أهميَّة الأناة وأثرها في الدعوة إلى الله

أهميَّة الأناة وأثرها في الدعوة إلى الله
المؤلف : الدكتور حمود جابر مبارك الحارثي
المقدمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
فإن الدعوة إلى الله تعالى التي يُراد لها النجاح و الاستمرارية لا بُد أن تكون مهتدية بالمنهج النبوي ، المنهج المستضيء بنور الوحيين الكتاب والسنة ، والمُترجم عملياً بأقوال الرسول  و أفعاله وسيرته في دعوته . و من معالم ذلكم المنهج النبوي الأناة ، فقد كان  ذا أناة ورفق وتثبت في تعاملاته ، وفي بلاغه للوحي ، وقد أدبه ربه على ذلك كما في قوله تعالى : ﭽ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭼ ( ).وكان من نهجه  ألا يُصدر الأحكام جزافاً وقد نزل عليه قول الله تعالى : ﭽ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﭼ ( ) . و أثنى  على من اتصف بالأناة وبيَّن أنها من الصفات التي يحبها الله فقال  لأشج عبد القيس : " إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ " ( ) . إن هذه الخلة الحميدة لهي من أهم الخلال التي تساعد على نجاح الداعية في دعوته ، فهي حَرية بأن تُبحث وتدرس دراسة دعوية يُفيد منها الدعاة إلى الله تعالى خاصة في هذا العصر الذي كثُرت فيه الفتن ، و اتكأ أعداء الدعوة على بعض تصرفات المسلمين الخاطئة وخاصة الدعاة ، فجعلوها طريقاً للنيل من الإسلام والدعوة . وهذا يوجب على أهل العلم زيادة الإمعان في دراسة سيرة النبي  وسنته و استنباط جزئيات المنهج النبوي في الدعوة إلى الله وتقديمها ناصعة للعاملين في الميدان الدعوي في دراسة دعوية تأصيلية ، و بعد إطالة النظر في السنة والسيرة وجدت أن الأناة صفة عظيمة اتصف بها النبي  وحث عليها ومدح المتصفين بها .
ومن خلال البحث تبين لي أنه لم يسبق دراستها دراسة دعوية ، فعقدت العزم بعد التوكل على الله تعالى على دراسة ذلكم المصطلح الشرعي دراسة دعوية تحت عنوان ( أهمية الأناة و أثرها في الدعوة إلى الله تعالى ) . وقد اقتضت طبيعة الدراسة تقسيمها إلى مقدمة وخمسة مباحث على النحو الآتي :
المقدمة
المبحث الأول : تعريف الأناة و أهميتها .
المطلب الأول : معنى الأناة اللغوي و الاصطلاحي
المطلب الثاني : نصوص الكتاب والسنة الدالة على أهمية الأناة .
المطلب الثالث : أقوال العلماء الدالة على أهمية الأناة .
المطلب الرابع : هل يمكن اكتساب الأناة .
المبحث الثاني : أثر الأناة على الداعية .
المطلب الأول : الأناة في طلب العلم
المطلب الثاني : الأناة في التثبت من الدليل .
المطلب الثالث : الأناة في إصدار الفتوى .
المطلب الرابع : الأناة عند الحكم على الناس .
المطلب الخامس : الأناة و عدم استعجال النتيجة .
المبحث الثالث : أثر الأناة على المدعو .
المطلب الأول : الأناة في اكتشاف حال المدعو .
المطلب الثاني : الأناة في اكتشاف البيئة المحيطة بالمدعو .
المطلب الثالث : الأناة والتثبت من وقوع المنكر الذي يُراد إنكاره .
المبحث الرابع : أثر الأناة في موضوع الدعوة
المطلب الأول : الأناة تُحقق الإحاطة بالموضوع .
المطلب الثاني : الأناة تُحقق إعمال قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب
المصالح عند طرح الموضوع .
المطلب الثالث : الأناة تُحقق تكوين الرؤية العلمية الصحيحة للموضوع
المبحث الخامس : أثر الأناة في وسائل الدعوة و أساليبها .
المطلب الأول : الأناة في اختيار الوسيلة وحسن استخدامها.
المطلب الثاني : الأناة عند اختيار الأسلوب وحسن استخدامه .
الخاتمة .
المراجع .

المبحث الأول : تعريف الأناة و أهميتها .
المطلب الأول : تعريف الأناة
أولاً ـ معنى الأناة اللغوي :
للأناة في اللغة العربية عدة معاني منها :
تأَنَى : ترفق ، يقال : رجل آن : أي كثير الترفق . ومنه قول النابغة :
الرِّفْق يُمْنٌ والأَناةُ سَعَادَةٌ فاستأْنِ في رفق تلاق نجاحا
تأَنَى : تنظَّر ، وتأنى في الامر : أي تنظر واستأنى به : أي انتظر به .
تأَنَى : تأخر ، ومنه قول الحطيئة:
وآنَيْتُ العِشاء إلى سُهَيلٍ أو الشِّعْرَى فطال بيَ الأَنَاءُ
أي أخرت العشاء .
تأَنَى : أبطأ . ومنه ما جاء في الحديث " أن رجلا جاء يوم الجمعة ورسول الله  يخطب ، فجعل يتخطى رقاب الناس حتى صلى مع النبي  ، فلما فرغ من صلاته قال : أما جمعت يا فلان ؟ . فقال : يا رسول الله ، أما رأيتني جمعت معك ؟ فقال : رَأَيْتُكَ آذَيْتَ وآنَيْتَ " ( ). ويقال: فلان خَيْرُهُ أنِيٌّ : أي بطيّ .
تأَنَى : تثبّت ، يقال تأنى في الأمر أي تثبت من تحققه .
تأَنَى : تمهَّل ، يقال : متمهل في تدبير الأمور : أي مبتعد عن العجلة . و لذلك يوصف الرجل المتأني المتمهل المبتعد عن العجلة بأنه : وَاسِع الأَنَاة ، بَعِيد الأَنَاةِ ، طَوِيل حَبْل الأَنَاة ( ).
ثانياً ـ معنى الأناة الاصطلاحي :
من خلال النظر في معاني الأناة عند علماء اللغة ، والتفسير ، و الحديث يمكن تحديد معنى الأناة الاصطلاحي بأنها :
التأني والتربص والتثبت وترك الطيش و العجلة وضبط النفس عند الغضب حتى يستبين الصواب ( ) .
إن الأناة إنما قصدت للاستظهار والاستبصار والتأمل و النظر في العواقب ، و العجلة كثيراً ما تأتي بالعطب ، و توقع في الحرج ، و حينئذٍ لا ينفع الندم . و إن تأني الداعية وتثبته في التعامل مع النصوص يجعله قادراً على تـنـزيلها على واقع المدعو مع اختيار الوسائل و الأساليب المناسبة بما يحقق أهداف الدعوة إلى الله وغاياتها . ومن هنا تتبين أهمية الأناة في الدعوة إلى الله تعالى .

المطلب الثاني : نصوص الكتاب والسنة الدالة على أهمية الأناة .
أولاً ـ نصوص الكتاب
من الآيات المباشرة التي تأمر بالأناة وتنهى عن الاستعجال ما يأتي :
1 ـ قول الله تعالى : ﭽ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﭼ ( ) .. قال القرطبي ـ رحمه الله ـ : ( هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين مروا في سفرهم برجل معه جمل وغنيمة يبيعها فسلم على القوم وقال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فحمل عليه أحدهم فقتله. فلما ذكر ذلك للنبي  شق عليه فنزلت الآية ،وحمل رسول الله  ديته إلى أهله ورد عليه غنيماته ) ( ) . ومعنى تبينوا : أي تثبتوا من صحة الأمر ، وتأنوا حتى يتبين لكم الثابت من الأمر الذي لا يتبدّل ولا يحتمل نقيض ما بَدَا لَكم . ولذلك قرأها حمزة ، والكسائي : فتثبّتوا ( ).
2 ـ قول الله تعالى : ﭽ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭼ ( ). مما قاله العلماء في معنى الآية ما يأتي :
الأول : لا تلقه إلى الناس قبل أن يأتيك بيان تأويله .
الثاني : لا تعجل بتلاوته قبل أن يفرغ جبريل من إبلاغه ، لأنه كان يعجل بتلاوته قبل أن يفرغ جبريل من إبلاغه خوف نسيانه.
التالث : معناه لا تقرئه أصحابك ، و لا تعجل في تأديته إليهم ، ولا تمله عليهم حتى يتبين لك معانيه ( ). ففي ذلك دليل على ما كان يتصف به النبي  من الجد في أمر الدين والبلاغ والحرص على هداية الناس فأدبه ربه كما في هذه الآية بآداب البلاغ ، و أمره بالتأني لما يترتب على التأني من تأكُّد العلم ، ومن ثم حسن البلاغ . و مثل هذه الآية آية سورة القيامة التي ستأتي .
3 ـ قول الله تعالى : ﭽ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭼ ( ) .
قرأها الجمهور : تبينوا ، والتبيّن : تطلب البيان وهو ظهور الأمر ، وقرأها حمزة والكسائي وخلَف : فتثبتوا ، والتثبت : التحري وتطلب الثبات وهو الصدق . وقال تعالى في آخر الآية : ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ : أي تصيبونهم بخطأ ، فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ : على العجلة وترك التأني ( ).
4 ـ قول الله تعالى : ﭽ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ * ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭼ ( ) .كان الرسول  يعجل بذكر القرآن إذا نزل عليه من حبه له ، و حلاوته في لسانه ، فنُهي عن ذلك حتى يجتمع ، لأن بعضه مرتبط ببعض ( ).
5 ـ قول الله تعالى ﭽ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭼ ( ) . و المُكْثُ : الأَناةُ واللَّبَثُ والانتظار ، والمَكِيثُ : الرَّزينُ الذي لا يَعْجَل في أَمره ( ) .
6 ـ قول الله تعالى : ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭼ ( ) . قال الشوكاني ـ رحمه الله ـ : ( أي لو انتظروا خروجك ولم يعجلوا بالمناداة لكان أصلح لهم في دينهم ودنياهم لما في ذلك من رعاية حسن الأدب مع رسول الله  ورعاية جانبه الشريف ، والعمل بما يستحقه من التعظيم والتجليل ) ( ).

ثانياً : نصوص السنة
1 ـ عن عبد الله بن عباس ا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  لِلْأَشَجِّ ، أَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ : إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ ( ) .
وفي رواية : " إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ " ( ) .
2 ـ عن زَارِعٍ وَكَانَ فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ قَالَ لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَجَعَلْنَا نَتَبَادَرُ مِنْ رَوَاحِلِنَا فَنُقَبِّلُ يَدَ النَّبِيِّ  وَرِجْلَهُ قَالَ وَانْتَظَرَ الْمُنْذِرُ الْأَشَجُّ حَتَّى أَتَى عَيْبَتَهُ فَلَبِسَ ثَوْبَيْهِ ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ  فَقَالَ لَهُ : إِنَّ فِيكَ خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ . قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا أَمْ اللَّهُ جَبَلَنِي عَلَيْهِمَا . قَالَ : بَلْ اللَّهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا . قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ ( ) .
وفي مسند الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ قَالَ  لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ :" إِنَّ فِيكَ خُلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ " ( ) .
سبب مقولة النبي  لأشج عبد القيس :
وسبب قول النبى  ذلك له ما جاء فى حديث الوفد أنهم لما وصلوا المدينة بادروا إلى النبى  وأقام الاشج عند رحالهم فجمعها وعقل ناقته ولبس أحسن ثيابه ثم أقبل إلى النبى  فقر به النبى  وأجلسه إلى جانبه . ثم قال لهم النبى  تبايعون على أنفسكم وقومكم فقال القوم : نعم . فقال الاشج : يا رسول الله إنك لم تزاول الرجل عن شيء أشد عليه من دينه نبايعك على أنفسنا ونرسل من يدعوهم فمن اتبعنا كان منا ومن أبى قاتلناه . قال : صدقت ان فيك خصلتين ... الحديث . و يتبين أنّه ِ  إنما قال ذلك للأشَجِّ لِمَا ظَهَرَ له منه مِنْ رِفْقِهِ و تمهله وتَرْكِ عجلته ( ). وفعل الأشج  من شعار العقلاء .
3 ـ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : " الْأَنَاةُ مِنْ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ " ( ).
4 ـ قال النبي  : " التأني من الله و العجلة من الشيطان " ( ) .
الأناة عاقبتها حميدة و لا يترتب عليها إلا الخير فهي من الله تعالى . أما العجلة فلا تأتي بخير فهي و إن كانت بعلم الله وقدرته إلا أن سببها من الشيطان . ولذلك قال العلماء في قوله  والعجلة من الشيطان : أي هو الحامل عليها بوسوسته لأن العجلة تمنع من التثبت والنظر في العواقب وذلك يوقع في المعاطب وذلك من كيد الشيطان ووسوسته ( ).
5 ـ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ا قَالَ : كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ  وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : إِنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ قَدْ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ ( ) .
أي : قد كان لهم في الطلاق مهلة ، وسعة وبقية استمتاع بانتظار الرجعة ( ). فهذه الأناة جعلتهم يتساهلون في مسالة الطلاق وبفعلهم هذا استعجلوا وحرموا مهلة الرجعة ، وبما أنهم لم يتأنوا عند إيقاع الطلاق فإن هذه العجلة أو جبت عليهم إمضاء الطلاق عليهم .
6 ـ قال النبي  : " السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءاً من النبوة " ( ) .
7 ـ قال النبي  : " التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة " ( ).
التؤدة : التثبت وترك الاستعجال والتوقف عن السرعة المذمومة .و أمور الدنيا والوسائل يتأنى الإنسان ويتروى فيها ، وأما بالنسبة لأمور الآخرة وخاصة العبادات المحضة فلا يتأنى فيها ، بل يقدم ويسارع ، فلا بد فيها من منافسة ومسابقة ، ولا بد فيها من الجد والاجتهاد ، ولا بد فيها من اغتنام الفرص وعدم التساهل ، بخلاف أمور الدنيا فالإنسان يتأنى ، وقد يكون في التأني الخير الكثير ، بخلاف العجلة فإنه قد يترتب عليها شيء من الضرر ، فالتأني والتروي في أمور الدنيا لا شك أنه خير للإنسان ( ).

المطلب الثالث : أقوال العلماء الدالة على أهمية الأناة .
كان السلف الصالح يستحبون الأناة ، ويحثون عليها ، ومن أقوالهم فيها ما يأتي :ـ
1 ـ أَنَّ عَلِيًّا  سَأَلَ ابْنَهُ الْحَسَنَ بن عَلِيٍّ  عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ أَمْرِ الْمُرُوءَةِ ، ـ ومما سأله عنه ـ ، قَالَ : يَا بنيَّ فَمَا الْحَزْمُ ؟ قَالَ : طُولُ الأَنَاةِ ، وَالرِّفْقُ بِالْوُلاةِ ( ).
2 ـ قال عمرو بن العاص  : لا يزال المرء يجتني من ثمرة العجلة الندامة ثم العجلة المذمومة هي ما كان في غير طاعة ومع عدم التثبت وعدم خوف الفوت ( ).
3 ـ قال مجاهد وقتادة في قول الله تعالى : ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ : معناه لا تقرئه أصحابك ، ولا تمله عليهم حتى يتبين لك معانيه ( ).
4 ـ عن قبيصة قال : ألا أخبركم عمن صحبت ،.... ثم قال : وصحبت معاوية فما رأيت أحداً أكثر حلماً منه ، ولا أكرم ولا أبعد أناةً منه ( ).
5 ـ ورد أن معاوية  قال يوماً وعنده الأحنف : ما يعدل الأناة شئ . فقال الأحنف : إلا في ثلاث تبادر بالعمل الصالح أجلك ، وتعجل إخراج ميتك ، وتنكح كفء أيمك ( ).
6 ـ قال عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ روي أن عمرو بن العاص  كتب إلى معاوية  يعاتبه في التأني ، فكتب إليه معاوية  أما بعد : فإن الفهم في الخير زيادة رشد وإن الرشيد من رشد عن العجلة ، وإن الجانب من خاب عن الأناة ، وإن المتثبت مصيب أو كاد أن يكون مصيباً ، وإن العجل مخطئ أو كاد أن يكون مخطئاً( ) .
7 ـ قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ : إذا انحرفت عن خلق الأناة والرفق انحرفت إما إلى عجلة وطيش وعنف ، وإما إلى تفريط وإضاعة ، والرفق والأناة بينهما ( ) .

المطلب الرابع : هل يمكن اكتساب الأناة .
الأناة خلق كبقية الأخلاق الإنسانية قد يُجبل عليها الإنسان منذ ولادته فتكون خُلقاً ملازماً له وهبه الله إياه ، وقد يولد الإنسان ويكبُر وهو لا يتحلى بهذا الخلق ، فيُدرب نفسه ويُمرِّنُها بالأفعال و الأسباب التي تُستجلب بها الأناة . والدليل على إمكانية اكتسابها قول أشج عبد القيس  للرسول  في الحديث السابق : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا أَمْ اللَّهُ جَبَلَنِي عَلَيْهِمَا . قَالَ : بَلْ اللَّهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا . قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ ( ) . فلو أنه لا يمكن اكتسابها لبينه  لأشج عبد القيس عندما قال : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا أَمْ اللَّهُ جَبَلَنِي عَلَيْهِمَا . كما أنه قد ورد أيضاً في السنة ما يدل على أنها تُكتسب فعن معاوية  قال :" سمعت رسول الله  يقول : يا أيها الناس إنما العلم بالتعلم والفقه بالتفقه ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإنما يخشى الله من عباده العلماء " ( ) . لذلك ينبغي لطالب العلم والداعية على وجه الخصوص أن يتحرَّ ويحرص ويجاهد نفسه على الحصول على خلق الأناة حتى يُنعم الله تعالى عليه بها ، وهذا متحقق لا محالة إذا صدق العبد في ذلك كما قال النبي  : " إن تصدق الله يصدقك " ( ) ،
وأطال العمل و الصبر في طلبها ، مع عدم الاستعجال ، و مصاحبة أهل الخير والصلاح ، فإن الناس مجبولون على اقتداء بعضهم ببعض ، والتضرع إلى الله تعالى بأن يمنَّ عليه بهذه النعمة فقد كان من دعاء النبي  : " اللَّهُمَّ كَمَا حَسَّنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي " ( ).

المبحث الثاني : أثر الأناة على الداعية .
إننا في عصر السرعة الذي يضغط على الجميع لانجاز الأعمال بسرعة , ومع أهمية المبادرة والتعايش مع الواقع إلا أنه لابد من التأني والتروي مع الجد في الانجاز والتوسط في تنفيذ العمل بتأنٍ يأتي بالمطلوب و لا يضيع الوقت ويؤخره ، هذا في حق المسلم ، ويزداد أهمية في حق الداعية الذي يجب عليه أن يحسب الحساب لكل خطوة في طلبه للعلم ، وفي فتواه ، وفي حكمه بين الناس وعليهم ، ولا يستعجل النتائج .
إن الموقف الدعوي يتطلب من الداعية إلى الله أن يكون على مستوى من الجد والسرعة في تطبيق الدعوة بعد اكتشاف طبيعة الموقف وتحديد كيفية التعامل معه ، وهذا يتطلب توفر عدة أمور في شخصية الداعية تؤهله لسرعة تحديد المشكلة الدعوية وتحديد الكيفية المناسبة لعلاجها ليسلم من اتخاذ القرارات المتسرعة التي قد تؤدي إلى فقدان التوازن في التعامل مع الموضوع ، فتسبق العجلة التأني ، وتأخذ العاطفة أكثر من حقها الطبيعي فيتأثر الداعية في شخصه ويؤثر على المنهج الصحيح الذي كان ينبغي أن يسلكه .
وسيحدد هذا المبحث في المطالب الآتية كيف يحقق الداعية الأناة و الأثر الذي ينتج عنها على أداء الداعية .

المطلب الأول : الأناة في طلب العلم
ففي الحديث " أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِىَّ  فَسَأَلَهُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلاَةِ ، فَقَالَ : اشْهَدْ مَعَنَا الصَّلاَةَ . فَأَمَرَ بِلاَلاً فَأَذَّنَ بِغَلَسٍ فَصَلَّى الصُّبْحَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالظُّهْرِ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ عَنْ بَطْنِ السَّمَاءِ ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْعَصْرِ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْمَغْرِبِ حِينَ وَجَبَتِ الشَّمْسُ ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْعِشَاءِ حِينَ وَقَعَ الشَّفَقُ . ثُمَّ أَمَرَهُ الْغَدَ فَنَوَّرَ بِالصُّبْحِ ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالظُّهْرِ فَأَبْرَدَ ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْعَصْرِ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ لَمْ تُخَالِطْهَا صُفْرَةٌ ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْمَغْرِبِ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ الشَّفَقُ ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْعِشَاءِ عِنْدَ ذَهَابِ ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ بَعْضِهِ - شَكَّ حَرَمِىٌّ - فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ ؟ مَا بَيْنَ مَا رَأَيْتَ وَقْتٌ " ( ). إن الرجل أتى يطلب علماً وهو السؤال عن وقت الصلاة ، ولو أجابه النبي  نظرياً لكفاه ذلك ، ولكنه تأنى في الإجابة ليُريَ الرجل إجابة السؤال عملياً بفعل الرسول  مع صحابته  ، وليُعلِّمه الأناة في طلب العلم ، و لا شك أن نتيجة هذا التعليم أثبت للعلم ، و أوقع في نفس السائل . وهذا الذي ينبغي أن يحرص عليه الداعية فيتأنى في طلبه للعلم حتى يتحقق له حظاً وافراً منه ويتأدب بآداب طلب العلم وتطبيقه العملي . يقول الشنقيطي : ( ينبغي على طالب العلم ألا يستعجل في طلب العلم ، لأن الاستعجال يعتبر من آفات العلم في هذا الزمان ، فقد كان السلف يعتنون بطول الزمان في طلب العلم ، فكلما طال زمان طالب العلم كلما أحبه الله ، وهيأه لمرتبة عظيمة في الإسلام ، وكلما استعجل طالب العلم فظهر للناس ظهر على قصور ، فقد تفقه عبد الله بن وهب -وهو إمام من أئمة الحديث والفقه- على يدي الإمام مالك رحمه الله تعالى أكثر من عشرين سنة ،..... وذكر عن الإمام مالك رحمه الله أنه لما قرئ عليه الموطأ فيما يقرب من عام قال : كتاب ألفته في أكثر من عشرين سنة ، تقرؤونه في عام! ما أقل ما تفقهون أي: ما أقل ما يكون لكم من الفقه..) ( ) . وقال بكر أبو زيد ـ رحمه الله ـ : ( تحل بالثبات والتثبت ، لا سيما في الملمات والمهمات ، ومنه الصبر والثبات في التلقي ، وطي الساعات في الطلب على الأشياخ ، فإن من ثبت نبت ) ( ).

المطلب الثاني : الأناة في التثبت من الدليل .
يجب على طالب العلم الداعية أن يتأنى و يتثبت من الدليل في أمور أهمها ثلاثة :
الأول : صحة الدليل إذا كان من السنة : فإن من الذب عن السنة تمييز صحيحها من سقيمها ، و قد كفى السلف من علماء الحديث الخلف من مؤنة البحث والتحري فعُنوا بدراسة الأسانيد ، ودونوا كتب الرجال والسير والتاريخ والجرح والتعديل التي تميز رواة الحديث وتحدد مراتبهم في الجرح والتعديل ، ثم أُلفت المؤلفات التي تبين درجة الحديث بحكم المعتبرين من أهل الحديث . قال عَبْد اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ : ( الإِسْنَادُ مِنَ الدِّينِ وَلَوْلاَ الإِسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ ) ( ) ، وقال ابن سيرين : ( إن هذا العلم دين ، فانظروا عمن تأخذون دينكم ) ( ) وبذلك يتحقق عدم الكذب على الرسول  فقد قال : " مَن يَقُل عليَّ ما لم أقُل فليَتَبَوَّأ مقعدَهُ مِن النَّار " ( ) . إضافة إلى ذلك فإنه يجب التأني و التثبت من صحة نسبة الأخبار إلى أصحابها وخاصة أقوال العلماء ، لأن أقوالهم بمثابة الفتوى .
الثاني : تفسيره و معرفة معناه : فإن كان من القرآن فبمعرفة سبب النزول والناسخ والمنسوخ و المطلق والمقيد ، لأن ذلك يعين على فهم الآية على وجه صحيح ، فأولى الأقوال بتفسير الآية عند الاختلاف ما وافق سبب النزول الصحيح الصريح في السببية . فمعرفة السبب يُعين على فهم الآية ، ويدفع الإشكال عنها ، ويكشف الغموض الذي يكتنف تفسيرها . ومثال ذلك اختلاف المفسرين في تفسير قول الله تعالى : ﭽ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﭼ ( ) على أقوال :
1 ـ المراد بالبيوت المنازل المعروفة والإتيان هو المجيء إليها ودخولها.
2 ـ المراد النساء ، أي أمرنا بإتيانهن من القبل لا من الدبر.
3 ـ أنها مثل يفيد أمر الناس أن يأتوا الأمور من وجوهها.
وأصح هذه الأقوال الأول ، لما صح في سبب نزول هذه الآية أنه " كانت الأنصار إذا حجوا فرجعوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه فكأنه عُيِّر بذلك فنزلت هذه الآية " ( ) ( ).
ومن السنة ما ورد أن النبي  " نهى عن الإقعاء في الصلاة " ( ) ، وورد أن النبي  وصفه بإقعاء الكلب قال  : " يا على ! لا تقع إقعاء الكلب " ( ) . وورد أنه سنة فقد صح عن طاوس أنه قال : " قُلْنَا لاِبْنِ عَبَّاسٍ فِى الإِقْعَاءِ عَلَى الْقَدَمَيْنِ فَقَالَ هِىَ السُّنَّةُ. فَقُلْنَا لَهُ إِنَّا لَنَرَاهُ جَفَاءً بِالرَّجُلِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَلْ هِىَ سُنَّةُ نَبِيِّكَ  " ( ).
وفي مثل هذا قد يقع الداعية في الحرج الشديد عندما ينهى عن الإقعاء مستدلاً بحديث النهي وهو لا يعرف معنى الإقعاء أولاً ، و لا يعرف الأحاديث الواردة في المسألة و أقوال العلماء فيها ثانياً . إذاً يجب أن يُعرف معنى الإقعاء في العموم و إقعاء الكلب في الخصوص من كتب اللغة و أقوال العلماء .
أما الإقعاء فهو : أن يضع إليتيه على عقبيه ويقعد مستوفزاً غير مطمئن إلى الأرض . و إقعاء الكلب والسبع فهو : أن يلصق إليتيه بالأرض وينتصب على ساقيه ( ).
قال الألباني ـ رحمه الله ـ : ( ومما ينبغي أن يُعلم أن هناك سنة أخرى في هذا الموطن وهي سنة الإقعاء ، وهو أن ينتصب على عقبيه وصدور قدميه . وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث من أصحاب النبي  منهم العبادلة الثلاثة عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير  . وبالجملة فالإقعاء بين السجدتين سنة ، فينبغي الإتيان بها ، كما كان رسول الله  يفعل . وأما أحاديث النهي عن الإقعاء فلا يجوز التمسك بها لمعارضة هذه السنة لأمور :
أولاً : أنها كلها ضعيفة معلولة .
ثاتياً : أنها إن صحت أو صح ما اجتمعت عليه فإنها تنص على النهي عن إقعاء كإقعاء الكلب ، وهو شئ آخر غير الإقعاء المسنون . و هو أن يضع إليتيه على عقبيه ويقعد مستوفزاً غير مطمئن إلى الأرض ، وكذلك إقعاء الكلب والسبع أن يقعدا على مآخيرهما وينصبا أفخاذهما .
ثالثاً : أنها تحمل على الإقعاء في المكان الذي لم يشرع فيه هذا الإقعاء المسنون ، كالتشهد الأول والثاني ، وهذا مما يفعله بعض الجهال فهذا منهي عنه قطعاً لأنه خلاف سنة الافتراش في الأول ، والتورك في الثاني . والله أعلم ) ( ) .
الثالث : إنزال الدليل منزله الصحيح وتطبيقه على موضع الاستدلال : و لا يتحقق ذلك إلا بتصور موضع الاستدلال تصوراً تاماً صحيحاً ، ولذلك قال العلماء : الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، و أرادوا بذلك معرفة المسألة المراد بحثها والواقع المحيط بها ، لأنه لا يستطيع الإنسان تصور شيئاً لم يطلع على جميع ملابساته وجوانبه ، ومن ثم كيف يستطيع أن يأتي بالرأي الملائم والمناسب له ( ).

المطلب الثالث : الأناة في إصدار الفتوى .
كان المعلم الأول  قدوة الدعاة الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه لا يفتى في كثير من المسائل حتى يأتيه الجواب من ربه ، مع أنه لا ينطق عن الهوى ، وما يقوله وحي يوحى ، ومن أمثلة ذلك قول الله تعالى : ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭼ ( ) . قال العلماء : كَانَ النَّبِيُّ  يُسْأَلُ فَلَا يُجِيبُ ، حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ ( ) . وفي الحديث " أن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ا يَقُولُ : مَرِضْتُ مَرَضًا فَأَتَانِي النَّبِيُّ  يَعُودُنِي وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا مَاشِيَانِ فَوَجَدَانِي أُغْمِيَ عَلَيَّ فَتَوَضَّأَ النَّبِيُّ  ثُمَّ صَبَّ وَضُوءَهُ عَلَيَّ فَأَفَقْتُ فَإِذَا النَّبِيُّ  فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي ؟ كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِي؟ فَلَمْ يُجِبْنِي بِشَيْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ ﭽ ﭑ ﭼ " ( ) .
ومن الأمثلة على ذلك من سير السلف ما ذكره الذهبي أن السراج البلقيني الشافعي ـ رحمه الله ـ كان من أهل الفتوى في زمانه ، وكان يُكتب إليه من أقطار الأرض البعيدة وكان موفقاً فيها يجلس للكتابة عليها من بعد صلاة العصر إلى الغروب إلى أن صار يضرب به المثل في العلم ولا تركن النفس إلا إلى فتواه ، وكان لا يأنف من تأخير الفتوى عنده إذا أشكل عليه منها شئ إلى أن يحقق أمرها من مراجعة الكتب وما ذاك الا لسعة علمه ، ولأن الفقيه عليه التروي وبذل الجهد في فتاويه ليصيب الحق في المسائل ( ).
فواجب الداعية إن أراد أن يفتي أن يتأنى ليعرف حال السائل ألا يكون متعنتاً ، أو متتبعاً الرخص ، أو من الذين يضربون آراء العلماء بعضها ببعض ، أو غير ذلك من المقاصد السيئة ، فمثل هؤلاء لا يُفتون ، و أن لا يترتب على الفتوى ما هو أكثر منها ضرراً ، فإن ترتب عليها ذلك وجب الإمساك عنها ، دفعاً لأشد المفسدتين بأخفهما ( ).

المطلب الرابع : الأناة عند الحكم على الناس .
في قصة داود عليه السلام عندما اختبره الله تعالى بإرسال ملكين في صورة رجلين متخاصمين يحتكمان إليه واستعجاله في إصدار الحكم على أحدهما قبل سماع جواب المدعى عليه بيان لأهمية الأناة في الحكم على الناس قال تعالى : ﭽ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﭼ( ) ،كأن داود عليه السلام قضى على إثر سماعه لهذه المظلمة الجائرة والتي عُرضت عليه في صورة مثيرة لأحد الخصمين مِنْ قَبْلِ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ الْآخَرِ ، فلم يوجه إلى الخصم الآخر حديثاً , ولم يطلب إليه بياناً , ولم يسمع له حجة . و القاضي يجب عليه ألا يُستثار , وعليه ألا يتعجل ، و ألا يسير مع الانفعال الأول , ويجب عليه التريث والتثبت والتبين ، وعليه ألا يأخذ بظاهر قول واحد قبل أن يمنح الآخر فرصة للإدلاء بقوله وحجته ، فقد يتغير وجه المسألة كله , أو بعضه , وينكشف أن ذلك الظاهر كان خادعاً أو كاذباً أو ناقصاً ! ( ).
ولكن داود عليه السلام سرعان ماتنبه ، و أدركته طبيعته التي وهبه الله إياها كما في قوله تعالى : ﭽ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭼ( ) فاستغفر ربه كما قال الله تعالى عنه : ﭽ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﭼ .و لذلك جاء التعقيب القرآني الذي جاء بعد القصة يحدد التوجيه المقصود بها من الله لعبده الذي ولاه القضاء والحكم بين الناس فيقول تعالى : ﭽ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ ﭼ( ) .
و إذا كان هذا في أمر من أمور الدنيا فإن أمر الدين أعظم و أهم ، والحكم على المسلمين بالفسق أو الفجور أو النفاق أو الكفر أمر خطير حذر منه النبي  ، فقد ورد أنه خرج لزيارة بعض أصحابه  ومعه جماعة من أكابر الصحابة فلما جلسوا " قال رَجُلٌ مِنْهُمْ : مَا فَعَلَ مَالِكٌ لَا أَرَاهُ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ : ذَاكَ مُنَافِقٌ لَا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : لَا تَقُلْ ذَاكَ ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ .فَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ أَمَّا نَحْنُ فَوَاللَّهِ لَا نَرَى وُدَّهُ وَلَا حَدِيثَهُ إِلَّا إِلَى الْمُنَافِقِينَ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ " ( ).فإطلاق العنان لمثل هذه الأحكام ينفر و لا يبشر ، ويورث الحقد والكراهية والفرقة ، وكل ذلك ليس من الدعوة إلى الله في شيء ، وقد حث الإسلام على كل ما يؤدي إلى تواد المسلمين وتحابهم و اجتماعهم ، و نهى عن كل ما يؤدي إلى تباغضهم وتفرقهم . قال سفيان بن حسين: ( ذكرت رجلاً بسوء عند إياس بن معاوية ، فنظر في وجهي وقال: أغزوت الروم ؟ قلت: لا ! قال: السند والهند والترك ، قلت: لا. قال: أفسلم منك الروم والسند والهند والترك ولم يسلم منك أخوك المسلم ؟ قال: فلم أعد بعدها ) ( ) .

المطلب الخامس : الأناة و عدم استعجال النتيجة .
عندما استبطأ النبي  و المؤمنون النصر ، واستعجلوا تحقق النتيجة كما حكا الله عنهم في قوله تعالى : ﭽ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﭼ ( )، بيّن الله لنبيه أن واجبه البلاغ كما في قوله تعالى : ﭽ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﭼ( ) ، و أمره بالصبر على الأذى و الاستمرار في الدعوة فقال تعالى : ﭽ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﭼ( ) . يقول ابن عاشور ـ رحمه الله ـ : ( أمر الله النبي  بالصبر على ما يلاقيه منهم ، إذ الأمر بالصبر مفرّع على ما اقتضاه قوله تعالى : ﭽ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﭼ ( ) ، فلما حصل الوعد بالانتصاف من مكذبي النبي  في الدنيا والآخرة ، أعقب بقوله : ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ فإن مناسبة الأمر بالصبر عقب ذلك أن يكون تعريضاً بالانتصار له ولذلك فرَّع على الأمر بالصبر الشرطُ المردَّد بين أن يريه بعض ما توعدهم الله به وبين أن لا يراه ، فإن جواب الشرط حاصل على كلتا الحالتين وهو مضمون في قوله : ﰄ ﰅ أي أنهم غير مفلَتين من العقاب ، فلا شك أن يرى النبي  أحد الأمرين عذابهم في الدنيا أو الدنيا والآخرة )( ) .
و النبي  إمام الدعاة وقدوتهم في أقواله و أفعاله ومنهج دعوته ، فقد أمره الله أن يستمسك بالوحي فإنه هو الصراط المستقيم و بموجب الالتزام به سيُسألون يوم القيامة ، أما نتيجة الدعوة والنصر على المعارضين فإن الله قد تكفل بها وهي متحققة عاجلاً أو آجلاً ، قال تعالى : ﭽ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﭼ( ) ، إن تربية الوحي للنبي  كما في الآيات السابقة جعلته يقول لأصحابه  " وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ " ذماً للاستعجال ، ففي الحديث يقول خَبَّاب بْن الْأَرَتِّ  : " شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ  وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ قُلْنَا لَهُ : أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا ، أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا قَالَ : كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ " ( ) .

فيجب على الداعية المبادرة وحسن التخطيط و الاستعداد ، ولابد أن يصاحب ذلك التأني والتروي قبل الإعداد و أثناء التطبيق ، والتأني المطلوب ليس هو الذي يضيع الوقت ويؤخره ، إنما يحسب الحساب لكل خطوة ولا يستعجل النتائج .

المبحث الثالث : أثر الأناة على المدعو .
المدعو هو حجر الزاوية في الدعوة ، وهو هدف الدعوة و غايتها ، و لا يتحقق الهدف و الغاية إلا إذا عُرف حال المدعو وطبيعته ، وبناءً على هذه المعرفة بحال المدعو يعامل الخلق بحسب منازلهم ومناصبهم كل بما يلائم مكانته في الدين و العلم والشرف ، فالكبير له التوقير والاحترام ، والصغير يعامل بالرحمة والرفق ، والنظير يعامله بم يحب أن يعامله به ، و الملوك وأرباب الرئاسة بالكلام اللين المناسب لمراتبهم ، و العلماء من حقهم التوقير والإجلال ، والتواضع لهم ، وإظهار الافتقار والحاجة إلى علمهم النافع ، وكثرة الدعاء لهم ، خصوصاً وقت تعليمهم وفتاواهم ، والأغنياء تعودوا على المراكب الحسنة والمفارش الجميلة و الغذاء الوافر فلهم حق المراعاة في هذه الجوانب ، وهكذا ... ، وتكوين هذه الصورة عن المدعو يحتاج إلى أناة الداعية وتثبته قبل البدء في تطبيق برنامجه الدعوي . وهذا ما تبينه المطالب الآتية بإذن الله تعالى .

المطلب الأول : الأناة في اكتشاف حال المدعو .
إن من الحكمة أن يتأنى الداعية حتى ُيكوِّن لديه إلمامة بحال المدعو الذي سيوجه له دعوته فهل هو من كبراء الناس ووجهائهم أم من عامتهم ؟، أهو من علمائهم أم من جهالهم ؟ ، من أغنيائهم أم من فقرائهم ؟. ثم ما هي الصفات الذاتية التي يُعرف بها ؟ أهو كريم أم بخيل ؟ ، أهو حليم أم غضوب ؟ ، أهو شجاع أم جبان ؟ ، أهو جرئي أم حيي ؟، وهكذا ... قال الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ : ( فلا يُقصر بالرجل العالي القدر عن درجته ، ولا يُرفع متضع القدر في العلم فوق منزلته ، ويعطى كل ذى حق فيه حقه ، وينزل منزلته ، وقد ذُكِر عن عائشة ا أنها قالت: أمرنا رسول الله  أن ننزل الناس منازلهم ) ( ). وفي الحديث أن النبي قال : " إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم ، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه ، وإكرام ذي السلطان المقسط " ( ).قال المناوي ـ رحمه الله ـ : ( أي احفظوا حرمة كل واحد على قدره ، وعاملوه بما يلائم حاله في عمر ودين وعلم وشرف ، فلا تسووا بين الخادم والمخدوم ، والرئيس والمرؤوس ، فإنه يورث عداوة وحقداً في النفوس ، وقد عد العسكري هذا الحديث من الأمثال والحكم وقال : هذا مما أدب به المصطفى  أمته من إيفاء الناس حقوقهم من تعظيم العلماء والأولياء ، وإكرام ذي الشيبة ، وإجلال الكبير وما أشبهه . فإن الإكرام غذاء الآدمي ، والتارك لتدبير الله تعالى في خلقه لا يستقيم حاله ، وقد دبر الله تعالى الأحوال لعباده غنى وفقراً ، وعزاً وذلاً ، ورفعة وضعة ، ليبلوكم أيكم أشكر فالعامل عن الله يعاشر أهل دنياه على ما دبر الله لهم ، فإذا لم ينزله المنزلة التي أنزله الله ولم يخالقه بخلق حسن فقد استهان به وجفاه وتر ك موافقة الله في تدبيره ، فإذا سويت بين شريف ووضيع ، أو غني وفقير في مجلس أو عطية ، كان ما أفسدت أكثر مما أصلحت ، فالغني إذا أقصيت مجلسه أو أحقرت هديته يحقد عليك لما أن الله تعالى لم يعوده ذلك ، وإذا عاملت الولاة بمعاملة الرعية فقد عرضت نفسك للبلاء )( ) . وفي تقدير الصفات الذاتية جاء في الحديث " أن رجلاً قال للنبي  : أوصني قال : لا تغضب . فردد مراراً قال : لا تغضب " ( ) . قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ : ( لعل السائل كان غضوباً وكان النبي  يأمر كل أحد بما هو أولى به ، فلهذا اقتصر في وصيته له على ترك الغضب ) ( ) ، فأناة النبي  جعلته يكتشف حال المدعو من كثرة تكرار السؤال ، فرأى أن الرجل غضوباً فكان المناسب لحاله الوصية بترك الغضب ، كما أن صفة الغضب لا بد أن يقابلها تأني وهدوء حتى يُسكِّن هذا الغضب .

المطلب الثاني : الأناة في اكتشاف البيئة المحيطة بالمدعو
من المؤكد أن الفرد يتأثر بالبيئة المحيطة به ، أو التي ينشأ فيها ، ومما يؤكد ذلك قول الرسول  : " مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ " ( ).
ولذلك ينبغي للداعية أن يُكوِّن تصوراً عن بيئة المدعو أهي بيئة مثقفة أم عادية ؟ ، أهي بيئة حاضرة أم بادية ؟ ، أهي بيئة غنية أم فقيرة ؟ ، محافظة على مبادئها أم متأثرة بغيرها ؟ ، متعلمة أم جاهلة ؟ ، منفتحة أم منغلقة ؟ ، كل ذلك لما للبيئة من تأثير في المدعوين سلباً و إيجاباً يُحتِّم على الداعية أن يُكيّف منهجه ووسيلته و أسلوبه وِفق طبيعة هذه البيئة ، وهذا يحتاج إلى التأني حتى يجمع ما يمكن جمعه من معلومات بالسؤال أو الخبرة أو الفراسة وما شابه ذلك . وشاهد ذلك من السنة قول النبي  لمعاذ بن جبل  عندما أرسله إلى اليمن : " إِنَّكَ تَأْتِى قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ " ( ) . إن هذا القول يؤكد أنه ينبغي على الداعية أن يعرف من يدعو ولذلك قال النبي  لمعاذ : إنك تأتي قوماً أهل كتاب . قال العلماء : أخبره بذلك لأمرين : أولها : ليكون بصيراً بأحوال من يدعو ، وثانيها : أن يكون مستعداً لهم ، متهيأ لمناظرتهم . وفيه ما كان عليه النبي  من معرفة بأحوال الناس ، إما بالوحي ، أو بالعلم والتجربة . وفيه أنهم أهل علم سابق و مخاطبة العالم ليست كمخاطبة الجاهل ، وفيه كيفية الدعوة إلى الإسلام باعتبار أصناف الخلق في الاعتقادات ( ) .
المطلب الثالث : الأناة والتثبت من وقوع المنكر الذي يُراد إنكاره .
إذا نمى إلى علم الداعية منكر في فرد أو جماعة فليتأنى حتى يتأكد من صحة الخبر ، حتى لا يتهم بريء ، و ينهى عن أمر ليس له وجود ، فيقع في الحرج ، و يُتهم بالعجلة ، و يفقد ثقة الناس ، و قبل ذلك يُساعد في إشاعة الفاحشة التي نهى الله عنها ، أو يُشغل الناس بعضهم ببعض ، وكل ذلك ليس من آداب الإسلام والدعوة في شيء .
وفي سيرة النبي  أروع أمثلة التأني والتثبت من الأخطاء و المنكرات التي يُخبر بها قبل أن يُنكرها ، ومن أمثلة ذلك ما ذكره المفسرون : ( أن النبي  بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلي بني المصطلق مصدقاً، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية ، فلما سمع القوم تلقوه تعظيما لله تعالى ولرسوله فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم ، فرجع من الطريق إلى رسول الله  وقال : إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي ، ولكن الرسول الله  لم يتسرع في الأمر وتأنى ، و إذا بهم يأتون رسول الله  وقالوا: سمعنا برسولك ، فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله تعالى، فبدا له في الرجوع ، فخشينا أن يكون إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك بغضب . وفي رواية ذكرها القرطبي : أنه بعث خالد بن الوليد وأمره أن يتثبت ولا يعجل ، فانطلق خالد حتى أتاهم ليلا ، فبعث عيونه فلما جاؤوا أخبروا خالداً أنهم متمسكون بالإسلام ،وسمعوا أذانهم وصلاتهم، ثم قدموا للنبي  بصدقاتهم، فنزل قول الله تعالى : ﭽ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭼ ( ) ( ) .
المبحث الرابع : أثر الأناة في موضوع الدعوة .
يعتبر كل أمر أو قضية أو مسألة يساهم الداعية في بيانها بالحث عليها أو النهي عنها ، مما يحفظ ضروريات الدين ومقاصده ، و يراعي أولويات الدين و ثوابته ، ويبرز خصائص الدعوة و مميزاتها فهي موضوع دعوة . ولأهمية هذا الأمر فإنه يحتاج إلى الأناة قبل طرح الموضوع أو إثارته ، بمعرفة المسائل أهي من الثوابت و الأولويات ، أم من الفروع ؟ . أهي من المحكمات أم من المتشابهات ؟ . وما المصالح المترتبة عليها وما المفاسد مع استحضار قاعدة قبول أخف الضررين بدفع أعلاهما ؟، وكيفية إبراز خصائص الدعوة و مقاصدها من خلال هذا الموضوع . ومن المؤكد انه لا تتحقق هذه الأمور إلا بالتأني و التثبت وهذا ما تبينه المطالب الآتية :
المطلب الأول : الأناة تُحقق الإحاطة بالموضوع .
إن الإحاطة بالموضوع من جميع أطرافه بالقراءة الشمولية ، أو من خلال الخبرة ، أو السؤال تتطلب التأني من الداعية ، وهذا التأني يحقق صدق استشراف الفوائد الناتجة عن الموضوع المطروح . وهذا الجانب له أصل تطبيقي في سنة النبي  تقول عَائِشَةُ ا : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  قَالَ : اهْجُوا قُرَيْشًا فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْهَا مِنْ رَشْقٍ بِالنَّبْلِ . فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ رَوَاحَةَ فَقَالَ : اهْجُهُمْ فَهَجَاهُمْ فَلَمْ يُرْضِ . فَأَرْسَلَ إِلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ . ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ حَسَّانُ : قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تُرْسِلُوا إِلَى هَذَا الْأَسَدِ الضَّارِبِ بِذَنَبِهِ ثُمَّ أَدْلَعَ لِسَانَهُ فَجَعَلَ يُحَرِّكُهُ فَقَالَ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأَفْرِيَنَّهُمْ بِلِسَانِي فَرْيَ الْأَدِيمِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  لَا تَعْجَلْ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْلَمُ قُرَيْشٍ بِأَنْسَابِهَا وَإِنَّ لِي فِيهِمْ نَسَبًا حَتَّى يُلَخِّصَ لَكَ نَسَبِي . فَأَتَاهُ حَسَّانُ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ لَخَّصَ لِي نَسَبَكَ ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنْ الْعَجِينِ قَالَتْ عَائِشَةُ : فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  يَقُولُ لِحَسَّانَ إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ لَا يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ مَا نَافَحْتَ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَقَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  يَقُولُ : هَجَاهُمْ حَسَّانُ فَشَفَى وَاشْتَفَى
قَالَ حَسَّانُ :
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ وَعِنْدَ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ " ( ).
عندما رأى النبي  الحماس المتدفق من حسان  في قوله : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأَفْرِيَنَّهُمْ بِلِسَانِي فَرْيَ الْأَدِيمِ . خشي أن يوقعه هذا الحماس في محظور الوقيعة في نسب النبي  بدون قصد . فأمره بالأناة المرادة في قوله  : لَا تَعْجَلْ . وليس هذا فقط و إنما دله على من يعينه حتى يحيط بالموضوع من جميع جوانبه ، صاحب المعرفة و الخبرة الصديق  فقال له : فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْلَمُ قُرَيْشٍ بِأَنْسَابِهَا وَإِنَّ لِي فِيهِمْ نَسَبًا حَتَّى يُلَخِّصَ لَكَ نَسَبِي . فذهب إلى أبي بكر  و تعلم منه أنساب قريش ونسب النبي  ، فكانت نتيجة هذه الأناة و التوجيه أن عاد حَسَّانُ  من عند أبي بكر  ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ لَخَّصَ لِي نَسَبَكَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنْ الْعَجِينِ ، وكانت القصيدة العظيمة التي كانت أوقع من النبل على قريش . كل ذلك نتيجة الأناة و التوجيه النبوي الكريم لحسان  حتى أحاط بالموضوع وكون تصوراً كاملاً عنه .

المطلب الثاني : الأناة تُحقق إعمال قاعدة درء المفاسد وجلب المصالح عند طرح الموضوع .
إن الاستعجال وعدم التأني من أهم العوامل التي تمنع الداعية من النظر والتأمل في عواقب الأمور ، لذا يجب النظر إلى المصالح والمفاسد قبل الشروع في العمل وفق قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح لأن ذلك أصل نبوي عمل به النبي  في مواضع وحوادث كثيرة ، منها أن النبي  كان يرى في مكة أشد المنكرات وأعظم المحرمات ولم يسع إلى تغييرها خوفاً من زيادة المنكر عملاً بالقاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح . وفي حال القوة عمل النبي  بهذه القاعدة فقد دخل مكة منتصراً وأراد هدم الكعبة وإعادة بناءها على قواعد إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولكنه لم يفعل ذلك مع قوته وإمكانيته حينها درءاً للمفسدة التي من الممكن أن تقع بعد ذلك .
أما الصورة التطبيقية للأناة لتحقيق إعمال القاعدة الجليلة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح فهي تظهر في هذا الحديث " عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَبَيْنَمَا أَنَا فِي مَنْزِلِهِ بِمِنًى وَهُوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا إِذْ رَجَعَ إِلَيَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَالَ : لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا أَتَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ لَكَ فِي فُلَانٍ يَقُولُ لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ لَقَدْ بَايَعْتُ فُلَانًا ، فَوَاللَّهِ مَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا فَلْتَةً( ) فَتَمَّتْ . فَغَضِبَ عُمَرُ ثُمَّ قَالَ : إِنِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَقَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِي النَّاسِ فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ( ) .قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقُلْتُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَفْعَلْ ، فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ( ) وَغَوْغَاءَهُمْ( ) ، فَإِنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ يَغْلِبُونَ عَلَى قُرْبِكَ حِينَ تَقُومُ فِي النَّاسِ ، وَأَنَا أَخْشَى أَنْ تَقُومَ فَتَقُولَ مَقَالَةً يُطَيِّرُهَا عَنْكَ كُلُّ مُطَيِّرٍ( ) ، وَأَنْ لَا يَعُوهَا وَأَنْ لَا يَضَعُوهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا ، فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ فَإِنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ فَتَخْلُصَ بِأَهْلِ الْفِقْهِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ فَتَقُولَ مَا قُلْتَ مُتَمَكِّنًا ، فَيَعِي أَهْلُ الْعِلْمِ مَقَالَتَكَ وَيَضَعُونَهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا . فَقَالَ عُمَرُ : أَمَا وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَأَقُومَنَّ بِذَلِكَ أَوَّلَ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ " . وفي رواية " فَقَالَ عُمَرُ لَأَقُومَنَّ الْعَشِيَّةَ فَأُحَذِّرَ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ قُلْتُ لَا تَفْعَلْ فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ يَغْلِبُونَ عَلَى مَجْلِسِكَ فَأَخَافُ أَنْ لَا يُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا فَيُطِيرُ بِهَا كُلُّ مُطِيرٍ فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ دَارَ الْهِجْرَةِ وَدَارَ السُّنَّةِ فَتَخْلُصَ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ  مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَيَحْفَظُوا مَقَالَتَكَ وَيُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا فَقَالَ : وَاللَّهِ لَأَقُومَنَّ بِهِ فِي أَوَّلِ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ " ( ) .
لقد سمع عمر بن الخطاب  كلمة أغضبته وهي قول الرجل : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ لَكَ فِي فُلَانٍ يَقُولُ لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ لَقَدْ بَايَعْتُ فُلَانًا فَوَ اللَّهِ مَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا فَلْتَةً فَتَمَّتْ . وهذا أمر خطير ، و جُرأة من سفهاء خاضوا في أمر الأمة الذي لا يكون إلا لعلماء المسلمين و خاصتهم ، وقدحٌ في خلافة الخليفة الأول أبو بكر الصديق  و هذا موضوع لا بد له من بيان . لذلك يقول عبد الرحمن بن عوف  : فَغَضِبَ عُمَرُ ثُمَّ قَالَ إِنِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَقَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِي النَّاسِ فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ . وهنا جاء دور الأناة ودرء المفسدة فالحج يجمع عامة الناس و رعاعهم ، و الموضوع جَدُّ خطير ، فلربما يحملون الكلام على غير محمله ، ويخوضون في أمر لا يجوز الخوض فيه ، فتقع مفسدة على الأمة تؤدي إلى تفرقهم . فتدخل عبد الرحمن بن عوف  و أشار بتأجيل الحديث في هذه المسألة حتى يعود إلى المدينة ، قال : لَا تَفْعَلْ فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ يَغْلِبُونَ عَلَى مَجْلِسِكَ فَأَخَافُ أَنْ لَا يُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا فَيُطِيرُ بِهَا كُلُّ مُطِيرٍ فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ دَارَ الْهِجْرَةِ وَدَارَ السُّنَّةِ فَتَخْلُصَ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ  مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَيَحْفَظُوا مَقَالَتَكَ وَيُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا . و الرواية الأخرى : فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ فَإِنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ فَتَخْلُصَ بِأَهْلِ الْفِقْهِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ فَتَقُولَ مَا قُلْتَ مُتَمَكِّنًا فَيَعِي أَهْلُ الْعِلْمِ مَقَالَتَكَ وَيَضَعُونَهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا . فاستجاب عمر  لهذا الرأي الحكيم درءاً للمفسدة ، فَقَالَ : وَاللَّهِ لَأَقُومَنَّ بِهِ فِي أَوَّلِ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ . قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ : ( فيه التنبيه على أن العلم لا يودع عند غير أهله ، و لا يحدث به إلا من يعقله ، و لا يحدث القليل الفهم بما لا يحتمله )( ) . وَقَالَ عَلِيٌّ  : ( حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ) ( ) .
إن الدعوة بحاجة إلى أناةٍ وفقهٍ وفهمٍ وحكمةٍ كأناة وفقه وفهم وحكمة ابن الخطاب و ابن عوف ا ، إنها بحاجة إلى مراعاة القواعد الدعوية و التربوية التي تقتضي أن لا يعرض على الناس أكثر مما لا تحتمله عقولهم . فكم أصيبت الدعوة في عصرنا من أدواء بسبب العجلة وعدم الفهم وعدم الفقه في درء المفاسد . وكم أثيرت من فتنة و وقعت من خصومات وحدثت من فرقة بسبب تدخل الغوغاء و حدثاء الأسنان و الرعاع للخوض في الأمور المهمة التي لو كانت في عهد عمر  لجمع لها أهل بدر .

المطلب الثالث : الأناة تُحقق تكوين الرؤية العلمية الصحيحة للموضوع .
ذكر ابن شهاب الزهري ـ رحمه الله ـ وغيره قصة جمع القرآن في عهد أبي بكر  فقال : ( لما أسرع في قتل قراء القرآن يوم اليمامة قتل معهم يومئذ أربعمائة رجل لقي زيد بن ثابت عمر بن الخطاب  فقال له : إن هذا القرآن هو الجامع لديننا فإن ذهب القرآن ذهب ديننا وقد عزمت على أن أجمع القرآن في كتاب فقال له : انتظر حتى نسأل أبا بكر. فمضيا إلى أبي بكر  فأخبراه بذلك . فقال : لا تعجل حتى أشاور المسلمين . ثم قام خطيباً في الناس فأخبرهم بذلك فقالوا : أصبت فجمعوا القرآن وأمر أبو بكر  منادياً فنادى في الناس : من كان عنده من القرآن شيء فليجيء به . قالت حفصة : إذا انتهيتم إلى هذه الآية فأخبروني ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭼ( ) ، فلما بلغوا إليها قالت : اكتبوا والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر . فقال لها عمر : ألك بهذا بينة ؟ قالت : لا . قال : فو الله لا ندخل في القرآن ما تشهد به امرأة بلا إقامة بينة )( ) .
إن قصة جمع القرآن بدأت فكرة من عمر  فعرضها على زيد بن ثابت  ، و زيد رأى عرضها على أبي بكر  ، و إن لم تكن الحكمة و الأناة في أبي بكر ففي من تكون !، قال : لا تعجل حتى أشاور المسلمين . والمسلمون هم أهل الْمَدِينَة دَارُ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ أَهْلِ الْفِقْهِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ . قال : ثم قام خطيباً في الناس فأخبرهم بذلك فقالوا : أصبت . و في رواية البخاري أن عمر  راجع أبا بكر  كثيراً حتى رأى رأي عمر ، وراجعا زيد بن ثابت  حتى رأى رأيهما . يقول أبو بكر  : ( فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك . ورأيت في ذلك الذي رأى عمر . قال زيد : قال أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله  فتتبع القرآن فاجمعه . فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن . قلت كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله ؟ قال هو والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر ا ) ( ) .
إن هذه الأناة و التثبت التي صاحبت موضوع جمع القرآن الذي بدأ فكرة ، وتطور حتى تكونت رؤية علمية صحيحة لدى الجميع ، أنتجت حكماً جماعياً قدّره الله ليكون سبباً من أسباب حفظ القرآن الكريم الذي تعهد الله تعالى بحفظه كما في قوله تعالى : ﭽ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﭼ ( ) قال العيني ـ رحمه الله ـ : ( لما انقضى نزول القرآن بوفاة النبي  ألهم الله الخلفاء الراشدين لجمع القرآن وفاء لوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة المحمدية فكان ابتداء ذلك على يد الصديق  بمشورة عمر  )( ).

المبحث الخامس : أثر الأناة في وسائل الدعوة و أساليبها .
إذا أراد الداعية أن يوافق أمر الرسول  وسنته ومنهاجه في الدعوة إلى الله تعالى ، فلا بد أن يكون على دليل واضح لا لبس في الحق معه ، وبيان وحجة واضحة غير عمياء ، و لا يكون على ذلك إلا من تحقق فيه قول الله تعالى : ﭽ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﭼ( ). قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ : ( فالدعوة إلى الله يجب أن تكون على بصيرة ويقين وبرهان عقلي وشرعي ) ( ) .
قال ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ : ( البصيرة في الدعوة في ثلاثة أمور :ـ
1 ـ أن يكون على بصيرة فيما يدعو إليه وذلك بالعلم لا بالجهل .
2 ـ أن يكون على بصيرة في حال المدعو ، فلا بد من معرفة حال المدعو بالطريقة و الكيفية التي تناسبة ، و تكون أكثر فائدة له ، و تأثيراً فيه .
3 ـ أن يكون على بصيرة في كيفية الدعوة )( ) .
فإذا وجد الداعية ذو البصيرة والفهم و الفقه المنضبط بالنصوص الشرعية و المعرفة بالأهم فالمهم ، و ذو البصيرة التي تُمكِّنه من معرفة حال المدعو وبيئته ، وتُحدد الموضوع المناسب له ، يجيء دور الوسيلة و الأسلوب الذي يمكن من خلالهما إيصال الدعوة . و الأناة في اختيار الوسيلة المناسبة و الأسلوب المناسب لا شك أنها من البصيرة ، ومن الأهمية بمكان . وهذا ما تبينه المطالب الآتية بإذن الله تعالى .

المطلب الأول : الأناة في اختيار الوسيلة وحسن استخدامها.
كل ما يتوصل به الداعية إلى تطبيق مناهج الدعوة أو كل أداة تُنقل من خلالها الدعوة إلى الله تعتبر وسيلة دعوية يمكن استخدامها بشرط أن تكون منظبطة شرعاً . و في ذلك إعمال لقاعدة الوسائل لها أحكام المقاصد ( ). فالوسائل أوعية الأساليب تحملها وتوصلها إلى المدعوين ( ).
ومن الوسائل الدعوية ما هو قديم جديد لا يُستغنى عنه أبداً كالخطابة وحلقات العلم بالمساجد وغيرها ، وهذا الزمن مليءٌ بالوسائل المتعددة و المتطورة التي لم تكن معروفة من قبل و التي يمكن الاستفادة منها في الدعوة إلى الله بما يوافق الأصول والمقاصد الشرعية ، كالقنوات الفضائية و شبكة المعلومات العالمية وغيرها. و تُعد الفضائيات سلاح ذو حدين ، وقد ظهرت قنوات فضائية تقدم الإسلام بصورة حديثة طيبة ، و كانت بديلاً جيداً للقنوات المشبوهة ، و أعطت انطباعاً و دليلاً محسوساً على أهمية استخدام هذه الفضائيات .
و لكثرة الوسائل الدعوية سأتحدث عن أثر الأناة في وسيلتين من وسائل الدعوة :
الأولى : وسيلة القول : وهي أهم الوسائل لأن القول أساس البيان كما قال تعالى : ﭽ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﭼ ( )، و أدّب الله تعالى نبيه  ألا يعجل بذكر القرآن حتى يجتمع لأن بعضه مرتبط ببعض فقال: ﭽ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ * ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭼ ( ) ، و جاء التوجيه النبوي الذي يدل على التأني قبل الكلام وتمحيصه فإن كان خيراً تكلم به ، و إن كان غير ذلك صمت و امتنع عن الكلام فقال  : " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ " ( ) .
وتأنى سليمان عليه السلام عندما نقل له الهدهد خبر سبأ ، فلم يحكم عليه بصدق أو كذب حتى يأتيه جواب الكتاب كما قال تعالى :ﭽ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﭼ ( ).
وهكذا يكون الداعية الواثق المتأني قوله حق ، وكلامه صدق ، ينتقيه انتقاء خالص الذهب من غثاء المعادن ، وبمثل هذه الانتقائية يسلم عرض الداعية ، وتصفو دعوته من غبش الخلط ، ويستمر بقاؤها ، قال الله تعالى : ﭽ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﭼ ( ) .
الثانية : المخيمات الدعوية :
تختلف مسميات الكثير من المناشط الدعوية الحديثة والتي يقوم عليها الدعاة ، و تعوّد المجتمع على ظهورها في الأعياد أو المناسبات الفصلية المتكررة ، و لا مشاحّة في التسمية ، و ما يعنيني في هذا البحث هو بيان أثر الأناة في هذه المناشط ، الذي يتيح للدعاة القائمين عليها التأني في الإعداد واختيار المكان والزمان والوسائل و الأساليب المناسبة لهذه المناشط .
وعند تأمل منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله نجد أن الله جل وعلا أعطى موسى عليه السلام العصا لتكون دليلاً حسياً باهراً فكانت وسيلة دعوية استخدمها موسى عليه السلام ليبرهن بها على صدق دعوته ، وكان للأناة أثر واضح في تحقيق نتائج إيجابية عند استخدام هذه الوسيلة ، فلم يستخدمها لأول وهلة ، ففي سرد القصة القرآنية لذلك أنه لم يعجل في تحديد موعد استخدامها ، وتحرى المكان و الزمان والكيفية المناسبة لاستخدام دليله ووسيلته الدعوية الباهرة . أما المكان فهو المكان البارز الذي اعتاد الناس إقامة احتفالاتهم فيه ، و أما الزمان فهو يوم الزينة ، ووقت العرض بالتحديد هو الضحى ، قال تعالى : ﭽ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﭼ ( ) ، قيل : يوم الزينة هو يوم النيروز، وقيل: يوم سوق لهم . وحشرُ الناس في وقت الضحى ، نهارًا جهارًا ، ليكون أبلغ في إظهار الحجة و إدحاض الباطل ، بكونه على رؤوس الأشهاد ( ).
ثم يتأنى عليه السلام مرة أخرى ولم يعجل ، فبعد الاجتماع في المكان و الزمان المحددين دار الحوار بينه وبين السحرة لمن تكون له بداية الإلقاء ، وتركوا له الخيار ليبدأ هو ولكنه تأنى وترك لهم البدء بإلقاء عصيهم وحبالهم ، قال تعالى : ﭽ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﭼ( ). وكما في قوله تعالى : ﭽ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭼ ( ) . قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ : ( قال ألقوا أنتم أولاً قبلي ، والحكمة في هذا -والله أعلم - ليري الناس صنيعهم ويتأملوه ، فإذا فُرغ من بهرجهم ومحالهم ، جاءهم الحق الواضح الجلي بعد تطلبهم له والانتظار منهم لمجيئه ، فيكون أوقع في النفوس ) ( ).
إن قبول الدعوة ونجاح خططها و استمراريتها مرهون بموافقتها لمنهج الأنبياء ، وفي هذا المنهج جميع متطلبات الدعوة وحلول مشكلاتها قديمة كانت أو معاصرة . فيجب على الدعية الرجوع إلى كتاب الله وسنة الرسول  ، وتأمل منهج الأنبياء فسيجد مبتغاه ، ويعتمد على ركن شديد من منهج الأنبياء ، وتطمئن نفسه ، و يزداد إقداماً وحماساً منضبطاً بإذن الله تعالى .

المطلب الثاني : الأناة عند اختيار الأسلوب وحسن استخدامه .
كل طريقة مقنعة مؤثرة في المدعو بما يناسب حاله فهي من أساليب الدعوة . و لا شك أن الأسلوب فن يوفق الله الداعية لاستخدامه ، بما لا يعارض النصوص الشرعية ، مقتدياً بالرسول e باتباع الدليل الصحيح بالأسلوب الأمثل اللائق بالدعوة إلى الله . وهي تتنوع وتتعدد بما يغطي متطلبات الدعوة في كل زمان ومكان ، كما قال تعالى : ﭽ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﭼ ( ) . و أطلق الرسول  البلاغ ولم يحدده بأسلوب معين فقال  : " بلغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " ( ) .
وسأتحدث عن أثر الأناة في أساليب الدعوة في أسلوبين فقط :
الأول : الأناة تُساعد على استخدام أسلوب اللين :
أمر الله بأسلوب اللين في غير ما موضع من القرآن ومن ذلك قوله تعالى لموسى عليه السلام : ﭽ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﭼ ( ). ومما يساعد على استخدام أسلوب اللين الأناة ، فهذا موسى عليه السلام عندما أُمر من ربه بالذهاب إلى فرعون لم يتعجل بالذهاب و إنما طلب من ربه أن يُعينه بأخيه ليتمكنا سوياً من مخاطبة فرعون خطاباً ليناً كما أمرهم ربهم ، قال تعالى : ﭽ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﭼ ( ).
وفي سيرة رسولنا  أروع صور الأناة كما في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد ، يقول أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : " بَيْنَمَا نَحْنُ فِى الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ  إِذْ جَاءَ أَعْرَابِىٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِى الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ  مَهْ مَهْ( ). قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : لاَ تُزْرِمُوهُ ( ) دَعُوهُ. فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ. ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ  دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ : إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَىْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلاَ الْقَذَرِ إِنَّمَا هِىَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ . أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  قَالَ فَأَمَرَ رَجُلاً مِنَ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ " ( ).
إن تأني النبي  ورده الصحابة  ألا يستعجلوا الرجل ، أظهرت نتيجة هذا الأسلوب على الرجل ، ففي رواية للحديث " فقال الأعرابي بعد أن فقه : بأبي أنت وأمي . فلم يؤنب ولم يسب . فقال : أن هذا المسجد لا يبال فيه . وإنما بني لذكر الله وللصلاة . ثم أمر بسجل من ماء فأفرغ على بوله " ( ).
إن اللين من أهم أساليب الدعوة ، و الأناة تحقق تطبيق هذا الأسلوب ، والعجلة ضد الأناة و يستحيل أن يأتي اللين معها ، فيقال: فلان تأنى في اتخاذ القرار. فالأناة ممدوحة ، و مقابلها العجلة مذمومة ، والعجلة تؤدي إلى التقدم فيما لا ينبغي التقدم فيه ، فيقال دائماً في القرارات الخاطئة : فلان تعجل في اتخاذ القرار .
الثاني : الأناة تساعد على نجاح أسلوب الحوار :
يعتبر أسلوب الحوار من أهم أساليب الدعوة وخاصة في هذا العصر الذي تداخلت فيه الثقافات ، و استطاعت التقنية الحديثة أن تجعل العالم بأسره كأنه قرية واحدة ، فبإمكان الداعية محاورة المدعو سواءً كان مسلماً أو كافراً وهو في بيته عبر الشبكة العنكبوتية الإنترنت وبدون عناء سفر أو استعداد للقاء . و مع أهمية هذا الأسلوب إلا أن له من الخطورة مثل ماله من الأهمية وخاصة محاورة الكفار و أتباع الفرق المنحرفة و أهل الأهواء ، مما يتطلب أن يكون المحاور على مستوى من العلم و الحصانة الفكرية و الأناة وعدم الاستعجال ، مع إجادة فنون هذا الأسلوب . فقد كان أسلوب النبي  في محاورة النصارى يختلف عن أسلوب محاورته لمشركي العرب ، ومحاورته لشاب تختلف عن محاورته للكهل ، ومحاورته لأهل الحضر تختلف عن محاورته للأعراب وهكذا .. .
ومن الأمثلة على ذلك محاورة النبي  للأعرابي ففي الحديث : " أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ  فَقَالَ : إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ وَإِنِّي أَنْكَرْتُهُ ( ) . فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ  : هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : فَمَا أَلْوَانُهَا ؟ قَالَ : حُمْرٌ . قَالَ : هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ ؟ ( )قَالَ : إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا . قَالَ : فَأَنَّى تُرَى ذَلِكَ جَاءَهَا ؟! قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عِرْقٌ نَزَعَهَا . قَالَ : وَلَعَلَّ هَذَا عِرْقٌ نَزَعَهُ . وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي الِانْتِفَاءِ مِنْهُ " ( ) . من سؤال الأعرابي أنه أتى مغضباً شاكاً في زوجته وفي صحة نسب الولد إليه ، فقد أورد ابن حجر رواية ابن أبي ذئب " أن الأعرابي صرخ بالنبي  " ( ) ، فاجتمع فيه جفاء الأعراب و الغضب ووسوسة الشيطان ، فقابله النبي  بأناة وهدوء ، وحوار هادي بمثال حسي من بيئته ، حتى امتص غضبه ، و فتَّر حدته ، و سكّن انفعاله ، قبل أن يخبره بالحكم وهو ثبات نسب الولد إليه .

الخاتمة :
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، و أشكره على آلائه و توفيقه وتيسيره لي كتابة هذا البحث ، و الذي أرجو أن يحقق الله لي منه ثواب الآخرة قبل ثواب الدنيا ، ويجعله لي عنده ذخراً . فقد بذلت فيه جهدي بعد توكلي على الله تعالى ولا أدعي فيه الكمال فهو جهد بشري يعتريه الخطأ و التقصير ، و لكني أحسب أن ما لا يدرك كله لا يترك جله . وما كان فيه من صواب فهو بتوفيق الله تعالى وتسديده ، و ما كان من خطأ فهو مني ومن الشيطان ، و أرجو من الله العفو والغفران .
وقد ظهر لي بعد البحث نتائج أهمها :
1 ـ أن الأناة خلة عظيمة وهبة ربانية ومن وهبه الله إياها فهي من خير الخلال .
2 ـ أنه يجب على الداعية أن يتحلى بالأناة ، ويسعى لاكتسابها بالطرق و الأساليب الممكنة كالتعلم و التفقه وكثرة ملازمة العلماء و الحكماء ، و مصاحبة الأخيار .
3 ـ أن الأناة من أهم وسائل إصابة المنهج النبوي في الدعوة إلى الله . و سلامة الدعوة إلى الله تعالى و توفيقها موقوف على إصابة المنهج النبوي .
4 ـ أن الدعاة إلى الله تعالى في هذا العصر في أحوج ما يكونون إلى الأناة والتثبت ، لكبح جماح مثيري الفتن و الشبهات ، والمتربصين بالدعوة و الدعاة من الذين يصطادون في المياه العكرة ، الذين يتهمون الدعاة بالاستعجال ، و عدم الفهم ، و الاعتماد على الظنون و الأدلة الظنية ، و سوء الظن في المجتمع .
5 ـ أن المنهج الدعوي المتكامل القائم على الداعية ومحتوى الدعوة والموجهة لهم الدعوة وهم المدعوون و أدوات تنفيذ ذلكم المحتوى من الوسائل و الأساليب بأشد الحاجة إلى أن تكون الأناة واقعاً مطبقاً في ذلكم المنهج لما تحققه من الموافقة و مراعاة للأحوال و الظروف ودرء المفاسد وجلب المصالح .
6 ـ أن التأصيل العلمي لمفردات المنهج الدعوي المعتمد على القرآن الكريم وصحيح السنة وفهم نصوص الاستدلال وحُسن إنزالها منزلها الصحيح وذلك بتصور موضع الاستدلال تصوراً تاماً صحيحاً ، وفهم الواقع المحيط به وتطبيقه على موضع الاستدلال يحتاج إلى الأناة والتثبت لفهم النصوص فهماً علمياً و اقعياً .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد و على آله وصحبه وسلم

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك