْلُهُ:فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ،فَآيَاتُ اللَّهِ مُحَمَّدٌ  ..
ونلاحظ:أن السورة مكية،وهذه الآية مكية لا شك في ذلك بينما الحادثة المذكورة كانت في المدينة يوم بدر ..ولكن إذا عرفنا أنهم كانوا يقولون أحيانا عن آية ما:«فذلك قوله:كذا ..» ويقرنون إليها حادثا ما لا للنص على أنها نزلت بسبب الحادث الذي يذكرونه ولكن بسبب انطباق مدلولها على الحادث،بغض النظر عما إذا كان سابقا أو لاحقا ..فإننا لا نستغرب هذه الرواية ..
وقال ابن إسحاق:حدثني يزيد بن زياد،عن محمد بن كعب القُرَظي قال:حُدِّثْتُ أن عتبة بن ربيعة -وكان سيدا-قال يوما وهو جالس في نادي قريش،ورسول الله جالس في المسجد وحده:يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها،فنعطيه أيَّها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة،ورأوا أصحاب رسول الله يزيدون ويكثرون،فقالوا:بلى يا أبا الوليد،فقم إليه فكلمه .فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله فقال:يا ابن أخي،إنك منا حيث قد علمت من السِّطَة في العشيرة،والمكان في النسب،وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم،فرقت به جماعتهم،وسفهت به أحلامهم،وعبت به آلهتهم ودينهم،وكفرت به من مضى من آبائهم،فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها.قال:فقال له رسول الله :"قل يا أبا الوليد،أسمع".قال:يا ابن أخي،إن كنت إنما تريدُ بما جئتَ به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون من أكثرنا أموالا .وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا،حتى لا نقطع أمرًا دونك.وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا.وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيّا تراه لا تستطيع رده عن نفسك،طلبنا لك الطب،وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه،فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُدَاوَى منه -أو كما قال له-حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله يستمع منه قال:"أفرغت يا أبا الوليد؟" قال:نعم .قال:"فاستمع مني" قال:أفعل.قال:{ بسم الله الرحمن الرحيم .حم.تَنزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ .بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ } ثم مضى رسول الله فيها يقرؤها عليه.فلما سمع عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه،ثم انتهى رسول الله إلى السجدة منها،فسجد ثم قال:"قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت،فأنت وذاك فقام عتبة إلى أصحابه،فقال بعضهم لبعض:أقسم -يحلف بالله-لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به.فلما جلس إليهم قالوا:ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال:ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط،والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة.يا معشر قريش،أطيعوني واجعلوها لي،خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه،فوالله ليكونَنَّ لقوله الذي سمعت نبأ،فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم،وإن يظهر على العرب فمُلْكُهُ ملككم،وعزه عزكم،وكنتم أسعد الناس به.قالوا:سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه! قال:هذا رأيي فيه،فاصنعوا ما بدا لكم .
وقد روى البغوي في تفسيره عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:قَالَ أَبُو جَهْلٍ وَالْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ لَقَدِ انْتَشَرَ عَلَيْنَا أَمْرُ مُحَمَّدٍ،فَلَوِ الْتَمَسْتُمْ رَجُلًا عَالِمًا بِالسِّحْرِ وَالْكِهَانَةِ وَالشِّعْرِ،فَكَلَّمَهُ , ثُمَّ أَتَانَا بِبَيَانٍ مِنْ أَمْرِهِ،فَقَالَ عُتْبَةُ:لَقَدْ سَمِعْتُ بِقَوْلِ السَّحَرَةِ وَالْكِهَانَةِ وَالشِّعْرِ وَعَلِمْتُ مِنْ ذَلِكَ عِلْمًا،وَمَا يَخْفَى عَلَيَّ إِنْ كَانَ كَذَلِكَ،فَأَتَاهُ فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ لَهُ عُتْبَةُ:يَا مُحَمَّدُ،أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ هَاشِمٌ ؟ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ؟ أَنْتَ خَيْرُ أَمْ عَبْدُ اللَّهِ ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ قَالَ:فِيمَ تَشْتُمُ آلِهَتَنَا،وَتُضَلِّلُ آبَاءَنَا،فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا بِكَ الرِّئَاسَةُ عَقَدْنَا أَلْوِيَتَنَا لَكَ،فَكُنْتَ رَأْسَنَا مَا بَقِيتَ،وَإِنْ كَانَ بِكَ الْبَاءَةُ زَوَّجْنَاكَ عَشْرَ نِسْوَةٍ تَخْتَارُ مِنْ أَيِّ أَبْيَاتِ قُرَيْشٍ شِئْتَ،وَإِنْ كَانَ بِكَ الْمَالُ جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا تَسْتَغْنِي بِهَا أَنْتَ وَعَقِبُكَ مِنْ بَعْدِكَ،وَرَسُولُ اللَّهِ سَاكِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ،فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ :" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ - فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ - أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ فَأَمْسَكَ عُتْبَةُ عَلَى فِيهِ وَنَاشَدَهُ الرَّحِمَ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ،وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى أَهْلِهِ وَاحْتَبَسَ عَنْهُمْ .فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ:يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ،وَاللَّهِ مَا نَرَى عُتْبَةَ إِلَّا قَدْ صَبَا إِلَى مُحَمَّدٍ وَأَعْجَبَهُ طَعَامَهُ،وَمَا ذَاكَ إِلَّا مِنْ حَاجَةٍ أَصَابَتْهُ،انْطَلِقُوا بِنَا إِلَيْهِ فَأَتَوْهُ،فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ:وَاللَّهِ يَا عُتْبَةُ،مَا حَسِبْنَا إِلَّا أَنَّكَ صَبَوْتَ إِلَى مُحَمَّدٍ،وَأَعْجَبَكَ أَمْرُهُ،فَإِنْ كَانَتْ بِكَ حَاجَةٌ جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا يُغْنِيكَ عَنْ طَعَامِ مُحَمَّدٍ , فَغَضِبَ وَأَقْسَمَ بِاللَّهِ لَا يُكَلِّمُ مُحَمَّدًا أَبَدًا .قَالَ:وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا،وَلَكِنِّي أَتَيْتُهُ فَقَصَّ عَلَيْهِمُ الْقِصَّةَ:فَأَجَابَنِي بِشَيْءٍ وَاللَّهِ مَا هُوَ بِسِحْرٍ وَلَا شِعْرٍ وَلَا كَهَانَةٍ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قَالَ يَحْيَى:كَذَا قَالَ يَعْقِلُونَ حَتَّى بَلَغَ , فَقَالَ:أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ فَأَمْسَكْتُ بِفِيهِ وَنَاشَدْتُهُ الرَّحِمَ أَنْ يَكُفَّ،وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا إِذَا قَالَ شَيْئًا لَمْ يَكْذِبْ،فَخِفْتُ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمُ الْعَذَابُ "
عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ:أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَكَانَ ذَا سِنٍّ فِيهِمْ وَقَدْ حَضَرَ الْمَوْسِمُ فَقَالَ لَهُمْ:يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّهُ قَدْ حَضَرَ الْمَوْسِمُ وَإِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتَقْدُمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ وَقَدْ سَمِعُوا بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ هَذَا فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا وَلَا تَخْتَلِفُوا فَيُكَذِّبُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَيَرُدُّ قَوْلُكُمْ بَعْضَهُ بَعْضًا قَالُوا:فَأَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ فَقُلْ وَأَقِمْ لَنَا رَأْيًا نَقُلْ بِهِ فَقَالَ:بَلْ أَنْتُمْ فَقُولُوا وَأَسْمَعُ قَالُوا:نَقُولُ إِنَّهُ كَاهِنٌ قَالَ:مَا هُوَ بِكَاهِنٍ لَقَدْ رَأَيْنَا الْكُهَّانَ فَمَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ الْكَاهِنِ وَلَا سَجْعِهِ قَالُوا:فَنَقُولُ:إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ قَالَ:مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ لَقَدْ رَأَيْنَا الْجُنُونَ وَعَرَفْنَاهُ فَمَا هُوَ بِخَنْقِهِ وَلَا تَخَالُجِهِ وَلَا وَسْوَسَتِهِ قَالُوا:فَنَقُولُ إِنَّهُ شَاعِرٌ , قَالَ مَا هُوَ بِشَاعِرٍ لَقَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ كُلَّهُ رَجَزَهَ وَهَزَجَهُ وَقَرِيضَهُ وَمَقْبُوضَهُ وَمَبْسُوطَهُ فَمَا هُوَ بِالشَّاعِرِ قَالُوا:فَنَقُولُ سَاحِرٌ قَالَ:مَا هُوَ بِسَاحِرٍ لَقَدْ رَأَيْنَا السُّحَّارَ وَسِحْرَهُمْ فَمَا هُوَ بِنَفْثِهِمْ وَلَا عَقْدِهِمْ قَالُوا:فَمَا تَقُولُ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ ؟ قَالَ:وَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ لَحَلَاوَةً،وَإِنَّ أَصْلَهُ لَمُغْدِقٌ،وَإِنَّ فَرْعَهُ لَجَنَاةٌ وَمَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِنْ هَذَا شَيْئًا إِلَّا عُرِفَ أَنَّهُ بَاطِلٌ وَإِنَّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ فِيهِ لَأَنْ تَقُولُوا سَاحِرٌ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَبِيهِ وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَعَشِيرَتِهِ فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ بِذَلِكَ"
وروى ابن جرير عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ،فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ،فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ،فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ،فَقَالَ:أَيْ عَمِّ إِنَّ قَوْمَكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا،قَالَ:لِمَ ؟ قَالَ:يُعْطُونَكَهُ فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا تَتَعَرَّضُ لِمَا قِبَلَهُ ؛ قَالَ:قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي أَكْثَرُهَا مَالًا،قَالَ:فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يَعْلَمُ قَوْمُكَ أَنَّكَ مُنْكِرٍ لِمَا قَالَ،وَأَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ ؛ قَالَ:فَمَا أَقُولُ فِيهِ،فَوَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمَ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي،وَلَا أَعْلَمَ بِرَجَزِهِ مِنِّي،وَلَا بِقَصِيدِهِ،وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ،وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا،وَوَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلُهُ لَحَلَاوَةً،وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ،وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَلَا يُعْلَى .قَالَ:وَاللَّهِ لَا يَرْضَى قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ،قَالَ:فَدَعْنِي حَتَّى أُفَكِّرَ فِيهِ ؛ فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ:هَذَا سِحْرٌ يَأْثُرُهُ عَنْ غَيْرِهِ،فَنَزَلَتْ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا .قَالَ قَتَادَةُ:خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ وَحِيدًا،فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حَتَّى بَلَغَ تِسْعَةَ عَشَرَ
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ،فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ،فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ،فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ،فَأَتَاهُ،فَقَالَ :يَا عَمُّ،إِنَّ قَوْمَكَ يَرَوْنَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالا،قَالَ :لَمَ ؟ قَالَ :لِيُعْطُوكَهُ،فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتُعْرِضَ لِمَا قِبَلَهُ،قَالَ :قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالا،قَالَ :فَقُلْ فِيهِ قَوْلا يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ أَوْ أَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ،قَالَ :وَمَاذَا أَقُولُ :فَوَاللَّهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمَ بِالأَشْعَارِ مِنِّي،وَلا أَعْلَمَ بِرَجَزٍ وَلا بِقَصِيدَةٍ مِنِّي وَلا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا وَوَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلاوَةً،وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلاوَةً،وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلاهُ مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ،وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ،قَالَ :لاَ يَرْضَى عَنْكَ قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ،قَالَ :فَدَعْنِي حَتَّى أُفَكِّرَ،فَلَمَّا فَكَّرَ،قَالَ :هَذَا سِحْرٌ يُؤْثَرُ يَأْثُرُهُ مِنْ غَيْرِهِ،فَنَزَلَتْ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا "
وفي رواية أخرى أن قريشا قالت:لئن صبأ الوليد لتصبون قريش كلها! فقال أبو جهل:أنا أكفيكموه! ثم دخل عليه ..وأنه قال - بعد التفكير الطويل - إنه سحر يؤثر.أما ترون أنه يفرق بين المرء وأهله وولده ومواليه.
فهذه الروايات كلها تبين أن هؤلاء المكذبين لم يكونوا يعتقدون أن رسول اللّه - - يكذبهم فيما يبلغه لهم.وإنما هم كانوا مصرين على شركهم لمثل هذه الأسباب التي وردت بها الروايات،وما وراءها من السبب الرئيسي،وهو ما يتوقعونه من وراء هذه الدعوة من سلب السلطان المغتصب،الذي يزاولونه،وهو سلطان اللّه وحده.كما هو مدلول شهادة أن لا إله إلا اللّه التي يقوم عليها الإسلام.وهم كانوا يعرفون جيدا مدلولات لغتهم وكانوا لا يريدون أن يسلموا بمدلول هذه الشهادة.وهو إنما يمثل ثورة كاملة على كل سلطان غير سلطان اللّه في حياة العباد ..وصدق اللّه العظيم:« قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ.فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ،وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» ..
والظالمون في هذا الموضع هم المشركون.كما يغلب في التعبير القرآني الكريم.
ويستطرد من تطييب خاطر الرسول - - وبيان الأسباب الحقيقية لموقف المكذبين منه ومن دعوته،ومن آيات اللّه الناطقة بصدقه وصدق ما جاء به ..يستطرد من هذا إلى تذكيره بما وقع لإخوانه الرسل قبله - وقد جاءه من أخبارهم في هذا القرآن - ثم ما كان منهم من الصبر والمضي في الطريق،حتى جاءهم نصر اللّه.ليقرر أن هذه هي سنة الدعوات التي لا تتبدل،ولا يغير منها اقتراحات المقترحين،كما أنها لا تستعجل مهما ينزل بالدعاة من الأذى والتكذيب والضيق:«وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ،فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا،وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ،وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ» ..
إن موكب الدعوة إلى اللّه موغل في القدم،ضارب في شعاب الزمن،ماض في الطريق اللاحب،ماض في الخط الواصب ..مستقيم الخطى،ثابت الأقدام.يعترض طريقه المجرمون من كل قبيل،ويقاومه التابعون من الضالين والمتبوعون،ويصيب الأذى من يصيب من الدعاة،وتسيل الدماء وتتمزق الأشلاء
والموكب في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا ينكص ولا يحيد ..والعاقبة هي العاقبة،مهما طال الزمن ومهما طال الطريق ..إن نصر اللّه دائما في نهاية الطريق:«وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ،فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا،وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ،وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ» ..
كلمات يقولها اللّه - سبحانه - لرسوله - - ..كلمات للذكرى،وللتسرية وللمواساة،والتأسية ..وهي ترسم للدعاة إلى اللّه من بعد رسول اللّه - - طريقهم واضحا،ودورهم محددا،كما ترسم لهم متاعب الطريق وعقباته،ثم ما ينتظرهم بعد ذلك كله في نهاية الطريق ...إنها تعلمهم أن سنة اللّه في الدعوات واحدة.كما أنها كذلك وحدة.وحدة لا تتجزأ ..دعوة تتلقاها الكثرة بالتكذيب،وتتلقى أصحابها بالأذى ..وصبر من الدعاة على التكذيب وصبر كذلك على الأذى ..
وسنة تجري بالنصر في النهاية ..ولكنها تجيء في موعدها.لا يعجلها عن هذا الموعد أن الدعاة الأبرياء الطيبين المخلصين يتلقون الأذى والتكذيب،ولا أن المجرمين الضالين والمضلين يقدرون على أذى المخلصين الأبرياء الطيبين! ولا يعجلها كذلك عن موعدها أن صاحب الدعوة المخلص المتجرد من ذاته ومن شهواته إنما يرغب في هداية قومه حبا في هدايتهم،ويأسى على ما هم فيه من ضلال وشقوة،وعلى ما ينتظرهم من دمار وعذاب في الدنيا والآخرة ..لا يعجلها عن موعدها شيء من ذلك كله.فإن اللّه لا يعجل لعجلة أحد من خلقه.ولا مبدل لكلماته.سواء تعلقت هذه الكلمات بالنصر المحتوم،أم تعلقت بالأجل المرسوم.إنه الجد الصارم،والحسم الجازم،إلى جانب التطمين والتسرية والمواساة والتسلية ..
ثم يبلغ الجد الصارم مداه،في مواجهة ما عساه يعتمل في نفس رسول اللّه - - من الرغبة البشرية،المشتاقة إلى هداية قومه،المتطلعة إلى الاستجابة لما يطلبونه من آية لعلهم يهتدون.وهي الرغبة التي كانت تجيش في صدور بعض المسلمين في ذلك الحين،والتي تشير إليها آيات أخرى في السورة آتية في السياق.وهي رغبة بشرية طبيعية.ولكن في صدد الحسم في طبيعة هذه الدعوة ومنهجها ودور الرسل فيها،ودور الناس أجمعين،تجيء تلك المواجهة الشديدة في القرآن الكريم:«وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ،فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ،أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ،فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ! وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ.إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ.وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ،ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» ..
وإنه للهول الهائل ينسكب من خلال الكلمات الجليلة ..وما يملك الإنسان أن يدرك حقيقة هذا الأمر،إلا حين يستحضر في كيانه كله:أن هذه الكلمات موجهة من رب العالمين إلى نبيه الكريم ..النبي الصابر من أولي العزم من الرسل ..الذي لقي ما لقي من قومه صابرا محتسبا،لم يدع عليهم دعوة نوح - عليه السلام - وقد لقي منهم سنوات طويلة،ما يذهب بحلم الحليم! ...تلك سنتنا - يا محمد - فإن كان قد كبر عليك إعراضهم،وشق عليك تكذيبهم،وكنت ترغب في إتيانهم بآية ..إذن ..فإن استطعت فابتغ لك نفقا في الأرض أو سلما في السماء،فأتهم بآية! ...إن هداهم لا يتوقف على أن تأتيهم بآية.فليس الذي ينقص هو الآية التي تدلهم على الحق فيما تقول ..
ولو شاء اللّه لجمعهم على الهدى:إما بتكوين فطرتهم من الأصل على أن لا تعرف سوى الهدى - كالملائكة - وإما بتوجيه قلوبهم وجعلها قادرة على استقبال هذا الهدى والاستجابة إليه.وإما بإظهار خارقة تلوي أعناقهم جميعا.وإما بغير هذه من الوسائل وكلها يقدر اللّه عليها.
ولكنه سبحانه - لحكمته العليا الشاملة في الوجود كله - خلق هذا الخلق المسمى بالإنسان،لوظيفة معينة،تقتضي - في تدبيره العلوي الشامل - أن تكون له استعدادات معينة غير استعدادات الملائكة.من بينها التنوع في الاستعدادات،والتنوع في استقبال دلائل الهدى وموحيات الإيمان،والتنوع في الاستجابة لهذه الدلائل والموحيات.في حدود من القدرة على الاتجاه،بالقدر الذي يكون عدلا معه تنوع الجزاء على الهدى والضلال ..لذلك لم يجمعهم اللّه على الهدى بأمر تكويني من عنده،ولكنه أمرهم بالهدى وترك لهم اختيار الطاعة أو المعصية،وتلقي الجزاء العادل في نهاية المطاف ..فاعلم ذلك ولا تكن ممن يجهلونه.«وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى .فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ».يا لهول الكلمة! ويا لحسم التوجيه! ولكنه المقام الذي يقتضي هول الكلمة وحسم التوجيه ..
وبعد ذلك بيان للفطرة التي فطر اللّه الناس عليها،ولمواقفهم المختلفة في مواجهة الهدى،الذي لا تنقصه البينة ولا ينقصه الدليل:«إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ.وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ.ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» ..
إن الناس يواجهون هذا الحق الذي جاءهم به الرسول من عند اللّه وهم فريقان:
فريق حي،أجهزة الاستقبال الفطرية فيه حية،عاملة،مفتوحة ..وهؤلاء يستجيبون للهدى.فهو من القوة والوضوح والاصطلاح مع الفطرة والتلاقي معها إلى الحد الذي يكفي أن تسمعه،فتستجيب له:
«إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ» ..وفريق ميت،معطل الفطرة،لا يسمع ولا يستقبل،ومن ثم لا يتأثر ولا يستجيب ..ليس الذي ينقصه أن هذا الحق لا يحمل دليله - فدليله كامن فيه،ومتى بلغ إلى الفطرة وجدت فيها مصداقه،فاستجابت إليه حتما - إنما الذي ينقص هذا الفريق من الناس هو حياة الفطرة،وقيام أجهزة الاستقبال فيها بمجرد التلقي! وهؤلاء لا حيلة فيهم للرسول،ولا مجال معهم للبرهان.إنما يتعلق أمرهم بمشيئة اللّه.إن شاء بعثهم إن علم منهم ما يستحق أن يحييهم،وإن شاء لم يبعثهم في هذه الحياة الدنيا،وبقوا أمواتا بالحياة حتى يرجعوا إليه في الآخرة.«وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ.ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» ..
هذه هي قصة الاستجابة وعدم الاستجابة! تكشف حقيقة الموقف كله،وتحدد واجب الرسول وعمله،وتترك الأمر كله لصاحب الأمر يقضي فيه بما يريد.
ومن خطاب رسول اللّه - - بهذه الحقيقة،ينتقل السياق إلى حكاية ما يطلبه المشركون من إنزال خارقة،وإلى بيان ما في هذا الطلب من الجهالة بسنة اللّه،ومن سوء إدراك لرحمته بهم ألا يستجيب لهذا الاقتراح الذي في أعقابه التدمير لهم لو أجيبوا إليه!



سنة الله في الابتلاء والتمحيص والتداول

قال تعالى : { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) } [آل عمران: 137 - 142]
لقد أصاب المسلمين القرح في هذه الغزوة،وأصابهم القتل والهزيمة.أصيبوا في أرواحهم وأصيبوا في أبدانهم بأذى كثير.قتل منهم سبعون صحابيا،وكسرت رباعية الرسول - - وشج وجهه،وأرهقه المشركون،وأثخن أصحابه بالجراح ..وكان من نتائج هذا كله هزة في النفوس،وصدمة لعلها لم تكن متوقعة بعد النصر العجيب في بدر،حتى لقال المسلمون حين أصابهم ما أصابهم:«أَنَّى هذا؟» وكيف تجري الأمور معنا هكذا ونحن المسلمون؟! والقرآن الكريم يرد المسلمين هنا إلى سنن اللّه في الأرض.يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها الأمور.فهم ليسوا بدعا في الحياة فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف،والأمور لا تمضي جزافا،إنما هي تتبع هذه النواميس،فإذا هم درسوها،وأدركوا مغازيها،تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث،وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع،واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث،وإلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام.واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق.ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين،لينالوا النصر والتمكين بدون الأخذ بأسباب النصر،وفي أولها طاعة اللّه وطاعة الرسول.
والسنن التي يشير إليها السياق هنا،ويوجه أبصارهم إليها هي:عاقبة المكذبين على مدار التاريخ.ومداولة الأيام بين الناس.والابتلاء لتمحيص السرائر،وامتحان قوة الصبر على الشدائد،واستحقاق النصر للصابرين والمحق للمكذبين.
وفي خلال استعراض تلك السنن تحفل الآيات بالتشجيع على الاحتمال،والمواساة في الشدة،والتأسية على القرح،الذي لم يصبهم وحدهم،إنما أصاب أعدائهم كذلك،وهم أعلى من أعدائهم عقيدة وهدفا،وأهدى منهم طريقا ومنهجا،والعاقبة بعد لهم،والدائرة على الكافرين.
« قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ،فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ،فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ.هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ» ..
إن القرآن ليربط ماضي البشرية بحاضرها،وحاضرها بماضيها،فيشير من خلال ذلك كله إلى مستقبلها.
وهؤلاء العرب الذين وجه إليهم القول أول مرة لم تكن حياتهم،ولم تكن معارفهم،ولم تكن تجاربهم - قبل الإسلام - لتسمح لهم بمثل هذه النظرة الشاملة.لولا هذا الإسلام - وكتابه القرآن - الذي أنشأهم به اللّه نشأة أخرى،وخلق به منهم أمة تقود الدنيا ..
إن النظام القبلي الذي كانوا يعيشون في ظله،ما كان ليقود تفكيرهم إلى الربط بين سكان الجزيرة ومجريات حياتهم فضلا على الربط بين سكان هذه الأرض وأحداثها،فضلا على الربط بين الأحداث العالمية والسنن الكونية التي تجري وفقها الحياة جميعا ..وهي نقلة بعيدة لم تنبع من البيئة،ولم تنشأ من مقتضيات الحياة في ذلك الزمان! إنما حملتها إليهم هذه العقيدة.بل حملتهم إليها! وارتقت بهم إلى مستواها،في ربع قرن من الزمان.على حين أن غيرهم من معاصريهم لم يرتفعوا إلى هذا الأفق من التفكير العالي إلا بعد قرون وقرون ولم يهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس الكونية،إلا بعد أجيال وأجيال ..فلما اهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس نسوا أن معها كذلك طلاقة المشيئة الإلهية،وأنه إلى اللّه تصير الأمور ..فأما هذه الأمة المختارة فقد استيقنت هذا كله،واتسع له تصورها،ووقع في حسها التوازن بين ثبات السنن وطلاقة المشيئة،فاستقامت حياتها على التعامل مع سنن اللّه الثابتة والاطمئنان - بعد هذا - إلى مشيئته الطليقة! «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ» ..
وهي هي التي تحكم الحياة.وهي هي التي قررتها المشيئة الطليقة.فما وقع منها في غير زمانكم فسيقع مثله - بمشيئة اللّه - في زمانكم،وما انطبق منها على مثل حالكم فهو كذلك سينطبق على حالكم.
«فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ» ..فالأرض كلها وحدة.والأرض كلها مسرح للحياة البشرية.والأرض والحياة فيها كتاب مفتوح تتملاه الأبصار والبصائر.
«فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» ..وهي عاقبة تشهد بها آثارهم في الأرض،وتشهد بها سيرهم التي يتناقلها خلفهم هناك ..ولقد ذكر القرآن الكريم كثيرا من هذه السير ومن هذه الآثار في مواضع منه متفرقة.بعضها حدد مكانه وزمانه وشخوصه.
وبعضها أشار إليه بدون تحديد ولا تفصيل ..وهنا يشير هذه الإشارة المجملة ليصل منها إلى نتيجة مجملة:
إن ما جرى للمكذبين بالأمس سيجري مثله للمكذبين اليوم وغدا.ذلك كي تطمئن قلوب الجماعة المسلمة إلى العاقبة من جهة.وكي تحذر الانزلاق مع المكذبين من جهة أخرى.وقد كان هنالك ما يدعو إلى الطمأنينة وما يدعو إلى التحذير.وفي السياق سيرد من هذه الدواعي الكثير.
وعلى إثر بيان هذه السنة يتجاوب النداء للعظة والعبرة بهذا البيان:«هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ،وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ» ..
هذا بيان للناس كافة.فهو نقلة بشرية بعيدة ما كان الناس ببالغيها لولا هذا البيان الهادي.ولكن طائفة خاصة هي التي تجد فيه الهدى،وتجد فيه الموعظة،وتنتفع به وتصل على هداه ..طائفة «المتقين» ..
إن الكلمة الهادية لا يستشرفها إلا القلب المؤمن المفتوح للهدى.والعظة البالغة لا ينتفع بها إلا القلب التقي الذي يخفق لها ويتحرك بها ..والناس قلما ينقصهم العلم بالحق والباطل،وبالهدى والضلال ..إن الحق بطبيعته من الوضوح والظهور بحيث لا يحتاج إلى بيان طويل.إنما تنقص الناس الرغبة في الحق،والقدرة على اختيار طريقه ..والرغبة في الحق والقدرة على اختيار طريقه لا ينشئهما إلا الإيمان،ولا يحفظهما إلا التقوى ..ومن ثم تتكرر في القرآن أمثال هذه التقريرات.تنص على أن ما في هذا الكتاب من حق،ومن هدى،ومن نور،ومن موعظة،ومن عبرة ..إنما هي للمؤمنين وللمتقين.فالإيمان والتقوى هما اللذان يشرحان القلب للهدى والنور والموعظة والعبرة.وهما اللذان يزينان للقلب اختيار الهدى والنور والانتفاع بالموعظة والعبرة ..واحتمال مشقات الطريق ..وهذا هو الأمر،وهذا هو لب المسألة ..لا مجرد العلم والمعرفة ..فكم ممن يعلمون ويعرفون،وهم في حمأة الباطل يتمرغون.إما خضوعا لشهوة لا يجدي معها العلم والمعرفة،وإما خوفا من أذى ينتظر حملة الحق وأصحاب الدعوة!
وبعد هذا البيان العريض يتجه إلى المسلمين بالتقوية والتأسية والتثبيت:«وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ.إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» ..لا تهنوا - من الوهن والضعف - ولا تحزنوا - لما أصابكم ولما فاتكم - وأنتم الأعلون ..عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون للّه وحده،وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض من خلقه! ومنهجكم أعلى.فأنتم تسيرون على منهج من صنع اللّه،وهم يسيرون على منهج من صنع خلق اللّه! ودوركم أعلى.فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها،الهداة لهذه البشرية كلها،وهم شاردون عن النهج،ضالون عن الطريق.ومكانكم في الأرض أعلى،فلكم وراثة الأرض التي وعدكم اللّه بها،وهم إلى الفناء والنسيان صائرون ..فإن كنتم مؤمنين حقا فأنتم الأعلون.وإن كنتم مؤمنين حقا فلا تهنوا ولا تحزنوا.فإنما هي سنة اللّه أن تصابوا وتصيبوا،على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص:«إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ.وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ.وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا،وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ.وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ.وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ» ..
وذكر القرح الذي أصابهم وأصاب المكذبين قرح مثله،قد يكون إشارة إلى غزوة بدر.وقد مس القرح فيها المشركون وسلم المسلمون.وقد يكون إشارة إلى غزوة أحد.وقد انتصر فيها المسلمون في أول الأمر.حتى هزم المشركون وقتل منهم سبعون،وتابعهم المسلمون يضربون أقفيتهم حتى لقد سقط علم المشركين في ثنايا المعركة فلم يتقدم إليه منهم أحد.حتى رفعته لهم امرأة فلاثوا بها وتجمعوا عليها ..ثم كانت الدولة للمشركين،حينما خرج الرماة على أمر رسول اللّه - - واختلفوا فيما بينهم.فأصاب المسلمين ما أصابهم في نهاية المعركة.جزاء وفاقا لهذا الاختلاف وذلك الخروج،وتحقيقا لسنة من سنن اللّه التي لا تتخلف،إذ كان اختلاف الرماة وخروجهم ناشئين من الطمع في الغنيمة.واللّه قد كتب النصر في معارك الجهاد لمن يجاهدون في سبيله،لا ينظرون إلى شيء من عرض هذه الدنيا الزهيد.وتحقيقا كذلك لسنة أخرى من سنن اللّه في الأرض،وهي مداولة الأيام بين الناس - وفقا لما يبدو من عمل الناس ونيتهم - فتكون لهؤلاء يوما ولأولئك يوما.ومن ثم يتبين المؤمنون ويتبين المنافقون.كما تتكشف الأخطاء.وينجلي الغبش.
«إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ.وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ .وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» ..
إن الشدة بعد الرخاء،والرخاء بعد الشدة،هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس،وطبائع القلوب،ودرجة الغبش فيها والصفاء،ودرجة الهلع فيها والصبر،ودرجة الثقة فيها باللّه أو القنوط،ودرجة الاستسلام فيها لقدر اللّه أو البرم به والجموح! عندئذ يتميز الصف ويتكشف عن:مؤمنين ومنافقين،ويظهر هؤلاء وهؤلاء على حقيقتهم،وتتكشف في دنيا الناس دخائل نفوسهم.ويزول عن الصف ذلك الدخل وتلك الخلخلة التي تنشأ من قلة التناسق بين أعضائه وأفراده،وهم مختلطون مبهمون! واللّه سبحانه يعلم المؤمنين والمنافقين.واللّه سبحانه يعلم ما تنطوي عليه الصدور.ولكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء،وتجعله واقعا في حياة الناس،وتحول الإيمان إلى عمل ظاهر،وتحول النفاق كذلك إلى تصرف ظاهر،ومن ثم يتعلق به الحساب والجزاء.فاللّه سبحانه لا يحاسب الناس على ما يعلمه من أمرهم ولكن يحاسبهم على وقوعه منهم.
ومداولة الأيام،وتعاقب الشدة والرخاء،محك لا يخطئ،وميزان لا يظلم.والرخاء في هذا كالشدة.
وكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك،ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل.والنفس المؤمنة هي التي تصبر للضراء ولا تستخفها السراء،وتتجه إلى اللّه في الحالين،وتوقن أن ما أصابها من الخير والشر فبإذن اللّه.
وقد كان اللّه يربي هذه الجماعة - وهي في مطالع خطواتها لقيادة البشرية - فرباها بهذا الابتلاء بالشدة بعد الابتلاء بالرخاء،والابتلاء بالهزيمة المريرة بعد الابتلاء بالنصر العجيب - وإن يكن هذا وهذه قد وقعا وفق أسبابهما ووفق سنن اللّه الجارية في النصر والهزيمة.لتتعلم هذه الجماعة أسباب النصر والهزيمة.ولتزيد طاعة للّه،وتوكلا عليه،والتصاقا بركنه.ولتعرف طبيعة هذا المنهج وتكاليفه معرفة اليقين.
ويمضي السياق يكشف للأمة المسلمة عن جوانب من حكمة اللّه فيما وقع من أحداث المعركة،وفيما وراء مداولة الأيام بين الناس،وفيما بعد تمييز الصفوف،وعلم اللّه للمؤمنين:«وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ» ..
وهو تعبير عجيب عن معنى عميق - إن الشهداء لمختارون.يختارهم اللّه من بين المجاهدين،ويتخذهم لنفسه - سبحانه - فما هي رزية إذن ولا خسارة أن يستشهد في سبيل اللّه من يستشهد.إنما هو اختيار وانتقاء،وتكريم واختصاص ..إن هؤلاء هم الذين اختصهم اللّه ورزقهم الشهادة،ليستخلصهم لنفسه - سبحانه - ويخصهم بقربه.
ثم هم شهداء يتخذهم اللّه،ويستشهدهم على هذا الحق الذي بعث به للناس.يستشهدهم فيؤدون الشهادة.يؤدونها أداء لا شبهة فيه،ولا مطعن عليه،ولا جدال حوله.يؤدونها بجهادهم حتى الموت في سبيل إحقاق هذا الحق،وتقريره في دنيا الناس.يطلب اللّه - سبحانه - منهم أداء هذه الشهادة،على أن ما جاءهم من عنده الحق،وعلى أنهم آمنوا به،وتجردوا له،وأعزوه حتى أرخصوا كل شيء دونه وعلى أن حياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحق وعلى أنهم هم استيقنوا هذا،فلم يألوا جهدا في كفاح الباطل وطرده من حياة الناس،وإقرار هذا الحق في عالمهم وتحقيق منهج اللّه في حكم الناس ..يستشهدهم اللّه على هذا كله فيشهدون.وتكون شهادتهم هي هذا الجهاد حتى الموت.وهي شهادة لا تقبل الجدال والمحال! وكل من ينطق بالشهادتين:شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه.لا يقال له إنه شهد،إلا أن يؤدي مدلول هذه الشهادة ومقتضاها.ومدلولها هو ألا يتخذ إلا اللّه إليها.ومن ثم لا يتلقى الشريعة إلا من اللّه.فأخص خصائص الألوهية التشريع للعباد وأخص خصائص العبودية التلقي من اللّه ..ومدلولها كذلك ألا يتلقى من اللّه إلا عن محمد بما أنه رسول اللّه.ولا يعتمد مصدرا آخر للتلقي إلا هذا المصدر ..
ومقتضى هذه الشهادة أن يجاهد إذن لتصبح الألوهية للّه وحده في الأرض،كما بلغها محمد - - فيصبح المنهج الذي أراده اللّه للناس،والذي بلغه عنه محمد - - هو المنهج السائد والغالب والمطاع،وهو النظام الذي يصرّف حياة الناس كلها بلا استثناء.
فإذا اقتضى هذا الأمر أن يموت في سبيله،فهو إذن شهيد.أي شاهد طلب اللّه إليه أداء هذه الشهادة فأداها.واتخذه اللّه شهيدا ..ورزقه هذا المقام.هذا فقه ذلك التعبير العجيب:«وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ ..».
وهو مدلول شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه،ومقتضاه ..لا ما انتهى إليه مدلول هذه الشهادة من الرخص والتفاهة والضياع! «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» ..
والظلم كثيرا ما يذكر في القرآن ويراد به الشرك.بوصفه أظلم الظلم وأقبحه.وفي القرآن:«إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» ..وفي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ .قَالَ وَحَدَّثَنِى وَاصِلٌ عَنْ أَبِى وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - قَالَ سَأَلْتُ - أَوْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - - - أَىُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أَكْبَرُ قَالَ « أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهْوَ خَلَقَكَ » .قُلْتُ ثُمَّ أَىٌّ قَالَ « ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ .قُلْتُ ثُمَّ أَىٌّ قَالَ « أَنْ تُزَانِىَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ » .قَالَ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - - ( وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ) ...
وقد أشار السياق من قبل إلى سنة اللّه في المكذبين فالآن يقرر أن اللّه لا يحب الظالمين.فهو توكيد في صورة أخرى لحقيقة ما ينتظر المكذبين الظالمين الذين لا يحبهم اللّه.والتعبير بأن اللّه لا يحب الظالمين،يثير في نفس المؤمن بغض الظلم وبغض الظالمين.وهذه الإثارة في معرض الحديث عن الجهاد والاستشهاد،لها مناسبتها الحاضرة.فالمؤمن إنما يبذل نفسه في مكافحة ما يكرهه اللّه ومن يكرهه.وهذا هو مقام الاستشهاد،وفي هذا تكون الشهادة ومن هؤلاء يتخذ اللّه الشهداء ..
ثم يمضي السياق القرآني يكشف عن الحكمة الكامنة وراء الأحداث،في تربية الأمة المسلمة وتمحيصها وإعدادها لدورها الأعلى،ولتكون أداة من أدوات قدره في محق الكافرين،وستارا لقدرته في هلاك المكذبين:«وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ» ..
والتمحيص درجة بعد الفرز والتمييز.التمحيص عملية تتم في داخل النفس،وفي مكنون الضمير ..إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية،وتسليط الضوء على هذه المكنونات.تمهيدا لإخراج الدخل والدغل والأوشاب،وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق،بلا غبش ولا ضباب ..
وكثيرا ما يجهل الإنسان نفسه،ومخابئها ودروبها ومنحنياتها.وكثيرا ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها،وحقيقة ما استكن فيها من رواسب،لا تظهر إلا بمثير! وفي هذا التمحيص الذي يتولاه اللّه - سبحانه - بمداولة الأيام بين الناس بين الشدة والرخاء،يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير:محك الأحداث والتجارب والمواقف العملية الواقعية.
ولقد يظن الإنسان في نفسه القدرة والشجاعة والتجرد والخلاص من الشح والحرص ..ثم إذا هو يكشف - على ضوء التجربة العملية،وفي مواجهة الأحداث الواقعية - أن في نفسه عقابيل لم تمحص.وأنه لم يتهيأ لمثل هذا المستوي من الضغوط! ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه،ليعاود المحاولة في سبكها من جديد،على مستوى الضغوط التي تقضيها طبيعة هذه الدعوة،وعلى مستوى التكاليف التي تقتضيها هذه العقيدة! واللّه - سبحانه - كان يربي هذه الجماعة المختارة لقيادة البشرية،وكان يريد بها أمرا في هذه الأرض.فمحصها هذا التمحيص،الذي تكشفت عنه الأحداث في أحد،لترتفع إلى مستوى الدور المقدر لها،وليتحقق على يديها قدر اللّه الذي ناطه بها:«وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ» ..تحقيقا لسنته في دمغ الباطل بالحق متى استعلن الحق،وخلص من الشوائب بالتمحيص
وفي سؤال استنكاري يصحح القرآن تصورات المسلمين عن سنة اللّه في الدعوات،وفي النصر والهزيمة،وفي العمل والجزاء.ويبين لهم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره،وزاده الصبر على مشاق الطريق،وليس زاده التمني والأماني الطائرة التي لا تثبت على المعاناة والتمحيص:«أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ،وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ.وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ.فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» ..
إن صيغة السؤال الاستنكارية يقصد بها إلى التنبيه بشدة إلى خطأ هذا التصور:تصور أنه يكفي الإنسان أن يقولها كلمة باللسان:أسلمت وأنا على استعداد للموت.فيبلغ بهذه الكلمة أن يؤدي تكاليف الإيمان،وأن ينتهي إلى الجنة والرضوان! إنما هي التجربة الواقعية،والامتحان العملي.وإنما هو الجهاد وملاقاة البلاء،ثم الصبر على تكاليف الجهاد،وعلى معاناة البلاء.
وفي النص القرآني لفتة ذات مغزى:«وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ» ..«وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» ..
فلا يكفي أن يجاهد المؤمنون.إنما هو الصبر على تكاليف هذه الدعوة أيضا.التكاليف المستمرة المتنوعة التي لا تقف عند الجهاد في الميدان.فربما كان الجهاد في الميدان أخف تكاليف هذه الدعوة التي يطلب لها الصبر،ويختبر بها الإيمان.إنما هنالك المعاناة اليومية التي لا تنتهي:معاناة الاستقامة على أفق الإيمان.والاستقرار على مقتضياته في الشعور والسلوك،والصبر في أثناء ذلك على الضعف الإنساني:في النفس وفي الغير،ممن يتعامل معهم المؤمن في حياته اليومية.والصبر على الفترات التي يستعلي فيها الباطل وينتفش ويبدو كالمنتصر! والصبر على طول الطريق وبعد الشقة وكثرة العقبات.والصبر على وسوسة الراحة وهفوة النفس لها في زحمة الجهد والكرب والنضال.والصبر على أشياء كثيرة ليس الجهاد في الميدان إلا واحدا منها،في الطريق المحفوف بالمكاره.طريق الجنة التي لا تنال بالأمانيّ وبكلمات اللسان!
«وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ.فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» ..وهكذا يقفهم السياق وجها لوجه مرة أخرى أمام الموت الذي واجهوه في المعركة،وقد كانوا من قبل يتمنون لقاءه.ليوازنوا في حسهم بين وزن الكلمة يقولها اللسان،ووزن الحقيقة يواجهها في العيان.فيعلمهم بهذا أن يحسبوا حسابا لكل كلمة تطلقها ألسنتهم،ويزنوا حقيقة رصيدها الواقعي في نفوسهم،على ضوء ما واجهوه من حقيقتها حين واجهتهم! وبذلك يقدرون قيمة الكلمة،وقيمة الأمنية،وقيمة الوعد،في ضوء الواقع الثقيل! ثم يعلمهم أن ليست الكلمات الطائرة،والأماني المرفرفة هي التي تبلغهم الجنة،إنما هو تحقيق الكلمة،وتجسيم الأمنية،والجهاد الحقيقي،والصبر على المعاناة.حتى يعلم اللّه منهم ذلك كله واقعا كائنا في دنيا الناس! ولقد كان اللّه - سبحانه - قادرا على أن يمنح النصر لنبيه ولدعوته ولدينه ولمنهجه منذ اللحظة الأولى،وبلا كد من المؤمنين ولا عناء.وكان قادرا أن ينزل الملائكة تقاتل معهم - أو بدونهم - وتدمر على المشركين،كما دمرت على عاد وثمود وقوم لوط ..
ولكن المسألة ليست هي النصر ..إنما هي تربية الجماعة المسلمة،التي تعد لتتسلم قيادة البشرية ..البشرية بكل ضعفها ونقصها وبكل شهواتها ونزواتها وبكل جاهليتها وانحرافها ..وقيادتها قيادة راشدة تقتضي استعدادا عاليا من القادة.وأول ما تقتضيه صلابة في الخلق،وثبات على الحق،وصبر على المعاناة،ومعرفة بمواطن الضعف ومواطن القوة في النفس البشرية،وخبرة بمواطن الزلل ودواعي الانحراف،ووسائل العلاج ..ثم صبر على الرخاء كالصبر على الشدة.وصبر على الشدة بعد الرخاء.وطعمها يومئذ لاذع مرير! ..
وهذه التربية هي التي يأخذ اللّه بها الجماعة المسلمة حين يأذن بتسليمها مقاليد القيادة،ليعدها بهذه التربية للدور العظيم الهائل الشاق،الذي ينوطه بها في هذه الأرض.وقد شاء - سبحانه - أن يجعل هذا الدور من نصيب «الإنسان» الذي استخلفه في هذا الملك العريض! وقدر اللّه في إعداد الجماعة المسلمة للقيادة يمضي في طريقه،بشتى الأسباب والوسائل،وشتى الملابسات والوقائع ..يمضي أحيانا عن طريق النصر الحاسم للجماعة المسلمة،فتستبشر،وترتفع ثقتها بنفسها - في ظل العون الإلهي - وتجرب لذة النصر،وتصبر على نشوته،وتجرب مقدرتها على مغالبة البطر والزهو والخيلاء،وعلى التزام التواضع والشكر للّه ..ويمضي أحيانا عن طريق الهزيمة والكرب والشدة.فتلجأ إلى اللّه،وتعرف حقيقة قوتها الذاتية،وضعفها حين تنحرف أدنى انحراف عن منهج اللّه.وتجرب مرارة الهزيمة وتستعلي مع ذلك على الباطل،بما عندها من الحق المجرد وتعرف مواضع نقصها وضعفها،ومداخل شهواتها،ومزالق أقدامها فتحاول أن تصلح من هذا كله في الجولة القادمة ..وتخرج من النصر ومن الهزيمة بالزاد والرصيد ..ويمضي قدر اللّه وفق سنته لا يتخلف ولا يحيد ..
وقد كان هذا كله طرفا من رصيد معركة أحد الذي يحشده السياق القرآني للجماعة المسلمة - على نحو ما نرى في هذه الآيات - وهو رصيد مدخر لكل جماعة مسلمة ولكل جيل من أجيال المسلمين.



حقيقة الموت والنجاة ومشقة الطريق

قال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) } [آل عمران: 185،186]
إنه لا بد من استقرار هذه الحقيقة في النفس:حقيقة أن الحياة في هذه الأرض موقوتة،محدودة بأجل ثم تأتي نهايتها حتما ..يموت الصالحون ويموت الطالحون.يموت المجاهدون ويموت القاعدون.يموت المستعلون بالعقيدة ويموت المستذلون للعبيد.يموت الشجعان الذين يأبون الضيم،ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن ..يموت ذوو الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية،ويموت التافهون الذين يعيشون فقط للمتاع الرخيص.
الكل يموت ..«كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» ..كل نفس تذوق هذه الجرعة،وتفارق هذه الحياة ..لا فارق بين نفس ونفس في تذوق هذه الجرعة من هذه الكأس الدائرة على الجميع.إنما الفارق في شيء آخر.الفارق في قيمة أخرى.الفارق في المصير الأخير:«وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ.فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» ..
هذه هي القيمة التي يكون فيها الافتراق.وهذا هو المصير الذي يفترق فيه فلان عن فلان.القيمة الباقية التي تستحق السعي والكد.والمصير المخوف الذي يستحق أن يحسب له ألف حساب:«فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» ..
ولفظ «زُحْزِحَ» بذاته يصور معناه بجرسه،ويرسم هيئته،ويلقي ظله! وكأنما للنار جاذبية تشد إليها من يقترب منها،ويدخل في مجالها! فهو في حاجة إلى من يزحزحه قليلا قليلا ليخلصه من جاذبيتها المنهومة! فمن أمكن أن يزحزح عن مجالها،ويستنقذ من جاذبيتها،ويدخل الجنة ..فقد فاز ..صورة قوية.بل مشهد حي.فيه حركة وشد وجذب! وهو كذلك في حقيقته وفي طبيعته.فللنار جاذبية! أليست للمعصية جاذبية؟ أليست النفس في حاجة إلى من يزحزحها زحزحة عن جاذبية المعصية؟ بلى! وهذه هي زحزحتها عن النار! أليس الإنسان - حتى مع المحاولة واليقظة الدائمة - يظل أبدا مقصرا في العمل ..إلا أن يدركه فضل اللّه؟ بلى! وهذه هي الزحزحة عن النار حين يدرك الإنسان فضل اللّه،فيزحزحه عن النار! «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» ..
إنها متاع.ولكنه ليس متاع الحقيقة،ولا متاع الصحو واليقظة ..إنها متاع الغرور.المتاع الذي يخدع الإنسان فيحسبه متاعا.أو المتاع الذي ينشئ الغرور والخداع! فأما المتاع الحق.المتاع الذي يستحق الجهد في تحصيله ..فهو ذاك ..هو الفوز بالجنة بعد الزحزحة عن النار.
وعند ما تكون هذه الحقيقة قد استقرت في النفس.عند ما تكون النفس قد أخرجت من حسابها حكاية الحرص على الحياة - إذ كل نفس ذائقة الموت على كل حال - وأخرجت من حسابها حكاية متاع الغرور الزائل ..عندئذ يحدث اللّه المؤمنين عما ينتظرهم من بلاء في الأموال والأنفس.وقد استعدت نفوسهم للبلاء:«لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ،وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً.وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» ..
إنها سنة العقائد والدعوات.لا بد من بلاء،ولا بد من أذى في الأموال والأنفس،ولا بد من صبر ومقاومة واعتزام.إنه الطريق إلى الجنة.وقد حفت الجنة بالمكاره.بينما حفت النار بالشهوات.ثم إنه هو الطريق الذي لا طريق غيره،لإنشاء الجماعة التي تحمل هذه الدعوة،وتنهض بتكاليفها.طريق التربية لهذه الجماعة وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة والاحتمال.وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف والمعرفة الواقعية لحقيقة الناس وحقيقة الحياة.ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عودا.فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها إذن والصبر عليها ..فهم عليها مؤتمنون.وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم وتغلو،بقدر ما يصيبهم في سبيلها من عنت وبلاء،وبقدر ما يضحون في سبيلها من عزيز وغال.فلا يفرطوا فيها بعد ذلك،مهما تكن الأحوال.
وذلك لكي يصلب عود الدعوة والدعاة.فالمقاومة هي التي تستثير القوى الكامنة،وتنميها وتجمعها وتوجهها.
والدعوة الجديدة في حاجة إلى استثارة هذه القوى،لتتأصل جذورها وتتعمق وتتصل بالتربة الخصبة الغنية في أعماق الفطرة ..
وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم هم أنفسهم وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة عملية واقعية.ويعرفوا حقيقة النفس البشرية وخباياها.وحقيقة الجماعات والمجتمعات.وهم يرون كيف تصطرع مبادئ دعوتهم،مع الشهوات في أنفسهم وفي أنفس الناس.ويعرفون مداخل الشيطان إلى هذه النفوس،ومزالق الطريق،ومسارب الضلال! ثم ..لكي يشعر المعارضون لها في النهاية أنه لا بد فيها من خير،ولا بد فيها من سر،يجعل أصحابها يلاقون في سبيلها ما يلاقون وهم صامدون ..فعندئذ قد ينقلب المعارضون لها إليها ..أفواجا ..في نهاية المطاف! إنها سنة الدعوات.وما يصبر على ما فيها من مشقة ويحافظ في ثنايا الصراع المرير على تقوى اللّه،فلا يشط فيعتدي وهو يرد الاعتداء ولا ييأس من رحمة اللّه ويقطع أمله في نصره وهو يعاني الشدائد ..ما يصبر على ذلك كله إلا أولو العزم الأقوياء : « وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» ..وهكذا علمت الجماعة المسلمة في المدينة ما ينتظرها من تضحيات وآلام.وما ينتظرها من أذى وبلاء في الأنفس والأموال.من أهل الكتاب من حولها.ومن المشركين أعدائها ..ولكنها سارت في الطريق.لم تتخاذل،ولم تتراجع،ولم تنكص على أعقابها ..لقد كانت تستيقن أن كل نفس ذائقة الموت.وأن توفية الأجور يوم القيامة.وأنه من زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز.وأن الحياة الدنيا ما هي إلا متاع الغرور ..على هذه الأرض الصلبة المكشوفة كانت تقف وفي هذا الطريق القاصد الواصل كانت تخطو ..والأرض الصلبة المكشوفة باقية لأصحاب هذه الدعوة في كل زمان.والطريق القاصد الواصل مفتوح يراه كل إنسان.وأعداء هذه الدعوة هم أعداؤها،تتوالى القرون والأجيال وهم ماضون في الكيد لها من وراء القرون والأجيال ..والقرآن هو القرآن ..
وتختلف وسائل الابتلاء والفتنة باختلاف الزمان وتختلف وسائل الدعاية ضد الجماعة المسلمة،ووسائل إيذائها في سمعتها وفي مقوّماتها وفي أعراضها وفي أهدافها وأغراضها ..ولكن القاعدة واحدة:«لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً»! ولقد حفلت السورة بصور من مكايد أهل الكتاب والمشركين وصور من دعايتهم للبلبلة والتشكيك.أحيانا في أصول الدعوة وحقيقتها،وأحيانا في أصحابها وقيادتها.وهذه الصور تتجدد مع الزمان.وتتنوع بابتداع وسائل الدعاية الجديدة،وتوجه كلها إلى الإسلام في أصوله الاعتقادية،وإلى الجماعة المسلمة والقيادة الإسلامية.فلا تخرج على هذه القاعدة التي كشف اللّه عنها للجماعة المسلمة الأولى،وهو يكشف لها عن طبيعة الطريق،وطبيعة الأعداء الراصدين لها في الطريق.
ويبقى هذا التوجيه القرآني رصيدا للجماعة المسلمة كلما همت أن تتحرك بهذه العقيدة،وأن تحاول تحقيق منهج اللّه في الأرض فتجمعت عليها وسائل الكيد والفتنة،ووسائل الدعاية الحديثة،لتشويه أهدافها،وتمزيق أوصالها ..يبقى هذا التوجيه القرآني حاضرا يجلو لأبصارها طبيعة هذه الدعوة،وطبيعة طريقها.وطبيعة أعدائها الراصدين لها في الطريق.ويبث في قلبها الطمأنينة لكل ما تلقاه من وعد اللّه ذاك فتعرف حين تتناوشها الذئاب بالأذى،وحين تعوي حولها بالدعاية،وحين يصيبها الابتلاء والفتنة ..أنها سائرة في الطريق،وأنها ترى معالم الطريق! ومن ثم تستبشر بالابتلاء والأذى والفتنة والادعاء الباطل عليها وإسماعها ما يكره وما يؤذي ..تستبشر بهذا كله،لأنها تستيقن منه أنها ماضية في الطريق التي وصفها اللّه لها من قبل.وتستيقن أن الصبر والتقوى هما زاد الطريق.ويبطل عندها الكيد والبلبلة ويصغر عندها الابتلاء والأذى وتمضي في طريقها الموعود،إلى الأمل المنشود ..في صبر وفي تقوى ..وفي عزم أكيد ..



حكمة البدء بالعقيدة وليس بالقومية أو الاجتماعية أو الأخلاقية

إنَّ أصحاب الدعوة إلى دين اللّه،وإقامة النظام الذي يتمثل فيه هذا الدين في واقع الحياة خليقون أن يقفوا طويلا أمام هذه الظاهرة الكبيرة ..ظاهرة تصدي القرآن المكي خلال ثلاثة عشر عاما ..لتقرير هذه العقيدة ثم وقوفه عندها لا يتجاوزها إلى شيء من تفصيلات النظام الذي يقوم عليها،والتشريعات التي تحكم المجتمع المسلم الذي يعتنقها ..
لقد شاءت حكمة اللّه أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى الدعوة لها منذ اليوم الأول للرسالة.
وأن يبدأ رسول اللّه - - أولى خطواته في الدعوة،بدعوة الناس أن يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأن يمضي في دعوته يعرّف الناس بربهم الحق،ويعبدهم له دون سواه.
ولم تكن هذه - في ظاهر الأمر وفي نظرة العقل البشري المحجوب - هي أيسر السبل إلى قلوب العرب! فلقد كانوا يعرفون من لغتهم معنى:«إله» ومعنى:«لا إله إلا الله» ..كانوا يعرفون أن الألوهية تعني الحاكمية العليا ..وكانوا يعرفون أن توحيد الألوهية وإفراد اللّه - سبحانه - بها،معناه نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام،ورده كله إلى اللّه ..السلطان على الضمائر،والسلطان على الشعائر،والسلطان على واقعيات الحياة ..السلطان في المال،والسلطان في القضاء،والسلطان في الأرواح والأبدان ..
كانوا يعلمون أن:«لا إله إلا اللّه» ثورة على السلطان الأرضي،الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية،وثورة على الأوضاع التي تقوم على قاعدة من هذا الاغتصاب وخروج على السلطات التي تحكم بشريعة من عندها لم يأذن بها اللّه ..ولم يكن يغيب عن العرب - وهم يعرفون لغتهم جيدا،ويعرفون المدلول الحقيقي لدعوة:«لا إله إلا اللّه» - ماذا تعنيه هذه الدعوة بالنسبة لأوضاعهم ورياساتهم وسلطانهم ..ومن ثم استقبلوا هذه الدعوة - أو هذه الثورة - ذلك الاستقبال العنيف،وحاربوها تلك الحرب التي يعرفها الخاص والعام ..فلم كانت هذه نقطة البدء في هذه الدعوة؟ ولم اقتضت حكمة اللّه أن تبدأ بكل هذا العناء؟
لقد بعث رسول اللّه - - بهذا الدين،وأخصب بلاد العرب وأغناها ليست في أيدي العرب إنما هي في يد غيرهم من الأجناس! بلاد الشام كلها في الشمال خاضعة للروم،يحكمها أمراء من العرب من قبل الرومان.وبلاد اليمن كلها في الجنوب خاضعة للفرس يحكمها أمراء من العرب من قبل الفرس ..وليس في أيدي العرب إلا الحجاز ونجد وما إليهما من الصحاري القاحلة،التي تتناثر فيها الواحات الخصبة هنا وهناك! وكان في استطاعة محمد - - وهو الصادق الأمين الذي حكمه أشراف قريش قبل ذلك في وضع الحجر الأسود،وارتضوا حكمه،منذ خمسة عشر عاما والذي هو في الذؤابة من بني هاشم أعلى قريش نسبا ..كان في استطاعته أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع قبائل العرب،التي أكلتها الثارات،ومزقتها النزاعات،وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة من الإمبراطوريات المستعمرة الرومان في الشمال والفرس في الجنوب وإعلاء راية العربية والعروبة وإنشاء وحدة قوية في كل أرجاء الجزيرة ..
ولو دعا يومها رسول اللّه - - هذه الدعوة لاستجابت له العرب قاطبة - على الأرجح - بدلا من أن يعاني ثلاثة عشر عاما في اتجاه معارض لأهواء أصحاب السلطان في الجزيرة! وربما قيل:إن محمدا - - كان خليقا بعد أن يستجيب له العرب هذه الاستجابة وبعد أن يولوه فيهم القيادة والسيادة وبعد استجماع السلطان في يديه والمجد فوق مفرقه ..أن يستخدم هذا كله في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه،وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه! ولكن اللّه - سبحانه - وهو العليم الحكيم،لم يوجه رسوله - - هذا التوجيه! إنما وجهه إلى أن يصدع بلا إله إلا اللّه:وأن يحتمل هو والقلة التي تستجيب له كل هذا العناء! لماذا؟ إن اللّه - سبحانه - لا يريد أن يعنت رسوله والمؤمنين معه ..إنما هو - سبحانه - يعلم أن ليس هذا هو الطريق ..ليس الطريق أن تخلص الأرض من يد طاغوت روماني أو طاغوت فارسي ..إلى يد طاغوت عربي ..فالطاغوت كله طاغوت! ..
إن الأرض للّه،ويجب أن تخلص للّه.ولا تخلص للّه إلّا أن ترتفع عليها راية:«لا إله إلا اللّه» ..وليس الطريق أن يتحرر الناس في هذه الأرض من طاغوت روماني أو طاغوت فارسي.
إلى طاغوت عربي ..فالطاغوت كله طاغوت! إن الناس عبيد للّه وحده،ولا يكونون عبيدا للّه وحده إلا أن ترتفع راية:«لا إله إلا اللّه» ..«لا إله إلا اللّه» كما كان يدركها العربي العارف بمدلولات لغته:لا حاكمية إلا للّه،ولا شريعة إلا من اللّه،ولا سلطان لأحد على أحد،لأن السلطان كله للّه ..ولأن الجنسية التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة،التي يتساوى فيها العربي والروماني والفارسي وسائر الأجناس والألوان تحت راية اللّه.وهذا هو الطريق ..
وبعث رسول اللّه - - بهذا الدين،والمجتمع العربي كأسوأ ما يكون المجتمع توزيعا للثروة والعدالة ..قلة قليلة تملك المال والتجارة وتتعامل بالربا فتضاعف تجارتها ومالها.وكثرة كثيرة لا تملك إلا الشظف والجوع ..والذين يملكون الثروة يملكون معها الشرف والمكانة وجماهير كثيفة ضائعة من المال والمجد جميعا! وكان في استطاعة محمد - - أن يرفعها راية اجتماعية وأن يثيرها حربا على طبقة الأشراف وأن يطلقها دعوة تستهدف تعديل الأوضاع ورد أموال الأغنياء على الفقراء! ولو دعا يومها رسول اللّه - - هذه الدعوة،لا نقسم المجتمع العربي صفين:الكثرة الغالبة فيه مع الدعوة الجديدة،في وجه طغيان المال والشرف.بدلا من أن يقف المجتمع كله صفا في وجه:«لا إله إلا اللّه» التي لم يرتفع إلى أفقها في ذلك الحين إلا الأفذاذ من الناس.
وربما قيل:إن محمدا - - كان خليقا بعد أن تستجيب له الكثرة وتوليه قيادها فيغلب بها القلة ويسلس له مقادها ..أن يستخدم مكانه يومئذ وسلطانه في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه،وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه! ولكن اللّه - سبحانه - وهو العليم الحكيم،لم يوجهه هذا التوجيه ..
لقد كان اللّه - سبحانه - يعلم أن هذا ليس هو الطريق ..كان يعلم أن العدالة الاجتماعية لا بد أن تنبثق في المجتمع من تصور اعتقادي شامل يرد الأمر كله للّه ويقبل عن رضى وعن طواعية ما يقضي به اللّه من عدالة في التوزيع،ومن تكافل بين الجميع ويستقر معه في قلب الآخذ والمأخوذ منه أنه ينفذ نظاما يرضاه اللّه ويرجو على الطاعة فيه الخير والحسنى في الدنيا والآخرة سواء.فلا تمتلئ قلوب بالطمع،ولا تمتلئ قلوب بالحقد ولا تسير الأمور كلها بالسيف والعصا وبالتخويف والإرهاب! ولا تفسد القلوب كلها وتختنق الأرواح كما يقع في الأوضاع التي نراها قد قامت على غير:«لا إله إلا الله» ..
وبعث رسول اللّه - – والمستوى الأخلاقي في الجزيرة العربية في الدرك الأسفل في جوانب منه شتى - إلى جانب ما كان في المجتمع من فضائل الخامة البدوية.
كان التظالم فاشيا في المجتمع،تعبر عنه حكمة الشاعر:زهير بن أبي سلمى:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم،ومن لا يظلم الناس يظلم
ويعبر عنه القول المتعارف:«انصر أخاك ظالما أو مظلوما» .
وكانت الخمر والميسر من تقاليد المجتمع الفاشية ومن مفاخره كذلك! يعبر عن هذه الخصلة الشعر الجاهلي بجملته ..كالذي يقوله طرفة بن العبد:
فلولا ثلاث هن من زينة الفتى وجدك لم أحفل متى قام عوّدي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة كميت متى ما تعل بالماء تزبد!
...إلخ وكانت الدعارة - في صور شتى - من معالم هذا المجتمع ..فعَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ -  - أَخْبَرَتْهُ أَنَّ النِّكَاحَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ،يَخْطُبُ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ أَوِ ابْنَتَهُ،فَيُصْدِقُهَا ثُمَّ يَنْكِحُهَا،وَنِكَاحٌ آخَرُ كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لاِمْرَأَتِهِ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا أَرْسِلِى إِلَى فُلاَنٍ فَاسْتَبْضِعِى مِنْهُ .وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا،وَلاَ يَمَسُّهَا أَبَدًا،حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِى تَسْتَبْضِعُ مِنْهُ،فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا إِذَا أَحَبَّ،وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِى نَجَابَةِ الْوَلَدِ،فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ نِكَاحَ الاِسْتِبْضَاعِ،وَنِكَاحٌ آخَرُ يَجْتَمِعُ الرَّهْطُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ كُلُّهُمْ يُصِيبُهَا .فَإِذَا حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ،وَمَرَّ عَلَيْهَا لَيَالِىَ بَعْدَ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا،أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَسْتَطِعْ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهَا تَقُولُ لَهُمْ قَدْ عَرَفْتُمُ الَّذِى كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ،وَقَدْ وَلَدْتُ فَهُوَ ابْنُكَ يَا فُلاَنُ .تُسَمِّى مَنْ أَحَبَّتْ بِاسْمِهِ،فَيَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا،لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْتَنِعَ بِهِ الرَّجُلُ .وَنِكَاحُ الرَّابِعِ يَجْتَمِعُ النَّاسُ الْكَثِيرُ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ لاَ تَمْتَنِعُ مِمَّنْ جَاءَهَا وَهُنَّ الْبَغَايَا كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ تَكُونُ عَلَمًا فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ،فَإِذَا حَمَلَتْ إِحْدَاهُنَّ وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا جُمِعُوا لَهَا وَدَعَوْا لَهُمُ الْقَافَةَ ثُمَّ أَلْحَقُوا وَلَدَهَا بِالَّذِى يَرَوْنَ فَالْتَاطَ بِهِ،وَدُعِىَ ابْنَهُ لاَ يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ،فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ -  - بِالْحَقِّ هَدَمَ نِكَاحَ الْجَاهِلِيَّةِ كُلَّهُ،إِلاَّ نِكَاحَ النَّاسِ الْيَوْمَ .(أخرجه البخاري في كتاب النكاح) .
وكان في استطاعة محمد - - أن يعلنها دعوة إصلاحية،تتناول تقويم الأخلاق،وتطهير المجتمع،وتزكية النفوس،وتعديل القيم والموازين ..
وكان واجدا وقتها - كما يجد كل مصلح أخلاقي في أية بيئة - نفوسا طيبة،يؤذيها هذا الدنس وتأخذها الأريحية والنخوة لتلبية دعوة الإصلاح والتطهير ..
وربما قال قائل:إنه لو صنع رسول اللّه - - ذلك فاستجابت له - في أول الأمر - جمهرة صالحة تتطهر أخلاقها،وتزكو أرواحها،فتصبح أقرب إلى قبول العقيدة وحملها ..بدلا من أن تثير دعوة أن لا إله إلا اللّه المعارضة القوية منذ أول الطريق!
ولكن اللّه - سبحانه - وهو العليم الحكيم،لم يوجه رسوله - - إلى مثل هذا الطريق .
لقد كان اللّه - سبحانه - يعلم أن ليس هذا هو الطريق! كان يعلم أن الأخلاق لا تقوم إلا على أساس من عقيدة،تضع الموازين،وتقرر القيم وتقرر السلطة التي ترتكن إليها هذه الموازين والقيم كما تقرر الجزاء الذي تملكه هذه السلطة وتوقعه على الملتزمين والمخالفين.وأنه قبل تقرير تلك العقيدة تظل القيم كلها متأرجحة وتظل الأخلاق التي تقوم عليها متأرجحة كذلك بلا ضابط،وبلا سلطان،وبلا جزاء! فلما تقررت العقيدة - بعد الجهد الشاق - وتقررت السلطة التي ترتكن إليها هذه العقيدة ..لما عرف الناس ربهم وعبدوه وحده ..لما تحرر الناس من سلطان العبيد،ومن سلطان الشهوات سواء ..لما تقررت في القلوب:«لا إله إلا الله»..صنع اللّه بها وبأهلها كل شيء مما يقترحه المقترحون.
تطهرت الأرض من الرومان والفرس ..لا ليتقرر فيها سلطان العرب ..ولكن ليتقرر فيها سلطان اللّه ..
لقد تطهرت من الطاغوت كله:رومانيا وفارسيا وعربيا على السواء.
وتطهر المجتمع من الظلم الاجتماعي بجملته.وقام النظام الإسلامي يعدل بعدل اللّه،ويزن بميزان اللّه،ويرفع راية العدالة الاجتماعية باسم اللّه وحده؟ ويسميها راية الإسلام،لا يقرن إليها اسما آخر ويكتب عليها:«لا إله إلا اللّه»! وتطهرت النفوس والأخلاق،وزكت القلوب والأرواح دون أن يحتاج الأمر إلى الحدود والتعازير التي شرعها اللّه - إلا في الندرة النادرة - لأن الرقابة قامت هنالك في الضمائر ولأن الطمع في رضى اللّه وثوابه،والحياء والخوف من غضبه وعقابه قد قامت كلها مقام الرقابة ومقام العقوبات ..
وارتفعت البشرية في نظامها،وفي أخلاقها،وفي حياتها كلها،إلى القمة السامقة التي لم ترتفع إليها من قبل قط والتي لم ترتفع إليها من بعد إلا في ظل الإسلام ..
ولقد تم هذا كله لأن الذين أقاموا هذا الدين في صورة دولة ونظام وشرائع وأحكام كانوا قد أقاموا هذا الدين من قبل في ضمائرهم وفي حياتهم،في صورة عقيدة وخلق وعبادة وسلوك.وكانوا قد وعدوا على إقامة هذا الدين وعدا واحدا،لا يدخل فيه الغلب والسلطان ..ولا حتى لهذا الدين على أيديهم ..وعدا واحدا لا يتعلق بشيء في هذه الدنيا ..وعدا واحدا هو الجنة ..هذا كل ما وعدوه على الجهاد المضني،والابتلاء الشاق،والمضي في الدعوة،ومواجهة الجاهلية بالأمر الذي يكرهه أصحاب السلطان،في كل زمان وفي كل مكان،وهو:«لا إله إلا اللّه»! فلما أن ابتلاهم اللّه فصبروا ولما أن فرغت نفوسهم من حظ نفوسهم ولما أن علم اللّه منهم أنهم لا ينتظرون جزاء في هذه الأرض - كائنا ما كان هذا الجزاء ولو كان هو انتصار هذه الدعوة على أيديهم،وقيام هذا الدين في الأرض بجهدهم - ولما لم يعد في نفوسهم اعتزاز بجنس ولا قوم،ولا اعتزاز بوطن ولا أرض.ولا اعتزاز بعشيرة ولا بيت ..
لما أن علم اللّه منهم ذلك كله،علم أنهم قد أصبحوا - إذن - أمناء على هذه الأمانة الكبرى.أمناء على العقيدة التي يتفرد فيها اللّه سبحانه بالحاكمية في القلوب والضمائر وفي السلوك والشعائر،وفي الأرواح والأموال،وفي الأوضاع والأحوال ..وأمناء على السلطان الذي يوضع في أيديهم ليقوموا به على شريعة اللّه ينفذونها،وعلى عدل اللّه يقيمونه،دون أن يكون لهم من ذلك السلطان شيء لأنفسهم ولا لعشيرتهم ولا لقومهم ولا لجنسهم إنما يكون السلطان الذي في أيديهم للّه ولدينه وشريعته،لأنهم يعلمون أنه من اللّه،هو الذي آتاهم إياه.ولم يكن شيء من هذا المنهج المبارك ليتحقق على هذا المستوي الرفيع،إلا أن تبدأ الدعوة ذلك البدء،وإلا أن ترفع الدعوة هذه الراية وحدها ..راية لا إله إلا اللّه ..ولا ترفع معها سواها ..وإلا أن تسلك الدعوة هذا الطريق الوعر الشاق في ظاهره المبارك الميسر في حقيقته.
وما كان هذا المنهج المبارك ليخلص للّه،لو أن الدعوة بدأت خطواتها الأولى دعوة قومية،أو دعوة اجتماعية،أو دعوة أخلاقية ..أو رفعت أي شعار إلى جانب شعارها الواحد:«لا إله إلا اللّه»
ذلك شأن تصدي القرآن المكي كله لتقرير:«لا إله إلا اللّه» في القلوب والعقول،واختيار هذا الطريق - على مشقته في الظاهر - وعدم اختيار السبل الجانبية الأخرى والإصرار على هذا الطريق ..
فأما شأن هذا القرآن في تناول قضية الاعتقاد وحدها،دون التطرق إلى تفصيلات النظام الذي يقوم عليها،والشرائع التي تنظم المعاملات فيها ..فذلك كذلك مما ينبغي أن يقف أمامه أصحاب الدعوة لهذا الدين وقفة واعية ..
إن طبيعة هذا الدين هي التي قضت بهذا ..فهو دين يقوم كله على قاعدة الألوهية الواحدة ..كل تنظيماته وكل تشريعاته تنبثق من هذا الأصل الكبير ..وكما أن الشجرة الضخمة الباسقة الوارفة المديدة الظلال المتشابكة الأغصان،الضاربة في الهواء ..لا بد لها أن تضرب بجذورها في التربة على أعماق بعيدة،وفي مساحات واسعة تناسب ضخامتها وامتدادها في الهواء ..فكذلك هذا الدين ..إن نظامه يتناول الحياة كلها ويتولى شؤون البشرية كبيرها وصغيرها وينظم حياة الإنسان لا في هذه الحياة الدنيا وحدها،ولكن كذلك في الدار الآخرة ولا في عالم الشهادة وحده ولكن كذلك في عالم الغيب المكنون عنها ولا في المعاملات الظاهرة المادية،ولكن في أعماق الضمير ودنيا السرائر والنوايا ..فهو مؤسسة ضخمة هائلة شاسعة مترامية ..
ولا بد له إذن من جذور وأعماق بهذه السعة والضخامة والعمق والانتشار أيضا ..
هذا جانب من سر هذا الدين وطبيعته يحدد منهجه في بناء نفسه وفي امتداده ويجعل بناء العقيدة وتمكينها،وشمول هذه العقيدة واستغراقها لشعاب النفس كلها ..ضرورة من ضرورات النشأة الصحيحة،وضمانا من ضمانات الاحتمال والتناسق بين الظاهر من الشجرة في الهواء،والضارب من جذورها في الأعماق ..
ومتى استقرت عقيدة:«لا إله إلا اللّه» في أعماقها الغائرة البعيدة،استقر معها في نفس الوقت النظام الذي تتمثل فيه:«لا إله إلا اللّه» وتعين أنه النظام الوحيد الذي ترتضيه النفوس التي استقرت فيها العقيدة ..واستسلمت هذه النفوس ابتداء لهذا النظام حتى قبل أن تعرض عليها تفصيلاته،وقبل أن تعرض عليها تشريعاته.
فالاستسلام ابتداء هو مقتضى الإيمان ..وبمثل هذا الاستسلام تلقت النفوس تنظيمات الإسلام وتشريعاته بالرضى والقبول،لا تعترض على شيء منه فور صدوره إليها ولا تتلكأ في تنفيذه بمجرد تلقيها له.وهكذا أبطلت الخمر،وأبطل الربا،وأبطل الميسر،وأبطلت العادات الجاهلية كلها،أبطلت بآيات من القرآن،أو كلمات من رسول اللّه - - بينما الحكومات الأرضية تجهد في شيء من هذا كله بقوانينها وتشريعاتها ونظمها وأوضاعها،وجندها وسلطانها،ودعايتها وإعلامها ..فلا تبلغ إلا أن تضبط الظاهر من المخالفات بينما المجتمع يعج بالمنهيات والمنكرات!
وجانب آخر من طبيعة هذا الدين يتجلى في هذا المنهج القويم ..إن هذا الدين منهج عملي حركي جاد ..جاء ليحكم الحياة في واقعها ويواجه هذا الواقع ليقضي فيه بأمره ..يقره أو يعدله أو يغيره من أساسه،ومن ثم فهو لا يشرع إلا لحالات واقعة فعلا،في مجتمع يعترف ابتداء بحاكمية اللّه وحده.
إنه ليس نظرية تتعامل مع الفروض! إنه منهج يتعامل مع الواقع! فلا بد أولا أن يقوم المجتمع المسلم الذي يقر عقيدة أن لا إله إلا اللّه،وأن الحاكمية ليست إلا للّه ويرفض أن يقر بالحاكمية لأحد من دون اللّه ويرفض شرعية أي وضع لا يقوم على هذه القاعدة ..
وحين يقوم هذا المجتمع فعلا،تكون له حياة واقعية،تحتاج إلى تنظيم وإلى تشريع ..وعندئذ فقط يبدأ هذا الدين في تقرير النظم وفي سن الشرائع ..لقوم مستسلمين أصلا للنظم والشرائع،رافضين ابتداء لغيرها من النظم والشرائع ..
ولا بد أن يكون للمؤمنين بهذه العقيدة من السلطان على أنفسهم وعلى مجتمعهم ما يكفل تنفيذ النظام والشرائع في هذا المجتمع حتى تكون للنظام هيبته ويكون للشريعة جديتها ..فوق ما يكون لحياة هذا المجتمع من الواقعية ما يقتضي الأنظمة والشرائع من فورها ..
والمسلمون في مكة لم يكن لهم سلطان على أنفسهم ولا على مجتمعهم.وما كانت لهم حياة واقعية مستقلة هم الذين ينظمونها بشريعة اللّه ..ومن ثم لم ينزل اللّه في هذه الفترة تنظيمات وشرائع وإنما نزل لهم عقيدة،وخلقا منبثقا من العقيدة بعد استقرارها في الأعماق البعيدة ..فلما صارت لهم دولة في المدينة ذات سلطان تنزلت عليهم الشرائع وتقرر لهم النظام الذي يواجه حاجات المجتمع المسلم الواقعية والذي تكفل له الدولة بسلطانها الجدية والنفاذ ..
ولم يشأ اللّه أن ينزل عليهم النظام والشرائع في مكة،ليختزنوها جاهزة،حتى تطبق بمجرد قيام الدولة في المدينة! إن هذه ليست طبيعة هذا الدين! إنه أشد واقعية من هذا وأكثر جدية! إنه لا يفترض المشكلات ليفترض لها حلولا ..إنما هو يواجه الواقع بحجمه وشكله وملابساته لصوغه في قالبه الخاص،وفق حجمه وشكله وملابساته ..
والذين يريدون من الإسلام اليوم أن يصوغ قوالب نظام،وأن يصوغ تشريعات حياة ..بينما ليس على وجه الأرض مجتمع قد قرر فعلا تحكيم شريعة اللّه وحدها،ورفض كل شريعة سواها،مع تملكه للسلطة التي تفرض هذا وتنفذه ..الذين يريدون من الإسلام ذلك لا يدركون طبيعة هذا الدين،ولا كيف يعمل في الحياة كما يريد له اللّه ..
إنهم يريدون منه أن يغير طبيعته ومنهجه وتاريخه ليشابه أنظمة بشرية،ومناهج بشرية.ويحاولون أن يستعجلوه عن طريقه وخطواته ليلبي رغبات وقتية في نفوسهم إنما تنشئها الهزيمة الداخلية في أرواحهم تجاه أنظمة بشرية صغيرة ..إنهم يريدون منه أن يصوغ نفسه في قالب فروض،تواجه مستقبلا غير موجود ..
واللّه يريد لهذا الدين أن يكون كما أراده ..عقيدة تملأ القلب،وتفرض سلطانها على الضمير.عقيدة مقتضاها ألا يخضع الناس إلا للّه،ولا يتلقوا الشرائع إلا من اللّه.وبعد أن يوجد الناس الذين هذه عقيدتهم،ويصبح لهم السلطان في مجتمعهم،تبدأ التشريعات لمواجهة حاجاتهم الواقعية،وتنظيم حياتهم الواقعية كذلك.
كذلك يجب أن يكون مفهوما لأصحاب الدعوة الإسلامية،أنهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين،يجب أن يدعوهم أولا إلى اعتناق العقيدة - حتى ولو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين! وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون - يجب أن يعلموهم أن الإسلام هو أولا إقرار عقيدة:لا إله إلا اللّه بمدلولها الحقيقي وهو رد الحاكمية للّه في أمرهم كله،وطرد المعتدين على سلطان اللّه بادعاء هذا الحق لأنفسهم ..إقرارها في ضمائرهم وشعائرهم،وإقرارها في أوضاعهم وواقعهم ..ولتكن هذه القضية هي أساس دعوة الناس إلى الإسلام كما كانت هي أساس دعوتهم إلى الإسلام أول مرة ..هذه الدعوة التي تكفل بها القرآن المكي طوال ثلاثة عشر عاما كاملة ..
فإذا دخل في هذا الدين - بمفهومه هذا الأصيل - عصبة من الناس،فهذه العصبة هي التي تصلح لمزاولة النظام الإسلامي في حياتها الاجتماعية لأنها قررت بينها وبين نفسها أن تقوم حياتها على هذا الأساس وألا تحكم في حياتها كلها إلا اللّه.
وحين يقوم هذا المجتمع بالفعل يبدأ عرض أسس النظام الإسلامي عليه كما يأخذ هذا المجتمع نفسه في سن التشريعات التي تقتضيها حياته الواقعية،في إطار الأسس العامة للنظام الإسلامي ..فهذا هو الترتيب الصحيح لخطوات المنهج الإسلامي الواقعي العملي الجاد ..
ولقد يخيل إلى بعض المخلصين المتعجلين،ممن لا يتدبرون طبيعة هذا الدين،وطبيعة منهجه الرباني القويم،المؤسس على حكمة العليم الحكيم،وعلمه بطبائع البشر وحاجات الحياة ..نقول لقد يخيل لبعض هؤلاء أن عرض أسس النظام الإسلامي - بل التشريعات الإسلامية كذلك - على الناس مما ييسر لهم طريق الدعوة،ويحبب الناس في هذا الدين! وهذا وهم تنشئه العجلة! وهم كالذي كان يقترحه المقترحون:أن تقوم دعوة رسول اللّه - - في أولها تحت راية قومية،أو اجتماعية،أو أخلاقية،تيسيرا للطريق! إن النفوس يجب أن تخلص أولا للّه،وتعلن عبوديتها له،بقبول شرعه وحده ورفض كل شرع غيره ..
من ناحية المبدأ ..قبل أن تخاطب بأي تفصيل عن ذلك الشرع يرغبها فيه! إن الرغبة يجب أن تنبثق من الرغبة في إخلاص العبودية للّه،والتحرر من سلطان سواه ..لا من أن النظام المعروض عليها ..في ذاته ..خير مما لديها في كذا وكذا على وجه التفصيل.
إن نظام اللّه خير في ذاته،لأنه من شرع اللّه.ولن يكون شرع العبيد يوما كشرع اللّه ..ولكن هذه ليست قاعدة الدعوة ..إن قاعدة الدعوة أن قبول شرع اللّه وحده ورفض كل شرع غيره هو ذاته الإسلام.وليس للإسلام مدلول سواه.فمن رغب في الإسلام فقد فصل في هذه القضية ولم يعد بحاجة إلى ترغيبه بجمال النظام وأفضليته ..فهذه إحدى بديهيات الإيمان!



منهج القرآن في عرض العقيدة

كيف عالج القرآن المكي قضية العقيدة في خلال الثلاثة عشر عاما ..إنه لم يعرضها في صورة «نظرية»! ولم يعرضها في صورة «لاهوت» ولم يعرضها في صورة جدل كلامي كالذي زاوله فيما بعد ما سمي ب «علم التوحيد» أو «علم الكلام»! كلا ..لقد كان القرآن الكريم يخاطب فطرة «الإنسان» بما في وجوده هو وبما في الوجود من حوله من دلائل وإيحاءات ..كان يستنقذ فطرته من الركام ويخلص أجهزة الاستقبال الفطرية مما ران عليها وعطل وظائفها ويفتح منافذ الفطرة لتتلقى الموحيات المؤثرة وتستجيب لها ..والسورة التي بين أيدينا نموذج كامل من هذا المنهج المتفرد وسنتحدث عن خصائصها بعد قليل ..
هذا بصفة عامة.وبصفة خاصة كان القرآن يخوض بهذه العقيدة معركة حية واقعية ..كان يخوض بها معركة مع الركام المعطل للفطرة ..في نفوس آدمية حاضرة واقعة ..ومن ثم لم يكن شكل «النظرية» هو الشكل الذي يناسب هذا الواقع الحاضر.إنما كان هو شكل المواجهة الحية للعقابيل والسدود والحواجز والمعوقات النفسية والواقعية في النفوس الحاضرة الحية ..ولم يكن الجدل الذهني الذي انتهجه - في العصور المتأخرة - علم التوحيد،هو الشكل المناسب كذلك ..فلقد كان القرآن يواجه واقعا بشريا كاملا بكل ملابساته الحية ويخاطب الكينونة البشرية بجملتها في خضم هذا الواقع ..وكذلك لم يكن «اللاهوت» هو الشكل المناسب.
فإن العقيدة الإسلامية ولو أنها عقيدة،إلا أنها عقيدة تمثل منهج حياة واقعية للتطبيق العملي ولا تقبع في الزاوية الضيقة التي تقبع فيها الأبحاث اللاهوتية النظرية! كان القرآن وهو يبني العقيدة في ضمائر الجماعة المسلمة يخوض بهذه الجماعة المسلمة معركة ضخمة مع الجاهلية من حولها كما يخوض بها معركة ضخمة مع رواسب الجاهلية في ضميرها وأخلاقها وواقعها ..
ومن هذه الملابسات ظهر بناء العقيدة،لا في صورة نظرية،ولا في صورة لاهوت ولا في صورة جدل كلامي ..ولكن في صورة تكوين تنظيمي مباشر للحياة،ممثل في الجماعة المسلمة ذاتها.وكان نمو الجماعة المسلمة في تصورها الاعتقادي،وفي سلوكها الواقعي وفق هذا التصور،وفي دربتها على مواجهة الجاهلية كمنظمة محاربة لها ..كان هذا النمو ذاته ممثلا تماما لنمو البناء العقيدي،وترجمة حية له ..وهذا هو منهج الإسلام الذي يمثل طبيعته كذلك ..
وإنه لمن الضروري لأصحاب الدعوة الإسلامية أن يدركوا طبيعة هذا الدين ومنهجه في الحركة على هذا النحو الذي بيناه ..ذلك ليعلموا أن مرحلة بناء العقيدة التي طالت في العهد المكي على هذا النحو،لم تكن منعزلة عن مرحلة التكوين العملي للحركة الإسلامية،والبناء الواقعي للجماعة المسلمة ..لم تكن مرحلة تلقي «النظرية» ودراستها! ولكنها كانت مرحلة البناء القاعدي للعقيدة وللجماعة وللحركة وللوجود الفعلي معا ..وهكذا ينبغي أن تكون كلما أريد إعادة هذا البناء مرة أخرى ..
هكذا ينبغي أن تطول مرحلة بناء العقيدة وأن تتم خطواتها على مهل وفي عمق وتثبت ..وهكذا ينبغي ألا تكون مرحلة بناء العقيدة مرحلة دراسة نظرية للعقيدة ولكن مرحلة ترجمة لهذه العقيدة في صورة حية،متمثلة في ضمائر متكيفة بهذه العقيدة ومتمثلة في بناء جماعي يعبر نموه عن نمو العقيدة ذاتها ومتمثلة في حركة واقعية تواجه الجاهلية وتخوض معها المعركة في الضمير وفي الواقع كذلك لتتمثل العقيدة حية وتنمو نموا حيا في خضم المعركة.
وخطأ أي خطأ - بالقياس إلى الإسلام - أن تتبلور النظرية في صورة نظرية مجردة للدراسة النظرية ..المعرفية الثقافية ..بل خطر أي خطر كذلك ..
إن القرآن لم يقض ثلاثة عشر عاما كاملة في بناء العقيدة بسبب أنه كان يتنزل للمرة الأولى ..كلا!
فلو أراد اللّه لأنزل هذا القرآن جملة واحدة ثم ترك أصحابه يدرسونه ثلاثة عشر عاما أو أكثر أو أقل،حتى يستوعبوا «النظرية الإسلامية»! ولكن اللّه - سبحانه - كان يريد أمرا آخر.كان يريد منهجا معينا متفردا.كان يريد بناء الجماعة وبناء الحركة وبناء العقيدة في وقت واحد.كان يريد أن يبني الجماعة والحركة بالعقيدة،وأن يبني العقيدة بالجماعة والحركة! كان يريد أن تكون العقيدة هي واقع الجماعة الفعلي،وأن يكون واقع الجماعة الحركي الفعلي هو صورة العقيدة ..وكان اللّه - سبحانه - يعلم أن بناء النفوس والجماعات لا يتم بين يوم وليلة ..فلم يكن بد أن يستغرق بناء العقيدة المدى الذي يستغرقه بناء النفوس والجماعة ..حتى إذا نضج التكوين العقيدي كانت الجماعة هي المظهر الواقعي لهذا النضوج
هذه هي طبيعة هذا الدين - كما تستخلص من منهج القرآن المكي - ولا بد أن نعرف طبيعته هذه ولا نحاول أن نغيرها تلبية لرغبات معجلة مهزومة أمام أشكال النظريات البشرية! فهو بهذه الطبيعة صنع الأمة المسلمة أول مرة،وبها يصنع الأمة المسلمة في كل مرة يراد أن يعاد إخراج الأمة المسلمة للوجود،كما أخرجها اللّه أول مرة ..
يجب أن ندرك خطأ المحاولة،وخطرها معا،في تحويل العقيدة الإسلامية الحية التي يجب أن تتمثل في واقع تام حي متحرك،إلى «نظرية» للدراسة والمعرفة الثقافية لمجرد أننا نريد أن نواجه «النظريات» البشرية الهزيلة بنظرية إسلامية!
إن العقيدة الإسلامية يجب أن تتمثل في نفوس حية،وفي تنظيم واقعي،وفي حركة تتفاعل مع الجاهلية من حولها،كما تتفاعل مع الجاهلية الراسبة في نفوس أصحابها - بوصفهم كانوا من أهل الجاهلية قبل أن تدخل العقيدة إلى نفوسهم وتنتزعها من الوسط الجاهلي.وهي في صورتها هذه تشغل من القلوب والعقول ومن الحياة أيضا مساحة أضخم وأوسع وأعمق مما تشغله «النظرية» وتشمل - فيما تشمل - مساحة النظرية ومادتها.ولكنها لا تقتصر عليها.
إن التصور الإسلامي للألوهية وللوجود الكوني وللحياة وللإنسان،تصور شامل كامل.ولكنه كذلك تصور واقعي إيجابي.وهو يكره - بطبيعته - أن يتمثل في مجرد تصور ذهني معرفي.لأن هذا يخالف طبيعته وغايته.ويجب أن يتمثل في أناسي،وفي تنظيم حي،وفي حركة واقعية ..وطريقته في التكون أن ينمو من خلال الأناسي والتنظيم الحي والحركة الواقعية حتى يكتمل نظريا في نفس الوقت الذي يكتمل فيه واقعيا ولا ينفصل في صورة نظرية بل يظل ممثلا في الصورة الواقعية ..
وكل نمو نظري يسبق النمو الحركي الواقعي،ولا يتمثل من خلاله،هو خطأ وخطر كذلك بالقياس إلى طبيعة هذا الدين،وغايته،وطريقة تركيبه الذاتي.
واللّه سبحانه يقول:«وَقُرْآناً فَرَقْناهُ،لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ،وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا» ..
فالفرق مقصود.والمكث مقصود كذلك ..ليتم البناء التكويني المؤلف من عقيدة في صورة «منظمة حية» لا في صورة «نظرية معرفية»!
يجب أن يعرف أصحاب هذا الدين جيدا،أنه كما أن هذا الدين دين رباني،فإن منهجه في العمل منهج رباني كذلك،متواف مع طبيعته.وأنه لا يمكن فصل حقيقة هذا الدين عن منهجه في العمل.
ويجب أن يعرفوا كذلك أن هذا الدين كما أنه جاء ليغير التصور الاعتقادي - ومن ثم يغير الواقع الحيوي - فكذلك هو قد جاء ليغير المنهج الفكري والحركي الذي يبني به التصور الاعتقادي ويغير به الواقع الحيوي ..
جاء ليبني عقيدة وهو يبني أمة ..ثم لينشئ منهج تفكير خاصا به بنفس الدرجة التي ينشئ بها تصورا اعتقاديا وواقعا حيويا.ولا انفصال بين منهج تفكيره الخاص وتصوره الاعتقادي وبنائه الحيوي،فكلها حزمة واحدة.
فإذا عرفنا منهجه في العمل على النحو الذي بيناه،فلنعرف أن هذا المنهج أصيل وليس منهج مرحلة ولا بيئة ولا ظروف خاصة بنشأة الجماعة المسلمة الأولى.إنما هو المنهج الذي لا يقوم بناء هذا الدين إلا به.
إنه لم تكن وظيفة الإسلام أن يغير عقيدة الناس وواقعهم فحسب.ولكن كانت وظيفته أن يغير طريقة تفكيرهم،وتناولهم للتصور وللواقع.ذلك أنه منهج رباني مخالف في طبيعته كلها لمناهج البشر القاصرة الهزيلة.
ونحن لا نملك أن نصل إلى التصور الرباني والحياة الربانية إلا عن طريق منهج تفكير رباني كذلك.منهج أراد اللّه أن يقيم منهج الناس في التفكير على أساسه ليصح تصورهم وتكوينهم الحيوي.
ونحن حين نريد من الإسلام أن يجعل من نفسه نظرية للدراسة نخرج عن طبيعة المنهج الرباني للتكوين وعن طبيعة المنهج الرباني للتفكير.ونخضع الإسلام لطرائق التفكير البشرية! كأنما المنهج الرباني أدنى من المناهج البشرية! وكأنما نريد لنرتقي بمنهج اللّه في التصور والحركة ليوازي مناهج العبيد! والأمر من هذه الناحية يكون خطيرا.والهزيمة تكون قاتلة!
إن وظيفة المنهج الرباني أن يعطينا - نحن أصحاب الدعوة الإسلامية - منهجا خاصا للتفكير نبرأ به من رواسب مناهج التفكير الجاهلية السائدة في الأرض والتي تضغط على عقولنا وتترسب في ثقافتنا ..فإذا نحن أردنا أن نتناول هذا الدين بمنهج تفكير غريب عن طبيعته من مناهج التفكير الجاهلية الغالبة،كنا قد أبطلنا وظيفته التي جاء ليؤديها للبشرية وحرمنا أنفسنا فرصة الخلاص من ضغط المنهج الجاهلي السائد في عصرنا،وفرصة الخلاص من رواسبه في عقولنا وتكويننا.
والأمر من هذه الناحية كذلك يكون خطيرا،والخسارة تكون قاتلة ..
إن منهج التفكير والحركة في بناء الإسلام،لا يقل قيمة ولا ضرورة عن منهج التصور الاعتقادي والنظام الحيوي ولا ينفصل عنه كذلك ..ومهما يخطر لنا أن نقدم ذلك التصور وهذا النظام في صورة تعبيرية،فيجب ألا يغيب عن بالنا أن هذا لا ينشئ «الإسلام» في الأرض في صورة حركة واقعية،بل يجب ألا يغيب عن بالنا أنه لن يفيد من تقديمنا الإسلام في هذه الصورة إلا المشتغلون فعلا بحركة إسلامية واقعية.وأن قصارى ما يفيده هؤلاء من تقديم الإسلام لهم في هذه الصورة هو أن يتفاعلوا معها بالقدر الذي وصلوا إليه هم فعلا في أثناء الحركة!
ومرة أخرى أكرر أن التصور الاعتقادي يجب أن يتمثل من فوره في تجمع حركي وأن يكون التجمع الحركي في الوقت ذاته تمثيلا صحيحا وترجمة حقيقية للتصور الاعتقادي.
ومرة أخرى أكرر كذلك أن هذا هو المنهج الطبيعي للإسلام الرباني،وأنه منهج أعلى وأقوم وأشد فاعلية وأكثر انطباقا على الفطرة البشرية من منهج صياغة النظريات كاملة مستقلة وتقديمها في الصورة الذهنية الباردة للناس،قبل أن يكون هؤلاء الناس مشتغلين بالفعل بحركة واقعية وقبل أن يكونوا هم أنفسهم ترجمة تنمو خطوة خطوة لتمثيل ذلك المفهوم النظري.
وإذا صح هذا في أصل النظرية فهو أصح - بطبيعة الحال - فيما يختص بتقديم أسس النظام الذي يتمثل فيه التصور الإسلامي،أو تقديم التشريعات المفصلة لهذا النظام.
إن الجاهلية التي حولنا كما أنها تضغط على أعصاب بعض المخلصين من أصحاب الدعوة الإسلامية فتجعلهم يستعجلون خطوات المنهج الإسلامي،كذلك هي تتعمد أحيانا أن تحرجهم فتسألهم:أين تفصيلات نظامكم الذي تدعون إليه؟ وماذا أعددتم لتنفيذه من بحوث ومن تفصيلات ومن مشروعات؟ وهي في هذا تتعمد أن تعجلهم عن منهجهم،وأن تجعلهم يتجاوزون مرحلة بناء العقيدة وأن يحولوا منهجهم الرباني عن طبيعته،التي تتبلور فيها النظرية من خلال الحركة،ويتحدد فيها النظام من خلال الممارسة،وتسن فيها التشريعات في ثنايا مواجهة الحياة الواقعية بمشكلاتها الحقيقية ..
ومن واجب أصحاب الدعوة الإسلامية ألا يستجيبوا للمناورة! من واجبهم أن يرفضوا إملاء منهج غريب على حركتهم وعلى دينهم! من واجبهم ألا يستخفهم من لا يوقنون! ومن واجبهم أن يكشفوا مناورة الإحراج وأن يستعلوا عليها وأن يتحركوا بدينهم وفق منهج هذا الدين في الحركة.فهذا من أسرار قوته،وهذا هو مصدر قوتهم كذلك.
إن المنهج في الإسلام يساوي الحقيقة ولا انفصام بينهما ..وكل منهج غريب لا يمكن أن يحقق الإسلام في النهاية.والمناهج الغربية الغريبة يمكن أن تحقق أنظمتها البشرية ولكنها لا يمكن أن تحقق نظامنا الرباني
فالتزام المنهج ضروري كالتزام العقيدة وكالتزام النظام في كل حركة إسلامية.لا في الحركة الإسلامية الأولى كما يظن بعض الناس! هذه هي كلمتي الأخيرة ..وإنني لأرجو أن أكون بهذا البيان لطبيعة القرآن المكي،ولطبيعة المنهج الرباني المتمثل فيه،قد بلغت وأن يعرف أصحاب الدعوة الإسلامية طبيعة منهجهم،ويثقوا به،ويطمئنوا إليه ويعلموا أن ما عندهم خير،وأنهم هم الأعلون ..«إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» ..صدق اللّه العظيم



عبرة التوجيه لأصحاب الدعوة إلى هذا الدين في كل جيل

إن طريق الدعوة إلى اللّه شاق،محفوف بالمكاره،ومع أن نصر اللّه للحق آت لا ريب فيه،إلا أن هذا النصر إنما يأتي في موعده الذي يقدره اللّه،وفق علمه وحكمته،وهو غيب لا يعلم موعده أحد - حتى ولا الرسول - والمشقة في هذا الطريق تنشأ من عاملين أساسيين:من التكذيب والإعراض اللذين تقابل بهما الدعوة في أول الأمر،والحرب والأذى اللذين يعلنان على الدعاة ..ثم من الرغبة البشرية في نفس الداعية في هداية الناس إلى الحق الذي تذوقه،وعرف طعمه،والحماسة للحق والرغبة في استعلانه! وهذه الرغبة لا تقل مشقة عن التكذيب والإعراض والحرب والأذى.فكلها من دواعي مشقة الطريق! والتوجيه القرآني في هذه الموجة من السياق يعالج هذه المشقة من جانبيها ..ذلك حين يقرر أن الذين يكذبون بهذا الدين أو يحاربون دعوته،يعلمون علم اليقين أن ما يدعون إليه هو الحق،وأن الرسول الذي جاء به من عند اللّه صادق.ولكنهم مع هذا العلم لا يستجيبون،ويستمرون في جحودهم عنادا وإصرارا،لأن لهم هوى في الإعراض والتكذيب! وأن هذا الحق يحمل معه دليل صدقه،وهو يخاطب الفطرة فتستجيب له،متى كانت هذه الفطرة حية،وأجهزة الاستقبال فيها صالحة:«إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ» ..فأما الذين يجحدون فإن قلوبهم ميتة وهم موتى وهم صم وبكم في الظلمات.والرسول لا يسمع الموتى ولا يسمع الصم الدعاء.والداعية ليس عليه أن يبعث الموتى.فذلك من شأن اللّه ..هذا كله من جانب،ومن الجانب الآخر،فإن نصر اللّه آت لا ريب فيه ..كل ما هنالك أنه يجري وفق سنة اللّه وبقدر اللّه،وكما أن سنة اللّه لا تستعجل،وكلماته لا تتبدل،من ناحية مجيء النصر في النهاية،فكذلك هي لا تتبدل ولا تستعجل من ناحية الموعد المرسوم ..واللّه لا يعجل لأن الأذى والتكذيب يلحق بالدعاة - ولو كانوا هم الرسل - فإن استسلام صاحب الدعوة نفسه لقدر اللّه بلا عجلة،وصبره على الأذى بلا تململ،ويقينه في العاقبة بلا شك ..كلها مطلوبة من وراء تأجيل النصر إلى موعده المرسوم.
ويحدد هذا التوجيه القرآني دور الرسول في هذا الدين - ودور الدعاة بعده في كل جيل - إنه التبليغ،والمضي في الطريق،والصبر على مشاق الطريق ..أما هدى الناس أو ضلالهم فهو خارج عن حدود واجبه وطاقته ..والهدى والضلال إنما يتبعان سنة إلهية لا تتبدل،ولا يغير منها رغبة الرسول في هداية من يحب،كما لا يغير منها ضيقه ببعض من يعاند ويحارب ..إن شخصه لا اعتبار له في هذه القضية،وحسابه ليس على عدد المهتدين،إنما حسابه على ما أدى وما صبر وما التزم،وما استقام كما أمر ..وأمر الناس بعد ذلك إلى رب الناس ..«مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ..«وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى » ..
«إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ» وقد بينا من قبل علاقة مشيئة اللّه الطليقة في الهدى والضلال باتجاه الناس وجهادهم.بما فيه الكفاية.
من هنا لا ينبغي لصاحب الدعوة إلى هذا الدين،أن يستجيب لاقتراحات المقترحين ممن يوجه إليهم الدعوة،في تحوير منهج دعوته عن طبيعته الربانية ولا أن يحاول تزيين هذا الدين لهم وفق رغباتهم وأهوائهم وشهواتهم ..
ولقد كان المشركون يطلبون الخوارق - وفق مألوف زمانهم ومستوى مداركهم كما حكى عنهم القرآن في مواضع منه شتى،منها في هذه السورة «وَقالُوا:لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ!» ..«وَقالُوا:لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ» ..«وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها» ..وفي السور الأخرى ما هو أشد إثارة للعجب من هذه الاقتراحات.ذلك كالذي حكاه عنهم في سورة الإسراء:«وَقالُوا:لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً.أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً.أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ - كَما زَعَمْتَ - عَلَيْنا كِسَفاً،أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا.أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ،أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ.وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ!» ..وكالذي حكاه عنهم في سورة الفرقان:«وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ،لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ،فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً.أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ،أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها!» ..
والتوجيه القرآني المباشر في هذه الموجة من السورة نهى رسول اللّه - - والمؤمنين أن يرغبوا في إتيانهم بآية - أية آية - مما يطلبون.وقيل للرسول - -:«وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ،فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ،وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى،فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ.إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ،وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ،ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» ..وقيل للمؤمنين الذين رغبت نفوسهم في الاستجابة للمشركين في طلبهم آية عند ما أقسموا باللّه جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها! قيل لهم:«قُلْ:إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ،وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ.وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ،وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» ..ليعلموا أولا أن الذي ينقص المكذبين ليس هو الآية والدليل على الحق،ولكن الذي ينقصهم أنهم لا يسمعون،وأنهم موتى،وأن اللّه لم يقسم لهم الهدى - وفق سنة اللّه في الهدى والضلال كما أسلفنا - ثم ليعلموا كذلك أن هذا الدين يجري وفق سنة لا تتبدل،وأنه أعز من أن يصبح تحت رغبات المقترحين وأهوائهم!
وهذا يقودنا إلى المجال الأشمل لهذا التوجيه القرآني ..إنه ليس خاصا بزمن،ولا محصورا في حادث،ولا مقيدا باقتراح معين.فالزمن يتغير،وأهواء الناس تتمثل في اقتراحات أخرى.وأصحاب الدعوة إلى دين اللّه ينبغي ألا تستخفهم أهواء البشر ..إن الرغبة في الاستجابة لمقترحات المقترحين هي التي تقود بعض أصحاب الدعوة الإسلامية اليوم إلى محاولة بلورة العقيدة الإسلامية في صورة «نظرية مذهبية» على الورق كالذي يجدونه في النظريات المذهبية الأرضية الصغيرة،التي يصوغها البشر لفترة من الفترات ثم يمضي الزمن فإذا كلها عورات وشطحات ومتناقضات! ..وهي التي تقود بعض أصحاب هذه الدعوة إلى محاولة بلورة النظام الإسلامي في صورة مشروع نظام - على الورق - أو صورة تشريعات مفصلة - على الورق أيضا - تواجه ما عليه أهل الجاهلية الحاضرة من أوضاع لا علاقة لها بالإسلام (لأن أهل هذه الجاهلية يقولون:إن الإسلام عقيدة ولا علاقة له بالنظام العام الواقعي للحياة!) وتنظم لهم هذه الأوضاع بينما هم باقون على جاهليتهم يتحاكمون إلى الطاغوت،ولا يحكمون أو يتحاكمون إلى شريعة اللّه ..وكلها محاولات ذليلة،لا يجوز للمسلم أن يحاولها استجابة لأزياء التفكير البشري المتقلبة،التي لا تثبت على حال.باسم تطور وسائل الدعوة إلى اللّه! وأذل من هذه المحاولة محاولة من يضعون على الإسلام أقنعة أخرى،ويصفونه بصفات من التي تروج عند الناس في فترة من الفترات ..كالاشتراكية ..والديمقراطية ..وما إليها ..ظانين أنهم إنما يخدمون الإسلام بهذه التقدمة الذليلة! ..إن «الاشتراكية» مذهب اجتماعي اقتصادي من صنع البشر قابل للصواب والخطأ.
وإن «الديمقراطية» نظام للحياة أو للحكم من صنع البشر كذلك،يحمل صنع البشر من القابلية للصواب والخطأ أيضا ..والإسلام منهج حياة يشمل التصور الاعتقادي،والنظام الاجتماعي الاقتصادي،والنظام التنفيذي والتشكيلي ..وهو من صنع اللّه المبرأ من النقص والعيب ..فأين يقف من الإسلام من يريد أن يستشفع لمنهج اللّه - سبحانه - عند البشر بوصفه بصفة من أعمال البشر؟ بل أين يقف من الإسلام من يريد أن يستشفع للّه - سبحانه - عند العبيد بقول من أقوال هؤلاء العبيد؟! ..
لقد كان كل شرك المشركين في الجاهلية العربية أنهم يستشفعون عند اللّه ببعض خلقه ..يتخذونهم أولياء:«وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى ...» فهذا هو الشرك! فما الوصف الذي يطلق إذن على الذين لا يستشفعون لأنفسهم عند اللّه بأولياء من عبيده،ولكنهم - ويا للنكر والبشاعة! - يستشفعون للّه - سبحانه - عند العبيد بمذهب أو منهج من مذاهب العبيد ومناهجهم؟! إن الإسلام هو الإسلام.والاشتراكية هي الاشتراكية.والديمقراطية هي الديمقراطية ..ذلك منهج اللّه ولا عنوان له ولا صفة إلا العنوان الذي جعله اللّه له،والصفة التي وصفه بها ..وهذه وتلك من مناهج البشر.ومن تجارب البشر ..وإذا اختاروها فليختاروها على هذا الأساس ..ولا ينبغي لصاحب الدعوة إلى دين اللّه،أن يستجيب لإغراء الزي الرائج من أزياء الهوى البشري المتقلب.وهو يحسب أنه يحسن إلى دين اللّه! على أننا نسأل هؤلاء الذين هان عليهم دينهم،ولم يقدروا اللّه حق قدره ..إذا كنتم تقدمون الإسلام اليوم للناس باسم الاشتراكية،وباسم الديمقراطية،لأن هذين زيان من أزياء الاتجاهات المعاصرة ..فلقد كانت الرأسمالية في فترة من الفترات هي الزي المحبوب عند الناس وهم يخرجون بها من النظام الإقطاعي! كما كان الحكم المطلق في فترة من الفترات هو الزي المطلوب في فترة التجميع القومي للولايات المتناثرة كما في ألمانيا وإيطاليا أيام بسمرك وما تزيني مثلا! وغدا من يدري ماذا يكون الزي الشائع من الأنظمة الاجتماعية الأرضية وأنظمة الحكم التي يضعها العبيد للعبيد،فكيف يا ترى ستقولون غدا عن الإسلام؟ لتقدموه للناس في الثوب الذي يحبه الناس؟! إن التوجيه القرآني في هذه الموجة التي نحن بصددها - وفي غيرها كذلك - يشمل هذا كله ..إنه يريد أن يستعلي صاحب الدعوة بدينه فلا يستجيب لاقتراحات المقترحين ولا يحاول تزيين هذا الدين بغير اسمه وعنوانه ولا مخاطبة الناس به بغير منهجه ووسيلته ..إن اللّه غني عن العالمين.ومن لم يستجب لدينه عبودية له،وانسلاخا من العبودية لسواه،فلا حاجة لهذا الدين به،كما أنه لا حاجة للّه - سبحانه - بأحد من الطائعين أو العصاة.
ثم إنه إذا كان لهذا الدين أصالته من ناحية مقوماته وخصائصه،التي يريد اللّه أن تسود البشرية.فإن له كذلك أصالته في منهجه في العمل،وفي أسلوبه في خطاب الفطرة البشرية ..إن الذي نزل هذا الدين بمقوماته وخصائصه،وبمنهجه الحركي وأسلوبه،هو - سبحانه - الذي خلق الإنسان،ويعلم ما توسوس به نفسه ..
وفي هذه الموجة من السورة نموذج من مخاطبته للفطرة الإنسانية ..نموذج من نماذج متنوعة شتى ..فهو يربط الفطرة البشرية بالوجود الكوني،ويدع الإيقاعات الكونية تواجه الفطرة البشرية،ويثير انتباه الكينونة البشرية لتلقي هذه الإيقاعات ..وهو يعلم أنها تستجيب لها متى بلغتها بعمقها وقوتها:«إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ» ..
والنموذج الذي يواجهنا في هذه الموجة هو:«وَقالُوا:لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ! قُلْ:إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً.وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ..وفي هذه الآية يحكي قول الذين يكذبون ويعارضون ويطلبون خارقة يراها جيلهم وتنتهي ..ثم يلمس قلوبهم بما يكمن وراء هذا الاقتراح لو أجيب! إنه الأخذ والتدمير! واللّه قادر على أن ينزل الآية ..ولكن رحمته هي التي اقتضت ألا ينزلها،وحكمته هي التي اقتضت ألا يستجيب لهم فيها ..
وفجأة ينقلهم من هذا الركن الضيق في التصور والتفكير،إلى الكون الواسع.إلى الآيات الكبرى من حولهم.الآيات التي تتضاءل دونها تلك الآية التي يطلبونها.الآيات الباقية في صلب الكون للأجيال كلها من قبلهم ومن بعدهم تراها:«وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ،وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ.ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيء .ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ» ..
وهي حقيقة هائلة ..هي حقيقة تستطيع ملاحظتهم وحدها حينذاك - حيث لم يكن لهم علم منظم - أن تشهد بها ..حقيقة تجمع الحيوان والطير والحشرات من حولهم في أمم ..لها سماتها وخصائصها وتنظيماتها كذلك ..
وهي الحقيقة التي تتسع مساحة رؤيتها كلما تقدم علم البشر،ولكن علمهم لا يزيد شيئا على أصلها! وإلى جانبها الحقيقة الغيبية الموصولة بها،وهي إحاطة علم اللّه اللدني بكل شيء،وتدبير اللّه لكل شيء ..وهي الحقيقة التي تشهد بها تلك الحقيقة المشهودة ..
فأين تذهب الخارقة المادية التي كانوا يطلبون،أمام الخارقة الكبرى التي يرونها حيثما امتدت أبصارهم وملاحظتهم وقلوبهم فيما كان وفيما سيكون؟
إن المنهج القرآني - في هذا النموذج - لا يزيد على أن يربط الفطرة بالوجود،وأن يفتح النوافذ بين الوجود والفطرة،وأن يدع هذا الوجود الهائل العجيب يوقع إيقاعاته الهائلة العميقة في الكيان الإنساني
إنه لا يقدم للفطرة جدلا لاهوتيا ذهنيا نظريا.ولا يقدم لها جدلا كلاميا (كعلم التوحيد) الغريب على المنهج الإسلامي.ولا يقدم لها فلسفة عقلية أو حسية،إنما يقدم لها هذا الوجود الواقعي - بعالميه عالم الغيب وعالم الشهادة - ويدعها تتفاعل معه وتتجاوب،وتتلقى عنه وتستجيب،ولكن في ظل منهج ضابط لا يدعها - وهي تتلقى من الوجود - تضل في المتاهات والدروب.
ثم يختم الفقرة بالتعقيب على موقف المكذبين بهذه الآيات الكبرى:«وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ.مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ،وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ..
فيقرر حقيقة حالة المكذبين وطبيعتهم ..إنهم صم وبكم في الظلمات ..ويقرر سنة اللّه في الهدى والضلال ..إنها تعلق مشيئة اللّه بهذا أو ذاك،وفق الفطرة التي فطر اللّه عليها العباد.
بذلك تلتئم جوانب التصور الإسلامي للأمر كله.إلى جانب وضوح المنهج في الدعوة،وتقرير موقف صاحب الدعوة،وهو يتحرك بهذه العقيدة،ويواجه النفوس البشرية في كل حال وفي كل جيل...



الصراع بين الحق والباطل

قال تعالى : قال تعالى :{ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) } [الأعراف: 120-126]
إنها صولة الحق في الضمائر. ونور الحق في المشاعر،ولمسة الحق للقلوب المهيأة لتلقي الحق والنور واليقين ..
إن السحرة هم أعلم الناس بحقيقة فنهم،ومدى ما يمكن أن يبلغ إليه. وهم أعرف الناس بالذي جاء به موسى إن كان من السحر والبشر،أم من القدرة التي وراء مقدور البشر والسحر. والعالم في فنه هو أكثر الناس استعدادا للتسليم بالحقيقة فيه حين تتكشف له،لأنه أقرب إدراكا لهذه الحقيقة،ممن لا يعرفون في هذا الفن إلا القشور .. ومن هنا تحول السحرة من التحدي السافر إلى التسليم المطلق،الذي يجدون برهانه في أنفسهم عن يقين ..
ولكن الطواغيت المتجبرين لا يدركون كيف يتسرب النور إلى قلوب البشر ولا كيف تمازجها بشاشة الإيمان ولا كيف تلمسها حرارة اليقين. فهم لطول ما استعبدوا الناس يحسبون أنهم يملكون تصريف الأرواح وتقليب القلوب - وهي بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء - .. ومن ثم فوجىء فرعون بهذا الإيمان المفاجئ الذي لم يدرك دبيبه في القلوب ولم يتابع خطاه في النفوس ولم يفطن إلى مداخله في شعاب الضمائر .. ثم هزته المفاجأة الخطيرة التي تزلزل العرش من تحته:مفاجأة استسلام السحرة - وهم من كهنة المعابد - لرب العالمين. رب موسى وهارون. بعد أن كانوا مجموعين لإبطال دعوة موسى وهارون إلى رب العالمين! .. والعرش والسلطان هما كل شيء في حياة الطواغيت .. وكل جريمة يمكن أن يرتكبوها بلا تحرج في سبيل المحافظة على الطاغوت:«قالَ فِرْعَوْنُ:آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ! إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ،ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ» ..
هكذا .. «آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ!» .. كأنما كان عليهم أن يستأذنوه في أن تنتفض قلوبهم للحق - وهم أنفسهم لا سلطان لهم عليها - أو يستأذنوه في أن ترتعش وجداناتهم - وهم أنفسهم لا يملكون من أمرها شيئا - أو يستأذنوه في أن تشرق أرواحهم - وهم أنفسهم لا يمسكون مداخلها. أو كأنما كان عليهم أن يدفعوا اليقين وهو ينبت من الأعماق. أو أن يطمسوا الإيمان وهو يترقرق من الأغوار. أو أن يحجبوا النور وهو ينبعث من شعاب اليقين! ولكنه الطاغوت جاهل غبي مطموس وهو في الوقت ذاته متعجرف متكبر مغرور!
ثم إنه الفزع على العرش المهدد والسلطان المهزوز:« إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها» ..وفي نص آخر:«إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ»! والمسألة واضحة المعالم .. إنها دعوة موسى إلى «رب العالمين» .. هي التي تزعج وتخيف .. إنه لا بقاء ولا قرار لحكم الطواغيت مع الدعوة إلى رب العالمين. وهم إنما يقوم ملكهم على تنحية ربوبية اللّه للبشر بتنحية شريعته. وإقامة أنفسهم أربابا من دون اللّه يشرعون للناس ما يشاءون،ويعبدون الناس لما يشرعون! .. إنهما منهجان لا يجتمعان ... أو هما دينان لا يجتمعان .. أو هما ربان لا يجتمعان .. وفرعون كان يعرف وملؤه كانوا يعرفون .. ولقد فزعوا للدعوة من موسى وهارون إلى رب العالمين. فأولى أن يفزعوا الآن وقد ألقي السحرة ساجدين. قالوا:آمنا برب العالمين. رب موسى وهارون! والسحرة من كهنة الديانة الوثنية التي تؤله فرعون،وتمكنه من رقاب الناس باسم الدين! وهكذا أطلق فرعون ذلك التوعد الوحشي الفظيع:«فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ،ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ» ..
إنه التعذيب والتشويه والتنكيل .. وسيلة الطواغيت في مواجهة الحق،الذي لا يملكون دفعه بالحجة والبرهان .. وعدة الباطل في وجه الحق الصريح ..
ولكن النفس البشرية حين تستعلن فيها حقيقة الإيمان تستعلي على قوة الأرض،وتستهين ببأس الطغاة وتنتصر فيها العقيدة على الحياة،وتحتقر الفناء الزائل إلى جوار الخلود المقيم. إنها لا تقف لتسأل:ماذا ستأخذ وماذا ستدع؟ ماذا ستقبض وماذا ستدفع؟ ماذا ستخسر وماذا ستكسب؟ وماذا ستلقى في الطريق من صعاب وأشواك وتضحيات؟ .. لأن الأفق المشرق الوضيء أمامها هناك،فهي لا تنظر إلى شيء في الطريق .. « قالُوا:إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ .. وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا. ربنا أفرغ علينا صبرا،وتوفنا مسلمين» ..
إنه الإيمان الذي لا يفزع ولا يتزعزع. كما أنه لا يخضع أو يخنع. الإيمان الذي يطمئن إلى النهاية فيرضاها،ويستيقن من الرجعة إلى ربه فيطمئن إلى جواره:«قالُوا:إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ» ..
والذي يدرك طبيعة المعركة بينه وبين الطاغوت .. وأنها معركة العقيدة في الصميم .. لا يداهن ولا يناور .. ولا يرجو الصفح والعفو من عدو لن يقبل منه إلا ترك العقيدة،لأنه إنما يحاربه ويطارده على العقيدة:«وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا» ..
والذي يعرف أين يتجه في المعركة،وإلى من يتجه لا يطلب من خصمه السلامة والعافية،إنما يطلب من ربه الصبر على الفتنة والوفاة على الإسلام:«رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ» ..
ويقف الطغيان عاجزا أمام الإيمان،وأمام الوعي،وأمام الاطمئنان .. يقف الطغيان عاجزا أمام القلوب التي خيل إليه أنه يملك الولاية عليها كما يملك الولاية على الرقاب! ويملك التصرف فيها كما يملك التصرف في الأجسام. فإذا هي مستعصية عليه،لأنها من أمر اللّه،لا يملك أمرها إلا اللّه .. وماذا يملك الطغيان إذا رغبت القلوب في جوار اللّه؟ وماذا يملك الجبروت إذا اعتصمت القلوب باللّه؟ وماذا يملك السلطان إذا رغبت القلوب عما يملك السلطان! إنه موقف من المواقف الحاسمة في تاريخ البشرية. هذا الذي كان بين فرعون وملئه،والمؤمنين من السحرة .. السابقين ..
إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية. بانتصار العقيدة على الحياة. وانتصار العزيمة على الألم. وانتصار «الإنسان» على «الشيطان»! إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية. بإعلان ميلاد الحرية الحقيقية. فما الحرية إلا الاستعلاء بالعقيدة على جبروت المتجبرين وطغيان الطغاة. والاستهانة بالقوة المادية التي تملك أن تتسلط على الأجسام والرقاب وتعجز عن استذلال القلوب والأرواح. ومتى عجزت القوة المادية عن استذلال القلوب فقد ولدت الحرية الحقيقية في هذه القلوب.
إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية بإعلان إفلاس المادية! فهذه القلة التي كانت منذ لحظة تسأل فرعون الأجر على الفوز،وتمنى بالقرب من السلطان .. هي ذاتها التي تستعلي على فرعون وتستهين بالتهديد والوعيد،وتقبل صابرة محتسبة على التنكيل والتصليب. وما تغير في حياتها شيء،ولا تغير من حولها شيء- في عالم المادة - إنما وقعت اللمسة الخفية التي تسلك الكوكب المفرد في الدورة الكبرى. وتجمع الذرة التائهة إلى المحور الثابت،وتصل الفرد الفاني بقوة الأزل والأبد .. وقعت اللمسة التي تحوّل الإبرة،فيلتقط القلب إيقاعات القدرة،ويتسمع الضمير أصداء الهداية،وتتلقى البصيرة إشراقات النور .. وقعت اللمسة التي لا تنتظر أي تغيير في الواقع المادي ولكنها هي تغير الواقع المادي وترفع «الإنسان» في عالم الواقع إلى الآفاق التي لم يكن يطمح إليها الخيال! ويذهب التهديد .. ويتلاشى الوعيد .. ويمضي الإيمان في طريقه. لا يتلفت،ولا يتردد،ولا يحيد! ويسدل السياق القرآني الستار على المشهد عند هذا الحد ولا يزيد .. إن روعة الموقف تبلغ ذروتها وتنتهي إلى غايتها. وعندئذ يتلاقى الجمال الفني في العرض مع الهدف النفسي للقصة،على طريقة القرآن في مخاطبة الوجدان الإيماني بلغة الجمال الفني،في تناسق لا يبلغه إلا القرآن.
نقف ابتداء أمام إدراك فرعون وملئه أن إيمان السحرة برب العالمين،رب موسى وهارون،يمثل خطرا على نظام ملكهم وحكمهم لتعارض القاعدة التي يقوم عليها هذا الإيمان،مع القاعدة التي يقوم عليها ذلك السلطان .. وقد عرضنا لهذا الأمر من قبل .. ونريد أن نقرر هذه الحقيقة ونؤكدها .. إنه لا يجتمع في قلب واحد،ولا في بلد واحد،ولا في نظام حكم واحد،أن يكون اللّه رب العالمين،وأن يكون السلطان في حياة الناس لعبد من العبيد،يباشره بتشريع من عنده وقوانين .. فهذا دين وذلك دين ..
ونقف بعد ذلك أمام إدراك السحرة - بعد أن أشرق نور الإيمان في قلوبهم،وجعل لهم فرقانا في تصورهم - أن المعركة بينهم وبين فرعون وملئه هي معركة العقيدة وأنه لا ينقم منهم إلا إيمانهم برب العالمين.
فهذا الإيمان على هذا النحو يهدد عرش فرعون وملكه وسلطانه ويهدد مراكز الملأ من قومه وسلطانهم المستمد من سلطان فرعون ... أو بتعبير آخر مرادف:من ربوبية فرعون،ويهدد القيم التي يقوم عليها المجتمع الوثني كله .. وهذا الإدراك لطبيعة المعركة ضروري لكل من يتصدى للدعوة إلى ربوبية اللّه وحده. فهو وحده الذي أهل هؤلاء المؤمنين للاستهانة بما يلقونه في سبيله .. إنهم يقدمون على الموت مستهينين ليقينهم بأنهم هم المؤمنون برب العالمين وأن عدوهم على دين غير دينهم لأنه بمزاولته للسلطان وتعبيد الناس لأمره ينكر ربوبية رب العالمين .. فهو إذن من الكافرين .. وما يمكن أن يمضي المؤمنون في طريق الدعوة إلى رب العالمين - على ما ينتظرهم فيها من التعذيب والتنكيل - إلا بمثل هذا اليقين بشقيه:أنهم هم المؤمنون،وأن أعداءهم هم الكافرون،وأنهم إنما يحاربونهم على الدين،ولا ينقمون منهم إلا الدين.
ونقف بعد ذلك أمام الروعة الباهرة لانتصار العقيدة على الحياة. وانتصار العزيمة على الألم. وانتصار «الإنسان» على الشيطان. وهو مشهد بالغ الروعة .. نعترف أننا نعجز عن القول فيه. فندعه كما صوره النص القرآني الكريم!



خطوات الواقع التاريخي للمجتمع المسلم بعد عامين اثنين من الفتح

إن عامين اثنين بعد الفتح لم يكونا كافيين لاستقرار حقيقة الإسلام في نفوس هذه الأفواج الكثيرة التي دخلت في دين اللّه بعد الفتح،بمستوياتها الإيمانية المخلخلة.فلما قبض رسول اللّه - - ارتجت الجزيرة المخلخلة،وثبتت القاعدة الصلبة.واستطاعت هذه القاعدة بصلابتها وخلوصها وتناسقها أن تقف في وجه التيار وأن ترده عن مجراه الجارف وأن تحوله إلى الإسلام مرة أخرى ..
إن رؤية هذه الحقيقة - على هذا النحو - كفيلة بأن ترينا تدبير اللّه الحكيم في المحنة الطويلة التي تعرضت لها الدعوة في مكة - في أول الأمر - وحكمته في تسليط المشركين الطواغيت على الفئة المسلمة يؤذونها،ويفتنونها عن دينها،ويهدرون دماءها،ويفعلون بها الأفاعيل! لقد كان اللّه سبحانه يعلم أن هذا هو المنهج القويم لتربية الجماعة الأولى وتكوين القاعدة الصلبة لهذه العقيدة.وأنه بدون هذه المحنة الطويلة لا تصلب الأعواد ولا تثبت للضغوط وأن هذه الدرجة من الصلابة والخلوص والتجرد والإصرار والمضي في سبيل اللّه على الأذى والعذاب والقتل والتنكيل والتشريد والتجويع،وقلة العدد،وانعدام النصير الأرضي ...
إن هذه الدرجة هي وحدها التي تصلح للقاعدة الأصيلة الثابتة عند نقطة الانطلاق الأولى ..إن هذه القاعدة الصلبة من المهاجرين الأوائل هي التي انضم إليها السابقون من الأنصار،ليكونوا القاعدة في المدينة - قبل بدر - وليكونوا هم الحراس الأقوياء الأشداء في فترة التخلخل التي أعقبت النصر في بدر،بالتوسع الأفقي الذي جاء بأعداد جديدة لم تنضج بعد،ولم تتناسق مع القاعدة في مستواها الإيماني والتنظيمي.وأخيرا فإن القاعدة الصلبة التي اتسعت أبعادها قبيل الفتح،حتى صارت تتمثل في المجتمع المدني بجملته،هي التي حرست الإسلام وصانته من الهزات بعد الفتح ثم من الهزة الكبرى بعد وفاة رسول اللّه - - وارتداد الجزيرة عن الإسلام.
إن هذه الحقيقة - كما أنها ترينا تدبير اللّه الحكيم في المحنة الطويلة التي تعرضت لها الدعوة في مكة وفي الأهوال والمشاق والأخطار التي تعرض لها المجتمع المسلم في المدينة حتى الحديبية - هي كذلك تكشف لنا عن طبيعة المنهج الحركي للدعوة الإسلامية المتجددة في أي زمان وفي أي مكان.
إنه ابتداء يجب توجيه الحرص كله لإقامة القاعدة الصلبة من المؤمنين الخلص،الذين تصهرهم المحنة فيثبتون عليها والعناية بتربيتهم تربية إيمانية عميقة تزيدهم صلابة وقوة ووعيا ذلك مع الحذر الشديد من التوسع الأفقي قبل الاطمئنان إلى قيام هذه القاعدة الصلبة الخالصة الواعية المستنيرة.فالتوسع الأفقي قبل قيام هذه القاعدة خطر ما حق يهدر وجود أية حركة،لا تسلك طريق الدعوة الأولى من هذه الناحية،ولا تراعي طبيعة المنهج الحركي الرباني النبوي الذي سارت عليه الجماعة الأولى.
على أن اللّه - سبحانه - هو الذي يتكفل بهذا لدعوته.فحيثما أراد لها حركة صحيحة،عرّض طلائعها للمحنة الطويلة وأبطأ عليهم النصر وقللهم وبطأ الناس عنهم حتى يعلم منهم أن قد صبروا وثبتوا،وتهيأوا وصلحوا لأن يكونوا هم القاعدة الصلبة الخالصة الواعية الأمينة ..ثم نقل خطاهم بعد ذلك بيده - سبحانه - واللّه غالب على أمره،ولكن أكثر الناس لا يعلمون.



طبيعة المنهج الحركي الإسلامي

إنَّ الذي يراجع أحداث السيرة النبوية ووقائعها،ليرى من خلالها الواقع التاريخي للمنهج الحركي الإسلامي،ويراجع كذلك طبيعة هذا المنهج في ذاته ومراحله وأهدافه ..يرى بوضوح أن هذه الخطوة الحاسمة في العلاقات بين المعسكر الإسلامي في الجزيرة وسائر معسكرات المشركين - وكذلك بينه وبين معسكرات أهل الكتاب التي تقررت في هذه السورة - كان قد جاء موعدها،وتمهدت لها الأرض،وتهيأت لها الأحوال،وأصبحت هي الخطوة الطبيعية في أوانها المحتوم».
كانت التجربة تلو التجربة قد كشفت عن القانون الحتمي الذي يحكم العلاقات بين المجتمع المسلم الذي يفرد اللّه سبحانه بالألوهية والربوبية والقوامة والحاكمية والتشريع والمجتمعات الجاهلية التي تجعل هذا كله لغير اللّه،أو تجعل فيه شركاء للّه ..هذا القانون الحتمي هو قانون الصراع الذي يعبر عنه قول اللّه سبحانه:«وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً» ..(الحج:40) والذي يقول عنه سبحانه كذلك:«وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» ..(البقرة:251)
وقد ظهرت آثار هذا القانون الحتمي في ظاهرتين بارزتين:
إحداهما:انطلاق الإسلام خطوة بعد خطوة،وغزوة بعد غزوة،ومرحلة بعد مرحلة لنشر منهج اللّه في الأرض حوله وإبلاغ كلمة اللّه إلى أرض بعد أرض وإلى قبيلة بعد قبيلة - في طريقه إلى إبلاغها إلى الناس كافة وإزالة الحواجز المادية التي تحول دون هذا الإعلان العام والبلوغ إلى كل بني الإنسان - حتى فتحت مكة،وخضدت شوكة قريش العقبة الكبرى في طريق الزحف الإسلامي،واستسلمت هوازن وثقيف في الطائف أقوى القبائل بعد قريش في طريق هذا الزحف.وأصبحت للإسلام قوته التي ترهب عدوه وتسمح بالقيام بالخطوة النهائية الحاسمة في الجزيرة - تمهيدا لما وراءها من أرض اللّه حسبما تتهيأ الظروف الملائمة لكل خطوة تالية،حتى لا تكون فتنة ويكون الدين للّه.
وثانيتهما:نقض العهود التي كانت المعسكرات الجاهلية تعقدها مع المسلمين - في ظروف مختلفة - عهدا بعد عهد بمجرد أن تتاح لها فرصة نقضها،وعند أول بادرة تشير إلى أن المعسكر الإسلامي في ضائقة تهدد وجوده أو على الأقل تجعل هذا النقض مأمون العاقبة على ناقضيه من المشركين - ومن أهل الكتاب من قبلهم - فما كانت هذه العهود - إلا نادرا - عن رغبة حقيقية في مسالمة الإسلام ومهادنة المسلمين إنما كانت عن اضطرار واقعي إلى حين!
فما تطيق المعسكرات الجاهلية طويلا أن ترى الإسلام ما يزال قائما حيالها مناقضا في أصل وجوده لأصل وجودها مخالفا لها مخالفة جذرية أصيلة في الصغيرة والكبيرة من مناهجها،يهدد بقاءها بما في طبيعته من الحق والحيوية والحركة والانطلاق لتحطيم الطاغوت كله،ورد الناس جميعا إلى عبادة اللّه وحده.
وهذه الظاهرة الأخيرة والقاعدة الأصيلة التي تقوم عليها هي التي يقررها اللّه سبحانه في قوله عن المشركين:« وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا» ...(البقرة:217)
والتي يقول فيها عن أهل الكتاب:«وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ» ..(البقرة:109)
ويقول فيها كذلك:«وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ» ..(البقرة:120)
فيعلن - سبحانه - بهذه النصوص القطعية عن وحدة الهدف بين جميع معسكرات الجاهلية تجاه الإسلام والمسلمين وعن قوة الإصرار على هذا الهدف وامتدادها عبر الزمان،وعدم توقيتها بظرف أو زمان! وبدون إدراك ذلك القانون الحتمي في طبيعة العلاقات بين التجمع الإسلامي والتجمعات الجاهلية،وتفسير الظواهر التي تنشأ عنه - على مدار التاريخ - بالرجوع إليه،لا يمكن فهم طبيعة الجهاد في الإسلام ولا طبيعة تلك الصراعات الطويلة بين المعسكرات الجاهلية والمعسكر الإسلامي.ولا يمكن فهم بواعث المجاهدين الأوائل،ولا أسرار الفتوحات الإسلامية ولا أسرار الحروب الوثنية والصليبية التي لم تفتر قط طوال أربعة عشر قرنا والتي ما تزال مشبوبة على ذراري المسلمين - وإن كانوا لسوء حظهم تخلوا عن حقيقة الإسلام ولم يبق لهم منه إلا العنوان - في المعسكرات الشيوعية والوثنية والصليبية كلها:في روسيا والصين ويوغسلافيا وألبانيا.وفي الهند وكشمير.وفي الحبشة وزنجبار وقبرص وكينيا وجنوب افريقية والولايات المتحدة ..
وذلك فوق عمليات السحق الوحشية البشعة لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان في العالم الإسلامي - أو الذي كان إسلاميا بتعبير أدق - وتعاون الشيوعية والوثنية والصليبية مع الأوضاع التي تتولى سحق هذه الطلائع،ومد يد الصداقة إليها،وإمدادها بالمعونات التي تبلغ حد الكفالة،وإقامة ستار من الصمت حولها وهي تسحق هذه الطلائع الكريمة! إن شيئا من هذا كله لا يصبح مفهوما بدون إدراك ذلك القانون الحتمي والظواهر التي يتجلى فيها ..
وقد تجلى ذلك القانون - كما أسلفنا - قبيل نزول سورة التوبة وبعد فتح مكة في هاتين الظاهرتين اللتين أسلفنا الحديث عنهما.وظهر بوضوح أنه لا بد من اتخاذ تلك الخطوة الحاسمة في الجزيرة سواء تجاه المشركين - وهو ما نواجهه في هذا المقطع من السورة - أو تجاه أهل الكتاب،وهو ما سنواجهه في المقطع التالي مباشرة والذي بعده ..
ولكن وضوح ذلك كله للقيادة المسلمة - حينذاك - لم يكن معناه وضوحه - بنفس الدرجة - لكل الجماعات والطوائف في المجتمع المسلم.وبخاصة لحديثي العهد بالإيمان والمؤلفة قلوبهم،فضلا على ضعاف القلوب والمنافقين! كان في المجتمع المسلم - ولعل بعض هؤلاء من كرام المسلمين وخيارهم - من يتحرج من إنهاء العهود مع المشركين جميعا - بعد أربعة أشهر للناكثين ومن لهم عهود غير موقتة ومن لم يحاربوا المسلمين ولو من غير عهد ومن لهم عهود أقل من أربعة وبعد انقضاء الأجل لمن لهم عهود موقوتة ولم ينقصوا المسلمين شيئا ولم يظاهروا عليهم أحدا - ولئن كانوا يستسيغون نبذ عهود الناكثين والذين تخاف منهم الخيانة،كما سبق في الحكم المرحلي الذي تضمنته سورة الأنفال:«وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ» ..(الأنفال:58) فإن إنهاء عهود غيرهم بعد أربعة أشهر أو بعد الأجل المقدر،ربما بدا لهم مخالفا لما عهدوه وألفوه من معاهدة المعاهدين وموادعة الموادعين وترك المهادنين ..ولكن اللّه - سبحانه - كان يريد أمرا أكبر من المألوف وخطوة وراء ما انتهت إليه الأمور! وكان في المجتمع المسلم كذلك - ولعل بعض هؤلاء من كرام المسلمين وخيارهم كذلك - من يرى أنه لم تعد هناك ضرورة لقتال المشركين عامة،ومتابعتهم حتى يفيئوا إلى الإسلام بعد ما ظهر الإسلام في الجزيرة وغلب ولم تبق إلا جيوب متناثرة هنا وهناك لا خوف منها على الإسلام اليوم.ومن المتوقع أن تفيء رويدا رويدا - في ظل السلم - إلى الإسلام ..ولا يخلو هذا الفريق من التحرج من قتال الأقرباء والأصدقاء ومن تربطهم بهم علاقات اجتماعية واقتصادية متنوعة،متى كان هناك أمل في دخولهم في الإسلام بغير هذا الإجراء العنيف ..ولكن اللّه سبحانه كان يريد أن تقوم آصرة التجمع على العقيدة وحدها،وأن تخلص الجزيرة للإسلام،وأن تصبح كلها قاعدة أمينة له وهو يعلم أن الروم يبيتون للإسلام على مشارف الشام كما سيجيء! وكان في المجتمع المسلم - ولعل بعض هؤلاء كان من كرام المسلمين وخيارهم أيضا! - من يخشى الكساد الذي يتوقعه من تعطل الصلات التجارية والاقتصادية في أنحاء الجزيرة بسبب إعلان القتال العام على المشركين كافة فيها وتأثير ذلك في موسم الحج،وبخاصة بعد إعلان ألا يحج بعد العام مشرك،وألا يعمر المشركون مساجد اللّه.
وبخاصة حين يضيف إلى هذا الاعتبار عدم ضرورة هذه الخطوة وإمكان الوصول إليها بالطرق السلمية البطيئة! ..



الدينونة للّه وحده وآثارها في الحياة الإنسانية

إن الدينونة للّه تحرر البشر من الدينونة لغيره وتخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة اللّه وحده.وبذلك تحقق للإنسان كرامته الحقيقية وحريته الحقيقية،هذه الحرية وتلك اللتان يستحيل ضمانهما في ظل أي نظام آخر - غير النظام الإسلامي - يدين فيه الناس بعضهم لبعض بالعبودية،في صورة من صورها الكثيرة ...سواء عبودية الاعتقاد،أو عبودية الشعائر،أو عبودية الشرائع ..فكلها عبودية وبعضها مثل بعض تخضع الرقاب لغير اللّه بإخضاعها للتلقي في أي شأن من شؤون الحياة لغير اللّه.
والناس لا يملكون أن يعيشوا غير مدينين! لا بد للناس من دينونة.والذين لا يدينون للّه وحده يقعون من فورهم في شر ألوان العبودية لغير اللّه في كل جانب من جوانب الحياة! إنهم يقعون فرائس لأهوائهم وشهواتهم بلا حد ولا ضابط.ومن ثم يفقدون خاصتهم الآدمية ويندرجون في عالم البهيمة :«وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ،وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» ...(محمد:12) ولا يخسر الإنسان شيئا كأن يخسر آدميته،ويندرج في عالم البهيمة،وهذا هو الذي يقع حتما بمجرد التملص من الدينونة للّه وحده،والوقوع في الدينونة للهوى والشهوة.
ثم هم يقعون فرائس لألوان من العبودية للعبيد ..يقعون في شر ألوان العبودية للحكام والرؤساء الذين يصرفونهم وفق شرائع من عند أنفسهم،لا ضابط لها ولا هدف إلا حماية مصالح المشرعين أنفسهم - سواء تمثل هؤلاء المشرعون في فرد حاكم،أو في طبقة حاكمة،أو في جنس حاكم - فالنظرة على المستوي الإنساني الشامل تكشف عن هذه الظاهرة في كل حكم بشري لا يستمد من اللّه وحده،ولا يتقيد بشريعة اللّه لا يتعداها ..
ولكن العبودية للعبيد لا تقف عند حدود العبودية للحكام والرؤساء والمشرعين ..فهذه هي الصورة الصارخة،ولكنها ليست هي كل شيء! ..إن العبودية للعباد تتمثل في صور أخرى خفية ولكنها قد تكون أقوى وأعمق وأقسى من هذه الصورة! ونضرب مثالا لهذا تلك العبودية لصانعي المودات والأزياء مثلا! أي سلطان لهؤلاء على قطيع كبير جدا من البشر؟ ..كل الذين يسمونهم متحضرين ..! إن الزي المفروض من آلهة الأزياء - سواء في الملابس أو العربات أو المباني أو المناظر أو الحفلات ...إلخ ..ليمثل عبودية صارمة لا سبيل لجاهلي ولا لجاهلية أن يفلت منها أو يفكر في الخروج عنها! ولو دان الناس - في هذه الجاهلية «الحضارية!» للّه بعض ما يدينون لصانعي الأزياء لكانوا عبادا متبتلين! ..فماذا تكون العبودية إن لم تكن هي هذه؟ وماذا تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي حاكمية وربوبية صانعي الأزياء أيضا؟! وإن الإنسان ليبصر أحيانا بالمرأة المسكينة،وهي تلبس ما يكشف عن سوآتها،وهو في الوقت ذاته لا يناسب شكلها ولا تكوينها،وتضع من الأصباغ ما يتركها شائهة أو مثارا للسخرية! ولكن الألوهية القاهرة لأرباب الأزياء والمودات تقهرها وتذلها لهذه المهانة التي لا تملك لها ردا،ولا تقوى على رفض الدينونة لها،لأن المجتمع كله من حولها يدين لها.فكيف تكون الدينونة إن لم تكن هي هذه؟ وكيف تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي تلك؟! وليس هذا إلا مثلا واحدا للعبودية المذلة حين لا يدين الناس للّه وحده وحين يدينون لغيره من العبيد.
وليست حاكمية الرؤساء والحكام وحدها هي الصورة الكريهة المذلة لحاكمية البشر للبشر،ولعبودية البشر للبشر! وهذا يقودنا إلى قيمة توحيد العبادة والدينونة في صيانة أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم،التي تصبح كلها ولا عاصم لها عندما يدين العباد للعباد،في صورة من صور الدينونة ..سواء في صورة حاكمية التشريع،أو في صورة حاكمية الأعراف والتقاليد،أو في صورة حاكمية الاعتقاد والتصور ..
إن الدينونة لغير اللّه في الاعتقاد والتصور معناها الوقوع في براثن الأوهام والأساطير والخرافات التي لا تنتهي والتي تمثل الجاهليات الوثنية المختلفة صورا منها وتمثل أوهام العوام المختلفة صورا منها وتقدم فيها النذور والأضاحي من الأموال - وأحيانا من الأولاد! - تحت وطأة العقيدة الفاسدة والتصور المنحرف ويعيش الناس معها في رعب من الأرباب الوهمية المختلفة،ومن السدنة والكهنة المتصلين بهذه الأرباب! ومن السحرة المتصلين بالجن والعفاريت! ومن المشايخ والقديسين أصحاب الأسرار! ومن ..ومن ..من الأوهام التي ما يزال الناس منها في رعب وفي خوف وفي تقرب وفي رجاء،حتى تتقطع أعناقهم وتتوزع جهودهم،وتتبدد طاقاتهم في مثل هذا الهراء! وقد مثلنا لتكاليف الدينونة لغير اللّه في الأعراف والتقاليد بأرباب الأزياء والمودات! فينبغي أن نعلم كم من الأموال والجهود تضيع - إلى جانب الأعراض والأخلاق - في سبيل هذه الأرباب! إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق على الدهون والعطور والأصباغ وعلى تصفيف الشعر وكيه وعلى الأقمشة التي تصنع منها الأزياء المتقلبة عاما بعد عام،وما يتبعها من الأحذية المناسبة والحلي المتناسقة مع الزي والشعر والحذاء! ...إلى آخر ما تقضي به تلك الأرباب النكدة ..إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق نصف دخله ونصف جهده لملاحقة أهواء تلك الأرباب المتقلبة التي لا تثبت على حال.ومن ورائها اليهود أصحاب رؤوس الأموال الموظفة في الصناعات الخاصة بدنيا تلك الأرباب! ولا يملك الرجل ولا المرأة وهما في هذا الكد الناصب أن يتوقفا لحظة عن تلبية ما تقتضيه تلك الدينونة النكدة من تضيحات في الجهد والمال والعرض والخلق على السواء! وأخيرا تجيء تكاليف العبودية لحاكمية التشريع البشرية ..
وما من أضحية يقدمها عابد اللّه للّه،إلا ويقدم الذين يدينون لغير اللّه أضعافها للأرباب الحاكمة! من الأموال والأنفس والأعراض ..
وتقام أصنام من «الوطن» ومن «القوم» ومن «الجنس» ومن «الطبقة» ومن «الإنتاج» ...ومن غيرها من شتى الأصنام والأرباب ..
وتدق عليها الطبول وتنصب لها الرايات ويدعى عباد الأصنام إلى بذل النفوس والأموال لها بغير تردد.وإلا فالتردد هو الخيانة،وهو العار ..وحتى حين يتعارض العرض.مع متطلبات هذه الأصنام،فإن العرض هو الذي يضحى ويكون هذا هو الشرف الذي يراق على جوانبه الدم! كما تقول الأبواق المنصوبة حول الأصنام،ومن ورائها أولئك الأرباب من الحكام! إن كل التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل اللّه ليعبد اللّه وحده في الأرض وليتحرر البشر من عبادة الطواغيت والأصنام،ولترتفع الحياة الإنسانية إلى الأفق الكريم الذي أراده اللّه للإنسان ..إن كل هذه التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل اللّه ليبذل مثلها وأكثر من يدينون لغير اللّه! والذين يخشون العذاب والألم والاستشهاد وخسارة الأنفس والأولاد والأموال إذا هم جاهدوا في سبيل اللّه،عليهم أن يتأملوا ماذا تكلفهم الدينونة لغير اللّه في الأنفس والأموال والأولاد،وفوقها الأخلاق والأعراض ..إن تكاليف الجهاد في سبيل اللّه في وجه طواغيت الأرض كلها لن تكلفهم ما تكلفهم الدينونة لغير اللّه وفوق ذلك كله الذل والدنس والعار! وأخيرا فإن توحيد العبادة والدينونة للّه وحده،ورفض العبادة والدينونة لغيره من خلقه ذو قيمة كبيرة في صيانة الجهد البشري من أن ينفق في تأليه الأرباب الزائفة.كي يوجه بجملته إلى عمارة الأرض،وترقيتها،وترقية الحياة فيها.
وهناك ظاهرة واضحة متكررة أشرنا إليها فيما سبق في هذا الجزء ..وهي أنه كلما قام عبد من عبيد اللّه،ليقيم من نفسه طاغوتا يعبّد الناس لشخصه من دون اللّه ..احتاج هذا الطاغوت كي يعبد (أي يطاع ويتبع) إلى أن يسخر كل القوى والطاقات أولا لحماية شخصه.وثانيا لتأليه ذاته.واحتاج إلى حواش وذيول وأجهزة وأبواق تسبح بحمده،وترتل ذكره،وتنفخ في صورته «العبدية» الهزيلة لتتضخم وتشغل مكان «الألوهية» العظيمة! وألا تكف لحظة واحدة عن النفخ في تلك الصورة العبدية الهزيلة! وإطلاق الترانيم والتراتيل حولها.وحشد الجموع - بشتى الوسائل - للتسبيح باسمها،وإقامة طقوس العبادة لها ...!
وهو جهد ناصب لا يفرغ أبدا.لأن الصورة العبدية الهزيلة ما تني تنكمش وتهزل وتتضاءل كلما سكن من حولها النفخ والطبل والزمر والبخور والتسابيح والتراتيل.وما تني تحتاج كرة أخرى إلى ذلك الجهد الناصب من جديد! وفي هذا الجهد الناصب تصرف طاقات وأموال - وأرواح أحيانا وأعراض! - لو أنفق بعضها في عمارة الأرض،والإنتاج المثمر،لترقية الحياة البشرية وإغنائها،لعاد على البشرية بالخير الوفير ..ولكن هذه الطاقات والأموال - والأرواح أحيانا والأعراض - لا تنفق في هذا السبيل الخير المثمر ما دام الناس لا يدينون للّه وحده وإنما يدينون للطواغيت من دونه.
ومن هذه اللمحة يتكشف مدى خسارة البشرية في الطاقات والأموال والعمارة والإنتاج من جراء تنكبها عن الدينونة للّه وحده وعبادة غيره من دونه ..وذلك فوق خسارتها في الأرواح والأعراض،والقيم والأخلاق.وفوق الذل والقهر والدنس والعار! وليس هذا في نظام أرضي دون نظام،وإن اختلفت الأوضاع واختلفت ألوان التضحيات.
« ولقد حدث أن الذين فسقوا عن الدينونة للّه وحده،فأتاحوا لنفر منهم أن يحكموهم بغير شريعته،قد وقعوا في النهاية في شقوة العبودية لغيره.العبودية التي تأكل إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم،مهما اختلفت أشكال الأنظمة التي تحكمهم،والتي ظنوا في بعضها أنها تكفل لهم الإنسانية والحرية والكرامة.
«لقد هربت أوربا من اللّه - في أثناء هروبها من الكنيسة الطاغية الباغية باسم الدين الزائف - وثارت على اللّه - سبحانه - في أثناء ثورتها على تلك الكنيسة التي أهدرت كل القيم الإنسانية في عنفوان سطوتها الغاشمة! ثم ظن الناس أنهم يجدون إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم - ومصالحهم كذلك - في ظل الأنظمة الفردية (الديمقراطية) وعلقوا كل آمالهم على الحريات والضمانات التي تكفلها لهم الدساتير الوضعية،والأوضاع النيابية البرلمانية،والحريات الصحفية،والضمانات القضائية والتشريعية،وحكم الأغلبية المنتخبة ...إلى آخر هذه الهالات التي أحيطت بها تلك الأنظمة ..ثم ماذا كانت العاقبة؟ كانت العاقبة هي طغيان «الرأسمالية» ذلك الطغيان الذي أحال كل تلكالضمانات،وكل تلك التشكيلات،إلى مجرد لافتات،أو إلى مجرد خيالات! ووقعت الأكثرية الساحقة في عبودية ذليلة للأقلية الطاغية التي تملك رأس المال،فتملك معه الأغلبية البرلمانية! والدساتير الوضعية! والحريات الصحفية! وسائر الضمانات التي ظنها الناس هناك كفيلة بضمان إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم،في معزل عن اللّه سبحانه!!! «ثم هرب فريق من الناس هناك من الأنظمة الفردية التي يطغى فيها «رأس المال» و«الطبقة» إلى الأنظمة الجماعية! فماذا فعلوا؟ لقد استبدلوا بالدينونة لطبقة «الرأسماليين» الدينونة لطبقة «الصعاليك»! أو استبدلوا بالدينونة لأصحاب رؤوس الأموال والشركات الدينونة للدولة التي تملك المال إلى جانب السلطان! فتصبح أخطر من طبقة الرأسماليين! «وفي كل حالة،وفي كل وضع،وفي كل نظام،دان البشر فيه للبشر،دفعوا من أموالهم ومن أرواحهم الضريبة الفادحة.دفعوها للأرباب المتنوعة في كل حال.
«إنه لا بد من عبودية! فإن لا تكن للّه وحده تكن لغير اللّه ..والعبودية للّه وحده تطلق الناس أحرارا كراما شرفاء أعلياء ..والعبودية لغير اللّه تأكل إنسانية الناس وكرامتهم وحرياتهم وفضائلهم.ثم تأكل أموالهم ومصالحهم المادية في النهاية.
«من أجل ذلك كله تنال قضية الألوهية والعبودية كل تلك العناية في رسالات اللّه - سبحانه - وفي كتبه ..وهذه السورة نموذج من تلك العناية ..فهي قضية لا تتعلق بعبدة الأصنام والأوثان في الجاهليات الساذجة البعيدة.ولكنها تتعلق بالإنسان كله،في كل زمان وفي كل مكان وتتعلق بالجاهليات كلها ..جاهليات ما قبل التاريخ،وجاهليات التاريخ.وجاهلية القرن العشرين.وكل جاهلية تقوم على أساس من عبادة العباد للعباد» .
والخلاصة التي ينتهي إليها القول في هذه القضية:أنه يتجلى بوضوح من التقريرات القرآنية بجملتها - وهذه السورة نموذج منها - أن قضية الدينونة والاتباع والحاكمية - التي يعبر عنها في هذه السورة بالعبادة - هي قضية عقيدة وإيمان وإسلام وليست قضية فقه أو سياسة أو نظام! إنها قضية عقيدة تقوم أو لا تقوم.وقضية إيمان يوجد أو لا يوجد.وقضية إسلام يتحقق أو لا يتحقق ..
ثم هي بعد - بعد ذلك لا قبله - قضية منهج للحياة الواقعية يتمثل في شريعة ونظام وأحكام وفي أوضاع وتجمعات تتحقق فيها الشريعة والنظام.وتنفذ فيها الأحكام.
وكذلك فإن قضية «العبادة» ليست قضية شعائر وإنما هي قضية دينونة واتباع ونظام وشريعة وفقه وأحكام وأوضاع في واقع الحياة ..وأنها من أجل أنها كذلك استحقت كل هذه العناية في المنهج الرباني المتمثل في هذا الدين ..واستحقت كل هذه الرسل والرسالات.واستحقت كل هذه العذابات والآلام والتضحيات.
والآن نجيء إلى تتابع هذا القصص في السورة ودلالته على الخط الحركي للعقيدة الإسلامية في تاريخ البشرية:
لقد بينا من قبل في التعقيب على قصة نوح أن الإسلام كان هو أول عقيدة عرفتها البشرية على يدي آدم عليه السلام أبي البشر الأول،ثم على يدي نوح - عليه السلام - أبي البشر الثاني ..ثم بعد ذلك على يدي كل رسول ..وأن الإسلام يعني توحيد الألوهية من ناحية الاعتقاد والتصور والتوجه بالعبادة والشعائر،وتوحيد الربوبية من ناحية الدينونة والاتباع والطاعة والخضوع:أي توحيد القوامة والحاكمية والتوجيه والتشريع.
ثم بينا كذلك أن الجاهلية - سواء كانت جاهلية الاعتقاد والتصور والعبادة والشعائر! أو جاهلية الدينونة والاتباع والطاعة والخضوع - أو هما معا - كانت تطرؤ على البشرية بعد معرفة الإسلام على أيدي الرسل - عليهم صلوات اللّه وسلامه - وكانت تفسد عقائدهم وتصوراتهم،كما تفسد حياتهم وأوضاعهم بالدينونة لغير اللّه - سبحانه - سواء كانت هذه الدينونة لطوطم أو حجر أو شجر أو نجم أو كوكب،أو روح أو أرواح شتى أو كانت هذه الدينونة لبشر من البشر:كاهن أم ساحر أم حاكم ..فكلها سواء في دلالتها على الانحراف عن التوحيد إلى الشرك،والخروج من الإسلام إلى الجاهلية.
ومن هذا التتابع التاريخي - الذي يقصه اللّه سبحانه في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - يتبين خطأ المنهج الذي يتبعه علماء الدين المقارن وخطأ النتائج التي يصلون إليها عن طريقه ..
خطأ المنهج لأنه يتبع خط الجاهليات التي عرفتها البشرية،ويهمل خط التوحيد الذي جاء به الرسل صلوات اللّه وسلامه عليهم - وهم حتى في تتبعهم لخط الجاهليات لا يرجعون إلا لما حفظته آثار العهود الجاهلية التي يحوم عليها التاريخ - ذلك المولود الحدث الذي لا يعرف من تاريخ البشرية إلا القليل ولا يعرف هذا القليل إلا عن سبيل الظن والترجيح! - وحتى حين يصلون إلى أثر من آثار التوحيد الذي جاءت به الرسالات رأسا في إحدى الجاهليات التاريخية في صورة توحيد مشوه كتوحيد أخناتون مثلا في الديانة المصرية القديمة فإنهم يتعمدون إغفال أثر رسالة التوحيد - ولو على سبيل الاحتمال - وقد جاء أخناتون في مصر بعد عهد يوسف - عليه السلام - وتبشيره بالتوحيد كما جاء في القرآن الكريم - حكاية عن قوله لصاحبي السجن في سورة يوسف -:« إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ،وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ.وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ،ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيء،ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ،وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ.يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ؟ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ،أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ،ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ،وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ...(يوسف:37 - 40)
وهم إنما يفعلون ذلك،لأن المنهج كله إنما قام ابتداء على أساس العداء والرفض للمنهج الديني،بسبب ما ثار بين الكنيسة الأوربية والبحث العلمي في كل صوره في فترة من فترات التاريخ.فبدأ المنهج وفي عزم أصحابه أن يصلوا إلى ما يكذب مزاعم الكنيسة من أساسها،للوصول إلى تحطيم الكنيسة ذاتها.ومن أجل هذا جاء منهجا منحرفا منذ البدء،لأنه يتعمد الوصول سلفا إلى نتائج معينة،قبل البدء في البحث! وحتى حين هدأت حدة العداء للكنيسة بعد تحطيم سيطرتها العلمية والسياسية والاقتصادية الغاشمة فإن المنهج استمر في طريقه.لأنه لم يستطع أن يتخلص من أساسه الذي قام عليه،والتقاليد التي تراكمت على هذا الأساس،حتى صارت من أصول المنهج!
أما خطأ النتائج فهو ضرورة حتمية لخطأ المنهج من أساسه.هذا الخطأ الذي طبع نتائج المنهج كلها بهذا الطابع ..
على أنه أيا كان المنهج وأيا كانت النتائج التي يصل إليها فإن تقريراته مخالفة مخالفة أساسية للتقريرات الإلهية كما يعرضها القرآن الكريم ..وإذا جاز لغير مسلم أن يأخذ بنتائج تخالف مخالفة صريحة قول اللّه سبحانه في مسألة من المسائل فإنه لا يجوز لباحث يقدم بحثه للناس على أنه «مسلم» أن يأخذ بتلك النتائج.
ذلك أن التقريرات القرآنية في مسألة الإسلام والجاهلية،وسبق الإسلام للجاهلية في التاريخ البشري،وسبق التوحيد للتعدد والتثنية ..قاطعة،وغير قابلة للتأويل.فهي مما يقال عنه:إنه معلوم من الدين بالضرورة.
وعلى من يأخذ بنتائج علم الأديان المقارنة في هذا الأمر،أن يختار بين قول اللّه سبحانه وقول علماء الأديان.أو بتعبير آخر:أن يختار بين الإسلام وغير الإسلام! لأن قول اللّه في هذه القضية منطوق وصريح،وليس ضمنيا ولا مفهوما! وعلى أية حال فإن هذا ليس موضوعنا الذي نستهدفه في هذا التعقيب الأخير ..إنما نستهدف هنا رؤية الخط الحركي للعقيدة الإسلامية في التاريخ البشري والإسلام والجاهلية يتعاوران البشرية والشيطان يستغل الضعف البشري وطبيعة التكوين لهذا المخلوق المزدوج الطبيعة والاتجاه،ويجتال الناس عن الإسلام بعد أن يعرفوه،إلى الجاهلية فإذا بلغت هذه الجاهلية مداها بعث اللّه للناس رسولا يردهم إلى الإسلام.ويخرجهم من الجاهلية.وأول ما يخرجهم منه هو الدينونة لغير اللّه سبحانه من الأرباب المتفرقة ..وأول ما يردهم إليه هو الدينونة للّه وحده في أمرهم كله،لا في الشعائر التعبدية وحدها،ولا في الاعتقاد القلبي وحده.
إن هذه الرؤية تفيدنا في تقدير موقف البشرية اليوم،وفي تحديد طبيعة الدعوة الإسلامية كذلك ..
إن البشرية اليوم - بجملتها - تزاول رجعية شاملة إلى الجاهلية التي أخرجها منها آخر رسول - محمد - وهي جاهلية تتمثل في صور شتى:
بعضها يتمثل في إلحاد باللّه سبحانه،وإنكار لوجوده ..فهي جاهلية اعتقاد وتصور،كجاهلية الشيوعيين.
وبعضها يتمثل في اعتراف مشوه بوجود اللّه سبحانه،وانحراف في الشعائر التعبدية وفي الدينونة والاتباع والطاعة،كجاهلية الوثنيين من الهنود وغيرهم ..وكجاهلية اليهود والنصارى كذلك.
وبعضها يتمثل في اعتراف صحيح بوجود اللّه سبحانه،وأداء للشعائر التعبدية.مع انحراف خطير في تصور دلالة شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه.ومع شرك كامل في الدينونة والاتباع والطاعة.وذلك كجاهلية من يسمون أنفسهم «مسلمين» ويظنون أنهم أسلموا واكتسبوا صفة الإسلام وحقوقه - بمجرد نطقهم بالشهادتين وأدائهم للشعائر التعبدية مع سوء فهمهم لمعنى الشهادتين ومع استسلامهم ودينونتهم لغير اللّه من العبيد! وكلها جاهلية.وكلها كفر باللّه كالأولين.أو شرك باللّه كالآخرين ..
إن رؤية واقع البشرية على هذا النحو الواضح تؤكد لنا أن البشرية اليوم بجملتها قد ارتدت إلى جاهلية شاملة،وأنها تعاني رجعية نكدة إلى الجاهلية التي أنقذها منها الإسلام مرات متعددة،كان آخرها الإسلام الذي جاء به محمد ..وهذا بدوره يحدد طبيعة الدور الأساسي لطلائع البعث الإسلامي،والمهمة الأساسية التي عليها أن تقوم بها للبشرية ونقطة البدء الحاسمة في هذه المهمة.
إن على هذه الطلائع أن تبدأ في دعوة البشرية من جديد إلى الدخول في الإسلام كرة أخرى،والخروج من هذه الجاهلية النكدة التي ارتدت إليها.على أن تحدد للبشرية مدلول الإسلام الأساسي:وهو الاعتقاد بألوهية اللّه وحده،وتقديم الشعائر التعبدية للّه وحده والدينونة والاتباع والطاعة والخضوع في أمور الحياة كلها للّه وحده ..وأنه بغير هذه المدلولات كلها لا يتم الدخول في الإسلام ولا تحتسب للناس صفة المسلمين ولا تكون لهم تلك الحقوق التي يرتبها الإسلام لهم في أنفسهم وأموالهم كذلك.وأن تخلف أحد هذه المدلولات كتخلفها جميعا،يخرج الناس من الإسلام إلى الجاهلية،ويصمهم بالكفر أو بالشرك قطعا ..
إنها دورة جديدة من دورات الجاهلية التي تعقب الإسلام.فيجب أن تواجهها دورة من دورات الإسلام الذي يواجه الجاهلية،ليرد الناس إلى اللّه مرة أخرى،ويخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة اللّه وحده ..
ولا بد أن يصل الأمر إلى ذلك المستوي من الحسم والوضوح في نفوس العصبة المسلمة التي تعاني مواجهة الجاهلية الشاملة في هذه الفترة النكدة من حياة البشرية ..فإنه بدون هذا الحسم وهذا الوضوح تعجز طلائع البعث الإسلامي عن أداء واجبها في هذه الفترة الحرجة من تاريخ البشرية وتتأرجح أمام المجتمع الجاهلي - وهي تحسبه مجتمعا مسلما - وتفقد تحديد أهدافها الحقيقية،بفقدانها لتحديد نقطة البدء من حيث تقف البشرية فعلا،لا من حيث تزعم! والمسافة بعيدة بين الزعم والواقع ..بعيدة جدا ..



موقف الرسل الموحد من أقوامهم الذين أرسلوا إليهم

لقد أرسل كل رسول إلى قومه.وعند بدء الدعوة كان الرسول واحدا من قومه هؤلاء.يدعوهم إلى الإسلام دعوة الأخ لإخوته ويريد لهم ما يريد الأخ لإخوته من الخير الذي هداه اللّه إليه والذي يجد في نفسه بينة من ربه عليه.
هذا كان موقف كل رسول من قومه عند نقطة البدء ..ولكن هذا لم يكن موقف أي رسول عند نقطة الختام! لقد استجابت للرسول طائفة من قومه فآمنوا بما أرسل به إليهم ..عبدوا اللّه وحده كما طلب إليهم،وخلعوا من أعناقهم ربقة الدينونة لأي من خلقه ..وبذلك صاروا مسلمين ..صاروا «أمة مسلمة» ..
ولم تستجب للرسول طائفة أخرى من قومه.كفروا بما جاءهم به وظلوا في دينونتهم لغير اللّه من خلقه وبقوا في جاهليتهم لم يخرجوا منها إلى الإسلام ..ولذلك صاروا «أمة مشركة» ..
لقد انقسم القوم الواحد تجاه دعوة الرسول إلى أمتين اثنتين:أمة مسلمة وأخرى مشركة ولم يعد القوم الواحد أمة واحدة كما كانوا قبل الرسالة.مع أنهم قوم واحد من ناحية الجنس والأرومة.إلا أن آصرة الجنس والأرومة،وآصرة الأرض والمصالح المشتركة ..لم تعد هي التي تحكم العلاقات بينهم كما كانوا قبل الرسالة ..لقد ظهرت مع الرسالة آصرة أخرى تجمع القوم الواحد أو تفرقه ..تلك هي آصرة العقيدة والمنهج والدينونة ..وقد فرقت هذه الآصرة بين القوم الواحد،فجعلته أمتين مختلفتين لا تلتقيان،ولا تتعايشان! ذلك أنه بعد بروز هذه المفارقة بين عقيدة كل من الأمتين فاصل الرسول والأمة المسلمة التي معه قومهم على أساس العقيدة والمنهج والدينونة.فاصلوا الأمة المشركة التي كانت قبل الرسالة هي قومهم وهي أمتهم وهي أصلهم ..لقد افترق المنهجان،فاختلفت الجنسيتان.وأصبحت الأمتان الناشئتان من القوم الواحد لا تلتقيان ولا تتعايشان! وعندما فاصل المسلمون قومهم على العقيدة والمنهج والدينونة فصل اللّه بينهما فأهلك الأمة المشركة،ونجى الأمة المسلمة ..واطردت هذه القاعدة على مدار التاريخ كما رأينا في السورة ..
والأمر الذي ينبغي لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان أن تكون على يقين منه:أن اللّه سبحانه لم يفصل بين المسلمين وأعدائهم من قومهم،إلا بعد أن فاصل المسلمون أعداءهم وأعلنوا مفارقتهم لما هم عليه من الشرك وعالنوهم بأنهم يدينون للّه وحده،ولا يدينون لأربابهم الزائفة ولا يتبعون الطواغيت المتسلطة ولا يشاركون في الحياة ولا في المجتمع الذي تحكمه هذه الطواغيت بشرائع لم يأذن بها اللّه.سواء تعلقت بالاعتقاد،أو بالشعائر،أو بالشرائع.
إن يد اللّه سبحانه لم تتدخل لتدمر على الظالمين،إلا بعد أن فاصلهم المسلمون ..وما دام،المسلمون لم يفاصلوا قومهم،ولم يتبرأوا منهم،ولم يعالنوهم بافتراق دينهم عن دينهم،ومنهجهم عن منهجهم،وطريقهم عن طريقهم،لم تتدخل يد اللّه سبحانه للفصل بينهم وبينهم،ولتحقيق وعد اللّه بنصر المؤمنين والتدمير على الظالمين ..
وهذه القاعدة المطردة هي التي ينبغي لطلائع البعث الإسلامي أن تدركها وأن ترتب حركتها على أساسها:
إن الخطوة الأولى تبدأ دعوة للناس بالدخول في الإسلام والدينونة للّه وحده بلا شريك ونبذ الدينونة لأحد من خلقه - في صورة من صور الدينونة - ثم ينقسم القوم الواحد قسمين،ويقف المؤمنون الموحدون الذين يدينون للّه وحده صفا - أو أمة - ويقف المشركون الذين يدينون لأحد من خلق اللّه صفا آخر ..ثم يفاصل المؤمنون المشركين ..ثم يحق وعد اللّه بنصر المؤمنين والتدمير على المشركين ..كما وقع باطراد على مدار التاريخ البشري.
ولقد تطول فترة الدعوة قبل المفاصلة العملية.ولكن المفاصلة العقدية الشعورية يجب أن تتم منذ اللحظة الأولى.
ولقد يبطئ الفصل بين الأمتين الناشئتين من القوم الواحد وتكثر التضحيات والعذابات والآلام على جيل من أجيال الدعاة أو أكثر ..ولكن وعد اللّه بالفصل يجب أن يكون في قلوب العصبة المؤمنة أصدق من الواقع الظاهر في جيل أو أجيال.فهو لا شك آت.ولن يخلف اللّه وعده الذي جرت به سنته على مدار التاريخ البشري.
ورؤية هذه السنة على هذا النحو من الحسم والوضوح ضرورية كذلك للحركة الإسلامية في مواجهة الجاهلية البشرية الشاملة.فهي سنة جارية غير مقيدة بزمان ولا مكان ..وما دامت طلائع البعث الإسلامي تواجه البشرية اليوم في طور من أطوار الجاهلية المتكررة وتواجهها بذات العقيدة التي كان الرسل - عليهم صلوات اللّه وسلامه - يواجهونها بها كلما ارتدت وانتكست إلى مثل هذه الجاهلية.فإن للعصبة المسلمة أن تمضي في طريقها،مستوضحة نقطة البدء ونقطة الختام،وما بينهما من فترة الدعوة كذلك.مستيقنة أن سنة اللّه جارية مجراها،وأن العاقبة للتقوى.
وأخيرا،فإنه من خلال هذه الوقفات أمام القصص القرآني في هذه السورة تتبين لنا طبيعة منهج هذا الدين،كما يتمثل في القرآن الكريم ..إنها طبيعة حركية تواجه الواقع البشري بهذا القرآن مواجهة واقعية عملية ..
لقد كان هذا القصص يتنزل على رسول اللّه - - في مكة.والقلة المؤمنة معه محصورة بين شعابها،والدعوة الإسلامية مجمدة فيها،والطريق شاق طويل لا يكاد المسلمون يرون له نهاية! فكان هذا القصص يكشف لهم عن نهاية الطريق ويريهم معالمه في مراحله جميعا ويأخذ بأيديهم وينقل خطاهم في هذا الطريق وقد بات لا حبا موصولا بموكب الدعوة الكريم على مدار التاريخ البشري وبات بهذا الركب الكريم مأنوسا مألوفا لا موحشا ولا مخوفا! ..إنهم زمرة من موكب موصول في طريق معروف وليسوا مجموعة شاردة في تية مقطوع! وإنهم ليمضون من نقطة البدء إلى نقطة الختام وفق سنة جارية ولا يمضون هكذا جزافا يتبعون الصدفة العابرة! هكذا كان القرآن يتحرك في الصف المسلم ويحرك هذا الصف حركة مرسومة مأمونة ..
وهكذا يمكن اليوم وغدا أن يتحرك القرآن في طلائع البعث الإسلامي،ويحركها كذلك في طريق الدعوة المرسوم ..
إن هذه الطلائع في حاجة إلى هذا القرآن تستلهمه وتستوحيه.تستلهمه في منهج الحركة وخطواتها ومراحلها وتستوحيه في ما يصادف هذه الخطوات والمراحل من استجابات وما ينتظرها من عاقبة في نهاية الطريق.
والقرآن - بهذه الصورة - لا يعود مجرد كلام يتلى للبركة.ولكنه ينتفض حيا يتنزل اللحظة على الجماعة المسلمة المتحركة،لتتحرك به،وتتابع توجيهاته،وتتوقع موعود اللّه فيه.
وهذا ما نعنيه بأن هذا القرآن لا يتفتح عن أسراره إلا للعصبة المسلمة التي تتحرك به،لتحقيق مدلوله في عالم الواقع.لا لمن يقرأونه لمجرد التبرك! ولا لمن يقرأونه لمجرد الدراسة الفنية أو العلمية،ولا لمن يدرسونه لمجرد تتبع الأداء البياني فيه! إن هؤلاء جميعا لن يدركوا من هذا القرآن شيئا يذكر.فإن هذا القرآن لم يتنزل ليكون مادة دراسة على هذا النحو إنما تنزل ليكون مادة حركة وتوجيه.
إن الذين يواجهون الجاهلية الطاغية بالإسلام الحنيف والذين يجاهدون البشرية الضالة لردها إلى الإسلام من جديد والذين يكافحون الطاغوت في الأرض ليخرجوا الناس من العبودية للعباد إلى العبودية للّه وحده ..
إن هؤلاء وحدهم هم الذين يفقهون هذا القرآن لأنهم يعيشون في مثل الجو الذي نزل فيه:ويحاولون المحاولة التي كان يحاولها من تنزل عليهم أول مرة ويتذوقون في أثناء الحركة والجهاد ما تعنيه نصوصه لأنهم يجدون هذه المعاني ممثلة في أحداث ووقائع ..وهذا وحده جزاء على كل ما يصيبهم من عذابات وآلام.
أأقول:جزاء؟! كلا.واللّه.إنه لفضل من اللّه كبير ..«قُلْ:بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» ..والحمد للّه العظيم رب الفضل العظيم ..



توجيهات للدعاة

قال تعالى : {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)} [الحجر: 88،89]
والعين لا تمتد.إنما يمتد البصر أي يتوجه.ولكن التعبير التصويري يرسم صورة العين ذاتها ممدودة إلى المتاع.وهي صورة طريفة حين يتصورها المتخيل.والمعنى وراء ذلك ألا يحفل الرسول - - ذلك المتاع الذي آتاه اللّه لبعض الناس رجالا ونساء - امتحانا وابتلاء - ولا يلقي إليه نظرة اهتمام،أو نظرة استجمال.أو نظرة تمن.فهو شيء زائل وشيء باطل ومعه هو الحق الباقي من المثاني والقرآن العظيم.
وهذه اللفتة كافية للموازنة بين الحق الكبير والعطاء العظيم الذي مع الرسول،والمتاع الصغير الذي يتألق بالبريق وهو ضئيل.يليها توجيه الرسول - - إلى إهمال القوم المتمتعين،والعناية بالمؤمنين،فهؤلاء هم أتباع الحق الذي جاء به،والذي تقوم عليه السماوات والأرض وما بينهما وأولئك هم أتباع الباطل الزائل الطارئ على صميم الوجود ..
«وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ» ..ولا تهتم لمصيرهم السيئ الذي تعلم أن عدل اللّه يقتضيه،وأن الحق في الساعة يقتضيه.ودعهم لمصيرهم الحق.
«وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ» ..والتعبير عن اللين والمودة والعطف بخفض الجناح تعبير تصويري،يمثل لطف الرعاية وحسن المعاملة ورقة الجانب في صورة محسوسة على طريقة القرآن الفنية في التعبير.
«وَقُلْ:إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ» ..فذلك هو طريق الدعوة الأصيل ..ويفرد الإنذار هنا دون التبشير لأنه الأليق بقوم يكذبون ويستهزئون،ويتمتعون ذلك المتاع البراق،ولا يستيقظون منه لتدبر الحق الذي تقوم عليه الدعوة،وتقوم عليه الساعة،ويقوم عليه الكون الكبير.
« وَقُلْ:إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ» ..تلك القولة التي قالها كل رسول لقومه ومنهم بقايا الأقوام التي جاءها أولئك الرسل بتلك النذارة البينة التي جئت بها قومك ..وكان منهم في الجزيرة العربية اليهود والنصارى ..



الصعاب والعقبات في طريق الدعوة

قال تعالى :{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) } سورة العنكبوت
في هذا القصص تتمثل ألوان من الفتن،ومن الصعاب والعقبات في طريق الدعوة.
ففي قصة نوح - عليه السّلام - تتبدى ضخامة الجهد وضآلة الحصيلة،فقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما،ثم لم يؤمن له إلا القليل «فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ» ..
وفي قصة إبراهيم مع قومه يتبدى سوء الجزاء وطغيان الضلال.فقد حاول هداهم ما استطاع،وجادلهم بالحجة والمنطق:«فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا:اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ».
وفي قصة لوط يتبدى تبجح الرذيلة واستعلانها،وسفورها بلا حياء ولا تحرج،وانحدار البشرية إلى الدرك الأسفل من الانحراف والشذوذ مع الاستهتار بالنذير:«فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا:ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» .. وفي قصة شعيب مع مدين يتبدى الفساد والتمرد على الحق والعدل،والتكذيب:«فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ».وتذكر الإشارة إلى عاد وثمود بالاعتزاز بالقوة والبطر بالنعمة.كما تذكر الإشارة إلى قارون وفرعون وهامان بطغيان المال،واستبداد الحكم،وتمرد النفاق.
ويعقب على هذا القصص بمثل يضربه لهوان القوى المرصودة في طريق دعوة اللّه،وهي مهما علت واستطالت «كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً.وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ».



دروس وعبر من حادثة الرسول مع ابن أم مكتوم وأهمية المساواة في الإسلام

قال تعالى : {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)} [عبس: 1 - 10]
إن هذا التوجيه الذي نزل بشأن هذا الحادث هو أمر عظيم جدا.أعظم بكثير مما يبدو لأول وهلة.إنه معجزة،هو والحقيقة التي أراد إقرارها في الأرض،والآثار التي ترتبت على إقرارها بالفعل في حياة البشرية.ولعلها هي معجزة الإسلام الأولى،ومعجزته الكبرى كذلك.ولكن هذا التوجيه يرد هكذا - تعقيبا على حادث فردي - على طريقة القرآن الإلهية في اتخاذ الحادث المفرد والمناسبة المحدودة فرصة لتقرير الحقيقة المطلقة والمنهج المطرد.
وإلا فإن الحقيقة التي استهدف هذا التوجيه تقريرها هنا والآثار الواقعية التي ترتبت بالفعل على تقريرها في حياة الأمة المسلمة،هي الإسلام في صميمه.وهي الحقيقة التي أراد الإسلام - وكل رسالة سماوية قبله - غرسها في الأرض.
هذه الحقيقة ليست هي مجرد :كيف يعامل فرد من الناس؟ أو كيف يعامل صنف من الناس؟ كما هو المعنى القريب للحادث وللتعقيب.إنما هي أبعد من هذا جدا،وأعظم من هذا جدا.إنها :كيف يزن الناس كل أمور الحياة؟ ومن أين يستمدون القيم التي يزنون بها ويقدرون؟
والحقيقة التي استهدف هذا التوجيه إقرارها هي :أن يستمد الناس في الأرض قيمهم وموازينهم من اعتبارات سماوية إلهية بحتة،آتية لهم من السماء،غير مقيدة بملابسات أرضهم،ولا بمواضعات حياتهم،ولا نابعة من تصوراتهم المقيدة بهذه المواضعات وتلك الملابسات.
وهو أمر عظيم جدا،كما أنه أمر عسير جدا.عسير أن يعيش الناس في الأرض بقيم وموازين آتية من السماء.مطلقة من اعتبارات الأرض.متحررة من ضغط هذه الاعتبارات.
ندرك عظمة هذا الأمر وعسره حين ندرك ضخامة الواقع البشري،وثقله على المشاعر،وضغطه على النفوس،وصعوبة التخلي عن الملابسات والضغوط الناشئة من الحياة الواقعية للناس،المنبثقة من أحوال معاشهم،وارتباطات حياتهم،وموروثات بيئتهم،ورواسب تاريخهم،وسائر الظروف الأخرى التي تشدهم إلى الأرض شدا،وتزيد من ضغط موازينها وقيمها وتصوراتها على النفوس.
كذلك ندرك عظمة هذا الأمر وعسره حين ندرك أن نفس محمد بن عبد اللّه - - قد احتاجت - كي تبلغه - إلى هذا التوجيه من ربه بل إلى هذا العتاب الشديد،الذي يبلغ حد التعجيب من تصرفه! وإنه ليكفي لتصوير عظمة أي أمر في هذا الوجود أن يقال فيه :إن نفس محمد بن عبد اللّه - - قد احتاجت - كي تبلغه - إلى تنبيه وتوجيه! نعم يكفي هذا.فإن عظمة هذه النفس وسموها ورفعتها،تجعل الأمر الذي يحتاج منها - كي تبلغه - إلى تنبيه وتوجيه أمرا أكبر من العظمة،وأرفع من الرفعة! وهذه هي حقيقة هذا الأمر،الذي استهدف التوجيه الإلهي إقراره في الأرض،بمناسبة هذا الحادث المفرد ..أن يستمد الناس قيمهم وموازينهم من السماء،طلقاء من قيم الأرض وموازينها المنبثقة من واقعهم كله ..وهذا هو الأمر العظيم ..
إن الميزان الذي أنزله اللّه للناس مع الرسل،ليقوّموا به القيم كلها،هو :«إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» ..هذه هي القيمة الوحيدة التي يرجح بها وزن الناس أو يشيل! وهي قيمة سماوية بحتة،لا علاقة لها بمواضعات الأرض وملابساتها إطلاقا ..
ولكن الناس يعيشون في الأرض،ويرتبطون فيما بينهم بارتباطات شتى كلها ذات وزن وذات ثقل وذات جاذبية في حياتهم.وهم يتعاملون بقيم أخرى ..فيها النسب،وفيها القوة،وفيها المال.وفيها ما ينشأ عن توزيع هذه القيم من ارتباطات عملية ..اقتصادية وغير اقتصادية ..تتفاوت فيها أوضاع الناس بعضهم بالنسبة لبعض.فيصبح بعضهم أرجح من بعض في موازين الأرض ..
ثم يجيء الإسلام ليقول :«إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» ..فيضرب صفحا عن كل تلك القيم الثقيلة الوزن في حياة الناس،العنيفة الضغط على مشاعرهم،الشديدة الجاذبية إلى الأرض.ويبدل من هذا كله تلك القيمة الجديدة المستمدة مباشرة من السماء،المعترف بها وحدها في ميزان السماء! ثم يجيء هذا الحادث لتقرير هذه القيمة في مناسبة واقعية محددة.وليقرر معها المبدأ الأساسي :وهو أن الميزان ميزان السماء،والقيمة قيمة السماء.وأن على الأمة المسلمة أن تدع كل ما تعارف عليه الناس،وكل ما ينبثق من علاقات الأرض من قيم وتصورات وموازين واعتبارات،لتستمد القيم من السماء وحدها وتزنها بميزان السماء وحده! ويجيء الرجل الأعمى الفقير ..ابن أم مكتوم ..إلى رسول اللّه - - وهو مشغول بأمر النفر من سادة قريش.عتبة وشيبة ابني ربيعة،وأبي جهل عمرو بن هشام،وأمية بن خلف،والوليد بن المغيرة،ومعهم العباس بن عبد المطلب ..والرسول - - يدعوهم إلى الإسلام ويرجو بإسلامهم خيرا للإسلام في عسرته وشدته التي كان فيها بمكة وهؤلاء النفر يقفون في طريقه بمالهم وجاههم وقوتهم ويصدون الناس عنه،ويكيدون له كيدا شديدا حتى ليجمدوه في مكة تجميدا ظاهرا.بينما يقف الآخرون خارج مكة،لا يقبلون على الدعوة التي يقف لها أقرب الناس إلى صاحبها،وأشدهم عصبية له،في بيئة جاهلية قبلية،تجعل لموقف القبيلة كل قيمة وكل اعتبار.
يجيء هذا الرجل الأعمى الفقير إلى رسول اللّه - - وهو مشغول بأمر هؤلاء النفر.لا لنفسه ولا لمصلحته،ولكن للإسلام ولمصلحة الإسلام.فلو أسلم هؤلاءلانزاحت العقبات العنيفة والأشواك الحادة من طريق الدعوة في مكة ولا نساح بعد ذلك الإسلام فيما حولها،بعد إسلام هؤلاء الصناديد الكبار.يجيء هذا الرجل،فيقول لرسول اللّه - - :يا رسول اللّه أقرئني وعلمني مما علمك اللّه ..
ويكرر هذا وهو يعلم تشاغل الرسول - - بما هو فيه من الأمر.فيكره الرسول قطعه لكلامه واهتمامه.وتظهر الكراهية في وجهه - الذي لا يراه الرجل - فيعبس ويعرض.يعرض عن الرجل المفرد الفقير الذي يعطله عن الأمر الخطير.الأمر الذي يرجو من ورائه لدعوته ولدينه الشيء الكثير والذي تدفعه إليه رغبته في نصرة دينه،وإخلاصه لأمر دعوته،وحبه لمصلحة الإسلام،وحرصه على انتشاره! وهنا تتدخل السماء.تتدخل لتقول كلمة الفصل في هذا الأمر ولتضع معالم الطريق كله،ولتقرر الميزان الذي توزن فيه القيم - بغض النظر عن جميع الملابسات والاعتبارات.بما في ذلك اعتبار مصلحة الدعوة كما يراها البشر.بل كما يراها سيد البشر - - .
وهنا يجىء العتاب من اللّه العلي الأعلى لنبيه الكريم،صاحب الخلق العظيم،في أسلوب عنيف شديد.
وللمرة الوحيدة في القرآن كله يقال للرسول الحبيب القريب :«كلا» وهي كلمة ردع وزجر في الخطاب! ذلك أنه الأمر العظيم الذي يقوم عليه هذا الدين! والأسلوب الذي تولى به القرآن هذا العتاب الإلهي أسلوب فريد،لا تمكن ترجمته في لغة الكتابة البشرية.
فلغة الكتابة لها قيود وأوضاع وتقاليد،تغض من حرارة هذه الموحيات في صورتها الحية المباشرة.وينفرد الأسلوب القرآني بالقدرة على عرضها في هذه الصورة في لمسات سريعة.وفي عبارات متقطعة.وفي تعبيرات كأنها انفعالات،ونبرات وسمات ولمحات حية! «عَبَسَ وَتَوَلَّى.أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى » ..بصيغة الحكاية عن أحد آخر غائب غير المخاطب! وفي هذا الأسلوب إيحاء بأن الأمر موضوع الحديث من الكراهة عند اللّه بحيث لا يحب - سبحانه - أن يواجه به نبيه وحبيبه.
عطفا عليه،ورحمة به،وإكراما له عن المواجهة بهذا الأمر الكريه!
ثم يستدير التعبير - بعد مواراة الفعل الذي نشأ عنه العتاب - يستدير إلى العتاب في صيغة الخطاب.
فيبدأ هادئا شيئا ما :«وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى؟ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى ؟» ..ما يدريك أن يتحقق هذا الخير الكبير.أن يتطهر هذا الرجل الأعمى الفقير - الذي جاءك راغبا فيما عندك من الخير - وأن يتيقظ قلبه فيتذكر فتنفعه الذكرى.ما يدريك أن يشرق هذا القلب بقبس من نور اللّه،فيستحيل منارة في الأرض تستقبل نور السماء؟ الأمر الذي يتحقق كلما تفتح قلب للهدى وتمت حقيقة الإيمان فيه.وهو الأمر العظيم الثقيل في ميزان اللّه ..
ثم تعلو نبرة العتاب وتشتد لهجته وينتقل إلى التعجيب من ذلك الفعل محل العتاب :«أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى،فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى؟! وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى؟! وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى،فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى؟!» ..
أما من أظهر الاستغناء عنك وعن دينك وعما عندك من الهدى والخير والنور والطهارة ..أما هذا فأنت تتصدى له وتحفل أمره،وتجهد لهدايته،وتتعرض له وهو عنك معرض! «وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى؟» ..وما يضيرك أن يظل في رجسه ودنسه؟ وأنت لا تسأل عن ذنبه.وأنت لا تنصر به.وأنت لا تقوم بأمره ..«وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى » طائعا مختارا،«وَهُوَ يَخْشى » ويتوقى «فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى!» ..ويسمي الانشغال عن الرجل المؤمن الراغب في الخير التقي تلهيا ..وهو وصف شديد ..
ثم ترتفع نبرة العتاب حتى لتبلغ حد الردع والزجر :«كَلَّا!» ..لا يكن ذلك أبدا ..وهو خطاب يسترعي النظر في هذا المقام.
ثم يبين حقيقة هذه الدعوة وكرامتها وعظمتها ورفعتها،واستغناءها عن كل أحد.وعن كل سند.وعنايتها فقط بمن يريدها لذاتها،كائنا ما كان وضعه ووزنه في موازين الدنيا :«إِنَّها تَذْكِرَةٌ.فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ.فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ.مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ.بِأَيْدِي سَفَرَةٍ.كِرامٍ بَرَرَةٍ» ..فهي كريمة في كل اعتبار.كريمة في صحفها،المرفوعة المطهرة الموكل بها السفراء من الملأ الأعلى ينقلونها إلى المختارين في الأرض ليبلغوها.وهم كذلك كرام بررة ..فهي كريمة طاهرة في كل ما يتعلق بها،وما يمسها من قريب أو من بعيد.وهي عزيزة لا يتصدى بها للمعرضين الذين يظهرون الاستغناء عنها فهي فقط لمن يعرف كرامتها ويطلب التطهر بها.
هذا هو الميزان.ميزان اللّه.الميزان الذي توزن به القيم والاعتبارات،ويقدر به الناس والأوضاع ..وهذه هي الكلمة.كلمة اللّه.الكلمة التي ينتهي إليها كل قول،وكل حكم،وكل فصل.
وأين هذا؟ ومتى؟ في مكة،والدعوة مطاردة،والمسلمون قلة.والتصدي للكبراء لا ينبعث من مصلحة ذاتية والانشغال عن الأعمى الفقير لا ينبعث من اعتبار شخصي.إنما هي الدعوة أولا وأخيرا.ولكن الدعوة إنما هي هذا الميزان،وإنما هي هذه القيم،وقد جاءت لتقرر هذا الميزان وهذه القيم في حياة البشر.فهي لا تعز ولا تقوى ولا تنصر إلا بإقرار هذا الميزان وهذه القيم ..
ثم إن الأمر - كما تقدم - أعظم وأشمل من هذا الحادث المفرد،ومن موضوعه المباشر.إنما هو أن يتلقى الناس الموازين والقيم من السماء لا من الأرض،ومن الاعتبارات السماوية لا من الاعتبارات الأرضية ..«إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» ..والأكرم عند اللّه هو الذي يستحق الرعاية والاهتمام والاحتفال،ولو تجرد من كل المقومات والاعتبارات الأخرى،التي يتعارف عليها الناس تحت ضغط واقعهم الأرضي ومواضعاتهم الأرضية.النسب والقوة والمال ..وسائر القيم الأخرى،لا وزن لها حين تتعرى عن الإيمان والتقوى.والحالة الوحيدة التي يصح لها فيها وزن واعتبار هي حالة ما إذا أنفقت لحساب الإيمان والتقوى.هذه هي الحقيقة الكبيرة التي استهدف التوجيه الإلهي إقرارها في هذه المناسبة،على طريقة القرآن في اتخاذ الحادث المفرد والمناسبة المحدودة،وسيلة لإقرار الحقيقة المطلقة والمنهج المطرد.
ولقد انفعلت نفس الرسول - - لهذا التوجيه،ولذلك العتاب.انفعلت بقوة وحرارة،واندفعت إلى إقرار هذه الحقيقة في حياته كلها،وفي حياة الجماعة المسلمة.بوصفها هي حقيقة الإسلام الأولى.وكانت الحركة الأولى له - - هي إعلان ما نزل له من التوجيه والعتاب في الحادث.
وهذا الإعلان أمر عظيم رائع حقا.أمر لا يقوى عليه إلا رسول،من أي جانب نظرنا إليه في حينه.
نعم لا يقوى إلا رسول على أن يعلن للناس أنه عوتب هذا العتاب الشديد،بهذه الصورة الفريدة في خطأ أتاه! وكان يكفي لأي عظيم - غير الرسول - أن يعرف هذا الخطأ وأن يتلافاه في المستقبل.ولكنها النبوة.أمر آخر.وآفاق أخرى! لا يقوى إلا رسول على أن يقذف بهذا الأمر هكذا في وجوه كبراء قريش في مثل تلك الظروف التي كانت فيها الدعوة،مع أمثال هؤلاء المستعزين بنسبهم وجاههم ومالهم وقوتهم،في بيئة لا مكان فيها لغير هذه الاعتبارات،إلى حد أن يقال فيها عن محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم :«لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ!» ..وهذا نسبه فيهم،لمجرد أنه هو شخصيا لم تكن له رياسة فيهم قبل الرسالة! ثم إنه لا يكون مثل هذا الأمر في مثل هذه البيئة إلا من وحي السماء.فما يمكن أن ينبثق هذا من الأرض ..
ومن هذه الأرض بذاتها في ذلك الزمان!! وهي قوة السماء التي دفعت مثل هذا الأمر في طريقه فإذا هو ينفذ من خلال نفس النبي - - إلى البيئة من حوله فيتقرر فيها بعمق وقوة واندفاع،يطرد به أزمانا طويلة في حياة الأمة المسلمة.
لقد كان ميلادا جديدا للبشرية كميلاد الإنسان في طبيعته.وأعظم منه خطرا في قيمته ..أن ينطلق الإنسان حقيقة - شعورا وواقعا - من كل القيم المتعارف عليها في الأرض،إلى قيم أخرى تتنزل له من السماء منفصلة منعزلة عن كل ما في الأرض من قيم وموازين وتصورات واعتبارات وملابسات عملية،وارتباطات واقعية ذات ضغط وثقل،ووشائج متلبسة باللحم والدم والأعصاب والمشاعر.ثم أن تصبح القيم الجديدة مفهومة من الجميع،مسلما بها من الجميع.وأن يستحيل الأمر العظيم بديهية الضمير المسلم،وشريعة المجتمع المسلم،وحقيقة الحياة الأولى في المجتمع الإسلامي لآماد طويلة في حياة المسلمين.
إننا لا نكاد ندرك حقيقة ذلك الميلاد الجديد.لأننا لا نتمثل في ضمائرنا حقيقة هذا الانطلاق من كل ما تنشئه أوضاع الأرض وارتباطاتها من قيم وموازين واعتبارات ساحقة الثقل إلى الحد الذي يخيل لبعض أصحاب المذاهب «التقدمية!» أن جانبا واحدا منها - هو الأوضاع الاقتصادية - هو الذي يقرر مصائر الناس وعقائدهم وفنونهم وآدابهم وقوانينهم وعرفهم وتصورهم للحياة! كما يقول أصحاب مذهب التفسير المادي للتاريخ في ضيق أفق،وفي جهالة طاغية بحقائق النفس وحقائق الحياة! إنها المعجزة.معجزة الميلاد الجديد للإنسان على يد الإسلام في ذلك الزمان ..
ومنذ ذلك الميلاد سادت القيم التي صاحبت ذلك الحادث الكوني العظيم ..ولكن المسألة لم تكن هينة ولا يسيرة في البيئة العربية،ولا في المسلمين أنفسهم ..غير أن الرسول - - قد استطاع - بإرادة اللّه،وبتصرفاته هو وتوجيهاته المنبعثة من حرارة انفعاله بالتوجيه القرآني الثابت - أن يزرع هذه الحقيقة في الضمائر وفي الحياة وأن يحرسها ويرعاها،حتى تتأصل جذورها،وتمتد فروعها،وتظلل حياة الجماعة المسلمة قرونا طويلة ..على الرغم من جميع عوامل الانتكاس الأخرى ..
كان رسول اللّه - - بعد هذا الحادث يهش لابن أم مكتوم ويرعاه ويقول له كلما لقيه :«أهلا بمن عاتبني فيه ربي» وقد استخلفه مرتين بعد الهجرة على المدينة ..
ولكي يحطم موازين البيئة وقيمها المنبثقة من اعتبار الأرض ومواضعاتها،زوج بنت خالته زينب بنت جحش الأسدية،لمولاه زيد بن حارثة.ومسألة الزواج والمصاهرة مسألة حساسة شديدة الحساسية.وفي البيئة العربية بصفة خاصة.
وقبل ذلك حينما آخى بين المسلمين في أول الهجرة،جعل عمه حمزة ومولاه زيدا أخوين.وجعل خالد بن رويحة الخثعمي وبلال بن رباح أخوين! وبعث زيدا أميرا في غزوة مؤتة،وجعله الأمير الأول،يليه جعفر بن أبي طالب،ثم عبد اللّه بن رواحة الأنصاري،على ثلاثة آلاف من المهاجرين والأنصار،فيهم خالد بن الوليد.وخرج رسول اللّه - - بنفسه يشيعهم ..وهي الغزوة التي استشهد فيها الثلاثة رضي اللّه عنهم.
وكان آخر عمل من أعماله - - أن أمّر أسامة بن زيد على جيش لغزو الروم،يضم كثرة من المهاجرين والأنصار،فيهم أبو بكر وعمر وزيراه،وصاحباه،والخليفتان بعده بإجماع المسلمين.وفيهم سعد بن أبي وقاص قريبه - - ومن أسبق قريش إلى الإسلام.
وقد تململ بعض الناس من إمارة أسامة وهو حدث.فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ بَعَثَ النَّبِىُّ -  - بَعْثًا،وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ،فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِى إِمَارَتِهِ،فَقَالَ النَّبِىُّ -  - « إِنْ تَطْعُنُوا فِى إِمَارَتِهِ فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعُنُونَ فِى إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ،وَايْمُ اللَّهِ،إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلإِمَارَةِ،وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَىَّ،وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَىَّ بَعْدَهُ » ...
ولما لغطت ألسنة بشأن سلمان الفارسي،وتحدثوا عن الفارسية والعربية،بحكم إيحاءات القومية الضيقة ،ضرب رسول اللّه - - ضربته الحاسمة في هذا الأمر فعَنِ كثير بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ،عَنْ أَبِيهِ،عَنْ جَدِّهِ،أَنَّ النَّبِيَّ خَطَّ الْخَنْدَقَ فَاحْتَجَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فِي سَلْمَانَ،وَكَانَ رَجُلًا قَوِيًّا فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ:سَلْمَانُ مِنَّا،وَقَالَتِ الْأَنْصَارُ:سَلْمَانُ مِنَّا فَقَالَ النَّبِيُّ :" سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ ".
وعَنْ كَثِيرِ بن عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ،عَنْ أَبِيهِ،عَنْ جَدِّهِ،أَنّ رَسُولَ اللَّهِ خَطَّ الْخَنْدَقَ مِنْ أَحْمَرَ الْبَسْخَتَيْنِ طَرَفِ بني حَارِثَةَ عَامَ حِزْبِ الأَحْزَابِ،حَتَّى بَلَغَ الْمَذَابِحَ،فَقَطَعَ لِكُلِّ عَشَرَةٍ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا،فَاحْتَجَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ فِي سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ،وَكَانَ رَجُلا قَوِيًّا،فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ:سَلْمَانُ مِنَّا،وَقَالَتِ الأَنْصَارُ:سَلْمَانُ مِنَّا،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ :"سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ"
فتجاوز به - بقيم السماء وميزانها - كل آفاق النسب الذي يستعزون به،وكل حدود القومية الضيقة التي يتحمسون لها ..وجعله من أهل البيت رأسا!
ولما وقع بين أبي ذر الغفاري وبلال بن رباح - رضي اللّه عنهما - ما أفلت معه لسان أبي ذر بكلمة «يا بن السوداء» ..غضب لها رسول اللّه - - غضبا شديدا وألقاها في وجه أبي ذر عنيفة مخيفة فعَنِ الْمَعْرُورِ قَالَ لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ،وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ،وَعَلَى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ،فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ،فَقَالَ إِنِّى سَابَبْتُ رَجُلاً،فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ،فَقَالَ لِىَ النَّبِىُّ -  - « يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ،إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ،جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ،فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ،وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ،وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ،فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ » .
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ :عَيَّرَ أَبُو ذَرٍّ بِلَالًا بِأُمِّهِ،فَقَالَ :يَا ابْنَ السَّوْدَاءِ،وَإِنَّ بِلَالًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ،فَأَخْبَرَهُ فَغَضِبَ،فَجَاءَ أَبُو ذَرٍّ وَلَمْ يَشْعُرْ،فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ ،فَقَالَ :مَا أَعْرَضَكَ عَنِّي إِلَّا شَيْءٌ بَلَغَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،قَالَ :" أَنْتَ الَّذِي تُعَيِّرُ بِلَالًا بِأُمِّهِ ؟ " قَالَ النَّبِيُّ :" وَالَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى مُحَمَّدٍ - أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَحْلِفَ - مَا لِأَحَدٍ عَلَيَّ فَضْلٌ إِلَّا بِعَمَلٍ،إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا كَطَفِّ الصَّاعِ "
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ:" مَاتَ أَخٌ لِي وَتَرَكَ امْرَأَتَهُ،فَخَطَبَ إِلَيَّ أَخٌ لَهُ لِأُمِّهِ،فَأَتَيْتُهَا فَقُلْتُ:لَا تَزَوَّجِي فُلَانًا،فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ , فَمَرَّ بِي فَقَالَ:" يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ،يَا ابْنَ مَاءِ السَّمَاءِ،طَفَّ الصَّاعُ "
وعَنْ أَبِي سَالِمٍ الْجَيَشَانِيِّ قَالَ:تُوُفِّيَ أَخٌ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ مِنْ أَبِيهِ وَتَرَكَ أَخًا مِنْ أُمِّهِ،فَنَكَحَ امْرَأَتَهُ،فَغَضِبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ،فَأَقْبَلَ إِلَيْهَا فَوَقَفَ عَلَيْهَا فَقَالَ:" أَنَكَحْتِ ابْنَ الْأَمَةِ ؟ " فَرَدَّدَ ذَلِكَ عَلَيْهَا،فَقَالَتْ:" أَصْلَحَكَ اللهُ،إِنَّهُ كَانَ أَخَا زَوْجِي،وَكَانَ أَحَقَّ بِي،يَضُمُّنِي وَوَلَدَهُ " فَسَمِعَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ , فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ حَتَّى وَقَّفَهُ ثُمَّ ضَرَبَ عَلَى مَنْكِبِهِ فَقَالَ:" يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ،يَا ابْنَ مَاءِ السَّمَاءِ طَفَّ الصَّاعُ،طَفَّ الصَّاعُ،طَفَّ الصَّاعُ "
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ:" إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا،مُؤْمِنٌ تَقِيُّ،أَوْ فَاجِرٌ شَقِيُّ،أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ،وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ،لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ،أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْجُعْلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتْنَ "
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ:" إِنَّ أَنْسَابَكُمْ هَذِهِ لَيْسَتْ بِمَسَابٍ عَلَى أَحَدٍ،إِنَّمَا أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ،طَفَّ الصَّاعِ لَمْ تَمْلَئُوهُ،لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ فَضْلٌ إِلَّا بِدِينٍ أَوْ عَمَلٍ صَالِحٍ،بِحَسْبِ الرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ فَاحِشًا بَذِيئًا بَخِيلًا جَبَانًا "
ففرق في الأمر إلى جذوره البعيدة ..إما إسلام فهي قيم السماء وموازين السماء.وإما جاهلية فهي قيم الأرض وموازين الأرض! ووصلت الكلمة النبوية بحرارتها إلى قلب أبي ذر الحساس فانفعل لها أشد الانفعال،ووضع جبهته على الأرض يقسم ألا يرفعها حتى يطأها بلال.تكفيرا عن قولته الكبيرة! وكان الميزان الذي ارتفع به بلال هو ميزان السماء ..عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ النَّبِىَّ -  - قَالَ لِبِلاَلٍ عِنْدَ صَلاَةِ الْفَجْرِ « يَا بِلاَلُ حَدِّثْنِى بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِى الإِسْلاَمِ،فَإِنِّى سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَىَّ فِى الْجَنَّةِ » .قَالَ مَا عَمِلْتُ عَمَلاً أَرْجَى عِنْدِى أَنِّى لَمْ أَتَطَهَّرْ طُهُورًا فِى سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلاَّ صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِى أَنْ أُصَلِّىَ .قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ دَفَّ نَعْلَيْكَ يَعْنِى تَحْرِيكَ . .
وعَنْ هَانِئِ بْنِ هَانِئٍ،قَالَ :اسْتَأْذَنَ عَمَّارٌ عَلَى عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ،فَقَالَ :مَرْحَبًا بِالطَّيِّبِ الْمُطَيَّبِ،سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ،يَقُولُ :عَمَّارٌ مُلِئَ إِيمَانًا إِلَى مُشَاشِهِ أَيْ مَثَانَتِهِ.. .
وعَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ -- قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -- « مُلِئَ عَمَّارٌ إِيمَانًا إِلَى مُشَاشِهِ » ...
وعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ :كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ جُلُوسًا فَقَالَ :إِنِّي لاَ أَدْرِي مَا قَدْرُ بَقَائِي فِيكُمْ،فَاقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي،وَأَشَارَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ،وَعُمَرَ،وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ عَمَّارٍ،وَمَا حَدَّثَكُمْ ابْنُ مَسْعُودٍ فَصَدِّقُوهُ .
وكان ابن مسعود يحسبه الغريب عن المدينة من أهل بيت رسول اللّه ..فعَنْ أَبِى إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِى الأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِىَّ - رضى الله عنه - يَقُولُ قَدِمْتُ أَنَا وَأَخِى مِنَ الْيَمَنِ،فَمَكُثْنَا حِينًا مَا نُرَى إِلاَّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِىِّ -  -،لِمَا نَرَى مِنْ دُخُولِهِ وَدُخُولِ أُمِّهِ عَلَى النَّبِىِّ -  - .
فعَنْ أَنَسٍ قَالَ :خَطَبَ النَّبِيُّ عَلَى جُلَيْبِيبٍ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى أَبِيهَا،فَقَالَ :حَتَّى أَسْتَأْمِرَ أُمَّهَا،فَقَالَ النَّبِيُّ :فَنَعَمْ إِذًا قَالَ :فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ إِلَى امْرَأَتِهِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا،فَقَالَتْ :لاَهَا اللَّهُ إِذًا،مَا وَجَدَ رَسُولُ اللهِ إِلاَّ جُلَيْبِيبًا وَقَدْ مَنَعْنَاهَا مِنْ فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ ؟ قَالَ :وَالْجَارِيَةُ فِي سِتْرِهَا تَسْتَمِعُ .قَالَ :فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يُخْبِرَ النَّبِيَّ بِذَلِكَ،فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ :أَتُرِيدُونَ أَنْ تَرُدُّوا عَلَى رَسُولِ اللهِ أَمْرَهُ ؟ إِنْ كَانَ قَدْ رَضِيَهُ لَكُمْ،فَأَنْكِحُوهُ قَالَ :فَكَأَنَّهَا جَلَّتْ عَنْ أَبَوَيْهَا،وَقَالاَ :صَدَقْتِ .فَذَهَبَ أَبُوهَا إِلَى النَّبِيِّ فَقَالَ :إِنْ كُنْتَ قَدْ رَضِيتَهُ فَقَدْ رَضِينَاهُ .قَالَ :فَإِنِّي قَدْ رَضِيتُهُ .فَزَوَّجَهَا،ثُمَّ فُزِّعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ،فَرَكِبَ جُلَيْبِيبٌ فَوَجَدُوهُ قَدْ قُتِلَ،وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ قَتَلَهُمْ.قَالَ أَنَسٌ :فَلَقَدْ رَأَيْتُهَا وَإِنَّهَا لَمِنْ أَنْفَقِ ثَيِّبٍ فِي الْمَدِينَةِ. .
وقد افتقده رسول اللّه - - في الوقعة التي استشهد فيها بعد فترة قصيرة من زواجه فعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ :أَنَّ جُلَيْبِيبًا كَانَ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ،وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَى النِّسَاءِ،وَيَتَحَدَّثُ إِلَيْهِنَّ،قَالَ أَبُو بَرْزَةَ :فَقُلْتُ لاِمْرَأَتِي :لاَ يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُمْ جُلَيْبِيبٌ،قَالَ :فَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ إِذَا كَانَ لأَحَدِهِمْ أَيِّمٌ لَمْ يُزَوِّجْهَا حَتَّى يَعْلَمَ أَلِرَسُولِ فِيهَا حَاجَةٌ أَمْ لاَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ذَاتَ يَوْمٍ لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ :يَا فُلاَنُ زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ،قَالَ :نَعَمْ وَنُعْمَى عَيْنٍ،قَالَ :إِنِّي لَسْتُ لِنَفْسِي أُرِيدُهَا،قَالَ :فَلِمَنْ ؟ قَالَ :لِجُلَيْبِيبٍ،قَالَ :يَا رَسُولَ اللهِ حَتَّى أَسْتَأْمِرَ أُمَّهَا،فَأَتَاهَا،فَقَالَ :إِنَّ رَسُولَ اللهِ يَخْطُبُ ابْنَتَكِ،قَالَتْ :نَعَمْ وَنُعْمَى عَيْنٍ،قَالَ :إِنَّهُ لَيْسَتْ لِنَفْسِهِ يُرِيدُهَا،قَالَتْ :فَلِمَنْ يُرِيدُهَا ؟ قَالَ :لِجُلَيْبِيبٍ،قَالَتْ :حَلْقَى أَلِجُلَيْبِيبٍ ؟ قَالَتْ :لاَ لَعَمْرُ اللهِ،لاَ أُزَوِّجُ جُلَيْبِيبًا،فَلَمَّا قَامَ أَبُوهَا لَيَأْتِي النَّبِيَّ ،قَالَتِ الْفَتَاةُ مِنْ خِدْرِهَا لِأُمِّهَا :مَنْ خَطَبَنِي إِلَيْكُمَا قَالاَ :رَسُولُ اللهِ ،قَالَتْ :أَتَرُدُّونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ أَمْرَهُ ادْفَعُونِي إِلَى رَسُولِ اللهِ ،فَإِنَّهُ لَنْ يُضَيِّعَنِي،فَذَهَبَ أَبُوهَا إِلَى النَّبِيِّ ،فَقَالَ :شَأْنُكَ بِهَا،فَزَوَّجَهَا جُلَيْبِيبًا.
قَالَ حَمَّادٌ :قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ :هَلْ تَدْرِي مَا دَعَا لَهَا بِهِ قَالَ :وَمَا دَعَا لَهَا بِهِ ؟ قَالَ :اللَّهُمَّ صُبَّ الْخَيْرَ عَلَيْهِمَا صَبًّا،وَلاَ تَجْعَلْ عَيْشَهُمَا كَدًّا.قَالَ ثَابِتٌ :فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ،فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ فِي غَزَاةٍ،قَالَ :تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ ؟ قَالُوا :لاَ،قَالَ :لَكِنِّي أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا،فَاطْلُبُوهُ فِي الْقَتْلَى،فَوَجَدُوهُ إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ،قَدْ قَتَلَهُمْ،ثُمَّ قَتَلُوهُ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ :أَقَتَلَ سَبْعَةً،ثُمَّ قَتَلُوهُ ? هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ،يَقُولُهَا سَبْعًا،فَوَضَعَهُ رَسُولُ اللهِ عَلَى سَاعِدَيْهِ،مَا لَهُ سَرِيرٌ إِلاَّ سَاعِدَيْ رَسُولِ اللهِ ،حَتَّى وَضَعَهُ فِي قَبْرِهِ.قَالَ ثَابِتٌ :وَمَا كَانَ فِي الأَنْصَارِ أَيِّمٌ أَنْفَقُ مِنْهَا.
بذلك التوجيه الإلهي وبهذا الهدي النبوي كان الميلاد للبشرية على هذا النحو الفريد.ونشأ المجتمع الرباني الذي يتلقى قيمه وموازينه من السماء،طليقا من قيود الأرض،بينما هو يعيش على الأرض ..وكانت هذه هي المعجزة الكبرى للإسلام.المعجزة التي لا تتحقق إلا بإرادة إله،وبعمل رسول.والتي تدل بذاتها على أن هذا الدين من عند اللّه،وأن الذي جاء به للناس رسول!
وكان من تدبير اللّه لهذا الأمر أن يليه بعد رسول اللّه - - صاحبه الأول أبو بكر،وصاحبه الثاني عمر ..أقرب اثنين لإدراك طبيعة هذا الأمر،وأشد اثنين انطباعا بهدي رسول اللّه،وأعمق اثنين حبا لرسول اللّه،وحرصا على تتبع مواضع حبه ومواقع خطاه.
حفظ أبو بكر - رضي اللّه عنه - عن صاحبه - - ما أراده في أمر أسامة.فكان أول عمل له بعد توليه الخلافة هو إنفاذه بعث أسامة،على رأس الجيش الذي أعده رسول اللّه - - وسار يودعه بنفسه إلى ظاهر المدينة.وعن الحسن بن أبي الحسن البصري،قال :ضرب رسول الله  قبل وفاته بعثاً على أهل المدينة ومن حولهم ؛ وفيهم عمر ابن الخطاب،وأمر عليهم أسامة بن زيد .فلم يجاوز آخرهم الخندق،حتى قبض رسول الله ،فوقف أسامة بالناس،ثم قال لعمر :ارجع إلى خليفة رسول الله فاستأذنه ؛ يأذن لي أن أرجع بالناس ؛ فإن معت وجوه الناس وحدهم ؛ ولا آمن على خليفة رسول الله وثقل رسول الله وأثقال المسلمين أن ينخطفهم المشركون .وقالت الأنصار :فإن أبي إلا أن نمضى فأبلغه عنا،واطلب إليه أن يولى أمرنا رجلاً أقدم سناً من أسامة .فخرج عمر بأمر أسامة،وأتى أبا بكر فأخبره بما قال أسامة،فقال أبو بكر،لو خطفتني الكلاب والذئاب لم أرد قضاء قضى به رسول الله  ! قال :فإن الأنصار أمروني أن أبلغك،وإنهم يطلبون إليك أن تولى أمرهم رجلاً أقدم سناً من أسامة ؛ فوثب أبو بكر - وكان جالساً - فأخذ بلحية عمر،فقال له :ثكلتك أمك وعدمتك يا بن الخطاب ! استعمله رسول الله  وتأمرني أن أنزعه ! فخرج عمر إلى الناس فقالوا له :ما صنعت ؟ فقال :امضوا،ثكلتكم أمهاتكم ! ما لقيت في سببكم من خليفة رسول الله ! ثم خرج أبو بكر حتى أتاهم،فأشخصهم وشيعهم وهو ماش وأسامة راكب،وعبد الرحمن بن عوف يقود دابة أبي بكر،فقال له أسامة :يا خليفة رسول الله،والله لتركبن أو لأنزلن ! فقال :والله لا تنزل ووالله لا أركب ! وما علي أن أغبر قدمى في سبيل الله ساعة ؛ فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له،وسبعمائة درجة ترتفع له،وترفع عنه سبعمائة خطيئة ! حتى إذا انتهى قال :إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل ! فأذن له،ثم قال :يأيها الناس،قفوا أوصكم بعشر فاحفظوها عني :لا تخونوا ولا تغلوا،ولا تغدروا ولا تمثلوا،ولا تقتلوا طفلاً صغيراً،ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة،ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه،ولا تقطعوا شجرة مثمرة،ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة ؛ وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع ؛ فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له،وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام ؛ فإذا أكلتم منها شيئاً بعد شيء فاذكروا اسم الله عليها .وتلقون أقواماً قد فحصوا أوساط رءوسهم وتركوا حولها مثل العصائب ؛ فاخفقوهم بالسيف خفقاً .اندفعوا باسم الله،أفناكم الله بالطعن والطاعون .
يا للّه! إن رأيت أن تعينني فافعل ..إنها آفاق عوال،لا يرقى إليها الناس إلا بإرادة اللّه،على يدي رسول من عند اللّه! ثم تمضي عجلة الزمن فنرى عمر بن الخطاب خليفة يولي عمار بن ياسر على الكوفة.
وعن الْحَسَنَ قَالَ :حَضَرَ بَابَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو،وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ،وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ،وَنَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ تِلْكَ الرُّءُوسِ،وَصُهَيْبٌ وَبِلَالٌ،وَتِلْكَ الْمَوَالِي الَّذِينَ شَهِدُوا بَدْرًا،فَخَرَجَ إِذْنُ عُمَرَ فَأَذِنَ لَهُمْ،وَتَرَكَ هَؤُلَاءِ،فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ :لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ قَطُّ،يَأْذَنُ لِهَؤُلَاءِ الْعَبِيدِ وَيَتْرُكُنَا عَلَى بَابِهِ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْنَا،" قَالَ :فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو،وَكَانَ رَجُلًا عَاقِلًا :" أَيُّهَا الْقَوْمُ،إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ أَرَى الَّذِي فِي وُجُوهِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ غَضَابَا فَاغْضَبُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ،دُعِيَ الْقَوْمُ وَدُعِيتُمْ فَأَسْرَعُوا وَأَبْطَأْتُمْ فَكَيْفَ بِكُمْ إِذَا دُعُوا لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَتُرِكْتُمْ،أَمَا وَاللَّهِ لَمَّا سَبَقُوكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْفَضْلِ مِمَّا لَا تَرَوْنَ أَشَدَّ عَلَيْكُمْ فَوْتًا مِنْ بَابِكُمْ هَذَا الَّذِي نُنَافِسُهُمْ عَلَيْهِ "،قَالَ :وَنَفَضَ ثَوْبَهُ وَانْطَلَقَ،قَالَ الْحَسَنُ وَصَدَقَ وَاللَّهِ سُهَيْلٌ لَا يَجْعَلُ اللَّهُ عَبْدًا أَسْرَعَ إِلَيْهِ كَعَبْدٍ أَبْطَأَ عَنْهُ " .
وعَنْ عَائِشَةَ،قَالَتْ :أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يَمْسَحَ مُخَاطَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ،فَقَالَتْ عَائِشَةُ :دَعْنِي حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّذِي أَفْعَلُهُ،قَالَ :" يَا عَائِشَةُ،أَحِبِّيهِ فَإِنِّي أُحِبُّهُ "
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ :أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ أَنْ أَغْسِلَ وَجْهَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ يَوْمًا وَهُوَ صَبِيٌّ،قَالَتْ :وَمَا وَلَدْتُ وَلَا أَعْرِفُ كَيْفَ يُغْسَلُ الصِّبْيَانُ،قَالَتْ :فَآخُذُهُ فَأَغْسِلُهُ غَسْلًا لَيْسَ بِذَاكَ،قَالَتْ :فَأَخَذَهُ فَجَعَلَ يَغْسِلُ وَجْهَهُ وَيَقُولُ :" لَقَدْ أُحْسِنَ بِنَا إِذْ لَمْ تَكُ جَارِيَةً،وَلَوْ كُنْتَ جَارِيَةً لَحَلَّيْتُكَ وَأَعْطَيْتُكَ "
وعَنْ عَائِشَةَ،قَالَتْ :عَثَرَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ بِعَتَبَةِ الْبَابِ،فَشُجَّ وَجْهُهُ،فَقَالَ النَّبِيُّ لِعَائِشَةَ :أَمِيطِي عَنْهُ الأَذَى،فَقَذَّرَتْهُ،قَالَتْ :فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ يَمُجُّهَا،وَيَقُولُ :لَوْ كَانَ أُسَامَةُ جَارِيَةً لَحَلَّيْتُهُ وَكَسَوْتُهُ حَتَّى أُنَفِّقَهُ.
ويفرض عمر لأسامة بن زيد أكبر مما يفرض لعبد اللّه بن عمر.فعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ فَرَضَ لأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِى ثَلاَثَةِ آلاَفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَفَرَضَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِى ثَلاَثَةِ آلاَفٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لأَبِيهِ لِمَ فَضَّلْتَ أُسَامَةَ عَلَىَّ فَوَاللَّهِ مَا سَبَقَنِى إِلَى مَشْهَدٍ.قَالَ لأَنَّ زَيْدًا كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -- مِنْ أَبِيكَ وَكَانَ أُسَامَةُ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ مِنْكَ فَآثَرْتُ حُبَّ رَسُولِ اللَّهِ -- عَلَى حُبِّى. ..
يقولها عمر وهو يعلم أن حب رسول اللّه - - إنما كان مقوما بميزان السماء! ويرسل عمر عمارا ليحاسب خالد بن الوليد - القائد المظفر صاحب النسب العريق - فيلببه بردائه ..ويروى أنه أوثقه بشال عمامته حتى ينتهي من حسابه فتظهر براءته فيفك وثاقه ويعممه بيده ..وخالد لا يرى في هذا كله بأسا.فإنما هو عمار صاحب رسول اللّه - - السابق إلى الإسلام الذي قال عنه رسول اللّه - - ما قال!
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ أَخْبَرَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - قَالَ كَانَ عُمَرُ يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا،وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا .يَعْنِى بِلاَلاً ..الذي كان مملوكا لأمية بن خلف.وكان يعذبه عذابا شديدا.حتى اشتراه منه أبو بكر وأعتقه ..وعنه يقول عمر بن الخطاب ..عن بلال ..سيدنا!
عَنْ أَبِي رَافِعٍ:أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ،قَالَ:مَنْ أَدْرَكَ وَفَاتِي مِنْ سَبْيِ العَرَبِ،فَهُوَ مِنْ مَالِ اللهِ.فَقَالَ سَعِيْدُ بنُ زَيْدٍ:أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَشَرْتَ بِرَجُلٍ مِنَ المُسْلِمِيْنَ،لاَئْتَمَنَكَ النَّاسُ،وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيْقُ وَائْتَمَنَهُ النَّاسُ.فَقَالَ:قَدْ رَأَيْتُ مِنْ أَصْحَابِي حِرْصاً سَيِّئاً،وَإِنِّي جَاعِلُ هَذَا الأَمْرِ إِلَى هَؤُلاَءِ النَّفَرِ السِّتَّةِ.ثُمَّ قَالَ:لَوْ أَدْرَكَنِي أَحَدُ رَجُلَيْنِ،ثُمَّ جَعَلْتُ إِلَيْهِ الأَمْرَ،لَوَثِقْتُ بِهِ:سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ،وَأَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ .
يقول هذا،وهو لم يستخلف عثمان ولا عليا،ولا طلحة ولا الزبير ..إنما جعل الشورى في الستة بعده ولم يستخلف أحدا بذاته!
وعلي بن أبي طالب - كرم اللّه وجهه - يرسل عمارا والحسن بن علي - رضي اللّه عنهما - إلى أهل الكوفة يستنفرهم في الأمر الذي كان بينه وبين عائشة - رضي اللّه عنها - عَنِ الْحَكَمِ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ لَمَّا بَعَثَ عَلِىٌّ عَمَّارًا وَالْحَسَنَ إِلَى الْكُوفَةِ لِيَسْتَنْفِرَهُمْ خَطَبَ عَمَّارٌ فَقَالَ إِنِّى لأَعْلَمُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ،وَلَكِنَّ اللَّهَ ابْتَلاَكُمْ لِتَتَّبِعُوهُ أَوْ إِيَّاهَا .
وعَنْ أَبِى وَائِلٍ قَامَ عَمَّارٌ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ،فَذَكَرَ عَائِشَةَ وَذَكَرَ مَسِيرَهَا وَقَالَ إِنَّهَا زَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ -  - فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ،وَلَكِنَّهَا مِمَّا ابْتُلِيتُمْ ..فيسمع له الناس في شأن عائشة أم المؤمنين،وبنت الصديق أبي بكر - رضي اللّه عنهم جميعا.
وعن عَمْرُو بْنِ مَيْمُونٍ حَدَّثَنِى أَبِى :أَنَّ أَخًا لِبِلاَلٍ كَانَ يَنْتَمِى فِى الْعَرَبِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْهُمْ فَخَطَبَ امْرَأَةً مِنَ الْعَرَبِ فَقَالُوا :إِنْ حَضَرَ بِلاَلٌ زَوَّجْنَاكَ قَالَ فَحَضَرَ بِلاَلٌ فَقَالَ :أَنَا بِلاَلُ بْنُ رَبَاحٍ وَهَذَا أَخِى وَهُوَ امْرُؤُ سَوْءٍ سَيِّئُ الْخُلُقِ وَالدِّينِ فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ تُزَوِّجُوهُ فَزَوِّجُوهُ وَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَدَعُوا فَدَعُوا فَقَالُوا :مَنْ تَكُنْ أَخَاهُ نُزَوِّجْهُ فَزَوَّجُوهُ.. .
فلا يدلس عليهم،ولا يخفي من أمر أخيه شيئا،ولا يذكر أنه وسيط وينسى أنه مسؤول أمام اللّه فيما يقول ..فيطمئن القوم إلى هذا الصدق ..ويزوجون أخاه،وحسبهم - وهو العربي ذو النسب - أن يكون بلال المولى الحبشي وسيطه!
واستقرت تلك الحقيقة الكبيرة في المجتمع الإسلامي،وظلت مستقرة بعد ذلك آمادا طويلة على الرغم من عوامل الانتكاس الكثيرة.«وقد كان عبد اللّه بن عباس يذكر ويذكر معه مولاه عكرمة.وكان عبد اللّه ابن عمر يذكر ويذكر معه مولاه نافع.وأنس بن مالك ومعه مولاه ابن سيرين.وأبو هريرة ومعه مولاه عبد الرحمن بن هرمز.وفي البصرة كان الحسن البصري.وفي مكة كان مجاهد بن جبر،وعطاء بن رباح،وطاووس بن كيسان هم الفقهاء.وفي مصر تولى الفتيا يزيد بن أبي حبيب في أيام عمر بن عبد العزيز وهو مولى أسود من دنقلة» ..
وظل ميزان السماء يرجح بأهل التقوى ولو تجردوا من قيم الأرض كلها ..في اعتبار أنفسهم وفي اعتبار الناس من حولهم.ولم يرفع هذا الميزان من الأرض إلا قريبا جدا بعد أن طغت الجاهلية طغيانا شاملا في أنحاء الأرض جميعا.وأصبح الرجل يقوم برصيده من الدولارات في أمريكا زعيمة الدول الغربية.وأصبح الإنسان كله لا يساوي الآلة في المذهب المادي المسيطر في روسيا زعيمة الدول الشرقية.أما أرض المسلمين فقد سادت فيها الجاهلية الأولى،التي جاء الإسلام ليرفعها من وهدتها وانطلقت فيها نعرات كان الإسلام قد قضى عليها.
وحطمت ذلك الميزان الإلهي وارتدت إلى قيم جاهلية زهيدة لا تمت بصلة إلى الإيمان والتقوى ..
ولم يعد هنالك إلا أمل يناط بالدعوة الإسلامية أن تنقذ البشرية كلها مرة أخرى من الجاهلية وأن يتحقق على يديها ميلاد جديد للإنسان كالميلاد الذي شهدته أول مرة،والذي جاء ذلك الحادث الذي حكاه مطلع هذه السورة ليعلنه في تلك الآيات القليلة الحاسمة العظيمة ..



وجوب المفاصلة بين المسلم والكافر

قال تعالى:{ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) }سورة الكافرون
لقد كانت هذه المفاصلة ضرورية لإيضاح معالم الاختلاف الجوهري الكامل،الذي يستحيل معه اللقاء على شيء في منتصف الطريق.الاختلاف في جوهر الاعتقاد،وأصل التصور،وحقيقة المنهج،وطبيعة الطريق.
إن التوحيد منهج،والشرك منهج آخر ..ولا يلتقيان ..التوحيد منهج يتجه بالإنسان - مع الوجود كله - إلى اللّه وحده لا شريك له.ويحدد الجهة التي يتلقى منها الإنسان،عقيدته وشريعته،وقيمه وموازينه،وآدابه وأخلاقه،وتصوراته كلها عن الحياة وعن الوجود.هذه الجهة التي يتلقى المؤمن عنها هي اللّه،اللّه وحده بلا شريك.ومن ثم تقوم الحياة كلها على هذا الأساس.غير متلبسة بالشرك في أية صورة من صوره الظاهرة والخفية ..وهي تسير ..
وهذه المفاصلة بهذا الوضوح ضرورية للداعية.وضرورية للمدعوين ..
إن تصورات الجاهلية تتلبس بتصورات الإيمان،وبخاصة في الجماعات التي عرفت العقيدة من قبل ثم انحرفت عنها.وهذه الجماعات هي أعصى الجماعات على الإيمان في صورته المجردة من الغبش والالتواء والانحراف.أعصى من الجماعات التي لا تعرف العقيدة أصلا.ذلك أنها تظن بنفسها الهدى في الوقت الذي تتعقد انحرافاتها وتتلوى! واختلاط عقائدها وأعمالها وخلط الصالح بالفاسد فيها،قد يغري الداعية نفسه بالأمل في اجتذابها إذا أقر الجانب الصالح وحاول تعديل الجانب الفاسد ..وهذا الإغراء في منتهى الخطورة! إن الجاهلية جاهلية،والإسلام إسلام.والفارق بينهما بعيد.والسبيل هو الخروج عن الجاهلية بجملتها إلى الإسلام بجملته.هو الانسلاخ من الجاهلية بكل ما فيها والهجرة إلى الإسلام بكل ما فيه.
وأول خطوة في الطريق هي تميز الداعية وشعوره بالانعزال التام عن الجاهلية :تصورا ومنهجا وعملا.الانعزال الذي لا يسمح بالالتقاء في منتصف الطريق.والانفصال الذي يستحيل معه التعاون إلا إذا انتقل أهل الجاهلية من جاهليتهم بكليتهم إلى الإسلام.
لا ترقيع.ولا أنصاف حلول.ولا التقاء في منتصف الطريق ..مهما تزيت الجاهلية بزي الإسلام،أو ادعت هذا العنوان! وتميز هذه الصورة في شعور الداعية هو حجر الأساس.شعوره بأنه شيء آخر غير هؤلاء.لهم دينهم وله دينه،لهم طريقهم وله طريقه.لا يملك أن يسايرهم خطوة واحدة في طريقهم.ووظيفته أن يسيرهم في طريقه هو،بلا مداهنة ولا نزول عن قليل من دينه أو كثير! وإلا فهي البراءة الكاملة،والمفاصلة التامة،والحسم الصريح ..«لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» ..
وما أحوج الداعين إلى الإسلام اليوم إلى هذه البراءة وهذه المفاصلة وهذا الحسم ..ما أحوجهم إلى الشعور بأنهم ينشئون الإسلام من جديد في بيئة جاهلية منحرفة،وفي أناس سبق لهم أن عرفوا العقيدة،ثم طال عليهم الأمد «فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» ..وأنه ليس هناك أنصاف حلول،ولا التقاء في منتصف الطريق،ولا إصلاح عيوب،ولا ترقيع مناهج ..إنما هي الدعوة إلى الإسلام كالدعوة إليه أول ما كان،الدعوة بين الجاهلية.والتميز الكامل عن الجاهلية ..«لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» ..وهذا هو ديني :التوحيد الخالص الذي يتلقى تصوراته وقيمه،وعقيدته وشريعته ..كلها من اللّه ..دون شريك ..كلها ..في كل نواحي الحياة والسلوك.
وبغير هذه المفاصلة.سيبقى الغبش وتبقى المداهنة ويبقى اللبس ويبقى الترقيع ..
والدعوة إلى الإسلام لا تقوم على هذه الأسس المدخولة الواهنة الضعيفة.إنها لا تقوم إلا على الحسم والصراحة والشجاعة والوضوح ..وهذا هو طريق الدعوة الأول :«لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» .



موقف المشركين من الدعوة والداعية

قال تعالى : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ } [فصلت: 5]
قالوا هذا إمعانا في العناد،وتيئيسا للرسول - - ليكف عن دعوتهم،لما كانوا يجدونه في قلوبهم من وقع كلماته،على حين يريدون عامدين ألا يكونوا مؤمنين! قالوا:قلوبنا في أغطية فلا تصل إليها كلماتك.وفي أذاننا صمم فلا تسمع دعوتك.ومن بيننا وبينك حجاب،فلا اتصال بيننا وبينك.فدعنا واعمل لنفسك فإننا عاملون لأنفسنا.أو أنهم قالوا غير مبادلين:نحن لا نبالي قولك وفعلك،وإنذارك ووعيدك.فإذا شئت فامض في طريقك فإنا ماضون في طريقنا.لا نسمع لك وافعل ما أنت فاعل.وهات وعيدك الذي تهددنا به فإننا غير مبالين.
هذا نموذج مما كان يلقاه صاحب الدعوة الأول - - ثم يمضي في طريقه يدعو ويدعو،لا يكف عن الدعوة،ولا ييأس من التيئيس،ولا يستبطئ وعد اللّه له ولا وعيده للمكذبين.كان يمضي مأمورا أن يعلن لهم أن تحقق وعيد اللّه ليس بيده فما هو إلا بشر يتلقى الوحي،فيبلغ به،ويدعو الناس إلى اللّه الواحد.وإلى الاستقامة على الطريق،وينذر المشركين كما أمر أن يفعل.والأمر بعد ذلك للّه لا يملك منه شيئا،فهو ليس إلا بشرا مأمورا:«قُلْ:إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ،يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ،وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ» ..
يا لعظمة الصبر والاحتمال والإيمان والتسليم! إنه لا يدرك ما في الصبر على هذه الحال،والتبرؤ من كل حول وقوة في مثل هذا الموقف،واحتمال الإعراض والتكذيب في تبجح واستهتار،دون استعجال الآية التي تردع المعرضين المكذبين المستهترين ..إنه لا يدرك ما في الصبر على هذا الحال من مشقة،ومن عظمة في احتمال هذه المشقة،إلا من يكابد طرفا من هذا الموقف في واقع الحياة.ثم يمضي في الطريق! ومن أجل هذا الموقف وأمثاله كان التوجيه إلى الصبر كثير الورود للأنبياء والرسل.فطريق الدعوة هو طريق الصبر.الصبر الطويل.وأول ما يستوجب الصبر تلك الرغبة الملحة في انتظار الدعوة،ثم إبطاء النصر.بل إبطاء أماراته.ثم ضرورة التسليم لهذا والرضى به والقبول!
إن أقصى ما كان الرسول - - يؤمر به في مقابلة التبجح والاستهتار أن يقول :
«وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ» ..وتخصيص الزكاة في هذا الموضع لا بد كانت له مناسبة حاضرة،لم نقف عليها،فهذه الآية مكية.والزكاة لم تفرض إلا في السنة الثانية من الهجرة في المدينة.وإن كان أصل الزكاة كان معروفا في مكة.والذي جد في المدينة هو بيان أنصبتها في المال،وتحصيلها كفريضة معينة.أما في مكة فقد كانت أمرا عاما يتطوع به المتطوعون،غير محدود،وأداؤه موكول إلى الضمير ..
أما الكفر بالآخرة فهو عين الكفر الذي يستحق الويل والثبور.وقد ذكر بعضهم أن المقصود بالزكاة هنا الإيمان والطهارة من الشرك.وهو محتمل كذلك في مثل هذه الظروف.



حقوق الإنسان بين الإسلام والجاهلية

قال تعالى :{ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)} [الأنعام: 51-55]
إنها عزة هذه العقيدة،واستعلاؤها على قيم الأرض الزائفة،وتخلصها من الاعتبارات البشرية الصغيرة.
لقد أمر رسول اللّه - - أن يقدمها للناس دون زخرف ولا طلاء ودون إطماع في شيء من قيم الأرض ولا إغراء ..كذلك أمر أن يوجه عنايته إلى من يرجى منهم الانتفاع بالدعوة،وأن يؤوي إليه الذين يتلقونها مخلصين ويتجهون بقلوبهم إلى اللّه وحده يريدون وجهه وألا يقيم وزنا بعد ذلك لشيء من قيم المجتمع الجاهلي الزائفة ولا لشيء من اعتبارات البشر الصغيرة:«وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ،لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» ..أنذر به هؤلاء الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم،حالة أن ليس من دونه ولي ينصرهم ولا شفيع يخلصهم.
ذلك أنه ما من شفيع يشفع عند اللّه إلا بإذنه،وهو لا يشفع يومئذ - بعد الإذن - إلا لمن ارتضى اللّه أن يشفع عند اللّه فيهم ..فهؤلاء الذين تستشعر قلوبهم خوف ذلك اليوم الذي ليس فيه - من دون اللّه - ولي ولا شفيع،أحق بالإنذار،وأسمع له،وأكثر انتفاعا به ..لعلهم أن يتوقوا في حياتهم الدنيا ما يعرضهم لعذاب اللّه في الآخرة.فالإنذار بيان كاشف كما أنه مؤثر موح.بيان يكشف لهم ما يتقونه ويحذرونه،ومؤثر يدفع قلوبهم للتوقي والحذر فلا يقعون فيما نهوا عنة بعد ما تبين لهم:«وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» ..لا تطرد هؤلاء الذين أخلصوا نفوسهم للّه فاتجهوا لعبادته ودعائه في الصباح والمساء يريدون وجهه سبحانه! ولا يبتغون إلا وجهه ورضاه ..وهي صورة للتجرد،والحب،والأدب ..فإن الواحد منهم لا يتوجه إلا إلى اللّه وحده بالعبادة والدعاء.وهو لا يبغي وجه اللّه،إلا إذا تجرد.وهو لا يبغي وجه اللّه وحده حتى يكون قلبه قد أحب.وهو لا يفرد اللّه - سبحانه - بالدعاء والعبادة ابتغاء وجهه إلا ويكون قد تعلم الأدب،وصار ربانيا يعيش للّه وباللّه ..
ولقد كان أصل القصة أن جماعة من «أشراف» العرب،أنفوا أن يستجيبوا إلى دعوة الإسلام لأن محمدا - - يؤوي إليه الفقراء الضعاف،من أمثال صهيب وبلال وعمار وخباب وسلمان وابن مسعود ..ومن إليهم ..وعليهم جباب تفوح منها رائحة العرق لفقرهم ومكانتهم الاجتماعية لا تؤهلهم لأن يجلس معهم سادات قريش في مجلس واحد! فطلب هؤلاء الكبراء إلى رسول اللّه - - أن يطردهم عنه ..فأبى ..فاقترحوا أن يخصص لهم مجلسا ويخصص للأشراف مجلسا آخر،لا يكون فيه هؤلاء الفقراء الضعاف،كي يظل للسادة امتيازهم واختصاصهم ومهابتهم في المجتمع الجاهلي! فهمّ - - رغبة في إسلامهم أن يستجيب لهم في هذه.فجاءه أمر ربه :
«وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» ..
روى مسلم عَنْ سَعْدٍ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ -- سِتَّةَ نَفَرٍ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِىِّ -- اطْرُدْ هَؤُلاَءِ لاَ يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا.قَالَ وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ وَبِلاَلٌ وَرَجُلاَنِ لَسْتُ أُسَمِّيهِمَا فَوَقَعَ فِى نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ -- مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ فَحَدَّثَ نَفْسَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) ..
ولقد تقوّل أولئك الكبراء على هؤلاء الضعاف،الذين يخصهم رسول اللّه - - بمجلسه وبعنايته وطعنوا فيهم وعابوا ما هم فيه من فقر وضعف وما يسببه وجودهم في مجلس رسول اللّه - - من نفور السادة وعدم إقبالهم على الإسلام ..فقضى اللّه سبحانه في هذه الدعوى بقضائه الفصل ورد دعواهم من أساسها ودحضها دحضا:« ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شيء،وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شيء،فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ» ..فإن حسابهم على أنفسهم،وحسابك على نفسك.وكونهم فقراء مقدر عليهم في الرزق هذا حسابهم عند اللّه،لا شأن لك به.كذلك غناك وفقرك هو حسابك عند اللّه لا شأن لهم به.ولا دخل لهذه القيم في قضية الإيمان والمنزلة فيه.فإن أنت طردتهم من مجلسك بحساب الفقر والغنى كنت لا تزن بميزان اللّه،ولا تقوّم بقيمة ..
فكنت من الظالمين ..وحاشا لرسول اللّه - - أن يكون من الظالمين! وبقي فقراء الجيوب أغنياء القلوب في مجلس رسول اللّه - - وبقي ضعاف الجاه الأقوياء باللّه في مكانهم الذي يؤهلهم له إيمانهم والذي يستحقونه بدعائهم للّه لا يبتغون إلا وجهه.واستقرت موازين الإسلام وقيمه على المنهج الذي قرره اللّه ..عندئذ نفر المستكبرون المستنكفون يقولون:كيف يمكن أن يختص اللّه من بيننا بالخير هؤلاء الضعاف الفقراء؟
إنه لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقونا إليه ولهدانا اللّه به قبل أن يهديهم! فليس من المعقول أن يكون هؤلاء الضعاف الفقراء هم الذين يمنُّ اللّه عليهم من بيننا ويتركنا ونحن أصحاب المقام والجاه! وكانت هذه هي الفتنة التي قدرها اللّه لهؤلاء المتعالين بالمال والنسب والذين لم يدركوا طبيعة هذا الدين وطبيعة الدنيا الجديدة التي يطلع بها على البشرية،مشرقة الآفاق،مصعدة بهذه البشرية إلى تلك القمة السامقة التي كانت يومذاك غريبة على العرب وعلى الدنيا كلها وما تزال غريبة في ما يسمونه الديمقراطيات على اختلاف أشكالها وأسمائها! «وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا:أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا؟» ..
ويرد السياق القرآني على هذا الاستفهام الاستنكاري الذي يطلقه الكبراء:«أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ»؟ هذا الرد الحافل بالإيحاءات والإيماءات :
إذ يقرر ابتداء أن الهدى جزاء يجزي به اللّه من يعلم من أمرهم أنهم إذا هدوا سيشكرون هذه النعمة،التي لا كفاء لها من شكر العبد،ولكن اللّه يقبل منه جهده ويجزيه عليه هذا الجزاء الهائل الذي لا يعد له جزاء.
وإذ يقرر أن نعمة الإيمان لا تتعلق بقيمة من قيم الأرض الصغيرة التي تسود في الجاهليات البشرية.إنما يختص اللّه بها من يعلم أنهم شاكرون عليها.لا يهم أن يكونوا من الموالي والضعاف والفقراء.فميزان اللّه لا مكان فيه لقيم الأرض الصغيرة التي تتعاظم الناس في الجاهليات! وإذ يقرر أن اعتراض المعترضين على فضل اللّه إنما ينشأ من الجهالة بحقائق الأشياء.وأن توزيع هذا الفضل على العباد قائم على علم اللّه الكامل بمن يستحقه من هؤلاء العباد.وما اعتراض المعترضين إلا جهل وسوء أدب في حق اللّه ..
ويمضي السياق يأمر رسول اللّه - - وهو رسول اللّه أن يبدأ أولئك الذين أسبغ عليهم فضل السبق بالإسلام والذين يسخر منهم أولئك الكبراء الأشراف! ..أن يبدأهم بالسلام ..وأن يبشرهم بما كتبه اللّه على نفسه من الرحمة متمثلا في مغفرته لمن عمل منهم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح :«وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ:سَلامٌ عَلَيْكُمْ،كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ،ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ،فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
وهو التكريم - بعد نعمة الإيمان واليسر في الحساب،والرحمة في الجزاء،حتى ليجعل اللّه - سبحانه - الرحمة كتابا على نفسه للذين آمنوا بآياته ويأمر رسوله - - أن يبلغهم ما كتبه ربهم على نفسه.وحتى لتبلغ الرحمة أن يشمل العفو والمغفرة الذنب كله،متى تابوا من بعده وأصلحوا - إذ يفسر بعضهم الجهالة بأنها ملازمة لارتكاب الذنب فما يذنب الإنسان إلا من جهالة وعلى ذلك يكون النص شاملا لكل سوء يعمله صاحبه متى تاب من بعده وأصلح.ويؤيد هذا الفهم النصوص الأخرى التي تجعل التوبة من الذنب - أيا كان - والإصلاح بعده،مستوجبة للمغفرة بما كتب اللّه على نفسه من الرحمة ...
ونعود - قبل الانتهاء من استعراض هذه الفقرة من السورة - إلى بعض الآثار التي وردت عن ملابسات نزول هذه الآيات وعن دلالة هذه الآثار مع النصوص القرآنية على حقيقة النقلة الهائلة التي كان هذا الدين ينقل إليها البشرية يومذاك والتي ما تزال البشرية حتى اليوم دون القمة التي بلغتها يومها ثم تراجعت عنها جدا ..
روى أبو جعفر الطبري عن ابن مسعود قال:مرّ الملأ من قريش بالنبيّ ،وعنده صهيب وعمار وبلال وخبّاب،ونحوهم من ضعفاء المسلمين،فقالوا:يا محمد،أرضيت بهؤلاء من قومك؟ هؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نكون تبعًا لهؤلاء؟ اطردهم عنك! فلعلك إن طردتهم أن نتّبعك! فنزلت هذه الآية :"ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه" ="وكذلك فتنا بعضهم ببعض"،إلى آخر الآية.
وعن خبّاب،في قول الله تعالى ذكره:"ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه" إلى قوله:"فتكون من الظالمين"،قال:جاء الأقرع بن حابس التميمي،وعيينة بن حصن الفزاريّ،فوجدوا النبيّ قاعدًا مع بلال وصهيب وعمار وخباب،في أناس من الضعفاء من المؤمنين.فلما رأوهم حوله حَقَروهم،فأتوه فقالوا:إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسًا تعرف لنا العرب به فضلَنا،فإنّ وفود العرب تأتيك فنستحيي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبُد،فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا،فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت! قال:نعم! قالوا:فاكتب لنا عليك بذلك كتابًا.قال:فدعا بالصحيفة،ودعا عليًّا ليكتب.قال:ونحن قعود في ناحية،إذ نزل جبريل بهذه الآية:"ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يردون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين"،ثم قال:"وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين"،ثم قال:"وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة"،فألقى رسول الله الصحيفةَ من يده،ثم دعانا فأتيناه وهو يقول:"سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة" ! فكنا نقعد معه،فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا،فأنزل الله تعالى:وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا،[سورة الكهف:28].قال:فكان رسول الله يقعد معنا بعد،فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها،قمنا وتركناه حتى يقوم.
وفي رواية عن خباب بن الأرت إلا أنه قال في حديثه:فلما رأوهم حوله نفّروهم،فأتوه فخلَوا به.وقال أيضًا:"فتكون من الظالمين"،ثم ذكر الأقرع وصاحبه فقال:"وكذلك فتنا بعضهم ببعض" الآية.وقال أيضًا:فدعانا فأتيناه وهو يقول:"سلام عليكم"،فدنونا منه يومئذ حتى وَضعنا ركبنا على ركبتيه = وسائر الحديث نحوه.
وعن قتادة والكلبي:أنّ ناسًا من كفار قريش قالوا للنبي :إن سرَّك أن نتبعك،فاطرد عنا فلانًا وفلانًا،ناسًا من ضعفاء المسلمين! فقال الله تعالى ذكره:"ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه".
وعن قتادة قوله:"ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ" إلى قوله:"وكذلك فتنا بعضهم ببعض" الآية،قال:وقد قال قائلون من الناس لرسول الله :يا محمد،إن سرك أن نتبعك فاطرد عنا فلانًا وفلانًا = لأناس كانوا دونهم في الدنيا،ازدراهم المشركون،فأنزل الله تعالى ذكره هذه الآية إلى آخرها.
وعن مجاهد:"ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي"،بلال وابن أم عبد،كانا يجالسان محمدًا ،فقالت قريش محقِّرتهما:لولاهما وأمثالهما لجالسناه! فنُهي عن طردهم،حتى قوله :"أليس الله بأعلم بالشاكرين"،قال:"قل سلام عليكم"،فيما بين ذلك،في هذا.
وقال سعد:نزلت هذه الآية في ستة من أصحاب النبي ،منهم ابن مسعود،قال:كنا نسبق إلى النبي وندنو منه ونسمع منه،فقالت قريش:يدني هؤلاء دوننا! فنزلت:"ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي".
وعن عكرمة في قوله:"وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم" الآية،قال:جاء عتبة بن ربيعة،وشيبة بن ربيعة،ومطعم بن عديّ،والحارث بن نوفل،وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل،في أشراف من بني عبد مناف من الكفار،إلى أبي طالب فقالوا:يا أبا طالب،لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وحلفاءَنا،فإنما هم عبيدنا وعُسَفاؤنا،كان أعظم في صدورنا،وأطوع له عندنا،وأدنى لاتّباعنا إياه،وتصديقنا له! قال:فأتى أبو طالب النبي فحدثه بالذي كلموه به،فقال عمر بن الخطاب:لو فعلتَ ذلك،حتى تنظر ما الذي يريدون،وإلام يصيرون من قولهم؟ فأنزل الله تعالى ذكره هذه الآية:"وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون ولا تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه" إلى قوله:"أليس الله بأعلم بالشاكرين"،قال:وكانوا:بلال،وعمارُ بن ياسر،وسالم مولى أبي حذيفة،وصبيح مولى أسيد = ومن الحلفاء:ابن مسعود،والمقداد بن عمرو،ومسعود بن القاريّ،وواقد بن عبد الله الحنظلي،وعمرو بن عبد عمرو ذو الشمالين،ومرثد بن أبي مرثد = وأبو مرثد،من غنيّ،حليفُ حمزة بن عبد المطلب = وأشباههم من الحلفاء.ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء:"وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا" الآية.فلما نزلت،أقبل عمر بن الخطاب فاعتذر من مَقالته،فأنزل الله تعالى ذكره:"وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم"،الآية.
وقال ابن زيد،قال رجل للنبي :إني أستحيي من الله أن يرَاني مع سلمان وبلال وذَوِيهم،فاطردهم عنك،وجالس فلانًا وفلانًا! قال فنزل القرآن:" ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه" فقرأ،حتى بلغ:"فتكون من الظالمين"،ما بينك وبين أن تكون من الظالمين إلا أن تطردهم .ثم قال:"وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين".ثم قال:وهؤلاء الذين أمروك أن تطردهم،فأبلغهم منّي السلام،وبشرهم وأخبرهم أني قد غفرت لهم! وقرأ:"وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة"،فقرأ حتى بلغ:"وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين"،قال:لتعرفها.
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ،قَالَ:أَبْطَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ذَاتَ لَيْلَةٍ،فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ :" مَا بَطَّأَ بِكِ ؟ " قَالَتْ:سَمِعْتُ رَجُلًا يَقْرَأُ،مَا سَمِعْتُ رَجُلًا أَحْسَنَ قِرَاءَةً مِنْهُ،فَانْطَلَقَ النَّبِيُّ يَسْمَعُ صَوْتَهُ،فَإِذَا هُوَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ،فَقَالَ:" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مِثْلَكَ "
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،قَالَ:قَالَ أَبُو سَعِيدٍ:كُنْتُ فِي عِصَابَةٍ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُهَاجِرِينَ،قَالَ:وَإِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَسْتَتِرُ بِبَعْضٍ مِنَ الْعُرْيِ،قَالَ:وَقَارِئٌ لَنَا يَقْرَأُ عَلَيْنَا،فَنَحْنُ نَسْتَمِعُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ،فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَامَ عَلَيْنَا،فَلَمَّا قَامَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ سَكَتَ الْقَارِئُ،قَالَ:فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ :مَا كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ ؟ قَالَ:فَقُلْنَا:يَا رَسُولَ اللَّهِ،كَانَ قَارِئٌ يَقْرَأُ وَكُنَّا نَسْتَمِعُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ،قَالَ:فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ :الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مَنْ أُمِرْتُ أَنْ أَصْبِرَ مَعَهُمْ،قَالَ:ثُمَّ جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ وَسْطَنَا لِيَعْدِلَ نَفْسَهُ فِينَا،قَالَ:ثُمَّ أَشَارَ بِيَدِهِ اسْتَدِيرُوا،فَاسْتَدَارَتِ الْحَلْقَةُ وَبَرَزَتْ وُجُوهُهُمْ لَهُ،قَالَ:فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَرَفَ مِنْهُمْ أَحَدًا غَيْرِي،فَقَالَ:أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ صَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ بِالنُّورِ الدَّائِمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِنِصْفِ يَوْمٍ،وَذَاكَ خَمْسُمِئَةِ سَنَةٍ "
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ،قَالَ:" نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ ،وَهُوَ فِي بَعْضِ أَبْيَاتِهِ:{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } [الكهف:28]،خَرَجَ يَلْتَمِسَهُمْ،فَوَجَدَ قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللهَ مِنْهُمْ ثَائِرُ الرَّأْسِ،وَجَافُّ الْجِلْدِ،وَذُو الثَّوْبِ الْوَاحِدِ،فَلَمَّا رَآهُمْ جَلَسَ مَعَهُمْ،فَقَالَ:" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مَنْ أَمَرَنِي أَنْ أَصْبِرَ نَفْسِي مَعَهُمْ "
وفي صحيح مسلم عَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَتَى عَلَى سَلْمَانَ وَصُهَيْبٍ وَبِلاَلٍ فِى نَفَرٍ فَقَالُوا وَاللَّهِ مَا أَخَذَتْ سُيُوفُ اللَّهِ مِنْ عُنُقِ عَدُوِّ اللَّهِ مَأْخَذَهَا.قَالَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَتَقُولُونَ هَذَا لِشَيْخِ قُرَيْشٍ وَسَيِّدِهِمْ فَأَتَى النَّبِىَّ -- فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ « يَا أَبَا بَكْرٍ لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ ».فَأَتَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ يَا إِخْوَتَاهْ أَغْضَبْتُكُمْ قَالُوا لاَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أُخَىَّ.
نحن في حاجة إلى وقفة طويلة أمام هذه النصوص ..والبشرية بجملتها في حاجة إلى هذه الوقفة كذلك.
إن هذه النصوص لا تمثل مجرد مبادئ وقيم ونظريات في «حقوق الإنسان!» ..إنها أكبر من ذلك بكثير
إنها تمثل شيئا هائلا تحقق في حياة البشرية فعلا ..تمثل نقلة واسعة نقلها هذا الدين للبشرية بجملتها ..تمثل خطا وضيئا على الأفق بلغته هذه البشرية ذات يوم في حياتها الحقيقية ..ومهما يكن من تراجع البشرية عن هذا الخط الوضيء الذي صعدت إليه في خطو ثابت على حداء هذا الدين،فإن هذا لا يقلل من عظمة تلك النقلة ومن ضخامة هذا الشيء الذي تحقق يوما ومن أهمية هذا الخط الذي ارتسم بالفعل في حياة البشر الواقعية ..إن قيمة ارتسام هذا الخط وبلوغه ذات يوم.أن تحاول البشرية مرة ومرة ومرة الارتفاع إليه ما دام أنها قد بلغته فهو في طوقها إذن وفي وسعها ..والخط هناك على الأفق،والبشرية هي البشرية وهذا الدين هو هذا الدين ..فلا يبقى إلا العزم والثقة واليقين ..
وقيمة هذه النصوص أنها ترسم للبشرية اليوم ذلك الخط الصاعد بكل نقطه ومراحله ..من سفح الجاهلية الذي التقط الإسلام منه العرب،إلى القمة السامقة التي بلغ بهم إليها،وأطلعتهم في الأرض يأخذون بيد البشرية من ذلك السفح نفسه إلى تلك القمة التي بلغوها!
فأما ذلك السفح الهابط الذي كان فيه العرب في جاهليتهم - وكانت فيه البشرية كلها - فهو يتمثل واضحا في قولة:«الملأ» من قريش:«يا محمد،رضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء الذين منّ اللّه عليهم من بيننا؟
أنحن نكون تبعا لهؤلاء؟ اطردهم عنك! فلعلك إن طردتهم أن نتبعك!» ..أو في احتقار الأقرع بن حابس التميمي،وعيينة بن حصن الفزاري،للسابقين من أصحاب رسول اللّه - - بلال،وصهيب،وعمار،وخباب،وأمثالهم من الضعفاء وقولهما للنبي - -:إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا فإن وفود العرب تأتيك،فنستحيي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد!» ....
هنا تتبدى الجاهلية بوجهها الكالح! وقيمها الهزيلة،واعتبار اتها الصغيرة ..عصبية النسب والجنس واعتبارات المال والطبقة ..وما إلى ذلك من اعتبار ات.هؤلاء بعضهم ليسوا من العرب! وبعضهم ليسوا من طبقة الأشراف! وبعضهم ليسوا من ذوي الثراء! ..ذات القيم التي تروج في كل جاهلية! والتي لا ترتفع عليها جاهليات الأرض اليوم في نعراتها القومية والجنسية والطبقية! هذا هو سفح الجاهلية ..وعلى القمة السامقة الإسلام! الذي لا يقيم وزنا لهذه القيم الهزيلة ولهذه الاعتبارات الصغيرة،ولهذه النعرات السخيفة! ..الإسلام الذي نزل من السماء ولم ينبت من الأرض.فالأرض كانت هي هذا السفح ..هذا السفح الذي لا يمكن أن ينبت هذه النبتة الغريبة الجديدة الكريمة ..الإسلام الذي يأتمر به - أول من يأتمر - محمد - - محمد رسول اللّه الذي يأتيه الوحي من السماء والذي هو من قبل في الذؤابة من بني هاشم في الذروة من قريش ..والذي يأتمر به أبو بكر صاحب رسول اللّه في شأن «هؤلاء الأعبد» ..نعم هؤلاء الأعبد الذين خلعوا عبودية كل أحد وصاروا أعبدا للّه وحده فكان من أمرهم ما كان!
وكما أن سفح الجاهلية الهابط يرتسم في كلمات الملأ من قريش،وفي مشاعر الأقرع وعيينة ..فإن قمة الإسلام السامقة ترتسم في أمر اللّه العلي الكبير،لرسوله - -:« وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ.ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شيء،وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ.وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا:أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا؟ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ؟ وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ:سَلامٌ عَلَيْكُمْ،كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ:أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ،ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ،فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
ويتمثل في سلوك رسول اللّه - - مع «هؤلاء الأعبد» ..الذين أمره ربهم أن يبدأهم بالسلام وأن يصبر معهم فلا يقوم حتى يقوموا وهو محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم - وهو بعد ذلك - رسول اللّه وخير خلق اللّه،وأعظم من شرفت بهم الحياة!
ثم يتمثل في نظرة «هؤلاء الأعبد» لمكانهم عند اللّه ونظرتهم لسيوفهم واعتبار ها «سيوف اللّه» ونظرتهم لأبي سفيان «شيخ قريش وسيدهم» بعد أن أخره في الصف المسلم كونه من الطلقاء الذين أسلموا عام الفتح وذهبوا طلقاء عفو رسول اللّه - - وقدّمهم هم في الصف كونهم من السابقين إلى الإسلام،وهو في شدة الابتلاء ..فلما أن عاتبهم أبو بكر - رضي اللّه عنه - في أمر أبي سفيان،حذره صاحبه رسول اللّه - - أن يكون قد أغضب «هؤلاء الأعبد»! فيكون قد أغضب اللّه - يا اللّه! فما يملك أي تعليق أن يبلغ هذا المدى وما نملك إلا أن نتملاه! - ويذهب أبو بكر - رضي اللّه عنه - يترضى «الأعبد» ليرضى اللّه:«يا إخوتاه.أغضبتكم»؟ فيقولون:«لا يا أخي.يغفر اللّه لك»! أي شيء هائل هذا الذي تحقق في حياة البشرية؟ أية نقلة واسعة هذه التي قد تمت في واقع الناس؟ أي تبدل في القيم والأوضاع،وفي المشاعر والتصورات،في آن؟ والأرض هي الأرض والبيئة هي البيئة،والناس هم الناس،والاقتصاد هو الاقتصاد ..وكل شيء على ما كان،إلا أن وحيا نزل من السماء،على رجل من البشر،فيه من اللّه سلطان ..يخاطب فطرة البشر من وراء الركام،ويحدو للهابطين هنالك عند السفح،فيستجيشهم الحداء - على طول الطريق - إلى القمة السامقة ..فوق ..فوق ..هنالك عند الإسلام! ثم تتراجع البشرية عن القمة السامقة وتنحدر مرة أخرى إلى السفح.وتقوم - مرة أخرى - في نيويورك،وواشنطن،وشيكاغو ..وفي جوها نسبرج ..وفي غيرها من أرض «الحضارة!» تلك العصبيات النتنة.عصبيات الجنس واللون،وتقوم هنا وهناك عصبيات «وطنية» و«قومية» و«طبقية» لا تقل نتنا عن تلك العصبيات ..
ويبقى الإسلام هناك على القمة ..حيث ارتسم الخط الوضيء الذي بلغته البشرية ..يبقى الإسلام هناك - رحمة من اللّه بالبشرية - لعلها أن ترفع أقدامها من الوحل،وترفع عينيها عن الحمأة ..وتتطلع مرة أخرى إلى الخط الوضيء وتسمع مرة أخرى حداء هذا الدين وتعرج مرة أخرى إلى القمة السامقة على حداء الإسلام ..
ونحن لا نملك - في حدود منهجنا في هذه الظلال - أن نستطرد إلى أبعد من هذه الإشارة ..لا نملك أن نقف هنا تلك «الوقفة الطويلة» التي ندعو البشرية كلها أن تقفها أمام هذه النصوص ودلالتها.لتحاول أن تستشرف المدى الهائل الذي يرتسم من خلالها في تاريخ البشرية وهي تصعد على حداء الإسلام من سفح الجاهلية الهابط،إلى تلك القمة السامقة البعيدة ..ثم تهبط مرة أخرى على عواء «الحضارة المادية» الخاوية من الروح والعقيدة! ..
ولتحاول كذلك أن تدرك إلى أين يملك الإسلام اليوم أن يقود خطاها مرة أخرى بعد أن فشلت جميع التجارب،وجميع المذاهب،وجميع الأوضاع،وجميع الأنظمة،وجميع الأفكار وجميع التصورات،التي ابتدعها البشر لأنفسهم بعيدا عن منهج اللّه وهداه ..فشلت في أن ترتفع بالبشرية مرة أخرى إلى تلك القمة وأن تضمن للإنسان حقوقه الكريمة في هذه الصورة الوضيئة وأن تفيض على القلوب الطمأنينة - مع هذه النقلة الهائلة - وهي تنقل البشرية إليها بلا مذابح وبلا اضطهادات وبلا إجراءات استثنائية تقضي على الحريات الأساسية وبلا رعب،وبلا فزع،وبلا تعذيب،وبلا جوع،وبلا فقر،وبلا عرض واحد من أعراض النقلات التي يحاولها البشر في ظل الأنظمة البائسة التي يضعها البشر ويتعبد فيها بعضهم بعضا من دون اللّه ..فحسبنا هذا القدر هنا ..وحسبنا الإيحاءات القوية العميقة التي تفيض بها النصوص ذاتها،وتسكبها في القلوب المستنيرة .
« وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ،وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ» ..ختام هذه الفقرة التي قدمت طبيعة الرسالة وطبيعة الرسول في هذه النصاعة الواضحة.كما قدمت هذه العقيدة عارية من كل زخرف وفصلت الاعتبارات والقيم التي جاءت هذه العقيدة لتلغيها من حياة البشرية والاعتبارات والقيم التي جاءت لتقررها ..
«وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ» ..بمثل هذا المنهج،وبمثل هذه الطريقة،وبمثل هذا البيان والتفصيل ..نفصل الآيات،التي لا تدع في هذا الحق ريبة ولا تدع في هذا الأمر غموضا ولا تبقى معها حاجة لطلب الخوارق فالحق واضح،والأمر بين،بمثل ذلك المنهج الذي عرض السياق القرآني منه ذلك النموذج ..
على أن كل ما سبق في السورة من تفصيل لدلائل الهدى وموحيات الإيمان ومن بيان للحقائق وتقرير للوقائع،يعتبر داخلا في مدلول قوله تعالى :«وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ» ..
أما ختام هذه الآية القصيرة :«وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ» ..
فهو شأن عجيب! ..إنه يكشف عن خطة المنهج القرآني في العقيدة والحركة بهذه العقيدة! إن هذا المنهج لا يعنى ببيان الحق وإظهاره حتى تستبين سبيل المؤمنين الصالحين فحسب.إنما يعنى كذلك ببيان الباطل وكشفه حتى تستبين سبيل الضالين المجرمين أيضا ..إن استبانة سبيل المجرمين ضرورية لاستبانة سبيل المؤمنين.وذلك كالخط الفاصل يرسم عند مفرق الطريق! إن هذا المنهج هو المنهج الذي قرره اللّه - سبحانه - ليتعامل مع النفوس البشرية ..ذلك أن اللّه سبحانه يعلم أن إنشاء اليقين الاعتقادي بالحق والخير يقتضي رؤية الجانب المضاد من الباطل والشر والتأكد من أن هذا باطل ممحض وشر خالص وأن ذلك حق ممحض وخير خالص ..كما أن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحاده ويحاربه إنما هو على الباطل ..
وأنه يسلك سبيل المجرمين الذين يذكر اللّه في آية أخرى أنه جعل لكل نبي عدوا منهم «وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ» ..ليستقر في نفس النبي ونفوس المؤمنين،أن الذين يعادونهم إنما هم المجرمون عن ثقة،وفي وضوح،وعن يقين.
إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح.واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات.ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتد غبشا وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم.فهما صفحتان متقابلتان،وطريقان مفترقتان ..ولا بد من وضوح الألوان والخطوط ..
ومن هنا يجب أن تبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين.يجب أن تبدأ من تعريف سبيل المؤمنين وتعريف سبيل المجرمين ووضع العنوان المميز للمؤمنين.والعنوان المميز للمجرمين،في عالم الواقع لا في عالم النظريات.فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم ومن هم المجرمون.بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم،وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم.بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان،ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين ..
وهذا التحديد كان قائما،وهذا الوضوح كان كاملا،يوم كان الإسلام يواجه المشركين في الجزيرة العربية.فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول - - ومن معه.وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل من لم يدخل معهم في هذا الدين ..ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنزل وكان اللّه - سبحانه - يفصل الآيات على ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة - ومنها ذلك النموذج الأخير - لتستبين سبيل المجرمين! وحيثما واجه الإسلام الشرك والوثنية والإلحاد والديانات المنحرفة المتخلفة من الديانات ذات الأصل السماوي بعد ما بدّلتها وأفسدتها التحريفات البشرية ..حيثما واجه الإسلام هذه الطوائف والملل كانت سبيل المؤمنين الصالحين واضحة،وسبيل المشركين الكافرين المجرمين واضحة كذلك ..لا يجدي معها التلبيس! ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا ..إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين،في أوطان كانت في يوم من الأيام دارا للإسلام،يسيطر عليها دين اللّه،وتحكم بشريعته ..ثم إذا هذه الأرض،وإذا هذه الأقوام،تهجر الإسلام حقيقة،وتعلنه اسما.
وإذا هي تتنكر لمقومات الإسلام اعتقادا وواقعا.وإن ظنت أنها تدين بالإسلام اعتقادا! فالإسلام شهادة أن لا إله إلا اللّه ..وشهادة أن لا إله إلا اللّه تتمثل في الاعتقاد بأن اللّه - وحده - هو خالق هذا الكون المتصرف فيه.وأن اللّه - وحده - هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله.وأن اللّه - وحده - هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله ..وأيما فرد لم يشهد أن لا إله إلا اللّه - بهذا المدلول - فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعد.كائنا ما كان اسمه ولقبه ونسبه.وأيما أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلا اللّه - بهذا المدلول - فهي أرض لم تدن بدين اللّه،ولم تدخل في الإسلام بعد ..
وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماء المسلمين وهم من سلالات المسلمين.وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام دارا للإسلام ..ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلا اللّه - بذلك المدلول - ولا الأوطان اليوم تدين للّه بمقتضى هذا المدلول ..
وهذا أشق ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام! أشق ما تعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلا اللّه،ومدلول الإسلام في جانب وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر ..
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين،وطريق المشركين المجرمين واختلاط الشارات والعناوين والتباس الأسماء والصفات والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق! ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة.فيعكفون عليها توسيعا وتمييعا وتلبيسا وتخليطا.حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام! ..تهمة تكفير «المسلمين»!!!
ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم،لا إلى قول اللّه ولا إلى قول رسول اللّه! هذه هي المشقة الكبرى ..وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى اللّه في كل جيل! يجب أن تبدأ الدعوة إلى اللّه باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين ..ويجب ألا تأخذ أصحاب الدعوة إلى اللّه في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة.وألا تأخذهم فيها خشية ولا خوف وألا تقعدهم عنها لومة لائم،ولا صيحة صائح:انظروا! إنهم يكفرون المسلمين! إن الإسلام ليس بهذا التميع الذي يظنه المخدوعون! إن الإسلام بيّن والكفر بيّن ..الإسلام شهادة أن لا إله إلا اللّه - بذلك المدلول - فمن لم يشهدها على هذا النحو ومن لم يقمها في الحياة على هذا النحو،فحكم اللّه ورسوله فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين ..المجرمين ..
«وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ،وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ» ..أجل يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى اللّه هذه العقبة وأن تتم في نفوسهم هذه الاستبانة كي تنطلق طاقاتهم كلها في سبيل اللّه لا تصدها شبهة،ولا يعوّقها غبش،ولا يميعها لبس.فإن طاقاتهم لا تنطلق إلا إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم «المسلمون» وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدونهم ويصدون الناس عن سبيل اللّه هم «المجرمون» ..كذلك فإنهم لن يحتملوا متاعب الطريق إلا إذا استيقنوا أنها قضية كفر وإيمان.وأنهم وقومهم على مفرق الطريق،وأنهم على ملة وقومهم على ملة.وأنهم في دين وقومهم في دين:«وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ» ....وصدق اللّه العظيم ..



لا بد من مفاصلة الكفار وتهديدهم بالمستقبل

قال تعالى : { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } [الأنعام: 66]
والخطاب لرسول اللّه - - يعطيه،ويعطي المؤمنين من ورائه،الثقة التي تملأ القلب بالطمأنينة. الثقة بالحق - ولو كذب به قومه وأصروا على التكذيب - فما هم بالحكم في هذا الأمر،إنما كلمة الفصل فيه للّه سبحانه. وهو يقرر أنه الحق. وأن لا قيمة ولا وزن لتكذيب القوم! ثم يأمر اللّه تعالى نبيه - - أن يبرأ من قومه،وينفض منهم يده،وأن يعلنهم بهذه المفاصلة،ويعلمهم أنه لا يملك لهم شيئا وأنه ليس حارسا عليهم ولا موكلا بهم بعد البلاغ،ولا مكلفا أن يهدي قلوبهم - فليس هذا من شأن الرسول - ومتى أبلغهم ما معه من الحق،فقد انتهى بينه وبينهم الأمر وأنه يخلي بينهم وبين المصير الذي لا بد أن ينتهي إليه أمرهم. فإن لكل نبأ مستقرا ينتهي إليه ويستقر عنده. وعندئذ يعلمون ما سيكون! «لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» ..
وفي هذا الإجمال من التهديد ما يزلزل القلوب ..
إنها الطمأنينة الواثقة بالحق الواثقة بنهاية الباطل مهما تبجح،الواثقة بأخذ اللّه للمكذبين في الأجل المرسوم،الواثقة من أن كل نبأ إلى مستقر وكل حاضر إلى مصير.
وما أحوج أصحاب الدعوة إلى اللّه - في مواجهة التكذيب من قومهم،والجفوة من عشيرتهم،والغربة في أهلهم،والأذى والشدة والتعب واللأواء .. ما أحوجهم إلى هذه الطمأنينة الواثقة التي يسكبها القرآن الكريم في القلوب!
وإننا نقف أمام تلك المواجهة الأخيرة من هود لقومه وأمام تلك المفاصلة التي قذف بها في وجوههم في حسم كامل،وفي تحد سافر،وفي استعلاء بالحق الذي معه،وثقة في ربه الذي يجد حقيقته في نفسه بينة:« قالَ:إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ،وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ،فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ.إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ،ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها،إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ،وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً،إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ» ..
إن أصحاب الدعوة إلى اللّه في كل مكان وفي كل زمان في حاجة إلى أن يقفوا طويلا أمام هذا المشهد الباهر ..رجل واحد،لم يؤمن معه إلا قليل،يواجه أعتى أهل الأرض وأغنى أهل الأرض وأكثر أهل الأرض حضارة مادية في زمانهم،كما جاء عنهم في قول اللّه تعالى فيهم حكاية عما واجههم به أخوهم هود في السورة الأخرى:« كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ.إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ:أَلا تَتَّقُونَ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ،فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ.وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ.أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ؟ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ.وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ.فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ.وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ.أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ.وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ.إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.قالُوا:سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ.إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ.وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ»! ..(الشعراء:123 - 138)
فهؤلاء العتاة الجبارون الذين يبطشون بلا رحمة والذين أبطرتهم النعمة والذين يقيمون المصانع يرجون من ورائها الامتداد والخلود! ..هؤلاء هم الذين واجههم هود - عليه السلام - هذه المواجهة.في شجاعة المؤمن واستعلائه وثقته واطمئنانه وفاصلهم هذه المفاصلة الحاسمة الكاملة - وهم قومه - وتحداهم أن يكيدوه بلا إمهال.وأن يفعلوا ما في وسعهم فلا يباليهم بحال! لقد وقف هود - عليه السلام - هذه الوقفة الباهرة،بعد ما بذل لقومه من النصح ما يملك وبعد أن تودد إليهم وهو يدعوهم غاية التودد ..ثم تبين له عنادهم وإصرارهم على محادة اللّه وعلى الاستهتار بالوعيد والجرأة على اللّه ..
لقد وقف هود - عليه السلام - هذه الوقفة الباهرة لأنه يجد حقيقة ربه في نفسه،فيوقن أن أولئك الجبارين العتاة المتمتعين المتبطرين إنما هم من الدواب! وهو مستيقن أنه ما من دابة إلا وربه آخذ بناصيتها ففيم يحفل إذن هؤلاء الدواب؟! وأن ربه هو الذي استخلفهم في الأرض،وأعطاهم ما أعطاهم من نعمة ومال وقوة وبنين وقدرة على التصنيع والتعدين! للابتلاء لا لمطلق العطاء.وأن ربه يملك أن يذهب بهم ويستخلف غيرهم إذا شاء،ولا يضرونه شيئا،ولا يردون له قضاء ..ففيم إذن يهوله شيء مما هم فيه،وربه هو الذي يعطي ويسلب حين يشاء كيف شاء؟ ..
إن أصحاب الدعوة إلى اللّه لا بد أن يجدوا حقيقة ربهم في نفوسهم على هذا النحو حتى يملكوا أن يقفوا بإيمانهم في استعلاء أمام قوى الجاهلية الطاغية من حولهم ..أمام القوة المادية.وقوة الصناعة.وقوة المال.
وقوة العلم البشري.وقوة الأنظمة والأجهزة والتجارب والخبرات ..وهم مستيقنون أن ربهم آخذ بناصية كل دابة وأن الناس - كل الناس - إن هم إلا دواب من الدواب! وذات يوم لا بد أن يقف أصحاب الدعوة من قومهم موقف المفاصلة الكاملة فإذا القوم الواحد أمتان مختلفتان ..أمة تدين للّه وحده وترفض الدينونة لسواه.وأمة تتخذ من دون اللّه أربابا،وتحاد اللّه! ويوم تتم هذه المفاصلة يتحقق وعد اللّه بالنصر لأوليائه،والتدمير على أعدائه - في صورة من الصور التي قد تخطر وقد لا تخطر على البال - ففي تاريخ الدعوة إلى اللّه على مدار التاريخ! لم يفصل اللّه بين أوليائه وأعدائه إلا بعد أن فاصل أولياؤه أعداءه على أساس العقيدة فاختاروا اللّه وحده ..وكانوا هم حزب اللّه الذين لا يعتمدون على غيره والذين لا يجدون لهم ناصرا سواه.



توجيهات للرسول حول الدعوة والأتباع

قال تعالى : {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)} [الأنعام: 105 - 107]
إن اللّه يصرف آياته على هذا المستوي الذي لا عهد للعرب به لأنه ليس نابعا من بيئتهم - كما أنه ليس نابعا من البيئة البشرية على العموم - فينتهي هذا التصريف إلى نتيجتين متقابلتين في البيئة :
فأما الذين لا يريدون الهدى،ولا يرغبون في العلم،ولا يجاهدون ليبلغوا الحقيقة .. فهؤلاء سيحاولون أن يجدوا تعليلا لهذا المستوي الذي يخاطبهم به محمد - وهو منهم - وسيختلقون ما يعلمون أنه لم يقع. فما كان شيء من حياة محمد خافيا عليهم قبل الرسالة ولا بعدها .. ولكنهم يقولون:درست هذا يا محمد مع أهل الكتاب وتعلمته منهم! وما كان أحد من أهل الكتاب يعلم شيئا على هذا المستوي .. وهذه كتب أهل الكتاب التي كانت بين أيديهم يومذاك ما تزال بين أيدينا. والمسافة شاسعة بين هذا الذي في أيديهم وهذا القرآن الكريم .. إن ما بين أيديهم إن هو إلا روايات لا ضابط لها عن تاريخ الأنبياء والملوك مشوبة بأساطير وخرافات من صنع أشخاص مجهولين - هذا فيما يختص بالعهد القديم - فأما العهد الجديد - وهو الأناجيل - فما يزيد كذلك على أن يكون روايات رواها تلاميذ المسيح - عليه السّلام - بعد عشرات السنين وتداولتها المجامع بالتحريف والتبديل والتعديل على ممر السنين. وحتى المواعظ الخلقية والتوجيهات الروحية لم تسلم من التحريف والإضافة والنسيان .. وهذا هو الذي كان بين أيدي أهل الكتاب حينذاك،وما يزال .. فأين هذا كله من القرآن الكريم؟! ولكن المشركين - في جاهليتهم - كانوا يقولون هذا وأعجب العجب أن جاهليين في هذا العصر من «المستشرقين» و«المتمسلمين»! يقولون هذا القول فيسمى الآن «علما» و«بحثا» و«تحقيقا» لا يبلغه إلا المستشرقون!
فأما الذين «يعلمون» حقا،فإن تصريف الآيات على هذا النحو يؤدي إلى بيان الحق لهم فيعرفونه:«وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» ..
ثم تقع المفاصلة بين قوم مبصرين يعلمون،وقوم عمي لا يعلمون! ويصدر الأمر العلوي للنبي الكريم،وقد صرف اللّه الآيات،فافترق الناس في مواجهتها فريقين .. يصدر الأمر العلوي للنبي - - أن يتبع ما أوحي إليه،وأن يعرض عن المشركين،فلا يحفلهم ولا يحفل ما يقولون من قول متهافت،ولا يشغل باله بتكذيبهم وعنادهم ولجاجهم. فإنما سبيله أن يتبع ما أوحي إليه من ربه فيصوغ حياته كلها على أساسه ويصوغ نفوس أتباعه كذلك. ولا عليه من المشركين فإنما هو يتبع وحي اللّه،الذي لا إله إلا هو،فماذا عليه من العبيد؟! «اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ،وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ» .. ولو شاء اللّه أن يلزمهم الهدى لألزمهم،ولو شاء أن يخلقهم ابتداء لا يعرفون إلا الهدى كالملائكة لخلقهم.ولكنه سبحانه خلق الإنسان بهذا الاستعداد للهدى وللضلال،وتركه يختار طريقه ويلقى جزاء الاختيار - في حدود المشيئة المطلقة التي لا يقع في الكون إلا ما تجري به،ولكنها لا ترغم إنسانا على الهدى أو الضلال - وخلقه على هذا النحو لحكمة يعلمها وليؤدي دوره في هذا الوجود كما قدره اللّه له. باستعداداته هذه وتصرفاته :«وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا» ..
وليس الرسول - - مسؤولا عن عملهم،وهو لم يوكل بقلوبهم فالوكيل عليها هو اللّه:«وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً،وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ» ..
وهذا التوجيه لرسول اللّه - - يحدد المجال الذي يتناوله اهتمام الرسول - - وعمله. كما يحدد هذا المجال لخلفائه وأصحاب الدعوة إلى دينه في كل أرض وفي كل جيل ..
إن صاحب الدعوة لا يجوز أن يعلق قلبه وأمله وعمله بالمعرضين عن الدعوة،المعاندين،الذين لا تتفتح قلوبهم لدلائل الهدى وموحيات الإيمان .. إنما يجب أن يفرغ قلبه،وأن يوجه أمله وعمله للذين سمعوا واستجابوا.
فهؤلاء في حاجة إلى بناء كيانهم كله على القاعدة التي دخلوا الدين عليها .. قاعدة العقيدة .. وفي حاجة لإنشاء تصور لهم كامل عميق عن الوجود والحياة على أساس هذه العقيدة. وفي حاجة إلى بناء أخلاقهم وسلوكهم وبناء مجتمعهم الصغير على هذا الأساس نفسه. وهذا كله يحتاج إلى الجهد. ويستحق الجهد. فأما الواقفون على الشق الآخر،فجزاؤهم الإهمال والإعراض بعد الدعوة والبلاغ .. وحين ينمو الحق في ذاته فإن اللّه يجري سنته،فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ..
إن على الحق أن يوجد ومتى وجد الحق في صورته الصادقة الكاملة،فإن شأن الباطل هين،وعمره كذلك قريب!



كيف ينحدر الناس من الإسلام إلى الجاهلية ؟

إن البشرية تبدأ طريقها مهتدية مؤمنة موحدة .. ثم تنحرف إلى جاهلية ضالة مشركة - بفعل العوامل المتشابكة المعقدة في تركيب الإنسان ذاته،وفي العوالم والعناصر التي يتعامل معها .. وهنا يأتيها رسول بذات الحقيقة التي كانت عليها قبل أن تضل وتشرك. فيهلك من يهلك،ويحيا من يحيا. والذين يحيون هم الذين آبوا إلى الحقيقة الإيمانية الواحدة. هم الذين علموا أن لهم إلها واحدا،واستسلموا بكليتهم إلى هذا الإله الواحد. هم الذين سمعوا قول رسولهم لهم:«يا قوم اعبدوا اللّه ما لكم من إله غيره» .. فهي حقيقة واحدة يقوم عليها دين اللّه كله،ويتعاقب بها الرسل جميعا على مدار التاريخ .. فكل رسول يجيء إنما يقول هذه الكلمة لقومه الذين اجتالهم الشيطان عنها،فنسوها وضلوا عنها،وأشركوا مع اللّه آلهة أخرى - على اختلاف هذه الآلهة في الجاهليات المختلفة - وعلى أساسها تدور المعركة بين الحق والباطل .. وعلى أساسها يأخذ اللّه المكذبين بها وينجي المؤمنين .. والسياق القرآني يوحد الألفاظ التي عبر بها جميع الرسل - صلوات اللّه عليهم - مع اختلاف لغاتهم .. يوحد حكاية ما قالوه،ويوحد ترجمته في نص واحد:«يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» .. وذلك لتحقيق معنى وحدة العقيدة السماوية - على مدار التاريخ - حتى في صورتها اللفظية! لأن هذه العبارة دقيقة في التعبير عن حقيقة العقيدة،ولأن عرضها في السياق بذاتها يصور وحدة العقيدة تصويرا حسيا .. ولهذا كله دلالته في تقرير المنهج القرآني عن تاريخ العقيدة ..
وفي ضوء هذا التقرير يتبين مدى مفارقة منهج «الأديان المقارنة» مع المنهج القرآني .. يتبين أنه لم يكن هناك تدرج ولا «تطور» في مفهوم العقيدة الأساسي،الذي جاءت به الرسل كلها من عند اللّه،وأن الذين يتحدثون عن «تطور» المعتقدات وتدرجها ويدمجون العقيدة الربانية في هذا التدرج «والتطور» يقولون غير ما يقوله اللّه سبحانه! فهذه العقيدة - كما نرى في القرآن الكريم - جاءت دائما بحقيقة واحدة. وحكيت العبارة عنها في ألفاظ بعينها:«يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» وهذا الإله الذي دعا الرسل كلهم إليه هو «رب العالمين» .. الذي يحاسب الناس في يوم عظيم .. فلم يكن هنا لك رسول من عند اللّه دعا إلى رب قبيلة،أو رب أمة،أو رب جنس .. كما أنه لم يكن هناك رسول من عند اللّه دعا إلى إلهين اثنين أو آلهة متعددة .. وكذلك لم يكن هناك رسول من عند اللّه دعا إلى عبادة طوطمية،أو نجمية،أو «أرواحية!» أو صنمية! ولم يكن هناك دين من عند اللّه ليس فيه عالم آخر .. كما يزعم من يسمونهم «علماء الأديان» وهم يستعرضون الجاهليات المختلفة،ثم يزعمون أن معتقداتها كانت هي الديانات التي عرفتها البشرية في هذه الأزمان،دون غيرها! لقد جاءت الرسل - رسولا بعد رسول - بالتوحيد الخالص،وبربوبية رب العالمين! وبالحساب في يوم الدين .. ولكن الانحرافات في خط الاعتقاد،مع الجاهليات الطارئة بعد كل رسالة،بفعل العوامل المعقدة المتشابكة في تكوين الإنسان ذاته وفي العوالم التي يتعامل معها .. هذه الانحرافات تمثلت في صور شتى من المعتقدات الجاهلية .. هي هذه التي يدرسها «علماء الأديان!» ثم يزعمون أنها الخط الصاعد في تدرج الديانات وتطورها! وعلى أية حال فهذا هو قول اللّه - سبحانه - وهو أحق أن يتبع،وبخاصة ممن يكتبون عن هذا الموضوع في صدد عرض العقيدة الإسلامية،أو صدد الدفاع عنها! أما الذين لا يؤمنون بهذا القرآن،فهم وما هم فيه ..
واللّه يقص الحق وهو خير الفاصلين ..
إن كل رسول من الرسل - صلوات اللّه عليهم جميعا - قد جاء إلى قومه،بعد انحرافهم عن التوحيد الذي تركهم عليه رسولهم الذي سبقه .. فبنو آدم الأوائل نشأوا موحدين لرب العالمين - كما كانت عقيدة آدم وزوجه - ثم انحرفوا بفعل العوامل التي أسلفنا - حتى إذا جاء نوح - عليه السلام - دعاهم إلى توحيد رب العالمين مرة أخرى. ثم جاء الطوفان فهلك المكذبون ونجا المؤمنون. وعمرت الأرض بهؤلاء الموحدين لرب العالمين - كما علمهم نوح - وبذراريهم. حتى إذا طال عليهم الأمد انحرفوا إلى الجاهلية كما انحرف من كان قبلهم .. حتى إذا جاء هود أهلك المكذبون بالريح العقيم .. ثم تكررت القصة .. وهكذا ..
ولقد أرسل كل رسول من هؤلاء إلى قومه. فقال:«يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» .. وقال كل رسول لقومه:«إني لكم ناصح أمين»،معبرا عن ثقل التبعة وخطورة ما يعلمه من عاقبة ما هم فيه من الجاهلية في الدنيا والآخرة ورغبته في هداية قومه،وهو منهم وهم منه .. وفي كل مرة وقف «الملأ» من عليه القوم وكبرائهم في وجه كلمة الحق هذه ورفضوا الاستسلام للّه رب العالمين. وأبوا أن تكون العبودية والدينونة للّه وحده - وهي القضية التي قامت عليها الرسالات كلها وقام عليها دين اللّه كله - وهنا يصدع كل رسول بالحق في وجه الطاغوت .. ثم ينقسم قومه إلى أمتين متفاصلتين على أساس العقيدة. وتنبتّ وشيجة القومية ووشيجة القرابة العائلية لتقوم وشيجة العقيدة وحدها. وإذا «القوم» الواحد،أمتان متفاصلتان لا قربى بينهما ولا علاقة! .. وعندئذ يجيء الفتح .. ويفصل اللّه بين الأمة المهتدية والأمة الضالة،ويأخذ المكذبين المستكبرين،وينجي الطائعين المستسلمين .. وما جرت سنة اللّه قط بفتح ولا فصل قبل أن ينقسم القوم الواحد إلى أمتين على أساس العقيدة،وقبل أن يجهر أصحاب العقيدة بعبوديتهم للّه وحده. وقبل أن يثبتوا في وجه الطاغوت بإيمانهم. وقبل أن يعلنوا مفاصلتهم لقومهم .. وهذا ما يشهد به تاريخ دعوة اللّه على مدار التاريخ.
إن التركيز في كل رسالة كان على أمر واحد:هو تعبيد الناس كلهم لربهم وحده - رب العالمين - ذلك أن هذه العبودية للّه الواحد،ونزع السلطان كله من الطواغيت التي تدعيه،هو القاعدة التي لا يقوم شيء صالح بدونها في حياة البشر. ولم يذكر القرآن إلا قليلا من التفصيلات بعد هذه القاعدة الأساسية المشتركة في الرسالات جميعا. ذلك أن كل تفصيل - بعد قاعدة العقيدة - في الدين،إنما يرجع إلى هذه القاعدة ولا يخرج عنها. وأهمية هذه القاعدة في ميزان اللّه هي التي جعلت المنهج القرآني يبرزها هكذا،ويفردها بالذكر في استعراض موكب الإيمان بل في القرآن كله .. ولنذكر - كما قلنا في التعريف بسورة الأنعام أن هذا كان هو موضوع القرآن المكي كله كما كان هو موضوع القرآن المدني كلما عرضت مناسبة لتشريع أو توجيه.
إن لهذا الدين «حقيقة» و«منهجا» لعرض هذه الحقيقة. «والمنهج» في هذا الدين لا يقل أصالة ولا ضرورة عن «الحقيقة» فيه .. وعلينا أن نعرف الحقيقة الأساسية التي جاء بها هذا الدين. كما أن علينا أن نلتزم المنهج الذي عرض به هذه الحقيقة .. وفي هذا المنهج إبراز وإفراد وتكرار وتوكيد لحقيقة التوحيد للألوهية .. ومن هنا ذلك التوكيد والتكرار والإبراز والإفراد لهذه القاعدة في قصص هذه السورة ..
إن هذا القصص يصور طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر في نفوس البشر ويعرض نموذجا مكررا للقلوب المستعدة للإيمان،ونموذجا مكررا للقلوب المستعدة للكفر أيضا .. إن الذين آمنوا بكل رسول لم يكن في قلوبهم الاستكبار عن الاستسلام للّه والطاعة لرسوله ولم يعجبوا أن يختار اللّه واحدا منهم ليبلغهم وينذرهم.
فأما الذين كفروا بكل رسول فقد كانوا هم الذين أخذتهم العزة بالإثم،فاستكبروا أن ينزلوا عن السلطان المغتصب في أيديهم للّه صاحب الخلق والأمر،وأن يسمعوا لواحد منهم .. كانوا هم «الملأ» من الحكام والكبار والوجهاء وذوي السلطان في قومهم .. ومن هنا نعرف عقدة هذا الدين .. إنها عقدة الحاكمية والسلطان .. فالملأ كانوا يحسون دائما ما في قول رسولهم لهم:«يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» ...« وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» .. كانوا يحسون أن الألوهية الواحدة والربوبية الشاملة تعني - أول ما تعني - نزع السلطان المغتصب من أيديهم ورده إلى صاحبه الشرعي .. إلى اللّه رب العالمين .. وهذا ما كانوا يقاومون في سبيله حتى يكونوا من الهالكين! وقد بلغ من عقدة السلطان في نفوسهم ألا ينتفع اللاحق منهم بالغابر،وأن يسلك طريقه إلى الهلاك،كما يسلك طريقه إلى جهنم كذلك! .. إن مصارع المكذبين - كما يعرضها هذا القصص - تجري على سنة لا تتبدل:نسيان لآيات اللّه وانحراف عن طريقه. إنذار من اللّه للغافلين على يد رسول. استكبار عن العبودية للّه وحده والخضوع لرب العالمين. اغترار بالرخاء واستهزاء بالإنذار واستعجال للعذاب. طغيان وتهديد وإيذاء للمؤمنين. ثبات من المؤمنين ومفاصلة على العقيدة .. ثم المصرع الذي يأتي وفق سنة اللّه على مدار التاريخ! وأخيرا فإن طاغوت الباطل لا يطيق مجرد وجود الحق .. وحتى حين يريد الحق أن يعيش في عزلة عن الباطل - تاركا مصيرهما لفتح اللّه وقضائه - فإن الباطل لا يقبل منه هذا الموقف. بل يتابع الحق وينازله ويطارده .. ولقد قال شعيب لقومه:«وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا،فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا،وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ» .. ولكنهم لم يقبلوا منه هذه الخطة،ولم يطيقوا رؤية الحق يعيش ولا رؤية جماعة تدين للّه وحده وتخرج من سلطان الطواغيت:«قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ:لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا» .. وهنا صدع شعيب بالحق رافضا هذا الذي يعرضه عليهم الطواغيت:«قالَ:أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ؟ قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها ..»
ذلك ليعلم أصحاب الدعوة إلى اللّه أن المعركة مع الطواغيت مفروضة عليهم فرضا،وأنه لا يجديهم فتيلا أن يتقوها ويتجنبوها. فالطواغيت لن تتركهم إلا أن يتركوا دينهم كلية،ويعودوا إلى ملة الطواغيت بعد إذ نجاهم اللّه منها. وقد نجاهم اللّه منها بمجرد أن خلعت قلوبهم عنها العبودية للطواغيت ودانت بالعبودية للّه وحده ..فلا مفر من خوض المعركة،والصبر عليها،وانتظار فتح اللّه بعد المفاصلة فيها وأن يقولوا مع شعيب:«عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا. رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ» .. ثم تجري سنة اللّه بما جرت به كل مرة على مدار التاريخ ..
ونكتفي بهذه المعالم في طريق القصص القرآني،حتى نستعرض النصوص بالتفصيل :
إن موكب الإيمان الذي يسير في مقدمته رسل اللّه الكرام،مسبوق في السياق بموكب الإيمان في الكون كله. في الفقرة السابقة مباشرة:«إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ،ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ،يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً،وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ،أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ،تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» ..
وإن الدينونة لهذا الإله،الذي خلق السماوات والأرض،والذي استوى على العرش،والذي يحرك الليل ليطلب النهار،والذي تجري الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره،والذي له الخلق والأمر.
إن الدينونة لهذا الإله وحده هي التي يدعو إليها الرسل كافة. هي التي يدعون إليها البشرية كلها،كلما قعد لها الشيطان على صراط اللّه فأضلها عنه وردها إلى الجاهلية التي تتبدى في صور شتى ولكنها كلها تتسم بإشراك غير اللّه معه في الربوبية.
والمنهج القرآني يكثر من الربط بين عبودية هذا الكون للّه،ودعوة البشر إلى الاتساق مع الكون الذي يعيشون فيه والإسلام للّه الذي أسلم له الكون كله والذي يتحرك مسخرا بأمره. ذلك أن هذا الإيقاع بهذه الحقيقة الكونية كفيل بأن يهز القلب البشري هزا وأن يستحثه من داخله على أن ينخرط في سلك العبادة المستسلمة فلا يكون هو وحده نشازا في نظام الوجود كله! إن الرسل الكرام لا يدعون البشرية لأمر شاذ إنما يدعونها إلى الأصل الذي يقوم عليه الوجود كله وإلى الحقيقة المركوزة في ضمير هذا الوجود .. وهي ذاتها الحقيقة المركوزة في فطرة البشر والتي تهتف بها فطرتهم حين لا تلوي بها الشهوات،ولا يقودها الشيطان بعيدا عن حقيقتها الأصيلة ..



ملاذ أصحاب الدعوة إلى الله وحده

قال تعالى :{ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) } [الأعراف: 127 - 129]
إنها رؤية «النبي» لحقيقة الألوهية وإشراقها في قلبه. ولحقيقة الواقع الكوني والقوى التي تعمل فيه.
ولحقيقة السنة الإلهية وما يرجوه منها الصابرون .. إنه ليس لأصحاب الدعوة إلى رب العالمين إلا ملاذ واحد،وهو الملاذ الحصين الأمين،وإلا ولي واحد وهو الولي القوي المتين. وعليهم أن يصبروا حتى يأذن الولي بالنصرة في الوقت الذي يقدره بحكمته وعلمه.
وألا يعجلوا،فهم لا يطلعون الغيب،ولا يعلمون الخير .. وإن الأرض للّه. وما فرعون وقومه إلا نزلاء فيها. واللّه يورثها من يشاء من عباده - وفق سنته وحكمته - فلا ينظر الداعون إلى رب العالمين،إلى شيء من ظواهر الأمور التي تخيل للناظرين أن الطاغوت مكين في الأرض غير مزحزح عنها .. فصاحب الأرض ومالكها هو الذي يقرر متى يطردهم منها! وإن العاقبة للمتقين .. طال الزمن أم قصر .. فلا يخالج قلوب الداعين إلى رب العالمين قلق على المصير.
ولا يخايل لهم تقلب الذين كفروا في البلاد،فيحسبونهم باقين ..
إنها رؤية «النبي» لحقائق الوجود الكبير .. ولكن إسرائيل هي إسرائيل! «قالُوا:أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا»:إنها كلمات ذات ظل! وإنها لتشي بما وراءها من تبرم! أوذينا قبل مجيئك وما تغير شيء بمجيئك. وطال هذا الأذى حتى ما تبدو له نهاية! ويمضي النبي الكريم على نهجه. يذكرهم باللّه،ويعلق رجاءهم به،ويلوح لهم بالأمل في هلاك عدوهم.
واستخلافهم في الأرض. مع التحذير من فتنة الاستخلاف.« قالَ:عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ،وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ،فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ».
إنه ينظر بقلب النبي فيرى سنة اللّه،تجري وفق وعده،للصابرين،وللجاحدين! ويرى من خلال سنة اللّه هلاك الطاغوت وأهله،واستخلاف الصابرين المستعينين باللّه وحده. فيدفع قومه دفعا إلى الطريق لتجري بهم سنة اللّه إلى ما يريد .. وهو يعلمهم - منذ البدء - أن استخلاف اللّه لهم إنما هو ابتلاء لهم. ليس أنهم أبناء اللّه وأحباؤه - كما زعموا - فلا يعذبهم بذنوبهم! وليس جزافا بلا غاية. وليس خلودا بلا توقيت. إنه استخلاف للامتحان:«فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» .. وهو سبحانه يعلم ماذا سيكون قبل أن يكون. ولكنها سنة اللّه وعدله ألا يحاسب البشر حتى يقع منهم في العيان،ما هو مكشوف من الغيب لعلمه القديم.



المعركة مع النفس البشرية

إن موسى - عليه السلام - لا يواجه اليوم طاغوت فرعون وملئه فقد انتهت المعركة مع الطاغوت .. ولكنه يواجه معركة أخرى - لعلها أشد وأقسى وأطول أمدا - إنه يواجه المعركة مع «النفس البشرية!» يواجهها مع رواسب الجاهلية في هذه النفس ويواجهها مع رواسب الذل الذي أفسد طبيعة بني إسرائيل وملأها بالالتواء من ناحية وبالقسوة من ناحية وبالجبن من ناحية وبالضعف عن حمل التبعات من ناحية. وتركها مهلهلة بين هذه النزعات جميعا .. فليس أفسد للنفس البشرية من الذل والخضوع للطغيان طويلا ومن الحياة في ظل الإرهاب والخوف والتخفي والالتواء لتفادي الأخطار والعذاب،والحركة في الظلام،مع الذعر الدائم والتوقع الدائم للبلاء! ولقد عاش بنو إسرائيل في هذا العذاب طويلا عاشوا في ظل الإرهاب وفي ظل الوثنية الفرعونية كذلك.
عاشوا يقتل فرعون أبناءهم ويستحيي نساءهم. فإذا فتر هذا النوع البشع من الإرهاب الوحشي،عاشوا حياة الذل والسخرة والمطاردة على كل حال.
وفسدت نفوسهم وفسدت طبيعتهم والتوت فطرتهم وانحرفت تصوراتهم وامتلأت نفوسهم بالجبن والذل من جانب،وبالحقد والقسوة من الجانب الآخر .. وهما جانبان متلازمان في النفس البشرية حيثما تعرضت طويلا للإرهاب والطغيان ..
لقد كان عمر بن الخطاب - رضي اللّه عنه - ينظر بنور اللّه،فيرى حقيقة تركيب النفس البشرية وطبيعتها وهو يقول لعماله على الأمصار موصيا لهم بالناس:«ولا تضربوا أبشارهم فتذلوهم» .. كان يعلم أن ضرب البشرة يذل الناس. وكان الإسلام في قلبه يريد منه ألا يذل الناس في حكومة الإسلام وفي مملكة اللّه. فالناس في مملكة اللّه أعزاء،ويجب أن يكونوا أعزاء وألا يضربهم الحكام فيذلوهم،لأنهم ليسوا عبيدا للحكام ..إنما هم عبيد للّه أعزاء على غير اللّه ..
ولقد ضربت أبشار بني إسرائيل في طاغوت الفرعونية حتى ذلوا. بل كان ضرب الأبشار هو أخف ما يتعرضون له من الأذى في فترات الرخاء! ولقد ضربت أبشار المصريين كذلك حتى ذلوا هم الآخرون واستخفهم فرعون! ضربت أبشارهم في عهود الطاغوت الفرعوني ثم ضربت أبشارهم في عهود الطاغوت الروماني ..ولم يستنقذهم من هذا الذل إلا الإسلام،يوم جاءهم بالحرية فأطلقهم من العبودية للبشر بالعبودية لرب البشر ..
فلما أن ضرب ابن عمرو بن العاص - فاتح مصر وحاكمها المسلم - ظهر ابن قبطي من أهل مصر - لعل سياط الرومان كانت آثارها على ظهره ما تزال - غضب القبطي لسوط واحد يصيب ابنه - من ابن فاتح مصر وحاكمها - وسافر شهرا على ظهر ناقة،ليشكو إلى عمر بن الخطاب - الخليفة المسلم - هذا السوط الواحد الذي نال ابنه! - وكان هو يصبر على السياط منذ سنوات قلائل في عهد الرومان - وكانت هذه هي معجزة البعث الإسلامي لنفوس الأقباط في مصر،وللنفوس في كل مكان - حتى لمن لم يعتنقوا الإسلام - كانت هذه هي معجزة هذا البعث الذي يستنقذ الأرواح من ركام آلاف السنين من الذل القديم،فتنتفض هكذا انتفاضة الكرامة التي أطلقها الإسلام في أرواحهم وما كان غير الإسلام ليطلقها في مثل هذه الأرواح.
عملية استصلاح نفوس بني إسرائيل من ذل الطاغوت الفرعوني هي التي سيواجهها موسى عليه السلام في هذه الحلقة - بعد خروجه ببني إسرائيل من مصر وتجاوزه بهم البحر - وسنرى من خلال القصص القرآني هذه النفوس،وهي تواجه الحرية بكل رواسب الذل وتواجه الرسالة بكل رواسب الجاهلية وتواجه موسى - عليه السلام - بكل الالتواءات والانحرافات والانحلالات والجهالات التي ترسبت فيها على الزمن الطويل! وسنرى متاعب موسى - عليه السلام - في المحاولة الضخمة التي يحاولها وثقلة الجبلات التي أخلدت إلى الأرض طويلا،حتى ما تريد أن تنهض من الوحل الذي تمرغت فيه طويلا،وقد حسبته الأمر العادي الذي ليس غيره! وسنرى من خلال متاعب موسى - عليه السلام - متاعب كل صاحب دعوة،يواجه نفوسا طال عليها الأمد،وهي تستمرئ حياة الذل تحت قهر الطاغوت - وبخاصة إذا كانت هذه النفوس قد عرفت العقيدة التي يدعوها إليها،ثم طال عليها الأمد،فبهتت صورتها،وعادت شكلا لا روح فيه! إن جهد صاحب الدعوة - في مثل هذه الحال - لهو جهد مضاعف. ومن ثم يجب أن يكون صبره مضاعفا كذلك .. يجب أن يصبر على الالتواءات والانحرافات،وثقلة الطبائع وتفاهة الاهتمامات ويجب أن يصبر على الانتكاس الذي يفاجئه في هذه النفوس بعد كل مرحلة،والاندفاع إلى الجاهلية عند أول بادرة! ولعل هذا جانب من حكمة اللّه في عرض قصة بني إسرائيل على الأمة المسلمة،في هذه الصورة المفصلة المكررة. لترى فيها هذه التجربة. كما قلنا من قبل. ولعل فيها زادا لأصحاب الدعوة إلى اللّه في كل جيل.



التعامل مع النفوس البشرية لهدايتها يقتضي سعة صدر وسماحة طبع

قال تعالى : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } [الأعراف: 199]
خذ العفو الميسر الممكن من أخلاق الناس في المعاشرة والصحبة،ولا تطلب إليهم الكمال،ولا تكلفهم الشاق من الأخلاق. واعف عن أخطائهم وضعفهم ونقصهم .. كل أولئك في المعاملات الشخصية لا في العقيدة الدينية ولا في الواجبات الشرعية. فليس في عقيدة الإسلام ولا شريعة اللّه يكون التغاضي والتسامح.
ولكن في الأخذ والعطاء والصحبة والجوار. وبذلك تمضي الحياة سهلة لينة. فالإغضاء عن الضعف البشري،والعطف عليه،والسماحة معه،واجب الكبار الأقوياء تجاه الصغار الضعفاء. ورسول اللّه - - راع وهاد ومعلم ومرب. فهو أولى الناس بالسماحة واليسر والإغضاء .. وكذلك كان .. لم يغضب لنفسه قط. فإذا كان في دين اللّه لم يقم لغضبه شيء! .. وكل أصحاب الدعوة مأمورون بما أمر به رسول اللّه . فالتعامل مع النفوس البشرية لهدايتها يقتضي سعة صدر،وسماحة طبع،ويسرا وتيسيرا في غير تهاون ولا تفريط في دين اللّه ..
«وأمر بالعرف» .. وهو الخير المعروف الواضح الذي لا يحتاج إلى مناقشة وجدال والذي تلتقي عليه الفطر السليمة والنفوس المستقيمة ..
والنفس حين تعتاد هذا المعروف يسلس قيادها بعد ذلك،وتتطوع لألوان من الخير دون تكليف وما يصد النفس عن الخير شيء مثلما يصدها التعقيد والمشقة والشد في أول معرفتها بالتكاليف! ورياضة النفوس تقتضي أخذها في أول الطريق بالميسور المعروف من هذه التكاليف حتى يسلس قيادها وتعتاد هي بذاتها النهوض بما فوق ذلك في يسر وطواعية ولين ..
«وأعرض عن الجاهلين» .. من الجهالة ضد الرشد،والجهالة ضد العلم .. وهما قريب من قريب ..
والإعراض يكون بالترك والإهمال والتهوين من شأن ما يجهلون به من التصرفات والأقوال والمرور بها مر الكرام وعدم الدخول معهم في جدال لا ينتهي إلى شيء إلا الشد والجذب،وإضاعة الوقت والجهد ..
وقد ينتهي السكوت عنهم،والإعراض عن جهالتهم إلى تذليل نفوسهم وترويضها،بدلا من الفحش في الرد واللجاج في العناد. فإن لم يؤد إلى هذه النتيجة فيهم،فإنه يعزلهم عن الآخرين الذين في قلوبهم خير. إذ يرون صاحب الدعوة محتملا معرضا عن اللغو،ويرون هؤلاء الجاهلين يحمقون ويجهلون فيسقطون من عيونهم ويعزلون! وما أجدر صاحب الدعوة أن يتبع هذا التوجيه الرباني العليم بدخائل النفوس! ولكن رسول اللّه - - بشر. وقد يثور غضبه على جهالة الجهال وسفاهة السفهاء وحمق الحمقى .. وإذا قدر عليها رسول اللّه - - فقد يعجز عنها من وراءه من أصحاب الدعوة ..
وعند الغضب ينزغ الشيطان في النفس،وهي ثائرة هائجة مفقودة الزمام! .. لذا يأمره ربه أن يستعيذ باللّه لينفثئ غضبه،ويأخذ على الشيطان طريقه:«وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ..
وهذا التعقيب:«إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» .. يقرر أن اللّه سبحانه سميع لجهل الجاهلين وسفاهتهم عليم بما تحمله نفسك من أذاهم .. وفي هذا ترضية وتسرية للنفس .. فحسبها أن الجليل العظيم يسمع ويعلم! وماذا تبتغي نفس بعد ما يسمع اللّه ويعلم ما تلقى من السفاهة والجهل وهي تدعو إليه الجاهلين؟!



دعوة أصحاب الدعوة إلى الصدق والترغيب في الجهاد

قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)} [التوبة: 119 - 121]
إن أهل المدينة هم الذين تبنوا هذه الدعوة وهذه الحركة،فهم أهلها الأقربون.وهم بها ولها.وهم الذين آووا رسول اللّه - - وبايعوه وهم الذين باتوا يمثلون القاعدة الصلبة لهذا الدين في مجتمع الجزيرة كله.وكذلك القبائل الضاربة من حول المدينة وقد أسلمت وباتت تؤلف الحزام الخارجي للقاعدة ..
فهؤلاء وهؤلاء ليس لهم أن يتخلفوا عن رسول اللّه،وليس لهم أن يؤثروا أنفسهم على نفسه ..وحين يخرج رسول اللّه - - في الحر أو البرد.في الشدة أو الرخاء.في اليسر أو العسر.ليواجه تكاليف هذه الدعوة وأعباءها،فإنه لا يحق لأهل المدينة،أصحاب الدعوة،ومن حولهم من الأعراب،وهم قريبون من شخص رسول اللّه - - ولا عذر لهم في ألا يكونوا قد علموا،أن يشفقوا على أنفسهم مما يحتمله رسول اللّه .
من أجل هذه الاعتبار ات يهتف بهم أن يتقوا اللّه وأن يكونوا مع الصادقين،الذين لم يتخلفوا،ولم تحدثهم نفوسهم بتخلف،ولم يتزلزل إيمانهم في العسرة ولم يتزعزع ..وهم الصفوة المختارة من السابقين والذين اتبعوهم بإحسان:«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ».
ثم يمضي السياق بعد هذا الهتاف مستنكرا مبدأ التخلف عن رسول اللّه:«ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ،وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ».
وفي التعبير تأنيب خفي.فما يؤنب أحد يصاحب رسول اللّه - - بأوجع من أن يقال عنه:إنه يرغب بنفسه عن نفس رسول اللّه،وهو معه،وهو صاحبه! وإنها لإشارة تلحق أصحاب هذه الدعوة في كل جيل.فما كان لمؤمن أن يرغب بنفسه عن مثل ما تعرضت له نفس رسول اللّه في سبيل هذه الدعوة وهو يزعم أنه صاحب دعوة وأنه يتأسى فيها برسول اللّه !
إنه الواجب الذي يوجبه الحياء من رسول اللّه - فضلا على الأمر الصادر من اللّه - ومع هذا فالجزاء عليه ما أسخاه!
«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ،وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ،وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا،إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ،إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً،وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً،إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ،لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ»
إنه على الظمأ جزاء،وعلى النصب جزاء،وعلى الجوع جزاء.وعلى كل موطئ قدم يغيظ الكفار جزاء.وعلى كل نيل من العدو جزاء.يكتب به للمجاهد عمل صالح،ويحسب به من المحسنين الذين لا يضيع لهم اللّه أجرا.
وإنه على النفقة الصغيرة والكبيرة أجر.وعلى الخطوات لقطع الوادي أجر ..أجر كأحسن ما يعمل المجاهد في الحياة.ألا واللّه،إن اللّه ليجزل لنا العطاء.وإنها واللّه للسماحة في الأجر والسخاء.وإنه لمما يخجل أن يكون ذلك كله على أقل مما احتمله رسول اللّه - - من الشدة واللأواء.في سبيل هذه الدعوة التي نحن فيها خلفاء،وعليها بعده أمناء!



صفات الذين يفقهون هذا الدين حق الفقه

إنَّ هذا الدين منهج حركي،لا يفقهه إلا من يتحرك به فالذين يخرجون للجهاد به هم أولى الناس بفقهه بما يتكشف لهم من أسراره ومعانيه وبما يتجلى لهم من آياته وتطبيقاته العمليةفي أثناء الحركة به.أما الذين يقعدون فهم الذين يحتاجون أن يتلقوا ممن تحركوا،لأنهم لم يشاهدوا ما شاهد الذين خرجوا ولا فقهوا فقههم ولا وصلوا من أسرار هذا الدين إلى ما وصل إليه المتحركون وبخاصة إذا كان الخروج مع رسول اللّه - - والخروج بصفة عامة أدنى إلى الفهم والتفقه.
ولعل هذا عكس ما يتبادر إلى الذهن،من أن المتخلفين عن الغزو والجهاد والحركة،هم الذين يتفرغون للتفقه في الدين! ولكن هذا وهم،لا يتفق مع طبيعة هذا الدين ..إن الحركة هي قوام هذا الدين ومن ثم لا يفقهه إلا الذين يتحركون به،ويجاهدون لتقريره في واقع الناس،وتغليبه على الجاهلية،بالحركة العملية.
والتجارب تجزم بأن الذين لا يندمجون في الحركة بهذا الدين لا يفقهونه مهما تفرغوا لدراسته في الكتب - دراسة باردة! - وأن اللمحات الكاشفة في هذا الدين إنما تتجلى للمتحركين به حركة جهادية لتقريره في حياة الناس ولا تتجلى للمستغرقين في الكتب العاكفين على الأوراق! إن فقه هذا الدين لا ينبثق إلا في أرض الحركة.ولا يؤخذ عن فقيه قاعد حيث تجب الحركة.والذين يعكفون على الكتب والأوراق في هذا الزمان لكي يستنبطوا منها أحكاما فقهية «يجددون» بها الفقه الإسلامي أو «يطورونه» - كما يقول المستشرقون من الصليبيين! - وهم بعيدون عن الحركة التي تستهدف تحرير الناس من العبودية للعباد،وردهم إلى العبودية للّه وحده،بتحكيم شريعة اللّه وحدها وطرد شرائع الطواغيت ..هؤلاء لا يفقهون طبيعة هذا الدين ومن ثم لا يحسنون صياغة فقه هذا الدين! إن الفقه الإسلامي وليد الحركة الإسلامية ..فقد وجد الدين أولا ثم وجد الفقه.وليس العكس هو الصحيح ..وجدت الدينونة للّه وحده،ووجد المجتمع الذي قرر أن تكون الدينونة فيه للّه وحده ..والذي نبذ شرائع الجاهلية وعاداتها وتقاليدها والذي رفض أن تكون شرائع البشر هي التي تحكم أي جانب من جوانب الحياة فيه ..ثم أخذ هذا المجتمع يزاول الحياة فعلا وفق المبادئ الكلية في الشريعة - إلى جانب الأحكام الفرعية التي وردت في أصل الشريعة - وفي أثناء مزاولته للحياة الفعلية في ظل الدينونة للّه وحده،واستيحاء شريعته وحدها،تحقيقا لهذه الدينونة،جدت له أقضية فرعية بتجدد الحالات الواقعية في حياته ..وهنا فقط بدأ استنباط الأحكام الفقهية،وبدأ نمو الفقه الإسلامي ..الحركة بهذا الدين هي التي أنشأت ذلك الفقه،والحركة بهذا الدين هي التي حققت نموه.ولم يكن قط فقها مستنبطا من الأوراق الباردة،بعيدا عن حرارة الحياة الواقعة! ..من أجل ذلك كان الفقهاء متفقهين في الدين،يجيء فقههم للدين من تحركهم به،ومن تحركه مع الحياة الواقعة لمجتمع مسلم حي،يعيش بهذا الدين،ويجاهد في سبيله،ويتعامل بهذا الفقه الناشئ بسبب حركة الحياة الواقعة.فأما اليوم ..«فماذا» ..؟ أين هو المجتمع المسلم الذي قرر أن تكون دينونته للّه وحده والذي رفض بالفعل الدينونة لأحد من العبيد والذي قرر أن تكون شريعة اللّه شريعته والذي رفض بالفعل شرعية أي تشريع لا يجيء من هذا المصدر الشرعي الوحيد؟
لا أحد يملك أن يزعم أن هذا المجتمع المسلم قائم موجود! ومن ثم لا يتجه مسلم يعرف الإسلام ويفقه منهجه وتاريخه،إلى محاولة تنمية الفقه الإسلامي أو «تجديده» أو «تطويره!» في ظل مجتمعات لا تعترف ابتداء بأن هذا الفقه هو شريعتها الوحيدة التي بها تعيش.ولكن المسلم الجاد يتجه ابتداء لتحقيق الدينونة للّه وحده وتقرير مبدأ أن لا حاكمية إلا للّه،وأن لا تشريع ولا تقنين إلا مستمدا من شريعته وحدها تحقيقا لتلك الدينونة ..
إنه هزل فارغ لا يليق بجدية هذا الدين أن يشغل ناس أنفسهم بتنمية الفقه الإسلامي أو «تجديده» أو «تطويره» في مجتمع لا يتعامل بهذا الفقه ولا يقيم عليه حياته.كما أنه جهل فاضح بطبيعة هذا الدين أن يفهم أحد أنه يستطيع التفقه في هذا الدين وهو قاعد،يتعامل مع الكتب والأوراق الباردة،ويستنبط الفقه من قوالب الفقه الجامدة! ..
إن الفقه لا يستنبط من الشريعة إلا في مجرى الحياة الدافق وإلا مع الحركة بهذا الدين في عالم الواقع.
إن الدينونة للّه وحده أنشأت المجتمع المسلم والمجتمع المسلم أنشأ «الفقه الإسلامي» ..ولا بد من هذا الترتيب ..لا بد أن يوجد مجتمع مسلم ناشئ من الدينونة للّه وحده،مصمم على تنفيذ شريعته وحدها.ثم بعد ذلك - لا قبله - ينشأ فقه إسلامي مفصل على قد المجتمع الذي ينشأ،وليس «جاهزا» معدا من قبل! ذلك أن كل حكم فقهي هو - بطبيعته - تطبيق للشريعة الكلية على حالة واقعة،ذات حجم معين،وشكل معين،وملابسات معينة.وهذه الحالات تنشئها حركة الحياة،داخل الإطار الإسلامي لا بعيدا عنه،وتحدد حجمها وشكلها وملابساتها ومن ثم «يفصل» لها حكم مباشر على «قدها» ..فأما تلك الأحكام «الجاهزة» في بطون الكتب فقد «فصلت» من قبل لحالات معينة في أثناء جريان الحياة الإسلامية على أساس تحكيم شريعة اللّه فعلا.ولم تكن وقتها «جاهزة» باردة! كانت وقتها حية مليئة بالحيوية وعلينا اليوم أن «نفصل» مثلها للحالات الجديدة ..ولكن قبل ذلك يجب أن يوجد المجتمع الذي يقرر ألا يدين لغير اللّه في شرائعه وألا يفصل حكما شرعيا إلا من شريعة اللّه دون سواها.
وفي هذا يكون الجهد الجاد المثمر،اللائق بجدية هذا الدين.وفي هذا يكون الجهاد الذي يفتح البصائر ويمكن من التفقه في الدين حقا ..وغير هذا لا يكون إلا هزلا ترفضه طبيعة هذا الدين وإلا هروبا من واجب الجهاد الحقيقي تحت التستر بستار «تجديد الفقه الإسلامي» أو «تطويره»! ..هروب خير منه الاعتراف بالضعف والتقصير وطلب المغفرة من اللّه على التخلف والقعود مع المتخلفين القاعدين!



وجوب الاقتداء بالرسل في مواجهة المكذبين

قال تعالى : {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)} [يونس: 71 - 73]
إن الحلقة التي تعرض هنا من قصة نوح،هي الحلقة الأخيرة:حلقة التحدي الأخير،بعد الإنذار الطويل والتذكير الطويل والتكذيب الطويل.ولا يذكر في هذه الحلقة موضوع السفينة ولا من ركب فيها ولا الطوفان،ولا التفصيلات في تلك الحلقة،لأن الهدف هو إبراز التحدي والاستعانة باللّه وحده،ونجاة الرسول ومن معه وهم قلة،وهلاك المكذبين له وهم كثرة وقوة.لذلك يختصر السياق هنا تفصيلات القصة إلى حلقة واحدة.
ويختصر تفصيلات الحلقة الواحدة إلى نتائجها الأخيرة،لأن هذا هو مقتضى السياق في هذا الموضع.
«وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ،إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ:يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ.ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً.ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ» ..
إن كان الأمر قد بلغ منكم مبلغ الضيق،فلم تعودوا تتحملون بقائي فيكم ودعوتي لكم وتذكيري لكم بآيات اللّه.فأنتم وما تريدون.وأنا ماض في طريقي لا أعتمد إلا على اللّه:«فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ» ..عليه وحده فهو حسبي دون النصراء والأولياء.
«فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ» ..وتدبروا مصادر أمركم وموارده،وخذوا أهبتكم متضامنين :
«ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً» ..بل ليكن الموقف واضحا في نفوسكم،وما تعتزمونه مقررا لا لبس فيه ولا غموض،ولا تردد فيه ولا رجعة.
«ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ» ..فنفذوا ما اعتزمتم بشأني وما دبرتم،بعد الروية ووزن الأمور كلها والتصميم الذي لا تردد فيه ..
«وَلا تُنْظِرُونِ» ..ولا تمهلوني للأهبة والاستعداد،فكل استعدادي،هو اعتمادي على اللّه وحده دون سواه.
إنه التحدي الصريح المثير،الذي لا يقوله القائل إلا وهو مالئ يديه من قوته،واثق كل الوثوق من عدته،حتى ليغري خصومه بنفسه،ويحرضهم بمثيرات القول على أن يهاجموه! فماذا كان وراء نوح من القوة والعدة؟ وماذا كان معه من قوى الأرض جميعا؟
كان معه الإيمان ..القوة التي تتصاغر أمامها القوى،وتتضاءل أمامها الكثرة،ويعجز أمامها التدبير.
وكان وراءه اللّه الذي لا يدع أولياءه لأولياء الشيطان! إنه الإيمان باللّه وحده ذلك الذي يصل صاحبه بمصدر القوة الكبرى المسيطرة على هذا الكون بما فيه ومن فيه.فليس هذا التحدي غرورا،وليس كذلك تهورا،وليس انتحارا.إنما هو تحدي القوة الحقيقية الكبرى للقوى الهزيلة الفانية التي تتضاءل وتتصاغر أمام أصحاب الإيمان.
وأصحاب الدعوة إلى اللّه لهم أسوة حسنة في رسل اللّه ..وإنه لينبغي لهم أن تمتلئ قلوبهم بالثقة حتى تفيض.
وإن لهم أن يتوكلوا على اللّه وحده في وجه الطاغوت أيا كان! ولن يضرهم الطاغوت إلّا أذى - ابتلاء من اللّه لا عجزا منه سبحانه عن نصرة أوليائه،ولا تركا لهم ليسلمهم إلى أعدائه.ولكنه الابتلاء الذي يمحص القلوب والصفوف.ثم تعود الكرة للمؤمنين.ويحق وعد اللّه لهم بالنصر والتمكين.
واللّه سبحانه يقص قصة عبده نوح وهو يتحدى قوى الطاغوت في زمانه هذا التحدي الواضح الصريح.
فلنمض مع القصة لنرى نهايتها عن قريب،«فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ.إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ.وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ..
فإن أعرضتم عني وابتعدتم،فأنتم وشأنكم،فما كنت أسألكم أجرا على الهداية،فينقص أجري بتوليكم:«إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ» ..
ولن يزحزحني هذا عن عقيدتي،فقد أمرت أن أسلم نفسي كلها للّه:«وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ..وأنا عند ما أمرت به ..من المسلمين ..فماذا كان؟
«فَكَذَّبُوهُ.فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ.وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا»..
هكذا باختصار.نجاته هو ومن معه في الفلك - وهم المؤمنون.واستخلافهم في الأرض على قلتهم.وإغراق المكذبين على قوتهم وكثرتهم:«فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ» ..
لينظر من ينظر «عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ» المكذبين وليتعظ من يتعظ بعاقبة المؤمنين الناجين.
ويعجل السياق بإعلان نجاة نوح ومن معه،لأن نوحا والقلة المؤمنة كانوا يواجهون خطر التحدي للكثرة الكافرة.فلم تكن النتيجة مجرد هلاك هذه الكثرة،بل كان قبلها نجاة القلة من جميع الأخطار واستخلافها في الأرض،تعيد تعميرها وتجديد الحياة فيها،وتأدية الدور الرئيسي فترة من الزمان.
هذه سنة اللّه في الأرض.وهذا وعده لأوليائه فيها ..فإذا طال الطريق على العصبة المؤمنة مرة،فيجب أن تعلم أن هذا هو الطريق،وأن تستيقن أن العاقبة والاستخلاف للمؤمنين،وألا تستعجل وعد اللّه حتى يجيء وهي ماضية في الطريق ..واللّه لا يخدع أولياءه - سبحانه - ولا يعجز عن نصرهم بقوته،ولا يسلمهم كذلك لأعدائه ..ولكنه يعلمهم ويدربهم ويزودهم - في الابتلاء - بزاد الطريق ..
وقال تعالى :{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)} [هود: 25 - 31]
ولم يقل قال:إني ..لأن التعبير القرآني يحيي المشهد فكأنما هو واقعة حاضرة لا حكاية ماضية.وكأنما هو يقول لهم الآن ونحن نشهد ونسمع.هذا من ناحية،ومن ناحية أخرى أنه يلخص وظيفة الرسالة كلها ويترجمها إلى حقيقة واحدة :«إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ» ..وهو أقوى في تحديد هدف الرسالة وإبرازه في وجدان السامعين.
ومرة أخرى يبلور مضمون الرسالة في حقيقة جديدة:«أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ» ..
فهذا هو قوام الرسالة،وقوام الإنذار.ولماذا؟
«إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ» ..فيتم الإبلاغ ويتم الإنذار،في هذه الكلمات القصار ..
واليوم ليس أليما.إنما هو مؤلم.والأليم - اسم مفعول أصله:مألوم! - إنما هم المألومون في ذلك اليوم.ولكن التعبير يختار هذه الصيغة هنا،لتصوير اليوم ذاته بأنه محمل بالألم،شاعر به،فما بال من فيه؟
«فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ:ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا،وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ،وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ،بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ» ..
ذلك رد العلية المتكبرين ..الملأ ..كبار القوم المتصدرين ..وهو يكاد يكون رد الملأ من قريش:ما نراك إلا بشرا مثلنا،وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا - بادي الرأي - وما نرى لكم علينا من فضل،بل نظنكم كاذبين.
الشبهات ذاتها،والاتهامات ذاتها،والكبرياء ذاتها،والاستقبال الغبي الجاهل المتعافي! إنها الشبهة التي وقرت في نفوس جهال البشر:أن الجنس البشري أصغر من حمل رسالة اللّه فإن تكن رسالة فليحملها ملك أو مخلوق آخر.وهي شبهة جاهلة،مصدرها عدم الثقة بهذا المخلوق الذي استخلفه اللّه في أرضه،وهي وظيفة خطيرة ضخمة،لا بد أن يكون الخالق قد أودع في هذا الإنسان ما يكافئها من الاستعداد والطاقة،وأودع في جنسه القدرة على أن يكون من بينه أفراد مهيأون لحمل الرسالة،باختيار اللّه لهم،وهو أعلم بما أودع في كيانهم الخاص من خصائص هذا الجنس في عمومه.
وشبهة أخرى جاهلة كذلك.هي أنه إذا كان اللّه يختار رسولا،فلم لا يكون من بين هؤلاء الملأ الكبراء في قومهم،المتسلطين العالين؟ وهو جهل بالقيم الحقيقية لهذا المخلوق الإنساني،والتي من أجلها استحق الخلافة في الأرض بعمومه،واستحق حمل رسالة اللّه بخصوصيته في المختارين من صفوفه.وهذه القيم لا علاقة لها بمال أو جاه أو استطالة في الأرض،إنما هي في صميم النفس،واستعدادها للاتصال بالملأ الأعلى،بما فيها من صفاء وتفتح وقدرة على التلقي،واحتمال للأمانة وصبر على أدائها ومقدرة على إبلاغها ..إلى آخر صفات النبوة الكريمة ..وهي صفات لا علاقة لها بمال أو جاه أو استعلاء! ولكن الملأ من قوم نوح،كالملأ من قوم كل نبي تعميهم مكانتهم الدنيوية عن رؤية هذه الخصائص العلوية،فلا يدركون مبررا لاختصاص الرسل بالرسالة.وهي في زعمهم لا تكون لبشر.فإن كانت فهي لأمثالهم من الوجهاء العالين في الأرض! «ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا» ..
هذه واحدة ..أما الأخرى فأدهى :« وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا،بادِيَ الرَّأْيِ»!!
وهم يسمون الفقراء من الناس «أراذل» ..كما ينظر الكبراء دائما إلى الآخرين الذين لم يؤتوا المال والسلطان! وأولئك هم أتباع الرسل السابقون غالبا لأنهم بفطرتهم أقرب إلى الاستجابة للدعوة التي تحرر الناس من العبودية للكبراء،وتصل القلوب بإله واحد قاهر عال على الأعلياء.ولأن فطرتهم لم يفسدها البطر والترف،ولم تعوقها المصالح والمظاهر عن الاستجابة ولأنهم لا يخافون من العقيدة في اللّه أن تضيع عليهم مكانة مسروقة لغفلة الجماهير واستعبادها للخرافات الوثنية في شتى صورها.وأول صور الوثنية الدينونة والعبودية والطاعة والاتباع للأشخاص الزائلة بدلا من الاتجاه بهذا كله للّه وحده دون شريك.فرسالات التوحيد هي حركات التحرير الحقيقية للبشر في كل طور وفي كل أرض.ومن ثم كان يقاومها الطغاة دائما،ويصدون عنها الجماهير ويحاولون تشويهها واتهام الدعاة إليها بشر التهم للتشويش والتنفير.
«وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ» ..أي دون ترو ولا تفكير ..وهذه تهمة كذلك توجه دائما من الملأ العالين لجموع المؤمنين ..أنها لا تتروى ولا تفكر في اتباع الدعوات.ومن ثم فهي متهمة في اتباعها واندفاعها،ولا يليق بالكبراء أن ينهجوا نهجها،ولا أن يسلكوا طريقها.فإذا كان الأراذل يؤمنون،فما يليق إذن بالكبراء أن يؤمنوا إيمان الأراذل ولا أن يدعوا الأراذل يؤمنون! «وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ» ..يدمجون الداعي بمن تبعوه من الأراذل! ما نرى لكم علينا من فضل يجعلكم أقرب إلى الهدى،أو أعرف بالصواب.فلو كان ما معكم خيرا وصوابا لاهتدينا إليه،ولم تسبقونا أنتم إليه! وهم يقيسون الأمور ذلك القياس الخاطئ الذي تحدثنا عنه.قياس الفضل بالمال،والفهم بالجاه،والمعرفة بالسلطان ..فذو المال أفضل.وذو الجاه أفهم.وذو السلطان أعرف!!!
هذه المفاهيم وتلك القيم التي تسود دائما حين تغيب عقيدة التوحيد عن المجتمع،أو تضعف آثارها،فترتد البشرية إلى عهود الجاهلية،وإلى تقاليد الوثنية في صورة من صورها الكثيرة.وإن بدت في ثوب من الحضارة المادية قشيب .وهي انتكاسة للبشرية من غير شك،لأنها تصغر من القيم التي بها صار الإنسان إنسانا،واستحق الخلافة في الأرض،وتلقى الرسالة من السماء وترجع به إلى قيم أقرب إلى الحيوانية العضلية الفيزيقية! «بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ» ...
وهي التهمة الأخيرة يقذفون بها في وجه الرسول وأتباعه.ولكنهم على طريقة طبقتهم ..«الأرستقراطية» ..يلقونها في أسلوب التحفظ اللائق «بالأرستقراط!» «بل نظنكم!» لأن اليقين الجازم في القول والاتجاه من طبيعة الجماهير المندفعة - بادي الرأي - التي يترفع عنها السادة المفكرون المتحفظون! إنه النموذج المتكرر من عهد نوح،لهذه الطبقة المليئة الجيوب الفارغة القلوب،المتعاظمة المدعية المنتفخة الأوداج والأمخاخ!!
ويتلقى نوح - عليه السلام - الاتهام والإعراض والاستكبار،في سماحة النبي وفي استعلائه وفي ثقته بالحق الذي جاء به،واطمئنانه إلى ربه الذي أرسله وفي وضوح طريقه أمامه واستقامة منهجه في شعوره.فلا يشتم كما شتموا،ولا يتهم كما اتهموا،ولا يدعي كما ادعوا،ولا يحاول أن يخلع على نفسه مظهرا غير حقيقته ولا على رسالته شيئا غير طبيعتها ..
« قالَ:يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي،وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ.أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ؟ وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ،وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا،إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ،وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ.وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟ وَلا أَقُولُ لَكُمْ:عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ،وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ،وَلا أَقُولُ:إِنِّي مَلَكٌ،وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ:لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً.اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ،إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ» ..
«يا قوم» ..في سماحة ومودة بندائهم ونسبتهم إليه،ونسبة نفسه إليهم.إنكم تعترضون فتقولون:«ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا» ..فما يكون رأيكم إن كنت على اتصال بربي،بيّن في نفسي مستيقن في شعوري.وهي خاصية لم توهبوها.وإن كان اللّه آتاني رحمة من عنده باختياري للرسالة،أو آتاني من الخصائص ما أستحق به حمل الرسالة - وهذه رحمة ولا شك عظيمة - ما رأيكم إن كانت هذه وتلك فخفيت عليكم خفاء عماية،لأنكم غير متهيئين لإدراكها،وغير مفتوحي البصائر لرؤيتها.«أنلزمكموها؟ »
إنه ما كان لي وما أنا بمستطيع أن ألزمكم الإذعان لها والإيمان بها «وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ»! وهكذا يتلطف نوح في توجيه أنظارهم ولمس وجدانهم وإثارة حساسيتهم لإدراك القيم الخفية عليهم،والخصائص التي يغفلون عنها في أمر الرسالة والاختيار لها:ويبصرهم بأن الأمر ليس موكولا إلى الظواهر السطحية التي يقيسون بها.وفي الوقت ذاته يقرر لهم المبدأ العظيم القويم.مبدأ الاختيار في العقيدة،والاقتناع بالنظر والتدبر،لا بالقهر والسلطان والاستعلاء!
«وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا،إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ،وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا،إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ،وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ».
يا قوم إن الذين تدعونهم أراذل قد دعوتهم فآمنوا،وليس لي عند الناس إلا أن يؤمنوا.إنني لا أطلب مالا على الدعوة،حتى أكون حفيا بالأثرياء غير حفي بالفقراء فالناس كلهم عندي سواء ..ومن يستغن عن مال الناس يتساو عنده الفقراء والأغنياء ..
«إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ» ..عليه وحده دون سواه.
«وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا» ..ونفهم من هذا الرد أنهم طلبوا أو لوحوا له بطردهم من حوله،حتى يفكروا هم في الإيمان به،لأنهم يستنكفون أن يلتقوا عنده بالأراذل،أو أن يكونوا وإياهم على طريق واحد! - لست بطاردهم،فهذا لا يكون مني.لقد آمنوا وأمرهم بعد ذلك إلى اللّه لا لي :
« إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ» ..«وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ» ..تجهلون القيم الحقيقية التي يقدر بها الناس في ميزان اللّه.وتجهلون أن مرد الناس كلهم إلى اللّه.
«وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ.أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟» ..فهناك اللّه.رب الفقراء والأغنياء.رب الضعفاء والأقوياء.هناك اللّه يقوّم الناس بقيم أخرى.ويزنهم بميزان واحد.هو الإيمان.فهؤلاء المؤمنون في حماية اللّه ورعايته.
«وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ؟» ..من يعصمني من اللّه إن أنا أخللت بموازينه،وبغيت على المؤمنين من عباده - وهم أكرم عليه - وأقررت القيم الأرضية الزائفة التي أرسلني اللّه لأعدّ لها لا لأتبعها؟
«أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟» ..وقد أنساكم ما أنتم فيه ميزان الفطرة السليمة القويمة؟
ثم يقدم لهم شخصه ورسالته مجردين عن كل زخرف وكل طلاء وكل قيمة من تلك القيم العرضية الزائفة.
يقدمها لهم في معرض التذكير،ليقرر لهم القيم الحقيقية،ويزدري أمامهم القيم الظاهرية،بتخلية عنها،وتجرده منها.فمن شاء الرسالة كما هي،بقيمها،بدون زخرف،بدون ادعاء،فليتقدم إليها مجردة خالصة للّه:«وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ ..»
فأدعي الثراء أو القدرة على الإثراء ...
«وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ» ..فأدعي قدرة ليست للبشر أو صلة باللّه غير صلة الرسالة ..
«وَلا أَقُولُ:إِنِّي مَلَكٌ» ..فأدعي صفة أعلى من صفة الإنسانية في ظنكم لأرتفع في أعينكم،وأفضل نفسي بذاتي عليكم ..
«وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً» ..إرضاء لكبريائكم،أو مسايرة لتقديركم الأرضي وقيمكم العرضية.
«اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ» ..فليس لي إلا ظاهرهم،وظاهرهم يدعو إلى التكريم،وإلى الرجاء في أن يؤتيهم اللّه خيرا ..
«إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ» ..إن ادعيت أية دعوى من هذه الدعاوي.الظالمين للحق وقد جئت أبلغه والظالمين لنفسي فأعرضها لغضب اللّه والظالمين للناس فأنزلهم غير ما أنزلهم اللّه.
وهكذا ينفي نوح - عليه السلام - عن نفسه وعن رسالته كل قيمة زائفة وكل هالة مصطنعة يتطلبها الملأ من قومه في الرسول والرسالة.ويتقدم إليهم بها مجردة إلا من حقيقتها العظيمة التي لا تحتاج إلى مزيد من تلك الأعراض السطحية.ويردهم في نصاعة الحق وقوته،مع سماحة القول ووده إلى الحقيقة المجردة ليواجهوها،ويتخذوا لأنفسهم خطة على هداها.بلا ملق ولا زيف ولا محاولة استرضاء على حساب الرسالة وحقيقتها البسيطة.فيعطي أصحاب الدعوة في أجيالها جميعا،نموذجا للداعية،ودرسا في مواجهة أصحاب السلطان بالحق المجرد،دون استرضاء لتصوراتهم،ودون ممالأة لهم،مع المودة التي لا تنحني معها الرؤوس! وعند هذا الحد كان الملأ من قوم نوح قد يئسوا من مناهضة الحجة بالحجة فإذا هم - على عادة طبقتهم - قد أخذتهم العزة بالإثم،واستكبروا أن تغلبهم الحجة،وأن يذعنوا للبرهان العقلي والفطري.وإذا هم يتركون الجدل إلى التحدي:«قالُوا:يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا،فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا،فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ..
إنه العجز يلبس ثوب القدرة،والضعف يرتدي رداء القوة والخوف من غلبة الحق يأخذ شكل الاستهانة والتحدي:«فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ..
وأنزل بنا العذاب الأليم الذي أنذرتنا به فلسنا نصدقك،ولسنا نبالي وعيدك.
أما نوح فلا يخرجه هذا التكذيب والتحدي عن سمت النبي الكريم،ولا يقعده عن بيان الحق لهم،وإرشادهم إلى الحقيقة التي غفلوا عنها وجهلوها في طلبهم منه أن يأتيهم بما أوعدهم،وردهم إلى هذه الحقيقة وهي أنه ليس سوى رسول،وليس عليه إلا البلاغ،أما العذاب فمن أمر اللّه،وهو الذي يدبر الأمر كله،ويقدر المصلحة في تعجيل العذاب أو تأجيله،وسنته هي التي تنفذ ..وما يملك هو أن يردها أو يحولها ..إنه رسول.
وعليه أن يكشف عن الحق حتى اللحظة الأخيرة،فلا يقعده عن إبلاغه وبيانه أن القوم يكذبونه ويتحدونه:«قالَ:إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ،وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ.وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي - إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ - إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ،هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» ..
فإذا كانت سنة اللّه تقتضي أن تهلكوا بغوايتكم،فإن هذه السنة ستمضي فيكم،مهما بذلت لكم من النصح.
لا لأن اللّه سيصدكم عن الانتفاع بهذا النصح،ولكن لأن تصرفكم بأنفسكم يجعل سنة اللّه تقتضي أن تضلوا،وما أنتم بمعجزين للّه عن أن ينالكم ما يقدر لكم،فأنتم دائما في قبضته،وهو المدبر والمقدر لأمركم كله،ولا مفر لكم من لقائه وحسابه وجزائه:«هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» ..
وعند هذا المقطع من قصة نوح،يلتفت السياق لفتة عجيبة،إلى استقبال مشركي قريش لمثل هذه القصة،التي تشبه أن تكون قصتهم مع الرسول - - ودعواهم أن محمدا يفتري هذا القصص.
فيرد هذا القول قبل أن يمضي في استكمال قصة نوح:«أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ؟ قُلْ:إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي،وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ» ..
فالافتراء إجرام،قل لهم:إن كنت فعلته فعليّ تبعته.وأنا أعرف أنه إجرام فمستبعد أن أرتكبه،وأنا بريء مما تجرمون من تهمة الافتراء إلى جوار غيرها من الشرك والتكذيب.



أصحاب الدعوة الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر هم صمام الأمان

قال تعالى : { فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) } [هود: 116،117]
وهذه الإشارة تكشف عن سنة من سنن اللّه في الأمم.فالأمة التي يقع فيها الفساد بتعبيد الناس لغير اللّه،في صورة من صوره،فيجد من ينهض لدفعه هي أمم ناجية،لا يأخذها اللّه بالعذاب والتدمير.فأما الأمم التي يظلم فيها الظالمون،ويفسد فيها المفسدون،فلا ينهض من يدفع الظلم والفساد،أو يكون فيها من يستنكر،ولكنه لا يبلغ أن يؤثر في الواقع الفاسد،فإن سنة اللّه تحق عليها،إما بهلاك الاستئصال.وإما بهلاك الانحلال ..
والاختلال! فأصحاب الدعوة إلى ربوبية اللّه وحده،وتطهير الأرض من الفساد الذي يصيبها بالدينونة لغيره،هم صمام الأمان للأمم والشعوب ..وهذا يبرز قيمة كفاح المكافحين لإقرار ربوبية اللّه وحده،الواقفين للظلم والفساد بكل صوره ..إنهم لا يؤدون واجبهم لربهم ولدينهم فحسب،إنما هم يحولون بهذا دون أممهم وغضب اللّه،واستحقاق النكال والضياع ..
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ،قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ،يَقُولُ : الْمُدَاهِنُ فِي حُدُودِ اللهِ،وَالرَّاكِبُ حُدُودَ اللهِ،وَالآمِرُ بِهَا،وَالنَّاهِي عَنْهَا،كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا فِي سَفِينَةٍ مِنْ سُفُنِ الْبَحْرِ،فَأَصَابَ أَحَدُهُمْ مُؤَخَّرَ السَّفِينَةِ وَأَبْعَدَهَا مِنَ الْمِرْفَقِ،وَكَانُوا سُفَهَاءَ،وَكَانُوا إِذَا أَتَوْا عَلَى رِجَالِ الْقَوْمِ آذَوْهُمْ،فَقَالُوا : نَحْنُ أَقْرَبُ أَهْلِ السَّفِينَةِ مِنَ الْمِرْفَقِ وَأَبْعَدُهُمْ مِنَ الْمَاءِ،فَتَعَالَوْا نَخْرِقْ دَفَّ السَّفِينَةِ ثُمَّ نَرُدَّهُ إِذَا اسْتَغْنَيْنَا عَنْهُ،فَقَالَ مَنْ نَاوَأَهُ مِنَ السُّفَهَاءِ : افْعَلْ. فَأَهْوَى إِلَى فَأْسٍ لِيَضْرِبَ بِهَا أَرْضَ السَّفِينَةِ،فَأَشْرَفَ عَلَيْهِ رَجُلٌ رُشَيْدٌ فَقَالَ : مَا تَصْنَعُ ؟ فَقَالَ : نَحْنُ أَقْرَبُكُمْ مِنَ الْمِرْفَقِ وَأَبْعَدُكُمْ مِنْهُ،أَخْرِقُ دَفَّ السَّفِينَةِ،فَإِذَا اسْتَغْنَيْنَا عَنْهُ سَدَدْنَاهُ،فَقَالَ : لاَ تَفْعَلْ،فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ تَهْلِكُ وَنَهْلِكُ.



الدعوة إلى الله على بصيرة

قال تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [يوسف: 108]
«قُلْ:هذِهِ سَبِيلِي» ..واحدة مستقيمة،لا عوج فيها ولا شك ولا شبهة.
«أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي» ..فنحن على هدى من اللّه ونور.نعرف طريقنا جيدا،ونسير فيها على بصر وإدراك ومعرفة،لا نخبط ولا نتحسس،ولا نحدس.فهو اليقين البصير المستنير.ننزه اللّه - سبحانه - عما لا يليق بألوهيته،وننفصل وننعزل ونتميز عن الذين يشركون به:«وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ..لا ظاهر الشرك ولا خافيه.
هذه طريقي فمن شاء فليتابع،ومن لم يشأ فأنا سائر في طريقي المستقيم.
وأصحاب الدعوة إلى اللّه لا بد لهم من هذا التميز،لا بد لهم أن يعلنوا أنهم أمة وحدهم،يفترقون عمن لا يعتقد عقيدتهم،ولا يسلك مسلكهم،ولا يدين لقيادتهم،ويتميزون ولا يختلطون!
ولا يكفي أن يدعوا أصحاب هذا الدين إلى دينهم،وهم متميعون في المجتمع الجاهلي.فهذه الدعوة لا تؤدي شيئا ذا قيمة!
إنه لا بد لهم منذ اليوم الأول أن يعلنوا أنهم شيء آخر غير الجاهلية وأن يتميزوا بتجمع خاص آصرته العقيدة المتميزة،وعنوانه القيادة الإسلامية ..لا بد أن يميزوا أنفسهم من المجتمع الجاهلي وأن يميزوا قيادتهم من قيادة المجتمع الجاهلي أيضا!
إن اندغامهم وتميعهم في المجتمع الجاهلي،وبقاءهم في ظل القيادة الجاهلية،يذهب بكل السلطان الذي تحمله عقيدتهم،وبكل الأثر الذي يمكن أن تنشئه دعوتهم،وبكل الجاذبية التي يمكن أن تكون للدعوة الجديدة.
وهذه الحقيقة لم يكن مجالها فقط هو الدعوة النبوية في أوساط المشركين ..إن مجالها هو مجال هذه الدعوة كلما عادت الجاهلية فغلبت على حياة الناس ..وجاهلية القرن العشرين لا تختلف في مقوماتها الأصيلة،وفي ملامحها المميزة عن كل جاهلية أخرى واجهتها الدعوة الإسلامية على مدار التاريخ! والذين يظنون أنهم يصلون إلى شيء عن طريق التميع في المجتمع الجاهلي والأوضاع الجاهلية،والتدسس الناعم من خلال تلك المجتمعات ومن خلال هذه الأوضاع بالدعوة إلى الإسلام ..هؤلاء لا يدركون طبيعة هذه العقيدة ولا كيف ينبغي أن تطرق القلوب! ..
إن أصحاب المذاهب الإلحادية أنفسهم يكشفون عن عنوانهم وواجهتهم ووجهتهم!
أفلا يعلن أصحاب الدعوة إلى الإسلام عن عنوانهم الخاص؟ وطريقهم الخاص؟ وسبيلهم التي تفترق تماما عن سبيل الجاهلية؟



سنة الله في الدعوات والهدف من القصص القرآني

قال تعالى :{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)} [يوسف: 109،110]
إن النظر في آثار الغابرين يهز القلوب.حتى قلوب المتجبرين.ولحظات الاسترجاع الخيالي لحركاتهم وسكناتهم وخلجاتهم وتصورهم أحياء يروحون في هذه الأمكنة ويجيئون،يخافون ويرجون،يطمعون ويتطلعون ..ثم إذا هم ساكنون،لا حس ولا حركة.آثارهم خاوية،طواهم الفناء وانطوت معهم مشاعرهم وعوالمهم وأفكارهم وحركاتهم وسكناتهم،ودنياهم الماثلة للعيان والمستكنة في الضمائر والمشاعر ..إن هذه التأملات لتهز القلب البشري هزا مهما يكن جاسيا غافلا قاسيا.ومن ثم يأخذ القرآن بيد القوم ليوقفهم على مصارع الغابرين بين الحين والحين:«وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى » ..لم يكونوا ملائكة ولا خلقا آخر.إنما كانوا بشرا مثلك من أهل الحاضرة،لا من أهل البادية،ليكونوا أرق حاشية وألين جانبا ..وأصبر على احتمال تكاليف الدعوة والهداية،فرسالتك ماضية على سنة اللّه في إرسال رجال من البشر نوحي إليهم ..
«أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؟» ..فيدركوا أن مصيرهم كمصيرهم وأن سنة اللّه الواضحة الآثار في آثار الغابرين ستنالهم وأن عاقبتهم في هذه الأرض إلى ذهاب:«وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا».خير من هذه الدار التي ليس فيها قرار.
«أَفَلا تَعْقِلُونَ؟» ..فتتدبروا سنن اللّه في الغابرين؟ أفلا تعقلون فتؤثروا المتاع الباقي على المتاع القصير؟
ثم يصور ساعات الحرج القاسية في حياة الرسل،قبيل اللحظة الحاسمة التي يتحقق فيها وعد اللّه،وتمضي فيها سنته التي لا تتخلف ولا تحيد:« حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) ».
إنها صورة رهيبة،ترسم مبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل،وهم يواجهون الكفر والعمى والإصرار والجحود.وتمر الأيام وهم يدعون فلا يستجيب لهم إلا قليل،وتكر الأعوام والباطل في قوته،وكثرة أهله،والمؤمنون في عدتهم القليلة وقوتهم الضئيلة.
إنها ساعات حرجة،والباطل ينتفش ويطغى ويبطش ويغدر.والرسل ينتظرون الوعد فلا يتحقق لهم في هذه الأرض.فتهجس في خواطرهم الهواجس ..تراهم كذبوا؟ ترى نفوسهم كذبتهم في رجاء النصر في هذه الحياة الدنيا؟
وما يقف الرسول هذا الموقف إلا وقد بلغ الكرب والحرج والضيق فوق ما يطيقه بشر.وما قرأت هذه الآية والآية الأخرى:«أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ:مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟ ...» ما قرأت هذه الآية أو تلك إلا وشعرت بقشعريرة من تصور الهول الذي يبلغ بالرسول هذا المبلغ،ومن تصور الهول الكامن في هذه الهواجس،والكرب المزلزل الذي يرج نفس الرسول هذه الرجة،وحالته النفسية في مثل هذه اللحظات،وما يحس به من ألم لا يطاق.
في هذه اللحظة التي يستحكم فيها الكرب،ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل،ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخرة ..في هذه اللحظة يجيء النصر كاملا حاسما فاصلا:«جاءَهُمْ نَصْرُنا،فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ،وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ» ..
تلك سنة اللّه في الدعوات.لا بد من الشدائد،ولا بد من الكروب،حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة.ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس.يجيء النصر من عند اللّه،فينجو الذين يستحقون النجاة،ينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين،وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون.ويحل بأس اللّه بالمجرمين،مدمرا ماحقا لا يقفون له،ولا يصده عنهم ولي ولا نصير.
ذلك كي لا يكون النصر رخيصا فتكون الدعوات هزلا.فلو كان النصر رخيصا لقام في كل يوم دعيّ بدعوة لا تكلفه شيئا.أو تكلفه القليل.ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثا ولا لعبا.فإنما هي قواعد للحياة البشرية ومناهج،ينبغي صيانتها وحراستها من الأدعياء.والأدعياء لا يحتملون تكاليف الدعوة،لذلك يشفقون أن يدّعوها،فإذا ادّعوها عجزوا عن حملها وطرحوها،وتبين الحق من الباطل على محك الشدائد التي لا يصمد لها إلا الواثقون الصادقون الذين لا يتخلون عن دعوة اللّه،ولو ظنوا أن النصر لا يجيئهم في هذه الحياة!
إن الدعوة إلى اللّه ليست تجارة قصيرة الأجل إما أن تربح ربحا معينا محددا في هذه الأرض،وإما أن يتخلى عنها أصحابها إلى تجارة أخرى أقرب ربحا وأيسر حصيلة! والذي ينهض بالدعوة إلى اللّه في المجتمعات الجاهلية - والمجتمعات الجاهلية هي التي تدين لغير اللّه بالطاعة والاتباع في أي زمان أو مكان - يجب أن يوطن نفسه على أنه لا يقوم برحلة مريحة،ولا يقوم بتجارة مادية قريبة الأجل! إنما ينبغي له أن يستيقن أنه يواجه طواغيت يملكون القوة والمال ويملكون استخفاف الجماهير حتى ترى الأسود أبيض والأبيض أسود! ويملكون تأليب هذه الجماهير ذاتها على أصحاب الدعوة إلى اللّه،باستثارة شهواتها وتهديدها بأن أصحاب الدعوة إلى اللّه يريدون حرمانها من هذه الشهوات! ..ويجب أن يستيقنوا أن الدعوة إلى اللّه كثيرة التكاليف،وأن الانضمام إليها في وجه المقاومة الجاهلية كثير التكاليف أيضا.وأنه من ثم لا تنضم إليها - في أول الأمر - الجماهير المستضعفة،إنما تنضم إليها الصفوة المختارة في الجيل كله،التي تؤثر حقيقة هذا الدين على الراحة والسلامة،وعلى كل متاع هذه الحياة الدنيا.وأن عدد هذه الصفوة يكون دائما قليلا جدا.
ولكن اللّه يفتح بينهم وبين قومهم بالحق،بعد جهاد يطول أو يقصر.وعندئذ فقط تدخل الجماهير في دين اللّه أفواجا.


موقف الجاهلية من دعوة الرسل عبر التاريخ

إننا نقف من هذه القصة على حقيقة أولية بارزة يقصها علينا الحكيم الخبير ..إن موكب الإيمان منذ فجر التاريخ الإنساني موكب واحد موصول،يقوده رسل اللّه الكرام،داعين بحقيقة واحدة،جاهرين بدعوة واحدة،سائرين على منهج واحد ..كلهم يدعو إلى ألوهية واحدة،وربوبية واحدة وكلهم لا يدعو مع اللّه أحدا،ولا يتوكل على أحد غيره،ولا يلجأ إلى ملجأ سواه،ولا يعرف له سندا إلا إياه.
وأمر الاعتقاد في اللّه الواحد - إذن - ليس كما يزعم «علماء الدين المقارن» أنه تطور وترقى من التعديد إلى التثنية إلى التوحيد ومن عبادة الطواطم والأرواح والنجوم والكواكب إلى عبادة اللّه الواحد وأنه تطور وترقى كذلك بتطور وترقي التجربة البشرية والعلم البشري،وبتطور وترقي الأنظمة السياسية وانتهائها إلى الأوضاع الموحدة تحت سلطان واحد ...
إن الاعتقاد في اللّه الواحد جاءت به الرسالات منذ فجر التاريخ ولم تتغير هذه الحقيقة ولم تتبدل في رسالة واحدة من الرسالات ولا في دين واحد من الأديان السماوية.كما يقص علينا الحكيم الخبير.
ولو قال أولئك «العلماء»:إن قابلية البشرية لعقيدة التوحيد التي جاء بها الرسل كانت تترقى من عهد رسول إلى عهد رسول وإن الوثنيات الجاهلية كانت تتأثر بعقائد التوحيد المتوالية التي كان موكب الرسل الكرام يواجه بها هذه الوثنيات حينا بعد حين.حتى جاء زمان كانت عقيدة التوحيد أكثر قبولا لدى جماهير الناس مما كانت،بفعل توالي رسالات التوحيد وبفعل العوامل الأخرى التي يفردونها بالتأثير ...لو قال أولئك «العلماء» قولا كهذا لساغ ..ولكنهم إنما يتأثرون بمنهج في البحث يقوم ابتداء على قاعدة من العداء الدفين القديم للكنيسة في أوربا - حتى ولو لم يلحظه العلماء المعاصرون! - ومن الرغبة الخفية - الواعية أو غير الواعية - في تحطيم المنهج الديني في التفكير وإثبات أن الدين لم يكن قط وحيا من عند اللّه إنما كان اجتهادا من البشر،ينطبق عليه ما ينطبق على تطورهم في التفكير والتجربة والمعرفة العلمية سواء بسواء ..ومن ذلك العداء القديم ومن هذه الرغبة الخفية ينبثق منهج علم الأديان المقارن ويسمى مع ذلك «علما» ينخدع به الكثيرون! وإذا جاز أن يخدع أحد بمثل هذا «العلم» فإنه لا ينبغي لمسلم يؤمن بدينه،ويحترم منهج هذا الدين في تقرير مثل هذه الحقيقة أن يخدع لحظة واحدة وأن يدلي بقول يصطدم اصطداما مباشرا مع مقررات دينه،ومع منهجه الواضح في هذا الشأن الخطير ..
هذا الموكب الكريم من الرسل واجه البشرية الضالة - إذن - بدعوة واحدة،وعقيدة واحدة،وكذلك واجهت الجاهلية ذلك الموكب الكريم،وهذه الدعوة الواحدة بالعقيدة الواحدة،مواجهة واحدة - كما يعرضها السياق القرآني مغضيا عن الزمان والمكان،مبرزا للحقيقة الواحدة الموصولة من وراء الزمان والمكان - وكما أن دعوة الرسل لم تتبدل،فكذلك مواجهة الجاهلية لم تتبدل!
إنها حقيقة تستوقف النظر حقا! ..إن الجاهلية هي الجاهلية على مدار الزمان ..إن الجاهلية ليست فترة تاريخية ولكنها وضع واعتقاد وتصور وتجمع عضوي على أساس هذه المقومات ..
والجاهلية تقوم ابتداء على أساس من دينونة العباد للعباد ومن تأليه غير اللّه.أو من ربوبية غير اللّه - وكلاهما سواء في إنشاء الجاهلية - فسواء كان الاعتقاد قائما على تعدد الآلهة أو كان قائما على توحيد الإله مع تعدد الأرباب - أي المتسلطين - فهو ينشئ الجاهلية بكل خصائصها الثانوية الأخرى! ودعوة الرسل إنما تقوم على توحيد اللّه وتنحية الأرباب الزائفة،وإخلاص الدين للّه - أي إخلاص الدينونة للّه وإفراده سبحانه بالربوبية،أي الحاكمية والسلطان - ومن ثم تصطدم اصطداما مباشرا بالقاعدة التي تقوم عليها الجاهلية وتصبح بذاتها خطرا على وجود الجاهلية.وبخاصة حين تتمثل دعوة الإسلام في تجمع خاص،يأخذ أفراده من التجمع الجاهلي وينفصل بهم عن الجاهلية من ناحية الاعتقاد،ومن ناحية القيادة،ومن ناحية الولاء ..الأمر الذي لا بد منه للدعوة الإسلامية في كل مكان وفي كل زمان ..
وعند ما يشعر التجمع الجاهلي - بوصفه كيانا عضويا واحدا متساندا - بالخطر الذي يتهدد قاعدة وجوده من الناحية الاعتقادية كما يتهدد وجوده ذاته بتمثل الاعتقاد الإسلامي في تجمع آخر منفصل عنه ومواجه له ..فعندئذ يسفر التجمع الجاهلي عن حقيقة موقفه تجاه دعوة الإسلام!
إنها المعركة بين وجودين لا يمكن أن يكون بينهما تعايش أو سلام! المعركة بين تجمعين عضويين كل منهما يقوم على قاعدة مناقضة تماما للقاعدة التي يقوم عليها التجمع الآخر.فالتجمع الجاهلي يقوم على قاعدة تعدد الآلهة،أو تعدد الأرباب،ومن ثم يدين فيه العباد للعباد.والتجمع الإسلامي يقوم على قاعدة وحدانية الألوهية ووحدانية الربوبية ومن ثم لا يمكن فيه دينونة العباد للعباد ..
ولما كان التجمع الإسلامي إنما يأكل في كل يوم من جسم التجمع الجاهلي،في أول الأمر وهو في دور التكوين،ثم بعد ذلك لا بد له من مواجهة التجمع الجاهلي لتسلم القيادة منه،وإخراج الناس كافة من العبودية للعباد إلى العبودية للّه وحده ..لما كانت هذه كلها حتميات لا بد منها متى سارت الدعوة الإسلامية في طريقها الصحيح،فإن الجاهلية لا تطيق منذ البدء دعوة الإسلام ..ومن هنا ندرك لماذا كانت مواجهة الجاهلية واحدة لدعوة الرسل الكرام! ..إنها مواجهة الدفاع عن النفس في وجه الاحتياج ومواجهة الدفاع عن الحاكمية المغتصبة وهي من خصائص الألوهية التي يغتصبها في الجاهلية العباد! وإذ كان هذا هو شعور الجاهلية بخطر الدعوة الإسلامية عليها،فقد واجهت هذه الدعوة في معركة حياة أو موت،لا هوادة فيها ولا هدنة ولا تعايش ولا سلام! ..
إن الجاهلية لم تخدع نفسها في حقيقة المعركة وكذلك لم يخدع الرسل الكرام - صلوات اللّه وسلامه عليهم - أنفسهم ولا المؤمنين بهم في حقيقة المعركة ..«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ:لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا» ..فهم لا يقبلون من الرسل والذين آمنوا معهم،أن يتميزوا وينفصلوا بعقيدتهم وبقيادتهم وبتجمعهم الخاص.
إنما يطلبون إليهم أن يعودوا في ملتهم،ويندمجوا في تجمعهم،ويذوبوا في هذا التجمع.أو أن يطردوهم بعيدا وينفوهم من أرضهم ..ولم يقبل الرسل الكرام أن يندمجوا في التجمع الجاهلي،ولا أن يذوبوا فيه،ولا أن يفقدوا شخصية تجمعهم الخاص ..هذا التجمع الذي يقوم على قاعدة أخرى غير القاعدة التي يقوم عليها التجمع الجاهلي ..ولم يقولوا - كما يقول ناس ممن لا يدركون حقيقة الإسلام ..ولا حقيقة التركيب العضوي للمجتمعات -:حسنا! فلنندمج في ملتهم كي نزاول دعوتنا ونخدم عقيدتنا من خلالهم!!!
إن تميز المسلم بعقيدته في المجتمع الجاهلي،لا بد أن يتبعه حتما تميزه بتجمعه الإسلامي وقيادته وولائه .
وليس في ذلك اختيار ..إنما هي حتمية من حتميات التركيب العضوي للمجتمعات ..هذا التركيب الذي يجعل التجمع الجاهلي حساسا بالنسبة لدعوة الإسلام القائمة على قاعدة عبودية الناس للّه وحده وتنحية الأرباب الزائفة عن مراكز القيادة والسلطان.كما يجعل كل عضو مسلم يتميع في المجتمع الجاهلي خادما للتجمع الجاهلي لا خادما لإسلامه كما يظن بعض الأغرار !
ثم تبقى الحقيقة القدرية التي ينبغي ألا يغفل عنها الدعاة إلى اللّه في جميع الأحوال.وهي أن تحقيق وعد اللّه لأوليائه بالنصر والتمكين والفصل بينهم وبين قومهم بالحق،لا يقع ولا يكون،إلا بعد تميز أصحاب الدعوة وتحيزهم وإلا بعد مفاصلتهم لقومهم على الحق الذي معهم ..فذلك الفصل من اللّه لا يقع وأصحاب الدعوة متميعون في المجتمع الجاهلي،ذائبون في أوضاعه عاملون في تشكيلاته ..وكل فترة تميع على هذا النحو هي فترة تأخير وتأجيل لوعد اللّه بالنصر والتمكين ..وهي تبعة ضخمة هائلة يجب أن يتدبرها أصحاب الدعوة إلى اللّه،وهم واعون مقدرون ..
وقال تعالى : {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } [فصلت: 43]
إنه وحي واحد،ورسالة واحدة،وعقيدة واحدة.وإنه كذلك استقبال واحد من البشرية،وتكذيب واحد،واعتراضات واحدة ..ثم هي بعد ذلك وشيجة واحدة،وشجرة واحدة،وأسرة واحدة،وآلام واحدة،وتجارب واحدة،وهدف في نهاية الأمر واحد،وطريق واصل ممدود.
أي شعور بالأنس،والقوة،والصبر،والتصميم.توحيه هذه الحقيقة لأصحاب الدعوة،السالكين في طريق سار فيها من قبل نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم جميعا - صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين؟
وأي شعور بالكرامة والاعتزاز والاستعلاء على مصاعب الطريق وعثرتها وأشواكها وعقباتها،وصاحب الدعوة يمضي وهو يشعر أن أسلافه في هذا الطريق هم تلك العصبة المختارة من بني البشر أجمعين؟
إنها حقيقة:«ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ» ..ولكن أي آثار هائلة عميقة ينشئها استقرار هذه الحقيقة في نفوس المؤمنين؟
وهذا ما يصنعه هذا القرآن،وهو يقرر مثل هذه الحقيقة الضخمة ويزرعها في القلوب.
ومما قيل للرسل وقيل لمحمد - - خاتم الرسل:«إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ» ..ذلك كي تستقيم نفس المؤمن وتتوازن.فيطمع في رحمة اللّه ومغفرته فلا ييأس منها أبدا.ويحذر عقاب اللّه ويخشاه فلا يغفل عنه أبدا.إنه التوازن طابع الإسلام الأصيل.



زاد الطريق من تسبيح وسجود حتى الممات

قال تعالى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) } سورة الحجر
إن الصدع بحقيقة هذه العقيدة والجهر بكل مقوّماتها وكل مقتضياتها.ضرورة في الحركة بهذه الدعوة فالصدع القوي النافذ هو الذي يهز الفطرة الغافية ويوقظ المشاعر المتبلدة ويقيم الحجة على الناس «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» أما التدسس الناعم بهذه العقيدة وجعلها عضين يعرض الداعية منها جانبا ويكتم جانبا،لأن هذا الجانب يثير الطواغيت أو يصد الجماهير! فهذا ليس من طبيعة الحركة الصحيحة بهذه العقيدة القوية.
والصدع بحقيقة هذه الحقيقة لا يعني الغلظة المنفرة،والخشونة وقلة الذوق والجلافة! كما أن الدعوة بالحسنى لا تعني التدسس الناعم،وكتمان جانب من حقائق هذه العقيدة وإبداء جانب،وجعل القرآن عضين ..لا هذه و لا تلك ..إنما هو البيان الكامل لكل حقائق هذه العقيدة في وضوح جلي،وفي حكمة كذلك في الخطاب ولطف ومودة ولين وتيسير.
« وليست وظيفة الإسلام أن يصطلح مع التصورات الجاهلية السائدة في الأرض،ولا الأوضاع الجاهلية القائمة في كل مكان ..لم تكن هذه وظيفته يوم جاء ولن تكون هذه وظيفته اليوم ولا في المستقبل ..فالجاهلية هي الجاهلية،والإسلام هو الإسلام ..الجاهلية هي الانحراف عن العبودية للّه وحده،وعن المنهج الإلهي في الحياة،واستنباط النظم والشرائع والقوانين،والعادات والتقاليد والقيم والموازين،من مصدر آخر غير المصدر الإلهي ..والإسلام هو الإسلام،ووظيفته هي نقل الناس من الجاهلية إلى الإسلام» .
وهذه الحقيقة الأساسية الكبيرة هي التي يجب أن يصدع بها أصحاب الدعوة الإسلامية،ولا يخفوا منها شيئا وأن يصروا عليها مهما لاقوا من بطش الطواغيت وتململ الجماهير:«وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ.فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ.وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ»



على أصحاب الدعوة الصدع بالحق وعدم تبرير الباطل

إن الرسل عند ما يكلفون حمل الرسالة إلى الناس،يكون أحب شيء إلى نفوسهم أن يجتمع الناس على الدعوة،وأن يدركوا الخير الذي جاءوهم به من عند اللّه فيتبعوه ..ولكن العقبات في طريق الدعوات كثيرة.
والرسل بشر محدودو الأجل.وهم يحسون هذا ويعلمونه.فيتمنون لو يجذبون الناس إلى دعوتهم بأسرع طريق ..يودون مثلا لو هادنوا الناس فيما يعز على الناس أن يتركوه من عادات وتقاليد وموروثات فيسكتوا عنها مؤقتا لعل الناس أن يفيئوا إلى الهدى،فإذا دخلوا فيه أمكن صرفهم عن تلك الموروثات العزيزة! ويودون مثلا لو جاروهم في شيء يسير من رغبات نفوسهم رجاء استدراجهم إلى العقيدة،على أمل أن تتم فيما بعد تربيتهم الصحيحة التي تطرد هذه الرغبات المألوفة! ويودون.ويودون.من مثل هذه الأماني والرغبات البشرية المتعلقة بنشر الدعوة وانتصارها ..ذلك على حين يريد اللّه أن تمضي الدعوة على أصولها الكاملة،وفق موازينها الدقيقة،ثم من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.فالكسب الحقيقي للدعوة في التقدير الإلهي الكامل غير المشوب بضعف البشر وتقديرهم ..هو أن تمضي على تلك الأصول وفق تلك الموازين،ولو خسرت الأشخاص في أول الطريق.فالاستقامة الدقيقة الصارمة على أصول الدعوة ومقاييسها كفيل أن يثني هؤلاء الأشخاص أو من هم خير منهم إلى الدعوة في نهاية المطاف،وتبقى مثل الدعوة سليمة لا تخدش،مستقيمة لا عوج فيها ولا انحناء ..ويجد الشيطان في تلك الرغبات البشرية،وفي بعض ما يترجم عنها من تصرفات أو كلمات،فرصة للكيد للدعوة،وتحويلها عن قواعدها،وإلقاء الشبهات حولها في النفوس ..ولكن اللّه يحول دون كيد الشيطان،ويبين الحكم الفاصل فيما وقع من تصرفات أو كلمات،ويكلف الرسل أن يكشفوا للناس عن الحكم الفاصل،وعما يكون قد وقع منهم من خطأ في اجتهادهم للدعوة.كما حدث في بعض تصرفات الرسول - - وفي بعض اتجاهاته،مما بين اللّه فيه بيانا في القرآن ..
بذلك يبطل اللّه كيد الشيطان،ويحكم اللّه آياته،فلا تبقى هنالك شبهة في الوجه الصواب:
«وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ..فأما الذين في قلوبهم مرض من نفاق أو انحراف،والقاسية قلوبهم من الكفار المعاندين فيجدون في مثل هذه الأحوال مادة للجدل واللجاج والشقاق:«وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ».وأما الذين أوتوا العلم والمعرفة فتطمئن قلوبهم إلى بيان اللّه وحكمه الفاصل:«وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ..
وفي حياة النبي - - وفي تاريخ الدعوة الإسلامية نجد أمثلة من هذا،تغنينا عن تأويل الكلام،الذي أشار إليه الإمام ابن جرير رحمه اللّه.
نجد من ذلك مثالا في قصة ابن أم مكتوم - رضي اللّه عنه - الأعمى الفقير الذي جاء إلى رسول اللّه - - يقول:يا رسول اللّه أقرئني وعلمني مما علمك اللّه.ويكرر هذا القول والرسول - - مشغول بأمر الوليد بن المغيرة يود لو يهديه إلى الإسلام ومعه صناديد قريش،وابن أم مكتوم لا يعلم أن رسول اللّه - - مشغول بهذا الأمر.حتى كره،رسول اللّه - - إلحاحه فعبس وأعرض عنه ..فأنزل اللّه في هذا قرآنا يعاتب فيه الرسول عتابا شديدا:« عَبَسَ وَتَوَلَّى.أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى .وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى،أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى ! أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى،فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى؟ وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى؟ وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى؟ كَلَّا! إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ...» .
وبهذا رد اللّه للدعوة موازينها الدقيقة وقيمها الصحيحة.وصحح تصرف رسول اللّه - - الذي دفعته إليه،رغبته في هداية صناديد قريش،طمعا في إسلام من وراءهم وهم كثيرون.فبين اللّه له:أن استقامة الدعوة على أصولها الدقيقة أهم من إسلام أولئك الصناديد.وأبطل كيد الشيطان من الدخول إلى العقيدة من هذه الثغرة،وأحكم اللّه آياته.واطمأنت إلى هذا البيان قلوب المؤمنين.
ولقد كان رسول اللّه - - بعد ذلك يكرم ابن أم مكتوم.ويقول إذا رآه:«مرحبا بمن عاتبني فيه ربي» ويقول له:«هل لك من حاجة» واستخلفه على المدينة مرتين .
كذلك وقع ما رواه مسلم في صحيحه عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ،قَالَ:كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ وَنَحْنُ سِتَّةُ نَفَرٍ،فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ:اطْرُدْ هَؤُلاَءِ عَنْكَ،فَإِنَّهُمْ وَإِنَّهُمْ،وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ،وَبِلاَلٌ،وَرَجُلاَنِ نَسِيتُ أَحَدُهُمَا،قَالَ:فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللهِ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ،وَحَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ،فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام] إِلَى قَوْلِهِ:{الظَّالِمِينَ} [الأنعام].
وهكذا رد اللّه للدعوة قيمها المجردة،وموازينها الدقيقة.ورد كيد الشيطان فيما أراد أن يدخل من تلك الثغرة.ثغرة الرغبة البشرية في استمالة كبراء قريش بإجابة رغبتهم في أن لا يحضر هؤلاء الفقراء مجلسهم مع رسول اللّه - - وقيم الدعوة أهم من أولئك الكبراء،وما يتبع إسلامهم من إسلام الألوف معهم وتقوية الدعوة في نشأتها بهم - كما كان يتمنى رسول اللّه - - واللّه أعلم بمصدر القوة الحقيقة،وهو الاستقامة التي لا ترعى هوى شخصيا ولا عرفا جاريا! ولعله مما يلحق بالمثلين المتقدمين ما حدث في أمر زينب بنت جحش ابنة عمة رسول اللّه - - فقد زوجها من زيد بن حارثة - رضي اللّه عنه - وكان قد تبناه قبل النبوة،فكان يقال له:زيد بن محمد.فأراد اللّه أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة فقال تعالى:«ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ» وقال:«وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ» ..وكان زيد - رضي اللّه عنه - أحب الناس إلى رسول اللّه - - فزوجه من ابنة عمته زينب بنت جحش - رضي اللّه عنها - فلم تستقم بينهما الحياة ..وكانوا في الجاهلية يكرهون أن يتزوج المتبني مطلقة متبناه.فأراد اللّه سبحانه إبطال هذه العادة،كما أبطل نسبة الولد إلى غير أبيه.فأخبر رسوله - - أنه سيزوجه من زينب بعد أن يطلقها زيد - لتكون هذه السنة مبطلة لتلك العادة - ولكن النبي - - أخفى في نفسه ما أخبره به اللّه.وكان كلما
شكا إليه زيد تعذر الحياة مع زينب قال له:«أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» مراعيا في هذا كراهية القوم لزواجه منها حين يطلقها زيد.وظل يخفي ما قدر اللّه إظهاره حتى طلقها زيد ..فأنزل اللّه في هذا قرآنا،يكشف عما جال في خاطر الرسول - - ويقرر القواعد التي أراد اللّه أن يقوم تشريعه في هذه المسألة عليها:«وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ:أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ.وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ،وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ.فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً.وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» ..
عن عائشة،رضي الله عنها،أنها قالت:لو كتم محمد شيئًا مما أوحي إليه من كتاب الله،لكتم:{ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ }
ولقد صدقت عائشة - رضي اللّه عنها
وهكذا أنفذ اللّه شريعته وأحكمها،وكشف ما خالج خاطر رسول اللّه - - من كراهية القوم لزواجه من مطلقة دعيه.ولم يمكن للشيطان أن يدخل من هذه الثغرة.وترك الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم يتخذون من هذه الحادثة،مادة للشقاق والجدال ما تزال!!!
هذا هو ما نطمئن إليه في تفسير تلك الآيات.واللّه الهادي إلى الصواب.
ولقد تدفع الحماسة والحرارة أصحاب الدعوات - بعد الرسل - والرغبة الملحة في انتشار الدعوات وانتصارها ..تدفعهم إلى استمالة بعض الأشخاص أو بعض العناصر بالإغضاء في أول الأمر عن شيء من مقتضيات الدعوة يحسبونه هم ليس أصيلا فيها،ومجاراتهم في بعض أمرهم كي لا ينفروا من الدعوة ويخاصموها! ولقد تدفعهم كذلك إلى اتخاذ وسائل وأساليب لا تستقيم مع موازين الدعوة الدقيقة،ولا مع منهج الدعوة المستقيم.وذلك حرصا على سرعة انتصار الدعوة وانتشارها.واجتهادا في تحقيق «مصلحة الدعوة» ومصلحة الدعوة الحقيقية في استقامتها على النهج دون انحراف قليل أو كثير.أما النتائج فهي غيب لا يعلمه إلا اللّه.
فلا يجوز أن يحسب حملة الدعوة حساب هذه النتائج إنما يجب أن يمضوا على نهج الدعوة الواضح الصريح الدقيق،وأن يدعوا نتائج هذه الاستقامة للّه.ولن تكون إلا خيرا في نهاية المطاف.
وها هو ذا القرآن الكريم ينبههم إلى أن الشيطان يتربص بأمانيهم تلك لينفذ منها إلى صميم الدعوة.وإذا كان اللّه قد عصم أنبياءه ورسله فلم يمكن للشيطان أن ينفذ من خلال رغباتهم الفطرية إلى دعوتهم.فغير المعصومين في حاجة إلى الحذر الشديد من هذه الناحية،والتحرج البالغ،خيفة أن يدخل عليهم الشيطان من ثغرة الرغبة في نصرة الدعوة والحرص على ما يسمونه «مصلحة الدعوة» ..إن كلمة «مصلحة الدعوة» يجب أن ترتفع من قاموس أصحاب الدعوات،لأنها مزلة،ومدخل للشيطان يأتيهم منه،حين يعز عليه أن يأتيهم من ناحية مصلحة الأشخاص! ولقد تتحول «مصلحة الدعوة» إلى صنم يتعبده أصحاب الدعوة وينسون معه منهج الدعوة الأصيل! ..إن على أصحاب الدعوة أن يستقيموا على نهجها ويتحروا هذا النهج دون التفات إلى ما يعقبه هذا التحري من نتائج قد يلوح لهم أن فيها خطرا على الدعوة وأصحابها! فالخطر الوحيد الذي يجب أن يتقوه هو خطر الانحراف عن النهج لسبب من الأسباب،سواء كان هذا الانحراف كثيرا أو قليلا.واللّه أعرف منهم بالمصلحة وهم ليسوا بها مكلفين.إنما هم مكلفون بأمر واحد.ألا ينحرفوا عن المنهج،وألا يحيدوا عن الطريق ..



المجرمون دائما هم أعداء الدعوة والداعية

قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا } [الفرقان: 31]
وللّه الحكمة البالغة.فإن بروز المجرمين لحرب الأنبياء والدعوات يقوي عودها ويطبعها بطابع الجد الذي يناسب طبيعتها.وكفاح أصحاب الدعوات للمجرمين الذين يتصدون لها - مهما كلفهم من مشقة وكلف الدعوات من تعويق - هو الذي يميز الدعوات الحقة من الدعاوى الزائفة وهو الذي يمحص القائمين عليها،ويطرد الزائفين منهم فلا يبقى بجوارها إلا العناصر المؤمنة القوية المتجردة،التي لا تبتغي مغانم قريبة.ولا تريد إلا الدعوة خالصة،تبتغي بها وجه اللّه تعالى.
ولو كانت الدعوات سهلة ميسورة،تسلك طرقا ممهدة مفروشة بالأزهار،ولا يبرز لها في الطريق خصوم ومعارضون،ولا يتعرض لها المكذبون والمعاندون،لسهل على كل إنسان أن يكون صاحب دعوة،ولاختلطت دعوات الحق ودعاوى الباطل،ووقعت البلبلة والفتنة.ولكن بروز الخصوم والأعداء للدعوات،هو الذي يجعل الكفاح لانتصارها حتما مقضيا،ويجعل الآلام والتضحيات لها وقودا.فلا يكافح ويناضل،ويحتمل الآلام والتضحيات إلا أصحاب دعوة الحق الجادون المؤمنون،الذين يؤثرون دعوتهم على الراحة والمتاع،وأعراض الحياة الدنيا.بل على الحياة نفسها حين تقتضيهم دعوتهم أن يستشهدوا في سبيلها.ولا يثبت على الكفاح المرير إلا أصلبهم عودا،وأشدهم إيمانا،وأكثرهم تطلعا إلى ما عند اللّه واستهانة بما عند الناس ..
عندئذ تتميز دعوة الحق من دعاوى الباطل.وعندئذ تمحص الصفوف فيتميز الأقوياء من الضعفاء.وعندئذ تمضي دعوة الحق في طريقها برجالها الذين ثبتوا عليها،واجتازوا امتحانها وبلاءها.أولئك هم الأمناء عليها الذين يحتملون تكاليف النصر وتبعاته.وقد نالوا هذا النصر بثمنه الغالي،وأدوا ضريبته صادقين مؤثرين.
وقد علمتهم التجارب والابتلاء ات كيف يسيرون بدعوتهم بين الأشواك والصخور.وقد حفزت الشدائد والمخاوف كل طاقاتهم ومقدراتهم،فنما رصيدهم من القوة وذخيرتهم من المعرفة.فيكون هذا كله رصيدا للدعوة التي يحملون رايتها على السراء والضراء.
والذي يقع غالبا أن كثرة الناس تقف متفرجة على الصراع بين المجرمين وأصحاب الدعوات حتى إذا تضخم رصيد التضحيات والآلام في صف أصحاب الدعوات،وهم ثابتون على دعوتهم،ماضون في طريقهم،قالت الكثرة المتفرجة أو شعرت أنه لا يمسك أصحاب الدعوة على دعوتهم على الرغم من التضحيات والآلام،إلا أن في هذه الدعوة ما هو أغلى مما يضحون به وأثمن ..
وعندئذ تتقدم الكثرة المتفرجة لترى ما هو هذا العنصر الغالي الثمين الذي يرجح كل أعراض الحياة،ويرجح الحياة ذاتها عند أصحاب الدعوة.وعندئذ يدخل المتفرجون أفواجا في هذه العقيدة بعد طول التفرج بالصراع!
من أجل هذا كله جعل اللّه لكل نبي عدوا من المجرمين وجعل المجرمين يقفون في وجه دعوة الحق،وحملة الدعوة يكافحون المجرمين،فيصيبهم ما يصيبهم وهم ماضون في الطريق،والنهاية مقدرة من قبل،ومعروفة لا يخطئها الواثقون باللّه.إنها الهداية إلى الحق،والانتهاء إلى النصر:«وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً».
وبروز المجرمين في طريق الأنبياء أمر طبيعي.فدعوة الحق إنما تجيء في أوانها لعلاج فساد واقع في الجماعة أو في البشرية.فساد في القلوب،وفساد في النظم،وفساد في الأوضاع.ووراء هذا الفساد يكمن المجرمون،الذين ينشئون الفساد من ناحية،ويستغلونه من ناحية.والذين تتفق مشاربهم مع هذا الفساد،وتتنفس شهواتهم في جوه الوبيء.الذين يجدون فيه سندا للقيم الزائقة التي يستندون هم في وجودهم إليها ..فطبيعي إذن أن يبرزوا للأنبياء وللدعوات دفاعا عن وجودهم،واستبقاء للجو الذي يملكون أن يتنفسوا فيه.وبعض الحشرات يختنق برائحة الأزهار العبقة،ولا يستطيع الحياة إلا في المقاذر،وبعض الديدان يموت في الماء الطاهر الجاري،ولا يستطيع الحياة إلا في المستنقع الآسن.وكذلك المجرمون ..فطبيعي إذن أن يكونوا أعداء لدعوة الحق،يستميتون في كفاحها.وطبيعي أن تنتصر دعوة الحق في النهاية،لأنها تسير مع خط الحياة،وتتجه إلى الأفق الكريم الوضيء الذي تتصل فيه باللّه،والذي تبلغ عنده الكمال المقدر لها كما أراد اللّه ..«وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً» ..



من نصر دين الله نصره الله

قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [محمد: 7]
وكيف ينصر المؤمنون اللّه،حتى يقوموا بالشرط وينالوا ما شرط لهم من النصر والتثبيت؟
إن للّه في نفوسهم أن تتجرد له،وألا تشرك به شيئا،شركا ظاهرا أو خفيا،وألا تستبقي فيها معه أحدا ولا شيئا،وأن يكون اللّه أحب إليها من ذاتها ومن كل ما تحب وتهوى،وأن تحكمه في رغباتها ونزواتها وحركاتها وسكناتها،وسرها وعلانيتها،ونشاطها كله وخلجاتها ..فهذا نصر اللّه في ذوات النفوس.
وإن للّه شريعة ومنهاجا للحياة،تقوم على قواعد وموازين وقيم وتصور خاص للوجود كله وللحياة.ونصر اللّه يتحقق بنصرة شريعته ومنهاجه،ومحاولة تحكيمها في الحياة كلها بدون استثناء،فهذا نصر اللّه في واقع الحياة.
ونقف لحظة أمام قوله تعالى:«وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ..وقوله:«إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ» ..
وفى كلتا الحالتين.حالة القتل.وحالة النصرة.يشترط أن يكون هذا للّه وفي سبيل اللّه.وهي لفتة بديهية،ولكن كثيرا من الغبش يغطي عليها عند ما تنحرف العقيدة في بعض الأجيال.وعند ما تمتهن كلمات الشهادة والشهداء والجهاد وترخص،وتنحرف عن معناها الوحيد القويم.
إنه لا جهاد،ولا شهادة،ولا جنة،إلا حين يكون الجهاد في سبيل اللّه وحده،والموت في سبيله وحده،والنصرة له وحده،في ذات النفس وفي منهج الحياة.
لا جهاد ولا شهادة ولا جنة إلا حين يكون الهدف هو أن تكون كلمة اللّه هي العليا.وأن تهيمن شريعته ومنهاجه في ضمائر الناس وأخلاقهم وسلوكهم،وفي أوضاعهم وتشريعهم ونظامهم على السواء.
عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -- عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً أَىُّ ذَلِكَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -- « مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ » .
وليس هنالك من راية أخرى،أو هدف آخر،يجاهد في سبيله من يجاهد،ويستشهد دونه من يستشهد،فيحق له وعد اللّه بالجنة.إلا تلك الراية وإلا هذا الهدف.من كل ما يروج في الأجيال المنحرفة التصور من رايات وأسماء وغايات!
ويحسن أن يدرك أصحاب الدعوة هذه اللفتة البديهية،وأن يخلصوها في نفوسهم من الشوائب التي تعلق بها من منطق البيئة وتصور الأجيال المنحرفة،وألا يلبسوا برايتهم راية،ولا يخلطوا بتصورهم تصورا غريبا على ضيعة العقيدة.لا جهاد إلا لتكون كلمة اللّه هي العليا.العليا في النفس والضمير.والعليا في الخلق والسلوك.والعليا في الأوضاع والنظم.والعليا في العلاقات والارتباطات في كل أنحاء الحياة.وما عدا هذا فليس للّه.ولكن للشيطان.وفيما عدا هذا ليست هناك شهادة ولا استشهاد.وفيما عدا هذا ليس هنالك جنة ولا نصر من عند اللّه ولا تثبيت للأقدام.وإنما هو الغبش وسوء التصور والانحراف.
وان عز على غير أصحاب الدعوة للّه أن يتخلصوا من هذا الغبش وسوء التصور والانحراف،فلا أقل من أن يخلص الدعاة إلى اللّه أنفسهم ومشاعرهم وتصورهم من منطق البيئة الذي لا يتفق مع البديهية الأولى في شرط اللّه ..
وبعد فهذا شرط اللّه على الذين آمنوا.فأما شرطه لهم فهو النصر وتثبيت الأقدام.وعد اللّه لا يخلفه.فإذا تخلف فترة فهو أجل مقدر لحكمة أخرى تتحقق مع تحقق النصر والتثبيت .ذلك حين يصح أن المؤمنين وفوا بالشرط ثم تخلف عنهم - فترة - نصر اللّه:ثم نقف لحظة أمام لفتة خاصة في التعبير:«يَنْصُرْكُمْ.وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ» ..
إن الظن يذهب لأول وهلة أن تثبيت الأقدام يسبق النصر،ويكون سببا فيه.وهذا صحيح.ولكن تأخير ذكره في العبارة يوحي بأن المقصود معنى آخر من معاني التثبيت.معنى التثبيت على النصر وتكاليفه.فالنصر ليس نهاية المعركة بين الكفر والإيمان،وبين الحق والضلال.فللنصر تكاليفه في ذات النفس وفي واقع الحياة.
للنصر تكاليفه في عدم الزهو به والبطر.وفي عدم التراخي بعده والتهاون.وكثير من النفوس يثبت على المحنة والبلاء.ولكن القليل هو الذي يثبت على النصر والنعماء.وصلاح القلوب وثباتها على الحق بعد النصر منزلة أخرى وراء النصر.ولعل هذا هو ما تشير إليه عبارة القرآن.والعلم للّه.



لابد من الصبر الجميل

قال تعالى : { فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)} [المعارج: 5 - 7]
والدعوة إلى الصبر والتوجيه إليه صاحبت كل دعوة،وتكررت لكل رسول،ولكل مؤمن يتبع الرسول.وهي ضرورية لثقل العبء ومشقة الطريق،ولحفظ هذه النفوس متماسكة راضية،موصولة بالهدف البعيد،متطلعة كذلك إلى الأفق البعيد ..
والصبر الجميل هو الصبر المطمئن،الذي لا يصاحبه السخط ولا القلق ولا الشك في صدق الوعد.صبر الواثق من العاقبة،الراضي بقدر اللّه،الشاعر بحكمته من وراء الابتلاء،الموصول باللّه المحتسب كل شيء عنده مما يقع به.وهذا اللون من الصبر هو الجدير بصاحب الدعوة.فهي دعوة اللّه،وهي دعوة إلى اللّه.ليس له هو منها شيء.وليس له وراءها من غاية.فكل ما يلقاه فيها فهو في سبيل اللّه،وكل ما يقع في شأنها هو من أمر اللّه.
فالصبر الجميل إذن ينبعث متناسقا مع هذه الحقيقة،ومع الشعور بها في أعماق الضمير.
واللّه صاحب الدعوة التي يقف لها المكذبون،وصاحب الوعد الذي يستعجلون به ويكذبون،يقدر الأحداث ويقدر مواقيتها كما يشاء وفق حكمته وتدبيره للكون كله.ولكن البشر لا يعرفون هذا التدبير وذلك التقدير فيستعجلون.وإذا طال عليهم الأمد يستريبون.وقد يساور القلق أصحاب الدعوة أنفسهم،وتجول في خاطرهم أمنية ورغبة في استعجال الوعد ووقوع الموعود ..عندئذ يجيء مثل هذا التثبيت وهذا التوجيه من اللّه الخبير:«فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا» ..والخطاب هنا للرسول - - تثبيتا لقلبه على ما يلقى من عنت المناوأة والتكذيب.وتقريرا للحقيقة الأخرى:وهي أن تقدير اللّه للأمور غير تقدير البشر ومقاييسه المطلقة غير مقاييسهم الصغيرة:«إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً» ..


الصبر لحكم الله وعدم طاعة الكافرين

قال تعالى : { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا } [الإنسان: 24]
إن الأمور مرهونة بقدر اللّه.وهو يمهل الباطل،ويملي للشر،ويطيل أمد المحنة على المؤمنين والابتلاء والتمحيص ..كل أولئك لحكمة يعلمها،يجري بها قدره،وينفذ بها حكمه ..«فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ» ..حتى يجيء موعده المرسوم ..اصبر على الأذى والفتنة.واصبر على الباطل يغلب،والشر يتنفج.ثم اصبر أكثر على ما أوتيته من الحق الذي نزل به القرآن عليك.اصبر ولا تستمع لما يعرضونه من المصالحة والالتقاء في منتصف الطريق على حساب العقيدة :«وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً» ..فهم لا يدعونك إلى طاعة ولا إلى بر ولا إلى خير.فهم آثمون كفار.يدعونك إلى شيء من الإثم والكفر إذن حين يدعونك إلى الالتقاء بهم في منتصف الطريق!
وحين يعرضون عليك ما يظنونه يرضيك ويغريك! وقد كانوا يدعونه باسم شهوة السلطان،وباسم شهوة المال،وباسم شهوة الجسد.فيعرضون عليه مناصب الرياسة فيهم والثراء،حتى يكون أغنى من أغناهم،كما يعرضون عليه الحسان الفاتنات،حيث كان عتبة بن ربيعة يقول له :«ارجع عن هذا الأمر حتى أزواجك ابنتي،فإني من أجمل قريش بنات!» ..كل الشهوات التي يعرضها أصحاب الباطل لشراء الدعاة في كل أرض وفي كل جيل! «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً» ..فإنه لا لقاء بينك وبينهم ولا يمكن أن تقام قنطرة للعبور عليها فوق الهوة الواسعة التي تفصل منهجك عن منهجهم،وتصورك للوجود كله عن تصورهم،وحقك عن باطلهم،وإيمانك عن كفرهم،ونورك عن ظلماتهم،ومعرفتك بالحق عن جاهليتهم!
اصبر ولو طال الأمد،واشتدت الفتنة وقوي الإغراء،وامتد الطريق ..ولكن الصبر شاق،ولا بد من الزاد والمدد المعين :«وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا،وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا».هذا هو الزاد.اذكر اسم ربك في الصباح والمساء،واسجد له بالليل وسبحه طويلا ..إنه الاتصال بالمصدر الذي نزّل عليك القرآن،وكلفك الدعوة،هو ينبوع القوة ومصدر الزاد والمدد ..الاتصال به ذكرا وعبادة ودعاء وتسبيحا ..ليلا طويلا ..فالطريق طويل،والعبء ثقيل.ولا بد من الزاد الكثير والمدد الكبير.وهو هناك،حيث يلتقي العبد بربه في خلوة وفي نجاء،وفي تطلع وفي أنس،تفيض منه الراحة على التعب والضنى،وتفيض منه القوة على الضعف والقلة.وحيث تنفض الروح عنها صغائر المشاعر والشواغل،وترى عظمة التكليف،وضخامة الأمانة.فتستصغر ما لاقت وما تلاقي من أشواك الطريق! إن اللّه رحيم،كلف عبده الدعوة،ونزل عليه القرآن،وعرف متاعب العب ء،وأشواك الطريق.فلم يدع نبيه - - بلا عون أو مدد.وهذا هو المدد الذي يعلم - سبحانه - أنه هو الزاد الحقيقي الصالح لهذه الرحلة المضنية في ذلك الطريق الشائك ..وهو هو زاد أصحاب الدعوة إلى اللّه في كل أرض وفي كل جيل.فهي دعوة واحدة.ملابساتها واحدة.وموقف الباطل منها واحد،وأسباب هذا الموقف واحدة.ووسائل الباطل هي ذاتها وسائله.فلتكن وسائل الحق هي الوسائل التي علم اللّه أنها وسائل هذا الطريق.
والحقيقة التي ينبغي أن يعيش فيها أصحاب الدعوة إلى اللّه هي هذه الحقيقة التي لقنها اللّه لصاحب الدعوة الأولى - - هي أن التكليف بهذه الدعوة تنزل من عند اللّه.فهو صاحبها.وأن الحق الذي تنزلت به لا يمكن مزجه بالباطل الذي يدعو إليه الآثمون الكفار.فلا سبيل إلى التعاون بين حقها وباطلهم،أو الالتقاء في منتصف الطريق بين القائم على الحق والقائمين على الباطل.فهما نهجان مختلفان،وطريقان لا يلتقيان.فأما حين يغلب الباطل بقوته وجمعه على قلة المؤمنين وضعفهم،لحكمة يراها اللّه .
.فالصبر حتى يأتي اللّه بحكمه.والاستمداد من اللّه والاستعانة بالدعاء والتسبيح - ليلا طويلا - هي الزاد المضمون لهذا الطريق..إنها حقيقة كبيرة لا بد أن يدركها ويعيش فيها رواد هذا الطريق ..
وقال تعالى :{ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49) } [الطور: 48،49]
ومع التوجيه إلى الصبر إيذان بالإعزاز الرباني،والعناية الإلهية،والأنس الحبيب الذي يمسح على مشقات الطريق مسحا،ويجعل الصبر عليها أمرا محببا،وهو الوسيلة إلى هذا الإعزاز الكريم :«وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا» ..
ويا له من تعبير! ويا له من تصوير! ويا له من تقدير! إنها مرتبة لم يبلغها قط إنسان.هذه المرتبة التي يصورها هذا التعبير الفريد في القرآن كله.حتى بين التعبيرات المشابهة.
لقد قيل لموسى عليه السلام:«وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى » ..وقيل له:«وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي» ..وقيل له:«وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي» ..وكلها تعبيرات تدلُّ على مقامات رفيعة.ولكنه قيل لمحمد - -:«فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا» وهو تعبير فيه إعزاز خاص،وأنس خاص.وهو يلقي ظلا فريدا أرقَّ وأشفَّ من كل ظل ..ولا يملك التعبير البشريُّ أن يترجم هذا التعبير الخاص.فحسبنا أن نشير إلى ظلاله،وأن نعيش في هذه الظلال.ومع هذا الإيناس هداية إلى طريق الصلة الدائمة به:«وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ.وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ» ..فعلى مدار اليوم.عند اليقظة من النوم.وفي ثنايا الليل.وعند إدبار النجوم في الفجر.هنالك مجال الاستمتاع بهذا الإيناس الحبيب.والتسبيحُ زادٌ وأنس ومناجاة للقلوب.فكيف بقلب المحب الحبيب القريب؟؟؟

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك