الإنفتاح على الواقع الإنساني
الإنفتاح على الواقع الإنساني
مفاهيم اسلامية لبناء الإنسان الحضاري
كانت الصفة الانسانية هي المنطلق الاساسي في تجاوز الاطر والحواجز التعصبية ليتحول الإسلام من خلالها إلى قيم ومبادئ عالمية بعث الرسول الأكرم (ص) من أجلها بهدف انقاذ البشرية جمعاء دون تمييز بين لغة أو جنس أو لون ومن هنا جاء الخطاب القرآني المجيد وجاءت الأحاديث النبوية الشريفة وأحاديث الأئمة من أهل البيت (ع) وهي تؤكد على وحدة الإنتماء الإنساني وتذم التفرقة والعنصرية فيما تحولت هذه المفاهيم إلى مصاديق على أرض الواقع تؤكد على واقعية المبادئ والقيم الإسلامية وتدلل على ان أهمية الإسلام لا تمثل شعارا آنيا أو اثارة مرحلية وإنما هي محور تدور حوله فكرة الرسالة ومفاهيمها وعلى ذلك فإن هذه الاهمية حقيقة إستراتيجية غير قابلة للإستعاضة أو التأويل وهو ما يمكن ملاحظته بشكل واضح من خلال قراءة دقيقة للنص الإسلامي ثم الوقوف على الأبعاد العملية التطبيقية في التاريخ الإسلامي حيث يلاحظ المتابع ان تلك الصفة الانسانية دأبت على الإقتران مع الفترات المشرقة في ذلك التاريخ وعلى العكس كان الإلتفاف عليها والتعمد بتجاهلها والقفز عليها يعني المزيد من التراجع والتدهور.
يقول عز من قائل (يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم). الحجرات/ 13
ويقول سبحانه، (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية) الفتح 26
ويقول الرسول الأكرم (ص) (من كان في قلبه حبة خردل من عصبية بعثه الله يوم القيمة مع اعراب الجاهلية).
ويلاحظ ان مفهوم التحرر من قيود العصبية والعنصرية ياخذ صورا بالغة العمق والشمولية في السلوك الإسلامي فالمفهوم المذكور يواجه المسلم في حمايته الإجتماعية اليومية حيث المطلوب اعتماد مقياس التقوى في التفاضل بين إنسان وآخر اما ما عدا ذلك فإن الناس جميعهم ينتهون إلى اب واحد وأم واحدة أما الخصائص والخصال التي تجعل من هذا الإنسان اقرب إلى القلب والعقل من الإنسان الآخر فهي ليست خصائص وخصال تستمد مصداقيتها من الأمور المظهرية كالقومية أي ان يتعصب المرء إلى قوميته ان كانت عربية فهو اقرب إلى العربية أو كانت فارسية أو تركية أو كردية.. الخ وكذلك الأمر فيما يتعلق بالتعصب العنصري أي ان يكون المرء متحيزا للونه ان كان أبيض أو أسود وهكذا الأمر بالنسبة إلى التعصب الجنسي كالتعصب للجنس الآري أو السامي أو تعصب الرجل لجنس الرجل والمرأة لجنس المرأة أو التعصب العرقي والعشائري والإقليمي والوطني أو التعصب الوظيفي كان يتعصب الإنسان لوظيفة الطب إذا كان طبيبا أو التعصب الطبقي كأن يتعصب التاجر لطبقة التجار أو التعصب الحزبي والجماعي وكذلك التعصب للذات. واضافة إلى هذه المسميات يمكن ان تتسع دائرة التعصب هذه لتشتمل على مسميات أخرى كالتعصب للمدينة أو القرية أو الجيران أو العائلة أو اللغة.. الخ.
ولا شك في ان مثل تلك الظواهر السيئة تشير بشكل واضح إلى ضعف القوة العقيدية والإيمانية وعلى ذلك نجد ان هذه الظواهر قرينة مع حالات التدهور والتراجع كالتفرقة والتمزق والضغينة والتناحر وعلى العكس من ذلك فإن التسامي على الممارسات التعصبية والعنصرية والتمسك بروح الإسلام وتعاليمه سيضمن للأمة الوحدة والتآلف بما يعزز من قوتها ويحشد طاقاتها وقدراتها في مواجهة التحديات المحدقة بها.
والملاحظ ان القرآن الكريم والأحاديث الواردة عن الرسول الاكرم (ص) وأهل بيته الائمة المعصومين تؤكد على ان التعصب هو من اخلاق الشيطان الأمر الذي يعني كونه يمثل تمردا وخروجا سافرا على القيم والتعاليم الإسلامية فابليس هو امام المتعصبين كما يحدثنا القرآن والأحاديث الشريفة حيث تعصب لخلقة وافتخر بها على آدم عندما حاججه بانه خلق من نار مستوهنا آدم لانه خلق من طين ومن هنا فإن التعصب هو صفة من صفات ابليس لانه واضع اساس العصبية ولذا يتوجب الاستعاذة من الشيطان ونبذ العصبية لانها صفة من صفاته.
وعلى ذلك نجد ان صفة التعصب الذميمة التي نهى عنها الإسلام نهيا شديدا قد اثرت تأثيرا كبيرا على الواقع الإسلامي الراهن حيث الفرقة والتناحر والتمزق. بعد ان اخذت حالة الانحراف والإرتداد تحتل مساحة واسعة من ذلك الواقع ويستعاض بالأفكار المستوردة والتي تعتمد التعصب اساسا في رؤيتها عن القيم والمفاهيم الإسلامية ومن هنا نجد ان المناهج السياسية السائدة هي المناهج القومية التي تتعارض بشكل كبير مع المفاهيم والقيم المذكورة فالتعصب كما هو معروف يمثل الاساس الذي ترتكز عليها القومية على الرغم من التبريرات الواهية التي يقدمها اصحابها فهو يقود المرء إلى معاملة الآخرين وفق الفكرة أو الجهة التي ينتمي اليها فالتعصب للقومية العربية مثلا يجعله ينحاز بشكل اعمى إلى تلك القومية ومن هنا فهو ينظر إلى العرب نظرة اجلال واعظام فيما يبدو الآخرون من ذوي القوميات الاخرى في نظره مجرد صنف متدن من الناس لا يمكن مقارنته مع قوميته وكذلك الأمر فيما يتعلق بالمتعصب للقومية الفارسية تجده ينظر إلى ابناء قوميته نظرة اعتزاز وتقدير ويتعامل معهم بطرق وأساليب اخلاقية تختلف تماما عن الطرق المعتمدة من قبله حيال الآخرين من غير القومية الفارسية.
واذ اردنا ان نميز بين ما هو مشروع في نوعية العلاقة مع القويمة عن النوع غير المشروع لابد من التأكيد على ان الانحياز الاعمى لهذه القومية وإنعدام المقاييس الأخلاقية في التمييز بين الحق والباطل والإستعاضة عن تلك المقاييس بمجرد الإنتماء إلى هذه الجهة أو تلك يمثل التعصب المنهي عنه في الإسلام اما إذا كان الأمر يتعلق بالإعتزاز بهذه الجهة إذا كانت قومية أو غيرها وولائه وحبه لها دون ان يؤثر ذلك في موقف من العناوين والمسميات الأخرى فهذا لا يعد تعصبا وانما هو تعبير عن الولاء وذلك حق لم يبخسه الإسلام لأي إنسان مسلم يعطي الأولوية أولا لإنتمائه الإسلامي والقيم المفاهيم الإسلامية التي يؤمن بها، وبهذا يمكننا القول ان الفرق بين الولاء وبين الانحياز الأعمى هو الفرق بين الحب وبين التعصب ففي حين اعتبر الإسلام الحنيف ان المفردة والأولى حقا مشروعا جعل من الثانية امرا مذموما ينبغي تجنبه والإبتعاد عنه وفي هذا الصدد يروى ان احدهم سأل الإمام علي بن الحسين (ع) عن العصبية فقال: (العصبية التي يأثم عليها صاحبها ان يرى الرجل شرار قومه خيار من خيرا قوم آخرين وليس من العصبية ان يحب الرجل قومه ولكن من العصبية ان يعين قومه على الظلم).
وفي ضوء ذلك يتضح ان الدائرة الشرعية التي تدور في داخلها علاقة الإنسان المسلم مع الآخرين هي الدائرة التي تزخر بالمعاني السامية المشتقة من معنى الخير والمحبة والتسامح فالإنسان اخو الإنسان من غير ان يكون هناك أي عصبية أو تعصب يؤدي إلى ظلمه اخاه الإنسان في أي حق من الحقوق المشروعة واذا كان لابد له من العصبية فلتكن هذه العصبية للخير والصلاح والعدل والإنصاف.
في خطبة يقال لها القاصعة يقول امير المؤمنين الإمام علي بن ابي طالب (ع) : (ولقد نظرت فما وجدت أحدا من العالمين يتعصب لشيء من الاشياء إلا من علة تحتمل تمويه الجهلاء أو حجة تليط بعقول السفهاء غيركم فانكم تتعصبون لأمر ما يعرف له سبب ولا عله. اما ابليس فتعصب على آدم لأصله وطعن عليه في خلقته فقال انا ناري، وأنت طيني. وأما الاغنياء من مترفة الامم فتعصبوا لآثار مواقع النعم فقالوا: (نحن أكثر اموالا وأولادا وما نحن بمعذبين) فان كان لابد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال، ومحاسن الامور التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوت العرب ويعاسيب القبائل وبالأخلاق الرغيبة والأحلام العظيمة والآثار المحمودة. فتعصبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار والوفاء بالذمام والطاعة للبر والمعصية للكبر والأخذ بالضل والكف عن البغي والإعظام للقتل والانصاف للخلق، والكظم للغيظ وإجتناب الفساد في الارض).
ثم يقول (ع): (ان كنتم لا محالة متعصبين فتعصبوا لنصرة الحق وإغاثة الملهوف). وهكذا نجد ان مفهوم التعصب في الوقت الذي يعكس ابعاده السلبية التي ينهى عنها الإسلام نهيا شديدا ويدعو إلى مجانبتها والحذر منها فهو يعني وفقا للتعاليم الإسلامية العديد من القيم الحضارية الكفيلة بإعادة ترتيب الاوضاع في ساحة الأمة فالتعصب في تلك التعاليم يعني الانحياز إلى مفاهيم الخير والتقدم والتطور دون استثناء.