الحوار بين الأديان والأمم
الحوار بين الأديان والأمم
هانز كينغ*
الصراع بين الأمم
هنالك ثلاثة تواريخ رمزية تشير إلى الأنموذج الجديد في العلاقات الدولية والتي تؤسس نفسها ببطء وبجهد : إعلانها (1918م) تحقيقها (1945م) وأخيرا تقدمها المفاجئ (1989م). وقد كان أمام الإنسانية ثلاث فرص عظيمة وهي:
الفرصة الأولى: انتهت الحرب العالمية الأولى في (عام 1918م) وأسفرت عن مقتل عشرة ملايين شخص، وانهيار الإمبراطورية الألمانية وإمبراطورية هابسبيرغ، والإمبراطورية القيصرية، والإمبراطورية العثمانية. وكانت الإمبراطورية الصينية قد انهارت قبل ذلك. وأصبح هنالك الآن ولأول مرة قوات أمريكية على التراب الأوروبي، وفي الجانب الآخر، كانت الإمبراطورية السوفياتية في حالة تشكل. وكان هذا علامة على انتهاء الأنموذج الإمبيريالي للحداثة وبزوغ فجر نموذج جديد. وكان المفكرون المستنيرون بعيدو النظر قد تنبؤوا بهذا الأنموذج الجديد، وطُرح لأول مرة في ميدان العلاقات الدولية بوساطة الولايات المتحدة الأمريكية. أراد الرئيس (ودرو ولسون) بطرحه نقاطه (الأربع عشر) تحقيق (سلام عادل) و(تقرير المصير للأمم) دون أن تُلْحَق بمطالبات بتعويضات كما أراد البعض في الكونجرس.
منع الفرنسي كليمنصو والبريطاني لويد جورج بموجب معاهدة فرساي التحقيق الفوري للنموذج الجديد. وكان ذلك (النشاط السياسي الحقيقي) للنموذج السابق وهي عبارة استخدمها بسمارك لأول مرة ولكن ميكافيللي طَوَّّر إيديولوجيتها. وبدلاً من السلام العادل تفتق سلام بالإملاء والذي لم يكن للأمم المهزومة دور فيه. وعواقب هذا التوجه معروفة لدى الجميع: الفاشية والنازية (مدعومة بالشرق الأقصى من العسكرية اليابانية) كانت هي الأخطاء الرجعية الكارثية التي أدت بعد عقدين من الزمن إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية، والتي كانت أسوأ بكثير من أي حرب سابقة في التاريخ.
الفرصة الثانية: شهد العام 1945م نهاية الحرب العالمية الثانية التي خلفت خمسين مليون قتيل وشردت ملايين أخرى عديدة. هزمت الفاشية والنازية، ولكن بدت الشيوعية السوفايتية أقوى ومخيفة بشكل أكبر من أي وقت مضى بالنسبة للمجتمع الدولي، على الرغم من أنها كانت تواجه على الصعيد الداخلي أزمة اجتماعية بسبب سياسة ستالين.
وللمرة الثانية جاءت المبادرة نحو نموذج جديد من جانب الولايات المتحدة. ففي عام 1945م أُسست عصبة الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو، وتم التوقيع على اتفاقية بريتون وودز بخصوص إعادة تنظيم الاقتصاد العالمي (تأسيس صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) وجاء في العام 1948م الإعلان العالمي لحقوق الإنسان جنبًا إلى جنب المساعدة الاقتصادية الأمريكية، المعروفة (بخطة ماريشال) لإعادة بناء أوروبا وضمها إلى نظام التجارة الحرة. ولكن الستالينية اعترضت هذا النموذج بسبب مجال نفوذها وأدت إلى تقسيم العالم إلى شرق وغرب.
الفرصة الثالثة: شهد العام 1989م الثورة السلمية الناجحة في أوروبا الشرقية وانهيار الشيوعية السوفايتية. وبعد حرب الخليج كان رئيس أمريكي أيضا هو الذي أعلن نموذجا جديدا (النظام العالمي الجديد) ولاقى بهذا الشعار الجديد قبولا حماسيا في سائر أنحاء العالم. ولكن بالمقابلة مع سلفه ودرو ويلسون، شعر الرئيس جورج بوش الأب بالحرج عندما تعين عليه أن يفسر ما ينبغي أن تكون عليه هذه الرؤية. لم يحدث تغيير في العراق، ولا ديموقراطية في الكويت، ولا حل للمشكلة الفلسطينية الإسرائيلية، ولا تغيير ديموقراطي كاف في العالم العربي. وبدلا من الإصلاحات ظهر لنا بن لادن والقاعدة. وتتزايد الشكوك في الوقت الحاضر في الولايات المتحدة بخصوص ما يسمى (بالحرب ضد الإرهاب) وإمكانية كونها رؤيتنا للمستقبل. وعليه يبرز السؤال الآن: هل خسرنا على مدى العقد الفائت فرصة (النظام العالمي الجديد) الأنموذج جديد؟
وينبغي علينا أن لا نفقد الأمل، وبخاصة الملتزمين من المسيحيين واليهود والمسلمين، ومعتنقي الديانات الأُخر، على الجميع العمل من أجل النموذج الجديد. وفي النهاية، وعلى الرغم من الحروب والمجازر وسيول اللاجئين في القرن العشرين، وعلى الرغم من معسكرات الاعتقال، والمحرقة (هولوكوست) الجريمة الأبشع في تاريخ الإنسانية، والقنبلة الذرية، يتعين علينا أن لا نغفل بعض التغيرات الرئيسة نحو الأفضل. لم تشهد البشرية بعد العام 1945م العديد من الإنجازات العلمية والتكنولوجية الرائعة فحسب، ولكن شهدت أيضا الكثير من الأفكار التي طرحت عام 1918م وكانت تلح على مجموعة من الأفكار العالمية الكلية الجديدة تمكنت من تأسيس نفسها بصورة أفضل. حركة السلام، حركة حقوق المرأة، حركة البيئة، الحركات العائلية، والتحركات ما بين الأديان بدأت جميعها تحقق تقدما ملموسا.
وولدت نظرة جديدة للحرب ونزع السلاح، لشراكة الرجال والنساء، للعلاقة بين الاقتصاد وعلم التبيؤ (الإكولوجي)، بين الكنائس المسيحية والأديان الأخرى.
وبعد عام 1989م وانتهاء الانقسام القسري للعالم إلى شرق وغرب وتوضيح إيدولوجية التقدم التطوري والثوري، الإمكانيات المتماسكة لعالم يسوده الهدوء والتعاون قد بدأت بالتشكل. وفي المقابلة مع العصرنة الأوروبية، نجد أن هذه الاحتمالات لم تعد تتركز في الفكرة الأوروبية بل في الأفكار المتعددة. وعلى الرغم من العيوب الهائلة والصراعات التي ما زالت تؤرق المجتمع الدولي، يعتبر هذا النموذج من حيث المبدأ ما بعد الإمبريالية والاستعمار وبمُثُل الاقتصاد الاجتماعي لاقتصاد السوق وهي بصدق من صميم الأمم المتحدة.
وعلى الرغم من الإرهاب الذي ساد القرن العشرين فربما ما يزال هنالك شيء قد نطلق عليه التقدم التاريخي المتردد. وعلى مدى القرن الفائت فإن التوجيهات السياسية التي كانت مسيطرة سابقا قد تم استبعادها إلى الأبد. ولم يعد للإمبريالية أي مجال في السياسة العالمية بعد انتهاء الاستعمار. وإضافة إلى ذلك ومنذ انتهاء نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، لم تعد العرقية والامتياز العرقي والتمييز العنصري هي الاستراتيجية السياسية الواضحة في أي دولة، وبالمثل أصبحت القومية كلمة مفقودة في أراضي أوروبا الغربية، التي نشأت منها في الأصل، واستبدلت بالنسبة للكثيرين بكلمة الحوار والتعاون والتكامل.
الحوار بين الأمم وبين الأديان
تميل الحركة الآن نحو نموذج سياسي جديد من التعاون والتكامل الإقليمي، وتحاول التغلب على المواجهة التي استمرت قرونا بطريقة سلمية. ولم تتجل النتيجة أولا بين ألمانيا وفرنسا فحسب؛ ولكن أيضا في كامل منطقة (منظمة التعاون والتطوير الاقتصادي التي أنشأت عام 1948م وتطورت عام 1960م) متضمنة جميع الدول الصناعية الغربية (الدول الغربية، الولايات المتحدة، كندا، المكسيك، أستراليا، نيوزلندة واليابان) وكلها نعمت بنصف قرن من السلام الديموقراطي. ويعد هذا بصدق تغيرا نموذجيا ! كان هنالك وما زال حروب في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجـنـوبـية وفي العالم الإسلامـي (كولومبيا، إسرائيل وفلسطين، السودان، العراق الكونغو، والجزائر) ولكن لا أحد يستطيع أن يتصور وقوع حرب الآن بين ألمانيا وفرنسا أو الولايات المتحدة واليابان.
وبعد هذه الجولة التاريخية المقتضبة أتوجه إلى التعريف الأساسي للنموذج الجديد في العـلاقـات الـدولية. لقد تلقيت الكثير من التحريض والدعم في مناقشة دارت بين مجموعة صغيرة من الأشخاص المعروفين عقدها الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان بمناسبة سنة (حوار الحضارات) 2001م وهو مسعى تمخض عن تقرير رُفِعَ للجمعية العامة للأمم المتحدة (تجاوز الانقسام – حوار بين الحضارات) جامعة سيتون هال، 2001م.
واستنادا إلى خبرات الاتحاد الأوروبي ومنظمة التعاون والتطوير الاقتصادي يمكن تلخيص المجموعة السياسية بمجملها فيما يلي: وهنا لا نستطيع استبعاد الفئات الأخلاقية. ويعني النموذج الجديد من حيث المبدأ سياسات التوافق الإقليمي، والتفاهم والتعاون بدلا من السياسات الوطنية العصرية القائمة على المصلحة الذاتية، والقوة والهيبة. وبالتحديد فإن ممارسة العمل السياسي ينادي الآن بالتعاون المتبادل، والمصالحة والتكامل بدلا من ما كان عليه الأمر في السابق، المواجهة، والاعتداء والثأر. هذه الكوكبة من الأفكار السياسية تفترض مسبقا تغييرا في العقلية، الأمر الذي يتجاوز بكثير الأساليب السياسية في العصر الحاضر. وتتطلب هذه المجموعة من الأفكار السياسية لكي تدوم مقتربات أو توجهات جديدة للسياسة الدولية. إن المنظمات الدولية لا تعد كافية في هذا المقام وما نحن بحاجة إليه ما هو إلا تركيز الذهن على وضع جديد. ويجب أن لا نستمر في فهم الاختلافات الدينية، من حيث المبدأ، كتهديد، ولكن بدلا من ذلك فهمها على أنها مصادر محتملة للإثراء. ومع ذلك نرى أن النموذج القديم كان دائما يفترض مسبقا وجودعدو، وفي الواقع عدو تقليدي، ولكن النموذج الجديد لم يعد يتصور ذلك أو يحتاج لمثل هذا العدو. وعوضا عن ذلك نجده يبحث عن شركاء، ومنافسين وخصوما تجاريين للمنافسة، بدلا من المواجهة العسكرية ويستخدم (التأثير الدبلوماسي والإقناع، التأثير الثقافي والاحترام) بدلا من القوة العسكرية (جوزيف ناي).
ويكون الأمر كذلك نظرا لأنه ثبت بأنه على المدى الطويل فإن الرخاء الوطني لا يتأتي ولا يتطور عن طريق الحرب ولكن فقط عن طريق السلام. وليس بالمعارضة والمواجهة ولكن بالتعاون.
ونظرا لأن المصالح المختلفة القائمة يمكن تحقيقها والوفاء بمتطلباتها بالتعاون والتعاضد، يصبح وجود سياسة لا تقوم على لعبة الربح والخسارة (أي أن واحدا يربح على حساب الآخر) ممكنة. ولكن اللعبة التي تربح فيها كل الأطراف.
ولا ريب أن ذلك لا يعني أن السياسة أصبحت أسهل في النموذج الجديد. إنها تبقى (فن الممكن) برغم أنها أصبحت الآن غير قائمة على العنف. وإذا كان لها أن تستطيع العمل، فلا يمكن أن تقوم على التعددية العشوائية (لما بعد العصرنة) حيث لا بأس بأي شيء، ومسموح بأي شيء أيضا. وبدلاً من ذلك فهي تفترض مسبقا إجماعا اجتماعيا على قيم أساسية مخصصة وحقوق أساسية ومسؤوليات أساسية أيضا. ويتعين على جميع الفرق الاجتماعية والأمم أن تساهم تجاه هذا الإجماع الاجتماعي الأساسي، وبخاصة المؤمنين بالدين، وأيضا غير المؤمنين وأتباع الفلسفات والأيدولوجيات الأخرى. وبمعنى آخر فإن هذا الإجماع الاجتماعي لا يمكن فرضه من قبل نظام ديموقراطي، ولكن يجب افتراضه مسبقا، لا يعني نظام أخلاقي محدد، ولكنه يعني حداً أدنى مشتركا من مقاييس أخلاقية، خُلُق مشترك، خلق للجنس البشري. وهذا الخلق العالمي ليس إيدولوجية جديدة أو (بنية عظمى) يفرضها الغرب على (البقية) ولكنها تؤلف بين المصادر الدينية والفلسفية المشتركة لكل الجنس البشري.
إن عولمة الاقتصاد والتكنولوجيا والاتصالات تتطلب أيضا عولمة الخلق في مسايرة المشاكل العالمية. إن المطلبين الأساسيين اللذين وردا في إعلان شيكاغو عام 1993م وأكدهما المؤتمر الثالث لديانات العالم في كيب تاون عام 1999م وتناولهما البيان الرسمي (تجاوز الانقسام) في عام الأمم المتحدة للحوار بين الحضارات هما ما يمكن أن يُبتدأ به في هذا المضمار.
الأول: مبدأ الإنسانية: الحاجة إلى الإنسانية الحقيقية: يتم الآن كما كان في السابق معاملة النساء والرجال بصورة غير إنسانية في سائر أنحاء العالم. يتم سلب فرصهم وحرياتهم، تداس حقوقهم الإنسانية تحت الأقدام، ويجردون من كرامتهم، ولكن الجبروت لا يصنع الصحيح! وفي وجه اللاإنسانية تطلب معتقداتنا الدينية والأخلاقية أن يعامل (كل إنسان بإنسانية) وهذا يعني أن كل إنسان رجلا كان أم إمرأة، أبيضا أم أسودا شابا أم شيخا، أمريكيا أم عراقيا يجب أن يعامل ليس بطريقة لا إنسانية، وحتى وحشية، ولكن بطريقة إنسانية بكل صدق.
يدعى المطلب الأساسي الثاني (الحكم الذهبي)، هنالك مبدأ وجد واستمر في العديد من التقاليد الدينية والأخلاقية للجنس البشري لآلاف السنيين : ما لا تحبه لنفسك لا تفعله للآخرين، ويجب أن يكون هذا مبدأ غير قابل للتغيير أو الإلغاء وغير مشروط لجميع نواحي الحياة، للعائلات والمجتمعات، للأجناس والأمم والأديان).
واستنادا لهذين المبدأين، وجدت أربعة توجيهات في جميع التقاليد العظيمة للإنسانية ويتعين علينا أن نتذكرها, وهي:
- يجب ألاّ تقتل أو تعذب أو تنكل أو تجرح، وبالمعنى الإيجابي أن تحترم الحياة، أن تلتزم بحضارة قائمة على عدم ممارسة العنف واحترام الحياة.
- يجب ألا تكذب أو تخدع أو تزيف أو تتلاعب. وبالمعنى الإيجابي، أن تقول الحق وتفعله وأن تلتزم بحضارة الصدق والتسامح.
- يجب ألا تسرق أو تستغل أو ترشي أو تفسد. وبالمعنى الإيجابي، التعامل بأمانة وإنصاف والالتزام بحضارة تقوم على العدل وعلى نظام اقتصادي عادل.
- يجب ألا ترتكب الانتهاكات الجنسية أو تغش أو تحتقر أو تمتهن الآخر، وبالمعنى الإيجابي، أن يحب أحدنا الآخر وأن نلتزم بحضارة الشراكة والكرامة المتساوية للرجال والنساء.
ويجب أن لا يتم فرض الخلق العالمي بموجب القانون ولكن يجب أن نجلبه للوعي العام. ويجب أن يوجه الخلق العالمي بالتزامن نحو الأشخاص والمؤسسات والنتائج. ولهذا الحد لا يركز الخلق العالمي على المسؤولية الجماعية فقط نحو تحرير أية مسؤولية قد توجد لدى الفرد (وكأن الظروف الاجتماعية (التاريخ) والنظام هي التي يقع عليها اللوم عن الانتهاكات والجرائم). ونجدها ركزت بدلاً من ذلك وبطريقة معينة على مسؤولية كل فرد في موقعه أو موقعها في المجتمع وبالتحديد على المسؤولية الفردية للقادة السياسيين.
إن الالتزام الحر تجاه خُلق مشترك لا يستثني، بالطبع، دعم القانون ولكنه يتضمنه ويمكن في بعض الظروف الاحتكام إلى القانون. ومثال هذه الظروف القتل الجماعي والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والاعتداء المخالف للقانون الدولي، كما حدث في يوغسلافيا السابقة، وتلا تصديق أكثر من 60 دولة على تأسيس محكمة الجنايات الدولية التي يمكن رفع مثل هذه القضايا إليها، وبالتحديد عندما تصبح إحدى الدول الموقعة غير قادرة أو غير راغبة بتوقيع عقوبات قانونية على الفظاعات التي ترتكب على أراضيها.
الرؤية الواقعية للسلام
إنه لمن غير المحمود أن تكون إدارة الرئيس بوش هي التي تعارض مثل هذه الاتفاقيات الدولية المهمة مثل اتفاقية كيوتو المتعلقة بتخفيض حرارة الأرض، ومعاهدة منع الاختبارات الشمولية، معاهدة منع الصواريخ البالستية، وتنفيذ معاهدة الأسلحة البيولوجية.... إلخ. وتعتبر هذه حقائق محزنة للمعجبين بالديموقراطية الأمريكية. وتبدو الإدارة الحالية للقوة العظمى الوحيدة للكثير من الناس ليس فقط في العالم الإسلامي ولكن أيضا في عوالم آسيا وأفريقيا وفي أوروبا أيضا معطلة لسياسة في النموذج الجديد. ولهذا لا أستطيع تلافي مقارنة النموذج الجديد بالحقيقة السياسية بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001م ، في ضوء أنه وبدون أدنى شك كان ينبغي للحرب على الإرهاب أن تبدأ وأن الجريمة الوحشية التي ارتكبت في نيويورك وواشنطن لا يمكن التكفير عنها.
وبعد حرب أفغانستان والحرب العراقية غير القانونية وغير الأخلاقية -الحربان أوجدتا كل شيء سوى السلام لهذين البلدين- والسؤال الحاسم الذي يبرز أكثر من أي وقت مضى هو: ما هو الالتزام الدولي الذي يتعين علينا القيام به؟ وهل يتعين علينا ببساطة مواصلة الحرب على الإرهاب بهذا الأسلوب ؟ هل يستطيع حلف أطلسي أكبر أن يوقف الإرهاب؟ وهل يتعين على الأمم الأوروبية أن تجهز وتمول إلى ما قد يرقى إلى (جيش أجنبي) في خدمة البنتاجون؟ والهواجس التي تنتابني لا تتمثل في بدائل الماضي، ولكن في بدائل المستقبل.
وأعتقد بأن لدينا مبادئ بالفعل ما دامت السياسة الخارجية لا تعلو على كل السياسات العسكرية وأيضا إذا ما تم إنفاق المليارات التي تنفق على الأسلحة الفتاكة الجديدة والطائرات، على رياض الأطفال والمدارس، الرعاية الصحية والخدمات العامة في الداخل، وعلى محاربة الفقر والجوع والبؤس في العالم.
ونجد هنا أن هنالك مطالب خاصة من الديانات الكتابية وهي اليهودية والمسيحية والإسلام في أن تمتنع عن دعم سياسة حكوماتها دون انتقادها بل عليها أن تظهر دورها الديني:
(لا تقابل الشر بالشر) (الكاثوليك 12 0 17) هذا القول في العهد الجديد موجه اليوم لهؤلاء الصليبين المسيحيين في أمريكا وفي كل مكان الذين ينظرون فقط إلى الجانب الشرير لدى الآخر، معتقدين أن الصليبية تقدس أي وسائل عسكرية وتبرر كل الأذى والمصائب الإنسانية المصاحبة لها.
(العين بالعين والسن بالسن) (سفر الخروج 21 0 24) هذا النص من التوراة المتعلق بتحديد الأذى موجه لهؤلاء الإسرائيليين المتعصبين الذين يفضلون أن يقتلعون عينان من خصمهم بدلا من عين واحدة فقط، ويودون أيضا خلع أسنان بدلا من سن واحد مع التذكير بأن تكريس مبدأ العين بالعين يجعل العالم كله أعمى (غاندي).
(وإذا جنحوا للسلم فاجنح لها) (الأنفال الآية 61) هذه الآية الكريمة موجهة إلى المقاتلين الفلسطينيين الذين ما زالوا يريدون محو إسرائيل من الخارطة ويحاولون تخريب مبادرات السلام.
واختتم مقالتي بالقول أنني بدأت بنقص في الرؤية بعد العام 1989م، وآمل أن الأمر قد أصبح واضحا بما قد تكون عليه هذه الرؤية. إنها ليست رؤية حرب، الحرب جميلة فقط لهؤلاء الذين لا يعـرفونها (إسرازموس روتردام)، عالم إنسانيات في القرن السادس عشر، ولكنها رؤية سلام. وأود أن ألخصها في المقترحات الأربعة الآتية :
- لا يمكن أن يتحقق سلام بين الأمم إن لم يكن هنالك سلام بين الأديان.
- لا يمكن أن يكون هنالك سلام بين الأديان إن لم يكن هنالك حوار بين الأديان.
- لا يمكن أن يكون هنالك حوار بين الأديان إن لم يكن هنالك معايير أخلاقية.
- لن يكتب البقاء لهذا الكون في غياب أخلاق عالمية.
***************
*) فيلسوف ومفكر سويسري, أستاذ اللاهوت بجامعة توبنغن في ألمانيا.