المَنهَجُ القويم للدّاعـيةِ الحكيم

مقــدمـة :
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستهديه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ، من يهد الله فهو المهتد ، ومن يضلل فلن تجد له وليّاً مرشدا ، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ،وبعد ؛
فقد طلب مني بإلحاح طالب علم لا تسعني مخالفته ، أن أقدم له المنهج الأمثل الذي يسير عليه في حياته العلمية والعملية ، وما أراه له من نصائح ووصايا ينتفع بها في سيرته وسلوكه ، وأن أبني له ذلك على الاختصار ، فاستخرت الله تعالى في ذلك ، فانشرح صدري وإن أكن لست أهلا لهذا العمل ، وإنما أنا متطفل صغير على موائد أئمتنا الكبار ـ رحمهم الله تعالى وأجزل مثوبتهم ـ ليس لي إلاّ جمع المنثورات ، والتقاط الدرر المتفرقات ، ثم الترتيب المناسب لعصرنا ، الملائم لمدارك المبتدئين من ناشئتنا .
هذا وقد سمّيت هذه الرسالة : " المنهج القويم للداعية الحكيم " أخذاً من قول الحقّ سبحانه : { ومن أحسن قولاً ممّن دعا إلى الله وعمل صالحاً ، وقال : إنني من المسلمين } فصّلت / 33 / ، وقوله سبحانه : { يؤتي الحكمة من يشاء ، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ، وما يذّكّر إلاّ أولو الألباب } البقرة / 269 / .
ولا شكّ أن صغار اليوم كبار الغد ، ومن طلاّب العلم اليوم ، من هم دعاة الأمّة وهداتها في الغد ونحن بما نكتب نريد أن نضع لشبابنا من طلاّب العلم ما ينبغي أن تصبو إليه قلوبهم ، وتتعلّق به هممهم ، ليعقدوا العزيمة ، ويقطعوا العوائق عن أن تصدّهم عن شرف الغاية التي ندبوا أنفسهم لها ، وقد رأيت ترتيب هذه الرسالة ، في تمهيد ، وثلاثة مباحث ، وخاتمة نسأل الله تعالى حسنها ، بمنّه وكرمه :
= المبحث الأول : المنهج العلميّ الأمثل .
= المبحث الثاني : المنهج التربويّ لطالب العلم
= المبحث الثالث : السلوك الاجتماعيّ والدعويّ .
= الخاتمة : وصايا جامعة .
وأسأل الله العظيم ، رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى ، وصفاته العلى ، أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم ، ويرزقني الإخلاص والقبول ، إنّه أكرم مسئول ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين .
14/6/1414 هـ

وكتبه راجي عفو ربه



تمهيد : في بناء الشخصيّة الإسلاميّة المتوازنة

بناء الشخصيّة الإسلاميّة المتوازنة ، يقتضي أن يكون ثمة منهج مدروس ، وخطوات محكمة ، وتوجيهات واضحة دقيقة ، تمثّل الحدود والأبعاد لكل خطوة من الخطوات أو جانب من الجوانب .
وأصل ذلك الإيمان الحيّ الراسخ ، المؤسّس على العلم القطعيّ النافع ، واليقين النابض المشرق .
ثم لابدّ للعلم النافع أن يقترن بالعمل الصالح ثمّ لابدّ لهما أن يثمرا الدعوة إلى الخير ، ونصح الخلق ، وبذل المعروف لعباد الله سبحانه ، وبذلك يبلغ العبد قمّة الإرث النبويّ الكريم ، وذلك على قدر التأسّي بالنبيّ  في ذلك ، واتّباع منهجه وهديه .
وكما يختار الزارع ما يغرس ، ويختار التربة التي يغرس فيها ، والوقت المناسب للغرس ، ثم يتعهد ما يغرس ، فيسقيه ويشذّبه ، ويحميه من الآفات ويحوطه ، حتى يقوى ساقه ، ويشتدّ عوده ، ويضرب بجذوره في أغوار الأرض ، وتمتدّ فروعه وأغصانه .. فكذلك التكوين التربوي ، والبناء العلمي ، والعلاقات الاجتماعية ، هي المحاور الأساسية التي تبنى على أساسها الشخصيّة الإسلاميّة ، التي يراد لها أن تحمل الإسلام علماً وعملاً ، ودعوة وإصلاحاً ، ولن يتحقّق لها ذلك إلا بالإخلاص في العلم ، والحرص على العمل ، وابتغاء الثمرة من العلم والعمل ، ألا وهي الدعوة إلى الخير ، ونفع الأمّة ، ونصح الخلق .
ثم إن هذه المحاور الثلاثة تتشابك وتـتداخل لوثيق الصلة بينها ، وتفاعل كل واحد منها مع الآخر وتكامله ، لتحقق جميعها أهدافها المرجوّة منها ، وتبلغ الغاية التي تسعى إليها .
وعندما يسير طالب العلم بغير منهج مدروس ، أو خطوات محكمة أو بناء تربوي وثيق ، وعلاقات مضبوطة ، فإنه يتخبّط في حياته العلـمـية والعملية ويتعثّر ، وربما زاغ عن سبيل العلم والهدى ، وانقطع عن الغاية التي شمّر لها.. وتراه ينقض اليوم ما أبرمه بالأمس ، ويعزم في حينه على ما عارضه بالأمس ، واجتهد في توهينه وتراه يشتغل بما لا يعنيه ، ويبذل وقته وجهده فيما لا يجديه ، ويدع ما يتأكدعليه القيام به ، وينتحل لذلك المعاذير ، ويلقي بالتبعة على الآخرين .
ـ من هنا كان لابدّ لطالب العلم أولاً : أن يسير على بصيرة من أمره ، وأن يسترشد بتوجيه أهل العلم والدين ، ممن سبقه في هذا السبيل ، لينتفع بتجارب من سبقه ، ويستفيد من خبرتهم واجتهادهم .
ـ ثم لابدّ له ثانياً : أن يكون سيره متّزناً ، يجمع فيه بين العلم والعمل ، وإعداد النفس للدعوة ، وخوض ميدان الحياة العمليّة ، إرشاداً للخلق ، ونصحاً لعباد الله ، وبذلاً للخير ، وسعياً في البرّ .
ـ ثم لابدّ له ثالثاً : أن يأخذ نفسه بالعزائم ، ويسلك سبيل الزهد والورع ، ويربأ بنفسه عن أن تكون من العامّة وأشباه العامّة ، فيضع لنفسه هدفاً كريماً يسعى إليه ، وغاية رفيعة يسمو إليها ، ويجتهد في تحقيقها ، ليجدّ في سيره ، ويعزم على أرشد أمره ، ولا تشغله اهتمامات الحياة الصغيرة ، وملهياتها الموقوتة التافهة ، عن أهدافه وغايته ، ولا تتشعّب به أودية الهموم عن همّه الأكبر ، ومقصده الأسمى .
ـ فإن لم يجمع طالب العلم بين هذه الاتجاهات والمناهج في بناء شخصيّته ، وإحكام سيره ، فإنه لن تتحقّق الحكمة والغاية من طلبه للعلم ، وتكون حياته العلميّة قاصرة النفع ضعيفة الأثر .
وختاماً : لابدّ له أولاً وأخيراً ، أن يكون عظيم الثقة بالله ، والاعتصام به ، والتوكًل عليه ، دائم الضراعة إليه سبحانه ، أن يمدّه بمدده ، ويمنحه عونه وتوفيقه ، ويسدّد خطاه وطريقه ، وألاّ يكله إلى نفسه ، ولا إلى أحد من خلقه طرفة عين ، ولا أقلّ من ذلك ، إنه وليّ ذلك والقادر عليه ، وهو حسبنا وحسب كلّ مؤمن ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم .



المبحث الأول

المنهج العلمي الأمثل

لابدّ لطالب العلم من منهج علميّ يسير عليه وإلا فإنه يتخبّط في سيره ، وينقض في يومه ما أبرم في أمسه ، ولا يكاد يقطع شوطاً إلى نهايته ، فتكون حياته العلميّة أشبه بالمنثورات والملح ، التي تتناثر في ثنايا فكره وربما لم يحتفظ منها بما يعدّ من المنثورات النافعة ، وتكون معلوماته العلميّة أشبه بالثقافة السطحيّة منها بالتخصّص العلميّ الراسخ .
ومثل هذا النوع من الناس لا يؤمن عليه الزيغ والانحراف عن هدي الله القويم ، لأن الله سبحانه ، قد عدّه قسيماً لعباده المهتدين ، الآخذين للعلم على منهجه وأصوله ، الذين سمّاهم " الراسخين في العلم " ، فقال سبحانه : { فأمّا الذينَ في قُلوبهم زَيغٌ ، فيَتّبعون ما تَشابهَ منهُ ابتغاءَ الفتنةِ وابتغاءَ تأويلِه وما يَعلمُ تأويلَه إلا اللهُ ، والرّاسِخون في العِلم يقولونَ : آمنّا بِه ، كُلٌ من عندِ ربِّنا ، ومَا يَذّكّر إلاّ أُولو الأَلباب 7) ) آل عمران .

** ** **

واعلم أن المنهج العلميّ الأمثل لطالب العلم يقوم على الاهتمام بالعلوم التالية ، والبدء بتلقّيها بتدرّج محكم مناسب :
1ً- الاهتمام بالقرآن الكريم ، حفظاً وتجويداً ، وفهماً وتفسيراً .
2ً- الاهتمام بالسنّة النبويّة ، رواية ودراية ، بحفظ بعض متونها ، والعناية بفقهها وأصولها .
3ً- العلم بالعقيدة الإسلاميّة الصحيحة ، على ضوء الكتاب والسنّة ، وفهم السلف الصالح ، بأدلّتها النقليّة والعقليّة ، بعيداً عن الأساليب الكلاميّة ، والمماحكات اللفظيّة ، التي لاتستند إلى دليل ، ولا يدعمها برهان ، وربط هذا العلم بالدعوة والمدعوّين ، أخذاً من أسلوب القرآن الكريم ، ومنهج النبي صلّى الله عليه وسلّم في الدعوة إلى العقيدة وتلقينها ، وتقرير أدلّتها وبراهينها .
4ً- الاعتناء باللغة العربيّة ، نحوها وصرفها ، وتاريخها وآدابها ، والتعمّق في ذلك ، حتى يصبح عند طالب العلم ملكة لغويّة ، تقوّيه على سبر أغوار الكتاب العزيز وتذوّق إعجازه ، وأسرار بيانه ، وفهم الحديث الشريف ، وفقه أحكامه .
5ً- التفقّه بمذهب إمام من أئمّة الفقه المعتبرين ، الذين خُدمت مذاهبهم ، ونقلت أقوالهم نقلاً مشهوراً ، وحرّرت أدلّتهم ، ونُقِّحت أصولهم وقواعدهم .
6ً- الاهتمام بعلم أصول الفقه ، وقواعد الاجتهاد والاستنباط ، وتطوّر الفقه الإسلاميّ ونموّه ، وتاريخ التشريع ، والقواعد الفقهيّة وما فيها من جوامع الفقه وأصول المسائل .
7ً- دراسة فقه آيات الأحكام دراسة مقارنة وما فيها من أقوال السلف والأئمّة ، والتعرّف على دقّة مداركهم الفقهيّة فيها .
8ً- فقه التربية الإسلاميّة والتزكية ، وهذا ما يقتضي دراسة سير وتراجم الأئمّة العلماء الربّانيين على مدار التاريخ الإسلاميّ ، ومناهجهم وأساليبهم في التربية والتزكية ، وما كان لهم من دور في إصلاح الأمّة ، وهداية الخلق إلى صراط الله المستقيم .
9ً- فقه الدعوة ، وذلك بدراسة السيرة النبويّة ، والتعمّق في فهمها ، وفقه مراحلها وأطوارها ، وحركة الدعوة الإسلاميّة خلال التاريخ ، وما مرّت به من مراحل وأطوار ، ومدّ وانحسار ، وعقبات ومنعطفات .
10ً- الوعي بالدعوات والحركات المضادّة لدعوة الإسلام وأمّته ، في مسيرتها التاريخيّة وواقعها الحاضر ، وفقه الواقع الدوليّ المعاصر ، ووسائل الغزو الفكريّ وأساليبه ، والمذاهب الفكريّة المعاصرة ، وموقف الإسلام منها .
ولعلك تتساءل : ما السبيل إلى تحقيق هذا المنهج .؟
إن السبيل إلى ذلك يتلخّص في اتّباع الخطوات التالية :
أ ـ لابدّ لطالب العلم أن يتلقّى العلم عن العلماء ، ويجالسهم ويصحبهم ، ويتواضع لهم ، ويتأدّب معهم ، ويستشيرهم فيما يقرأ ، وكيف يقرأ ؟ ومتى يقرأ ؟ وماذا يقتني من الكتب ، ومتى يقتنيها ؟ فربما يغنيه كتاب جامع في علم عن كتب سواه في هذا العلم ، وما اشتهر من القول : " لايغني كتاب عن كتاب " ، فهي قاعدة أغلبيّة ، لا تعمّ ولا تضطرد .
وقد أُثر عن السلف قولهم : " إن هذا العلم دين ، فانظروا عمّن تأخذون دينكم " .
ب ـ مع استرشادك بأهل العلم وتلقّيك عنهم ، فلابدّ لك من اتّخاذ أخ ناصح من أترابك في طلب العلم ، تطمئنّ لدينه وتقواه ، وحرصه على طلب العلم مثلك ، وتعاونه معك في هذا السبيل ، فتذاكران معاً ، وتقرآن معاً بعض الكتب في بعض العلوم ، ويشدّ بعضكم أزر بعض .
فإن ظفرت بمثل هذا الأخ ، فاحرص على صحبته غاية الحرص ، واعلم أنه معدن نفيس في هذا الوجود ، قلّما ظفر به الظافرون ، فأدّ إليه حقوق الأخوّة ، وعامله بالمروءة والإيثار ، وستر الزلاّت والغضّ عن الهفوات .
ج ـ لكل علم من العلوم أصول وفضول ، ومهمّات لابدّ منها ، وأغاليط أنت في غنىً عنها ، فاحذر أن يشغلك فضول العلم عن أصوله ، وأغاليطه عن مهمّاته ، فإنك بذلك لن تجني إلا القيل والقال ، والمراء والجدال ، ويضيع منك وقت التحصيل بالجدل العقيم ، ووقت المؤمن أثمن من هذا العبث الطائش .
د ـ وكل علم من العلوم يتدرّج الطالب فيه مدارج عدّة ، يمكن أن نميّز فيها أربعة مستويات :
= مستوى المبتدئين .
= مستوى المتوسّطين .
= مستوى المتمكّنين .
= مستوى المتخصّصين المحقّقين .
وكل مستوى من هذه المستويات تمثّله كتب معروفة لدى المختصّين في ذلك العلم ، فلا ينبغي لطالب العلم أن يشتغل بكتاب في علم من العلوم ، يزيد عن المستوى الذي هو فيه ، فإن ذلك مضيعة للوقت وللجهد ، ولن يخرج من وراء ذلك بطائلة .
هـ ـ ولكي تتمكّن في علم من العلوم ، لابدّ لك من أن تتّبع أسلوب التلخيص ، وكتابة المذكّرات العلميّة ، والتقاط درر الفوائد ، التي تجود بها أفواه المشايخ الذين تتلقّى عنهم ، فهي تمثّل خلاصات نادرة قد لاتستطيع العثورعليها بنفسك خلال سنين من طلبك للعلم .
ولعلّ في هذه الخطوات والملاحظات مقنع وكفاية ، والله يتولاّنا وإيّاك بالتوفيق والهداية .
المبحث الثاني

المنهج التربوي لطالب العلم

اعلم رحمك الله أن مبدأ العمل الإرادة : وقد قسم الله عباده في ذلك فريقين ، فقال سبحانه : { مِنكُم من يُريدُ الدُّنيا ، ومِنكُم من يُريدُ الآخرةَ } آل عمران / 152 / .
وبيّن مآل كل فريق في قوله : { مَن كان يُريدُ العاجلةَ ، عَجّلنا لهُ فيها ما نشاءُ لمن نُريدُ ، ثم جَعلنا له جَهنّمَ يَصلاها مَذموماً مَدحوراً (18) ومن أرادَ الآخرةَ ، وسَعى لها سَعيَها وهو مُؤمِنٌ فأُولئكَ كانَ سَعيُهم مَشكوراً (19) } الإسراء .
ـ فالعاجلة هي الدنيا ، والخاسر من كل وجه من يريد الدنيا إرادة ينسى في جنبها الآخرة فلا يؤمن بها أصلاً ، أو يؤمن بها ، ولا يعمل لها .
فالأول : كافر خالد في النار .
والثاني : فاسق على شفا جرف هار .
ـ والآخرة في الآية هي الجنة ، ولايبلغها إنسان بالإرادة فحسب بل لا بدّ معها من الإيمان والعمل الصالح اللائق بها ، { وسعى لها سعيها وهو مؤمن } وهو العمل الصالح الذي يجعل صاحبه يفوز برضوان الله وقبوله .
ـ وصادق الإرادة للآخرة ، يقذف الله في قلبه باعثاً قوياً ، يزعجه ويقلقه ، ويحثّـــه على الإقبال على الله تعالى ، والدار الآخرة ، ويهوّن عليه الإعراض عن الدنيا ، وعمّا يشتغل به الخلق من التفاخر بها ، والاغترار بزخارفها ، والتكاثر بها ، وإنفاق الأعمار في جمع حطامها ، والتنافس في شهواتها .
ـ وهذا الباعث من أعظم نعم الله على العبد يجب على المؤمن أن يجتهد في حفظه وتقويته ، بذكر الله تعالى ومراقبته ، وتقواه والعمل بطاعته ، والحرص على مجالسة أهل العلم والعمل والذكر ، وصحبة الصالحين ، والحذر من مجالسة البطّالين أو صحبتهم ، فإنهم يصّدون عن سبيل الله ، ويقطعون عن طريق الآخرة .
ـ وأول ما يجب عليك في ابتغاء طريق الآخرة والتماس فضل الله وتوفيقه تصحيح التوبة النصوح : بشروطها وحقائقها ، وآدابها وفضائلها ، وآثارها وأسرارها القلبية استدامتها وتجديدها في كل وقت ، والخروج عن مظالم العباد ، وتبرئة الذمّة منها .
ثم عليك أن تحترز من صغائر الذنوب كما تحترز من كبائرها ، لأنّ صغائرها تقود إلى كبائرها ، والإصرار على صغائرها من الكبائر ، وصدورها ممّن يكون في مقام القدوة والتأسّي كطالب العلم من الكبائر أيضاً.. وما أهلك كثيراً من الناس إلا التهاون بالصغائر واستصغارها والإصرار عليها.. فقادتهم إلى ما هو أكبر منها وصدّتهم عن طاعات وقربات .. وأخرجتهم عن طلب الآخرة إلى السعي وراء الدنيا ، والتكالب على حطامها .
= ثم عليك أن تجتهد غاية الاجتهاد في تطهير قلبك ، وحفظه من الوساوس والمعاصي ، والأمراض الموبقة المهلكة .
واعلم أنّ معاصي القلب أفحش وأقبح وأخبث من معاصي الجوارح ، وأكثر الخلق عنها غافلون ، ولا يصلح القلب لمعرفة الله ، ومحبّته وخشيته إلا بعد التطهّر منها ، والتخلي عنها ، كما لا يصلح لجوار الربّ في دار الخلد والنعيم ، إلا من أتى الله بقلب سليم .
ومن أفحش أمراض القلب وأخطرها : الكبر والرياء والحسد ، والحقد والغلّ ، وسوء الظنّ بالمسلمين ، وأصل هذه الأمراض كلّها حبّ الدنيا وإيثارها على الآخرة .
= وعليك أن تجتهد في كفّ جوارحك عن المعاصي والآثام الظاهرة ، فلا تحرّك شيئاً منها إلا في طاعة الله ، ولا تعمل بها إلا ما يعود عليك نفعه في الآخرة .
وأخطر هذه الجوارح اللسان ، فإنه عضو صغير ، وخطره كبير ، يورد الناس المهالك ، ويكبّهم في النار على وجوههم .
ومن أخطر معاصيه : الكذب والغيبة ، والكلام الفاحش ، والزور والبهتان ، وسائر الكلام المحظور.
ومن معاصيه الخوض فيما لا يعني ، فإنه يقسّي القلب ، ويشغل عن الخير ، ويضيّع الوقت ، فاحفظ لسانك إلا من تلاوة للقرآن ، أو ذكر لله تعالى أو تعلّم للعلم ، أو نصح لمسلم ، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر ، أو شيء من الدنيا التي تستعين بها على الآخرة .
والسمع والبصر بابان مفتوحان إلى القلب يصير إليه كل ما يدخل منهما ، والقلب سريع التأثر بكل ما يرد إليه ، وإذا تأثر بشيء يعسر محوه عنه ، فاحفظ سمعك وبصرك ، وكفّ جميع جوارحك عن الآثام والفضول ، وإنّ من أخطر الفضول النظر بعين الاستحسان إلى زهرة الحياة الدنيا وزينتها ، فإنّ ظاهرها فتنة للعين ، وباطنها عبرة للقلب .
= وخير ما يعينك على ذلك ألا تأكل إلا عن جوع ، ولاتنم إلا عن غلبة ، ولا تتكلم إلا في حاجة ، ولا تخالط أحداً من الخلق إلا فيما فيه فائدة وخير .
وإيّاك والشبع المفرط : ( فما ملأ ابن آدم وعاءً شرّاً من بطنه .. ) كما جاء في الحديث الصحيح ومن أكل كثيراً شرب كثيراً ، ونام كثيراً ، وفاته خير كثير ، وجلب الأدواء إلى جسمه وعقله .
واعلم أن ملاك الدين الورع وترك الشبهات ، والعفة والسموّ إلى المكرمات وهو ما يميّز الخاصّة من العلماء الربانيين ، والدعاة المهتدين عن العامة وأشباه العامة ، وما أفسد قلوب طلاب العلم ، وأزلّها عن ابتغاء رضوان ربها ، وقضاء حقّ العلم عليها ، مثل الطمع في الدنيا ، واللهاث وراء حطامها ، والتقحّم في الشبهات ثم الوقوع في الحرام في سبيل ذلك .
= واعلم أن أفضل ما يتقرب به المتقربون إلى الله  ، فعل الفرائض ، واجتناب المحرمات ، ثم الحرص على أنواع القربات ، والمسارعة في الخيرات ، فإن مريد الآخرة لم يتميز عن غيره من الناس إلا بالإقبال الصادق على الله ، بطاعته واتباع محابه ، والتفرغ عن كل ما يشغله عن عبادته .
- وهذا يقتضي منك أن يكون شحيحاً بأنفاسك ، بخيلاً بأوقاتك ، لاتصرف منها قليلاً ولا كثيراً إلا فيما يقربك إلى الله تعالى ، ويعود عليك نفعه في الآخرة ، وهذا باب بلوغ ولاية الله  ، والفوز بمحبته ومعيته الخاصة ؛
- ففي الحديث القدسي الصحيح :
( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحبّ إلي مما افترضته عليه ، ولا يزال عبدي يتقرّب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنّه )
- وفي الحديث أيضاً : ( لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة ، حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيم أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه ، وفيم أنفقه ، وعن علمه ماذا عمل فيه ) .
= وليكن لك حظّ من كل نوع من العبادات ونوافل القربات ، تحافظ عليها ، ولا تترك شيئاً منها ، فإن أحبّ العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قلّ .
- فليكن لك ورد من تلاوة القرآن الكريم ، كل يوم مع التدبر والخشوع ، وحظّ من التهجد والاستغفار في الأسحار ، والتضرع إلى الله تعالى والدعاء من قلب متحقق بالذل والانكسار ، والعجز والاضطرار .
واحرص على الخشوع في الصلاة ، وحضور القلب مع الله  ، فهو روح العبادات كلها ، وسرّ تقوى القلوب العامرة .
ومن خلت عبادته عن الحضور فعبادته هباء منثور ، لا مثوبة فيها ولا أجور ، وإن مثل الذي لا يحضر مع الله في عبادته ، كمثل الذي يهدي إلى ملك عظيم وصيفة ميتة ، أو صندوقاً فارغاً ، فما أجدره بالعقوبة ، وحرمان المثوبة ..!
- وحافظ على السنن الرواتب قبل الصلاة وبعدها ، وصلاة الوتر والضحى ، والإكثار من ذكر الله تعالى في جميع أحوالك ، وحافظ على أذكار الصباح والمساء الثابتة في سنة المصطفى  .
- وداوم على التفكر في خلق السموات والأرض ، فإنه يثمر زيادة المعرفة بالله تعالى ، وتعظيمه وإجلاله .
- والتفكر في آلاء الله ونعمه ، فإنه يثمر محبته وخشيته وشكره .
- والتفكر في الدنيا والآخرة ، وعوالم الآخرة ، وأحوال الخلق فيهما ، على حسب ما جاء في الكتاب والسنة ، فإنه يثمر الإعراض عن الدنيا ، والإقبال على الآخرة ، والبصيرة بأحوال الخلق ، واختلاف أحوالهم ومصائرهم .
ويتصل بهذا معرفة الموقف منهم ، وما ينبغي عليك من منهج وسلوك في دعوتهم وخطابهم .

من ثمرات الطاعات والقربات
= واعلم أن للطاعات والقربات ثمرات عاجلة وجزاءً ناجزاً ، غير ما ينال المؤمن من الفوز برضوان الله وجنته ، وقربه ومعيته ، فمن تلك الثمرات :
أ - ذوق حلاوة الإيمان ، وبرد اليقين ، والفرح بالله تعالى ، وطاعته وتوفيقه وتنزل السكينة ، ولذة الطمأنينة : { أَلا بِذكرِ اللهِ تَطمئنُّ القلوبُ (28) } الرعد .
{ هُو الذي أَنزلَ السكينةَ ، في قُلوبِ المؤمنينَ ، لِيزدادُوا إيماناً معَ إيمانِهِم (4) } الفتح .
ب - وتحقق القلب بحقائق الإيمان : من الخوف والرجاء ، والخشية والعبودية ، والحب الخالص لله تعالى ، والتوكل والإنابة ، والرضا والتسليم ، والصدق مع الله ، وحسن الظن بالله ، والصبر لله ، والشكر والثناء على الله بما هو أهله ، والإحسان والمراقبة لله تعالى في جميع الأحوال ، والتجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود .
ج - والاعتصام بالله  ، والاعتزاز بدينه ، والاستهانة بما ينال المؤمن من أذى في سبيله ، ومحبة المؤمنين وموالاتهم ، والنصح لهم ، والشفقة عليهم ، وخدمتهم والرفق بهم ، وبغض الكافرين والمنافقين ، والبراءة منهم ، والحذر من تقليدهم أو اتّباع شيء من سبيلهم .
د - وطهارة القلب من كل صفة يبغضها الله أو تبعد عنه ؛ كالركون إلى الخلق ، والحرص على مرضاتهم ، وسوء الظنّ بالله تعالى ، أو ضعف اليقين بوعده ووعيده وجزائه ، ومزاحمة محبة ما سوى الله ورسوله  لحبّ الله ورسوله  .
فللطاعات والقربات ، إذا أدّيت على وجهها الأكمل ، أنوار تشرق في قلب المؤمن ، تحرق ظلمات الصفات ، التي يكرهها الله تعالى وتبدّدها ، وما لم يتطهر القلب من ذلك ، فاعلم أن موادّ ، تلك الطاعات لم تكن بالقدر المطلوب ، ولا بالكيفية المؤثرة وهذا هو الأهمّ .
= واعلم أنّ الجنة حفّت بالمكاره ، وأنّ النار حفّت بالشهوات ، وأنّ الطريق إلى مرضاة الله تعالى ، أوله : صبر وعناء ، وجهد وبلاء ، وآخره : شكر وهناء ، وفتح وعطاء .
وللنفس مع صاحبها في هذا الطريق أحوال ، فهي تكون في أول الأمر :
ـ أمّارة بالسوء " تأمر بالشرّ وتنهى عن الخير فإن جاهدها المؤمن ، وصبر على مخالفة هواها ، صارت
ـ " لوّامة " ، لها وجه إلى " المطمئنة " ووجه إلى : الأمّارة ، ويمكن أن نميّز فيها مرحلتين :
ـ ففي مرحلتها الأولى : تكون " لوّامة " على فعل الخير ، ولكنها مغلوبة عليه بصدق صاحبها في إرادته ، وقوته في مجاهدته ، ولكنه لا يزال يعاني مع نفسه ، ويجاهدها ، ويصابرها .
ـ وفي مرحلتها الثانية : تكون " لوّامة " لصاحبها على فعل الشّر ، أو التقصير في الخير ، وبذلك تتهيأ لدخول مقام " المطمئنة " ، وهي التي تأمر بالخير وتستلذّه وتأنس به ، وتنهى عن الشرّ ، وتنفر عنه ، وتفرّ منه .
وكل ذلك تجد شواهده وأدلّته في كتاب الله تعالى ، وسنة رسوله  .
ـ وصاحب النفس المطمئنة ، يعظُم تعجّبه من إعراض الناس عن الطاعات ، مع ما فيها من الرّوح والأنس واللذة ، ومن إقبالهم على المعاصي والشهوات مع ما فيها من الغمّ والوحشة والمرارة ، فليذكر قول الله تعالى : { كَذلكَ كُنتُم مِن قَبلُ ، فمنّ اللهُ عليكم } النساء /94/ ، بما أولاكم من عناية ، وما وفقكم إليه من مجاهدة .
= واعلم أن خير أحوالك الإيمانية ، أن تكون مع الله تعالى : ذكراً وشكراً وصبراً وضراعة ، وذلاً وانكساراً ، وحباً ورجاءً ، وخوفاً ووجلاً ، وخشية وإنابة ، وإذا وفقت لذلك ، فإنه من مزيد عناية الله بك ، ليكرمك بما هو أجل وأعظم ، ويرفع درجتك ، ويعلي ذكرك ، ويفتح أبواب الخير على يديك .
وتلك الأحوال الإيمانية هي روح العبودية لله تعالى ولبابها ، ولن تدركها وتنالها إلا باتّباع النبي  في أقواله وأفعاله وأحواله ، وشمائله وأخلاقه ، وأن يكون أحبّ إليك من والدك وولدك ، وأهلك ونفسك ومالك ، والناس أجمعين ، وأن يكون أحبّ إليك من الماء البارد على الظمأ ، وأن تتجرّد عن كل هوى يخالف سنّته وهديه ، نصّاً أو روحاً .
ولن تبلغ ذلك كلّه إلا بصحبة الصالحين الأخيار ، ومجالسة المتقين الأبرار من العلماء المرشدين الناصحين ، أهل الفضل والسابقة ، ومجلس واحد مع مثل هؤلاء بصدق النيّة ، وقصد الانتفاع يغنيك عن مطالعة الكتب الكثيرة ، والاجتهاد في نوافل الطاعات .
ويكفي مجالسة الصالحين منزلة وفضلاً أن الله تعالى أمر نبيّه  بملازمتهم ، وأن يصبر نفسه معهم ، ولا تعدو عيناه عنهم ، فقال سبحانه : { واصبِر نفسَكَ معَ الذينَ يَدعُون ربَّهُم بالغَداةِ والعَشيِّ ، يُريدون وَجهَه ولا تَعدُ عَيناك عنهم .. (28) } الكهف .
وإنما تنتفع من صحبة الصالحين ومجالستهم ، لأنهم متحققون بما يقولون ، ومتعظون بما يعظون ، ولا يتكلفون ما لا يحسنون .
وقديماً قال بعض السلف : " حال رجل في ألف رجل ، خير من قال ألف رجل في رجل .. " وهذا مجرّب مشهود ، فليست النائحة كالثكلى .
ـ فالصحبة الصالحة الناصحة تُزري بالموعظة العابرة ، وتغني عن الوالد الناصح ، وتسدّ مسدّ المرشد المربّي ، وتردّ أهواءً جامحة ، لا تردّها عقول حصيفة ، ولا عقوبات مخيفة ، وتخسىء شياطين الجنّ وتصدّ جلساء السوء ، وإذا رأيت الشابّ المتدين ، يزهد في الصحبة الصالحة ، فاعلم أنه صاحب هوىً ، وإذا كان صاحب هوىً ، فمستقبل دينه في خطر .
ـ ولا تقتصر صحبة الصالحين ومجالستهم على مجالسة الأحياء منهم ، واللقاء بهم ، والأخذ عنهم ، وإنما في مطالعة سير سلف هذه الأمة ، والتعرف على أخبارهم ، ودراسة شخصياتهم وأحوالهم ، واتجاهاتهم في العلم والايمان ، والعمل والدعوة ، والجهاد والتضحية ، والزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة ، والأخذ بأحسن ما عندهم ، وحسن الظّن بهم ، والتماس الأعذار لهم ، ما أمكن السبيل إلى ذلك ، وتجاوز زلاتهم ، وعدم الوقوف عندها ، ففي ذلك كله خير ما ينهض همّة طالب العلم ، ويوسّع أفقه ، ويشدّ عزيمته ، ويقوّي يقينه ، واعتبر ذلك بما قصّه الله علينا من سير الأنبياء والمرسلين ، وما فيها من حكم جليلة ، وقد قال الله تعالى في ختام سورة يوسف عليه السلام : { لقد كانَ في قَصصِهِم عِبرةٌ لأُولي الأَلبابِ ، ما كانَ حديثاً يُفترَى ، ولكن تَصديقَ الذي بين يديهِ ، وتَفصيلَ كلِّ شيءٍ ، وهدىً ورحمةً لقومٍ يُؤمنون (111) } .
= واعلم أنه لا يفسد صفاء قلبك ، ويعطل نشاطك وهمّتك ، ويذهب نور وجهك ، شيء مثل اللغو والجدل ، وضياع الأوقات في القيل والقال ، وتتبّع أخطاء الناس ، والتماس عثراتهم ، وإشاعة زلاّتهم ، وهتك أستارهم ، وليس ذلك من شأن أهل العلم والإيمان ، والنصح للأمة والشفقة عليها في شيء .
فوقتك أعزّ من أن تنفقه في ذلك ، وحياتك أثمن من أن تبدّدها في هذه المتاهات المهلكة .
ـ وإن عليك أن تعزم على نفسك عزيمة لا هوادة فيها ، وتحاسبها محاسبة لا تسويف معها على البعد عن ذلك كله ، والتزام المنهج الجادّ ، الذي يجعل منك إنساناً بنّاءً ، لا هداماً ، ومصلحاً ، لا مفسداً .
فوا أسفاه ما أكثر ما اصطاد الشيطان رجالاً باسم الغيرة على الدين ، والغضب لحرماته ، فأخرجهم عن المحجّة البيضاء ، وجعل همّهم تفريق الأمّة ، وجرح الأئمّة وإشاعة الزلاّت ، والجراءة على الحرمات ، فكانوا عبئاً على الأمّة ، ومبضعاً مسموماً يطعن في جسدها !.
وإنك على قدر أخذك بعزيمة الرشد والجدّ ، تكون مؤدياّ لحقّ العلم عليك بعيداً عن التقصير والتفريط في حقوق الله ، والبغي والتجنّي على عباد الله .
ولو نظرت في أحوال كثير من الناس ، لرأيت أنهم ينطبق عليهم الأثر المشهور : " يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه ، ولا يرى الجذع في عين نفسه " .
ـ والحكمة القائلة : " ما أهلك الناسَ إلاّ الناس " ، وإنها لحكمة جامعة فذّة ، فطوبى لمن شغلته عيوبه عن عيوب الناس ، وكره من نفسه ما يكره من الناس ، وعذر الناس بما يعذر به نفسه .

** ** **

وختاماً : إليك هذه الصفات الجامعة ، والأنوار الكاشفة ، لمن يريد الآخرة ، ويسعى لها بصدق :
ـ لا يكون المريد مريداً ، حتى يجد في القرآن كل ما يريد ، ويعرف النقصان من المزيد ، ويستغني بالمولى عن العبيد ، ويستوي عنده الذهب والصعيد .
ـ المريد من حفظ الحدود ، ووفّى بالعهود ، ورضي بالموجود . وصبر عن المفقود .
ـ المريد من شكر على النعماء ، وصبر على البلاء ، ورضي بمرّ القضاء ، وحمد ربّه في السرّاء والضرّاء ، وأخلص له في السرّ والنجوى .
وبعد ؛ فإن هذا المنهج التربويّ ، يؤهّلك إلى أن تنطلق بنجاح وسداد ، في ميدان السلوك الاجتماعيّ والدعويّ ، وهو روح الإيمان ، وغاية العلم والعمل ، كما سبق الإشارة إلى ذلك فيما مضى .
ولكي تتبين لك معالم السلوك الاجتماعيّ والدعويّ ، الذي ينبغي لك أن تلتزمه ، وتحرص على أن تأخذ نفسك به ، نقدّم لك هذه الصورة المجملة ، في المبحث التالي ، والله يتولاّنا وإيّاك بتوفيقه وهداه .

المبحث الثالث
السلوك الاجتماعي والدعوي

أولى الإسلام عناية كبرى ، للعلاقات الأسريّة والاجتماعيّة والإنسانيّة ، فلم يترك صغيرة ولا كبيرة مما يقيم هذه العلاقات ، ويحكم روابطها ، وينظّم أسسها ويقوّيها إلا أمر به ، ودعا إليه ، وحثّ عليه ، على أساس من الحقوق والواجبات المتكافئة ، وإن الناظر في تنظيم الإسلام لتلك العلاقات ليشهد أنها معجزة من معجزات الإسلام الكبرى لأنه جاء في وقت كانت تخيّم فيه على الإنسانيّة بعامّة ، روح الأثرة وتقديس الذات ، ولايقام لتلك الروابط أي اعتبار إلا بمقدار ما يرى الفرد أنها امتداد لذاته ، وتحقيق لكيانه ، أو أن مصلحته الحقيقيّة في اعتبارها ومراعاتها .
ولكنّ الأمر المؤسف حقاً ، أن يرى المسلم أن كثيراً من المسلمين اليوم لاينظرون إلى تلك العلاقات وما يتّصل بها من حقوق وآداب ، ولا يعطونها من الأهمّية إلا بمقدار ما يحيط بها من الوعد والوعيد ، أو ما يكون لها من حكم التغليظ والتشديد ، فإذا قيل لهم إنها من قبيل الفضائل والآداب ، رأيت أنهم يزهدون بها زهادة المؤمن الحق بالحرام أن يقترب منه ، أو يفكّر فيه ، وبمثل هذه النظرة وهذا الموقف اختلّت كثير من الروابط الاجتماعيّة ، وتمزّقت العلاقات الأسريّة ، وأصبحت لا تمثّل حقيقة ما جاء به الإسلام وحثّ عليه
وفي الوقت نفسه نرى كثيراً من المنظّرين والمفكرين الغربيين قد انتبهوا إلى أهميّة هذه العلاقات وخطورتها من وجهة مادّية دنيويّة بحتة ، فهي سبيل للربح الماديّ ، وتحقيق النجاح في رواج السلع ، والغلبة في التنافس الاقتصاديّ وهي من جهة أخرى سبيل التفوّق الاجتماعيّ والأدبيّ ، وذيوع الصيت ، واكتساب الشهرة ، وهذه أهمّ مدخل لتحقيق الطموحات المادّية الجامحة .
فنجد مفكراً أمريكياً هو " ديل كارنيجي " مؤسّس معهد العلاقات الإنسانيّة في نيويورك يضع كتابه : " كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس ؟ " وقد ضمّنه مبادئ وقواعد تستهدف كسب قلوب الناس ، وإتقان فنّ التعامل معهم ، وقد ألّفه ليكون مرجعاً عمليّاً لطلاب معهده ، ونال بهذا الكتاب شهرة واسعة ، وراج كتابه رواجاً مذهلاً ، حتى إنه طبع أكثر من خمس وخمسين طبعة خلال اثنتي عشرة سنة ، وترجم إلى أكثر من خمسين لغة من لغات العالم ووصفه بعض النقاد الأمريكيين بأنه : " أوسع الكتب الجديّة انتشاراً في التاريخ باستثناء الكتب السماويّة " وكل ذلك يعكس حاجة البشر الفطريّة ، مهما تعدّدت أجناسهم وشعوبهم ، وأديانهم وثقافاتهم ، إلى اكتساب قلوب الناس ، ونيل مودّتهم ورضاهم ، فما يسرّك ويرضيك خليق بأن يسرّ كل إنسان ويرضيه ، وما يسوؤك ويحزنك ، يسوء كل إنسان ويحزنه ، ولعل هذا من ميراث الفطرة الذي لا تستطيع أيّ عادية من عوادي التحريف والتبديل أن تعدو عليه ، أو تنتقصه .
وإن مما يقوّي إيمان المؤمن بدينه ويزيده ، أن يرى أن كل ما رآه ذلك الباحث بعد بحثه الطويل وجهده ونصبه ، لايزيد في شيء منه عما جاء به النبيّ  من أسس العلاقات الاجتماعية ومبادئها ، وآدابها ومُثُلها ولكن الفارق البعيد بين ما جاء به النبيّ  وبين ماتوصّل إليه ذلك الباحث ، أن ما جاء به النبيّ  مجرّد عن تلك النظرة النفعيّة القاصرة ، وقائم على أساس من الحرص على مرضاة الله تعالى ، وابتغاء مثوبته ، ورغبة المؤمن الخالصة بالتحلّي بمكارم الأخلاق والتأسّي بمن له الخلق العظيم صلوات الله وسلامه عليه .
وبعبارة أخرى : إن المؤمن ليلتزم بمكارم الأخلاق لأنها مكارم أخلاق ، لا لشيء آخر ، فالقانون الأخلاقيّ في نظر المسلم يكفيه لكي يؤكّد سلطته أن يقدّم لنا العمل على أنه إلزاميّ ، وحسن في ذاته بقطع النظر عن أيّة نتيجة مستحسنة أو مستهجنة ، إنه يفرض نفسه بنفسه على الضمير .
وتلك هي الفطرة التي يأتي الأمر الإلهيّ ، والتشريع السماوي مقوّياً لها ، ومتلائماً معها ، وكأنه الجزء المتمّم لقانونها ، والسلك المحقّق اتّصال دارتها .
ولكن السؤال المحزن حقاً :
أين تلك الصورة المشرقة لأخلاق المسلم وقيمه وآدابه التي أشرقت على البشريّة في يوم من الأيام ، فدخل الناس بإشراقها في دين الله أفواجاً ؟
إن أخشى ما نخشاه أن نكون حجر عثرة في طريق انتشار الإسلام وازدهاره ، ونحن نلقي اللوم على أعدائنا ، وننادي بالويل والثبور ، وعظائم الأمور على ما تقترفه أيديهم في حقّنا ، وننسى إساءتنا في حقّ أنفسنا وإخواننا والآخرين في هذا العالم .
ولن نستطيع في هذه الرسالة الصغيرة الحجم ، أن نعرض عليك تفصيلات أسس العلاقات الاجتماعية التي أتى بها الإسلام وآدابها ومُثُلها ، فذلك ما تخصّصت بالحديث عنه مؤلّفات كثيرة وشهيرة على مدار التاريخ الإسلاميّ ، وهو يأخذ أبواباً عريضة في دواوين السنّة الشريفة ، وكتب الحديث والسيرة والشمائل النبويّة ، ولكننا سنعرض بإجمال أنواع تلك العلاقات ، والأسس الأخلاقيّة والتربويّة التي أقامها الإسلام عليها ، وتميّز بها منهجه ودعوته وذلك من خلال النقطتين التاليتين :
1ً- أنواع العلاقات الاجتماعيّة والدعويّة :
يشمل السلوك الاجتماعي والدعوي العلاقات التالية :
أ - القرابة : وتشمل الوالدين والأسرة والرحم
ب - غير القرابة : وتشمل الجوار ، وسائر الناس .
ج - من هو أكبر ، والأقران ، ومن هو أصغر .
د- أهل العلم والدين والاستجابة .
هـ ـ أهل الانحراف والفساد .
2ً- أهمّ الأسس التربويّة والأخلاقيّة :
أ- أداء الحقوق الماديّة والمعنويّة .
ب- الأدب مع الكبير ، والرحمة بالصغير ، وتوقير أهل العلم والفضل ، وخفض الجناح للمؤمنين .
ج- احترام مشاعر الآخرين ، ومراعاة خواطرهم وأحاسيسهم .
د- بذل المعروف ، وإغاثة الملهوف ، ونشر الخير ، وإفاضة البرّ والحرص على فعل كل ما يحبب ، وترك كل ما ينفّر ، والمسارعة في خدمة الضعيف وذي الحاجة .
هـ- كفّ الأذى ، والحذر من الإساءة إلى أحد من عباد الله.
و- دفع السيّئة بالحسنة ، بالعفو عمّن ظلم ، وصلة من قطع ، وإعطاء من حرم .
ز- التضحية بالحقوق الخاصّة ، والإيثار بالمحابّ ابتغاء مرضاة الله تعالى .
واعلم أنه لا يمكن لهذه العلاقات الاجتماعيّة والدعويّة أن تنبت على أصولها ، وتؤتي ثمراتها وبركاتها إلا إذا انطلقت من الإيمان بالله تعالى ، والاحتساب لوجهه الكريم سبحانه ، وكانت دوافع المؤمن إليها خالصة من كل شائبة .
وإذا كان كل مسلم مكلّفاً بهذه التكاليف الإلهيّة ، فأولى الناس بذلك أهل العلم والدعوة إلى دين الله تعالى ، وطلاب العلم أن يأخذوا أنفسهم بإحكام هذه العلاقات ومراعاة حدودها وآدابها .
وما أشدّ حاجة الأمّة الإسلاميّة اليوم إلى تلك النوعيّة المتميزة الفريدة ، التي يغنيها قليل العلم النافع عن كثيره ، ويبارك الله بالقليل من جهدها ، فيثمر أينع الثمرات ، ويبلغ بها أرقى المنازل والدرجات .
ما أحوج الأمّة اليوم إلى ثلّة كريمة ، من العلماء الربانييّن ، والدعاة المرشدين ، الذين يتأسّون برسول الله  في شأنهم كلّه ، وبخاصّة في أخلاقه وأسلوب دعوته ، وحكمته وسعة صدره ، ولقد أثنى الله على أخلاق نبيّه  أعظم الثناء ، فقال سبحانه : { وإنّكَ لَعلى خُلُقٍ عظيم (4) } القلم .
هذا وإن عظمة أخلاقه  تتجلّى في جمعها لأربع مزايا رئيسة ، لم تجتمع لأحد سواه ، وأنها حازت ذروة المستوى الأخلاقي الأكمل ، الذي لم يتهيّأ لأحد قبله ، ولا لأحد بعده .
ومن هنا عدّ كثير من العلماء أخلاقه  معجزة من أعظم المعجزات التي أيّده الله بها ، وعلماً من أعلام نبوّته ، وقد وصف ببعض ذلك في الكتب السماويّة السابقة ، كما جاءت صفته : " يغلب حلمه غضبه ، ولا تزيده شدّة الجهل عليه إلا حلماً " .
= فأما المزايا الأربع ، التي اجتمعت في أخلاقه  فهي :
ـ المزيّة الأولى : أنها أخلاق غير متكلّفة ، بل هي طباع فطريّة زكيّة ، وسجايا نفسيّة مكينة ، هي طوع الإرادة ، ومنية السجيّة ، والمتكلّف قد يغلبه الطبع الأول ، فيعود إلى طبعه ، ويدع ما تكلّفه ، وهو لا يكون على سيرة واحدة ، وإلى هذه المزيّة الإشارة بقول الله تبارك وتعالى : { فبِما رحمةٍ من اللهِ لِنتَ لهم ، ولو كنتَ فظّاً غليظَ القلبِ لانفضُّوا من حولِك } آل عمران /159/ .
ـ والمزيّة الثانية : أنها جمعت فضائل الأنبياء السابقين وكمالاتهم كلّها وزادت عليها ، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة : { أُولئكَ الذينَ هدى اللهُ ، فبهداهُمُ اقتَدِه } الأنعام / 90 / .
كما تحدّثت عنه أحاديث كثيرة ، منها قوله في الحديث الصحيح : ( إنّ مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتاً ، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة ، فجعل الناس يطوفون به ويقولون : ما أحسن هذا إلا موضع هذه اللبنة ! فأنا اللبنة وأنا خاتم النبييّن ) .
وفي الحديث أيضاً : ( إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق ) .
ـ والمزيّة الثالثة : أنها جمعت بين الكمالات والفضائل الإنسانيّة الفطريّة في تناسق عجيب ، وتلاؤم بديع ، لم تعرفه الإنسانيّة قبل دين محمّد وهديه ، كالشدّة من غير عنف ، واللين من غير ضعف ، والقوّة في الحقّ ، والعفو عند المقدرة .
ـ والمزيّة الرابعة : أن أخلاقه هي أخلاق القرآن وفضائله وآدابه ، لا تنفكّ عنه ، ولا تحيد ، وهي التطبيق العمليّ لكل ما جاء فيه ، وهذا ما أفادته السيّدة عائشة رضي الله عنها ، عندما سئلت عن خُلُق النبيّ  فقالت : " كان خُلُقه القرآن ".
= وأما المستوى الأخلاقيّ الأكمل الذي كانت عليه أخلاقه صلوات الله وسلامه عليه ، فيتجلّى بمعرفة مراتب الأخلاق الفاضلة ، وما كان للنبيّ وهي تُصنّف في ثلاث مراتب :
ـ المرتبة الأولى : الإحسان إلى الخلق ابتداءً ، وهذه المرتبة قد يتّصف بها كثير من عباد الله .
ـ المرتبة الثانية : الصبر على الأذى ، والعفو عن الإساءة ، وهي مرتبة الخواصّ من عباد الله تعالى ، وعلى رأسهم أنبياء الله ورسله ، عليهم الصلاة والسلام .
ـ المرتبة الثالثة : مقابلة الإساءة بالإحسان ، وشدّة الأذى بالحلم والصفح ، وهي المرتبة التي لم تكن إلا لأولي العزم من الرسل ، وقد انتظم عقد دررها ، وحاز أعلى كمالها ، وذروة الشرف فيها ، سيّد الرسل وخاتمهم صلوات الله عليه وسلامه ، فهي لم تجتمع بكمالها وشمولها لأحد قبله ، ولن تجتمع لأحد بعده ، ومن هنا كانت معجزة من معحزاته ، وعلماً من أعلام نبوّته ، وقد خاطبه الله تبارك وتعالى بقوله : { فاصبِر كما صَبرَ أُولو العَزم مِن الرُّسُل (35) } الأحقاف .
فإذا كان الصبر على الأذى خلقاً حسناً ، وهو من المرتبة الثانية ، فإن الصبر الجميل أحسن منه وأجمل وهو ما خوطب به المصطفى  بقول الله سبحانه : { فاصبِر صَبراً جميلاً } المعارج / 4 / .
قال الإمام القرطبيّ رحمه الله تعالى : " الصبر الجميل : هو الذي لا جزع فيه ، ولا شكوى لغير الله " .
ـ وإن من أجمع الآيات التي أُمر فيها النبي  بمكارم الأخلاق ، قول الله تبارك وتعالى : { خُذِ العفوَ ، وأمُر بالعُرفِ ، وأَعرضْ عنِ الجاهِلين } الأعراف / 199/ .
وهي آية جامعة فذّة ، جمعت بين الأمر بالصفات الإيجابية ، وتحديد الموقف ومنهج التعامل مع ذوي الصفات السلبيّة .
ـ قال الإمام جعفر بن محمد رحمه الله : " أمر الله نبيّه بمكارم الأخلاق ، وليست في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية " .
ـ وروي عن أُبيٍّ  ، قال : " لمّا أنزل الله  على نبيّه  هذه الآية ، قال رسول الله  : ( ما هذا يا جبريل ؟ ) ، قال : ( إن الله أمرك ، أن تعفو عمّن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك ) ( ) ..
ـ والعفو : هو الفضل ، وكلّ ما أتى من غير كُلفة .
ـ والعرف : هو المعروف ، وهو كلّ خصلة حسنة ، ترتضيها العقول ، وتطمئنّ إليها القلوب .

وبعد ؛ فلعلّ فيما ذكرنا مقنعاً للطالب ، وغنية للراغب ، ومنهجاً يوضّح المعالم للمبتدي ، ويرسم السبيل للمقتفي ، ولا يستغني عنه الراسخ المتمكّن ، ويحتاج بيانه إلى دراسة مفصّلة ، لا يتّسع المقام لها هنا ودونك كتب السيرة والشمائل ، والتربية والتهذيب ، لتجد فيها التدليل والتمثيل ، من المواقف النبويّة الفذّة ، والتشريعات التربويّة ، التي لم تتطاول إليها حتى اليوم أعناق كبار المشتغلين بالتربية ، المتعمّقين في سبر أسسها ومبادئها ، وهي كانت ولا تزال معيناً فيّاضاً ، ومنهلاً معطاءً ، لكل وارد ظمآن ، ومتلهّف عطشان .

الخاتمة
وصايا جامعة

لقد سبق لنا في ثنايا المباحث السابقة ذكر وصايا متنوّعة ، جاءت في سياقها ومناسبتها ، ونحبّ هنا أن نختم هذه الرسالة بجملة وصايا ، نرى أنها تحمل صفة العموم والشمول ، وهي ذات أهمّية خاصّة ، ينبغي لطالب العلم أن يوليها ما تستحقّ من العناية والاهتمام ، وينظر في نفسه أين هو منها ، فعسى أن يكون فيها نفع وموعظة وذكرى ، فإليكها ، وقد بلغت مبلغ عدّة الشهور عند الله :
1 ـ اعلم أن تقوى الله تعالى والقرب منه سبحانه ، أعظم سبب من أسباب العلم والفهم ، والفتح والتوفيق قال تعالى : { واتّقُوا اللهَ ، ويُعلِّمُكُمُ اللهُ } البقرة / 282 / ، وأن أعظم تكرمة للعبد ومنحة أن يلهمه الله طلب العلم ، ويفتح عليه في هذا السبيل ، فاحذر أن تحقر نعمة الله عليك ، أو تقابل هذه النعمة بالتفريط والإهمال ، فإنها سرعان ما تزول عنك ، فتنقطع عن الطريق وتحرم فضلها وبركتها .
2 ـ احرص على صحبة العلماء ومجالستهم ، وأحبّهم وتواضع لهم ، واحفظ غيبتهم ودافع عنهم ، وانصح المسلمين بالانتفاع منهم ، فهم ورثة الأنبياء ، وهم " أهل الذكر " و" أولو الأمر " الذين أمرنا الله بالرجوع إليهم والأخذ عنهم فقال سبحانه : { فاسألُوا أهلَ الذكرِ ، إن كُنتم لا تعلمون (43) } النحل .
وقال تعالى : { ولو رَدّوهُ إلى الرسولِ ، وإلى أولي الأمرِ منهم لعلمَهُ الذينَ يَستنبطونَهُ مِنهُم (83) } النساء .
3 ـ لتكن لك أهدافك العلميّة السامية ، التي تهفو إليها نفسك ، وتتعلّق بها همّتك ، وهي قطعاً غير نيل الشهادات العلميّة ، والألقاب التي قد تدخل الغرور على ذويها ، دون أن يكونوا على أثارة من علم .
4 ـ ليكن لك مذكّرة علميّة ، وأخرى شخصيّة ، تكتب في الأولى الفوائد العلميّة التي تلتقطها من أفواه المشايخ والعلماء ، وتكتب في الأخرى أهمّ ما يقع لك من الأمور التي فيها عبرة وفائدة ، ولا تغترّ بقوّة حفظك الحاضر ، فإن توالي الأزمان والأحداث ينسي بعضه بعضاً ، ولا تغفل تاريخ ماتكتب ، فإن للتاريخ أهمّيته الخاصّة ، وربما فقد الخبر قيمته إن لم يعرف تاريخ وقوعه .
5 ـ احرص على النظام في حياتك كلها ، فإنك تكسب من وراء ذلك وقتاً كبيراً ، كان حقّه الهدر لولا تنظيم الوقت ، وضبط الأعمال .
واجعل لكل وقت ما يناسبه من الأعمال والمطالعات ، وقراءة الدروس أو اللقاءات والزيارات .
6 ـ نظّم برنامجاً دقيقاً لدروسك ومطالعاتك ، وتابع تطبيقه بدقّة ، وتدارك أسباب التقصير فيه ، إذا قصّرت ، واقطع كل العلائق التي تشغلك عن تنفيذه وتطبيقه ، واستعن بمن يقوّيك على أدائه على أكمل وجه .
وينبغي أن يكون برنامجك على ثلاثة أنواع : برنامج يوميّ ، وآخر أسبوعيّ ، وثالث شهريّ .
ولكل من هذه البرامج الثلاثة ، واجباته وتكاليفه .
7 ـ احرص على الاتّزان في أداء الواجبات ، واحذر من الإفراط أو التفريط فليس في أحدهما إلا تضييع واجب ، أو التقصير في مسئوليّة .
وكن دائم المحاسبة لنفسك ، ما قدّمت ؟ وما أخّرت ؟ وما أسباب التقصير ، وما السبيل إلى تلافيها .؟
8 ـ إياك والمراء في مسائل العلم والجدال ، مع الأقران فضلاً عمّن يكون أكبر منك ، وأسبق في هذا السبيل ، فإنه يوغر الصدور ، ويزرع الإحن في القلوب ويورث البغضاء والعداوة ، والتدابر والقطيعة ، وقد يكون هذا المنزلق باباً لصدّ الطالب عن سبيل العلم ، وولعه بالسقطات والعثرات ، فلا يجني إلاّ تجميع السيّئات ، وهبوط الدركات ، وربما دخل الشيطان إلى بعض القلوب ، وسوّل لها أنها تنتصر للدين والحقّ ، وهي لا تنتصر إلاّ لرعوناتها وأهوائها .
فليس لطالب علم أن يجادل في مسائل العلم إلاّ بعد أن يتعلّم أدب الخلاف العلميّ ، ويأخذ نفسه بآداب الإسلام التربويّة ، التي تحدّثنا عنها في المبحث الثاني .
9 ـ أدم مذاكرة العلم ، والبحث والمدارسة ، فحياة العلم مذاكرته ، واعلم أنه لاشيء يجني على العلم مثل هجره والانشغال عنه ، وقد رأينا من بعض طلاّب العلم من نسي أمّهات مسائل العلم والفقه ، لانصرافه عن العلم ، وانقطاعه عن الكتب والبحث ، ولقد أصبحت الشهادات العلميّة ، والألقاب العريضة ، سبباً لفتور الهمم ، واستيلاء الغرور على القلوب .
10 ـ خذ نفسك بالعزائم ، وكن ذا همّة طموح ، واحذر من التواني والكسل ، فقد قيل في الحكمة : " إنّ العلم إذا وهبته كلّك ، وهبك بعضه " ، فكيف بك إذا لم تهب العلم إلا بعضك ؟ فماذا تنال منه .؟
وقديماً قال بعض السلف : " من لم تكن له بدايةٌ محرقة ، لم تكن له نهايةٌ مشرقة " .
11 ـ احرص على العلم النافع ، وإيّاك ومالا نفع فيه من العلوم ، أو كان ضعيف الأثر والجدوى ، فقد تعوّذ النبيّ  من علم لا ينفع .
12 ـ إيّاك والغرور بما معك من العلم ، وانتقاص أهل العلم والسبق في هذا السبيل ، فإنه من أعظم الآفات المهلكة ، وهو دليل ضعف العقل وقصور الفهم ، وسبب لحرمان الله للعبد من بركة العلم ولذّته ومثوبته ، وكفى بالمرء جهلاً ، أن يغترّ بما معه من العلم .
وختم الختام :
إنما تنصب نفسك في تحقيق هذا المنهج ، على قدر شعورك بالعبء والمسئوليّة ، وعلى قدر معرفتك بفضل العلم ، ومنزلة العلماء عند الله ، وعلى قدر وضوح الهدف والغاية في نفسك ، وعلى قدر ما أوتيت من الهمّة والعزيمة .
واعلم أن ما سطّرته لك في هذه العجالة ، لا يمثّل كل شيء ، ولكنه خلاصة جامعة نافعة بإذن الله ، فإذا أردت النفع لنفسك ، وأخلصت القصد في علمك نفعك الله بهذا القليل نفعاً عظيماً ، وبارك الله في عمرك وعلمك ، وعملك ودعوتك ، وجهادك وبَذلك وكنت على قدم النبوّة والأنبياء ، ورأيت أطيب الثمرات ، قرّة لعينك في الحياة الدنيا ، ولأجر الآخرة أعظم وأكبر .
وفّقني الله وإيّاك لما فيه حبّه ورضاه ، ولا تنسني من صالح دعواتك ، وأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه .



دعاء وضراعة ..!

سبحانك اللهمّ لا علم لنا إلا ماعلّمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم .
اللهم علّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علّمتنا ، وزدنا علماً وعملاً ، وفقّهنا في الدين ، وعلّمنا التأويل .
اللهمّ إنا نسألك علماً نافعاً ، وقلباً خاشعاً ، ورزقاً حلالاً واسعاً ، وعملاً متقبّلاً ، وشفاءً من كل داء .
اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن نفس لا تشبع ، ومن عين لا تدمع ، ومن دعوة لا يستجاب لها .
اللهم افتح لنا أبواب العلم ، ونوّر بصائرنا بنور الفهم ، ومُنّ علينا أن نعقل عنك ما تريد لنا ، وما تريد منّا ، واجعل ما وهبتنا من العلم باباً لمرضاتك وحبِّك ، وسبيلاً لاجتبائك وقربك ، إنك أكرم مسئول .
اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله ، الذي لا إله إلا أنت الحنان المنّان ، بديع السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، يا ذا الجلال والإكرام ، ياحيّ يا قيّوم ، أن ترزقنا كمال الاتباع لعبدك ورسولك سيدنا محمّد  في أقواله وأفعاله وأخلاقه وأحواله ، ظاهراً وباطناً ، وتميتنا على ذلك برحمتك يا أرحم الراحمين ، وصلى الله ، وسلّم ، وبارك وأنعم على سيدنا محمّد ، وعلى آله وصحبه ، وأتباعه وحزبه ، وآخر دعوانا ، أن الحمد لله ربّ العالمين .



* الوصايا العشر لطالب العلم *
1 ـ إحياء منهج التثبّت ، والحذر من التسرّع في إطلاق الأحكام :
2 ـ الحذر من التبعيّة بغير حجّة أو دليل : فلست من عامّة الناس الذين يعذرون بالتقليد المحض ، ولا يطلب منهم سوى الرجوع إلى الموثوقين من أهل العلم ..
3 ـ الحذر من الجراءة على الناس بتكفير أو تضليل :
4 ـ الحرص على الازدياد من العلم ، مع اكتساب الخبرة في الحياة :
5 ـ التعرّف على مناهج الناس ومذاهبهم : لا قيمة لعلم من لم يسافر ، ويتعرّف على الناس .
6 ـ :
7 ـ إنّما أنت قدوة لمن حولك :
8 ـ فقه مقاصد الشريعة مع تعلّم أحكامها : فمن لم يفقه مقاصد الشريعة ضيّع أحكامها ، وشوّه جمالها ، لأنّه يشغل نفسه بالأحكام الفرعيّة عن الأصول الكلّيّة . فيضيّع الأصول والأمّهات ، وهو يتمسّك بالفروع والجزئيّات ..
من أهمّ ما يستدلّ لذلك من السنّة قصّة سلمان وأبي الدرداء ..
9 ـ إيّاك أن تستغني عن أساتذتك ومشايخك ، أو تنفرد برأيك واجتهادك ، وليسعك ما وسع الجماعة أو الجمهور ، واحذر من رأي تنصره اليوم ، ثمّ تندم عليه غداً ، وتبوء بإثمه يوم البعث والنشور .. ولا يستهوينّك الشيطان بكثرة المعجبين ، أو مدح المحبّين :
فعين الرضا عن كلّ عيبٍ كليلة
كما أنّ عين السخط تبدي المساويا
ومن مدحك اليوم بغير حقّ ، ربّما ذمّك غداً بحقّ ..
10 ـ إيّاك ثمّ إيّاك أن تأخذَ الناس بمظاهرهم ، فتكشّر في وجوههم ، وتعبّس وتقطّب جبهتك ، لما تراهم عليه من بعض المعاصي الظاهرة ، فَمَا أقرب الفطرة إلى بارئها ، وما يدريك بما في القلوب .؟ فربّما كان من يجلس إليك أقرب إلى الله تعالى منك ، بل هكذا يجب أن يكونَ ظنّك بالناس ، وظنّك بنفسك .. لقد وضعت نفسك أخي طالب العلم في موضع الطبيب لقلوب الناس ونفوسهم ، فما أقبح العلّة في الأطبّاء .! وأقبح بالطبيب أن يكون منفّراً للمرضى من نفسه ، صادّاً لهم عن أن يفتحوا له قلوبهم ، ويقبلوا عليه بكلّ حبّ ورغبة .!

التربية الدعويّة
الترغيب بالدعوة إلى الله تعالى ، وما جاء في فضلها .
ضرورة هذا النوع من التربية ، ومن المسئول عنه :
طلاّب علم لا صلة لهم بالدعوة ، ومنهم من يتقن فنّ النقد والتجريح والاتّهام متصدّون للدعوة لا حظّ لهم من العلم والحكمة خلل فاحش في تبليغ الدعوة وسدّ ثغراتها أصبحت الساحة مرتعاً خصباً لجيش من الصادّين عن سبيل الله ، على اختلاف مناهجهم ومشاربهم ومقاصدهم
ـ من المسئول : الحدود الدنيا من المسئوليّة : يغرسها البيت ويتعهّدها الحدود الوسطى : ترعاها المدرسة وتبنيها الحدود العليا : يؤسّسها التخصّص ويرسّخها الحدود الكبرى : تهيّئها الدولة وتتبنّاها ، فكلّكم راعٍ ومسئول عن رعيّته .
أركان التربية الدعويّة :
1 ـ شخصيّة الداعي وصفاته
2 ـ منهج الدعوة والإعداد : التكوين والتدريب المتدرّج
3 ـ إتقان فنّ الاتّصال ، وحسن التعامل مع وسائل الاتّصال
4 ـ علاقة الداعي بالدعاة
أنواع التربية الدعويّة : تربية علميّة ، تربية عمليّة
من لم تميّزه المواقف والأفعال ، فلن تنفعه شقشقة الكلام وبهرجة الأقوال

بقلم: عبد المجيد البيانوني

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك