الحوار الإسلامي مع الأديان التوحيدية الأخرى : الخلفيات و الآفاق
الحوار الإسلامي مع الأديان التوحيدية الأخرى : الخلفيات و الآفاق
لا يكاد يمر يوم إلا تحمل لنا الأحداث الجارية في الساحة الدولية نذر صدام ديني و حضاري بين ما يدعى بالثقافة اليهودية – المسيحية الغربية – و الثقافة العربية – الإسلامية –. فنقاط التماس كثيرة، و إلى درجة أن الكاتب الأمريكي صامويل هانتغتون قال بأن حدود الإسلام المختلفة " دامية ".
فمن هذه الساحات : المعترك الفلسطيني حيث الصراع العربي – الصهيوني يقدم خطأ في الإعلام الغربي و كأنه صراع بين اليهودية و الإسلام. و لقد إستطاعت إسرائيل أن توظف هذه الصورة الزائفة لإستمالة دعم الشعوب اليهودية في العالم و بعض الطوائف المسيحية في أمريكا.
و من هذه الساحات الحروب الأهلية في السودان و في بعض مناطق إفريقيا مثل ساحل العاج و إرتريا و نيجيريا.. حيث تطرح العلاقة بين الديانتين المسلمة و المسيحية إشكالات حادة.
و بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، نشطت بعض المجموعات المتطرفة في الولايات المتحدة الأمريكية ضد الإسلام و المسلمين رابطة خطأ بين الإسلام و الإرهاب، من منظور كون الإسلام يدعو للتعصب و الكراهية و العنف.
و في منطقتنا كررت بعض الأصوات المتشددة مقولات مماثلة، و معتبرة إختلال الموازين في التعامل مع القضايا العربية و الإسلامية العادلة عدوانا صليبيا و حربا ضد الإسلام.
إن هذا الوضع المتأزم الذي تدفعه التيارات المتطرفة من الجانبين للإنفجار يستدعي من العقلاء المنصفين من الديانات السماوية الثلاث الوقوف بحزم ضد الغلو و التشدد و الإرهاب، بتوظيف قيم السلم و التسامح التي تزخر به النصوص المقدسة. و سنقدم في هذه المحاضرة مساهمة مختصرة في تأصيل رؤية الإسلام للحوار مع الديانات الأخرى، منطلقين من خلفية هذا الحوار، منتهين إلى إبراز آفاقه المستقبلية.
1- خلفيات رؤية الإسلام للحوار مع الديانات الأخرى
إن الإسلام هو دون شك دين قائم على الحوار بمعانيه المختلفة، و مستوياته المتباينة المتعددة.
فهو بداية حوار بين الله جل جلاله و الإنسان، لإقناعه بالإستجابة لنداء الوحي و الهداية. فليس الإيمان إنصياعا بالإكراه بل نتيجة إقتناع بآيات التنزيل التي توجه نظر الإنسان إلى أدلة الخلق و عبر التاريخ و حالات النفس الإنسانية. وهو حوار مع المشرك الذي يؤمن بتعدد الآلهة و عبادة الأصنام لإقناعه عقليا و شعوريا بمبدأ التوحيد و التنزيه المطلق للذات الإلهية.
وهو حوار مع الدهري الملحد الذي لا يؤمن بدين و لا معاد و لا رسالة لإستمالته لطمأنينة اليقين و نور النبوة و براهين التوحيد.
وهو حوار من داخل الدائرة الإبراهيمية مع أهل الكتاب الذين يشكل إمتدادا لهم و ختما لرسالتهم التي تمهد له و تؤكده و تدل عليه.
فمن الجلي أن القرآن الكريم عندما يتحدث عن اليهودية و المسيحية لا يتحدث عن ديانات غريبة، بل يعتبرها تعبيرات مختلفة عن نفس الدين الإلهي الذي هو الإسلام من حيث هو تسليم لله و توحيد له، و لذا أطلق صفة المسلم على النبي إبراهيم، عليه السلام، و إعتبر مختلف أنبياء التوحيد مسلمين.
فالفرق بين الإسلام و الديانتين الإبراهيميتين الأخريتين لا يتعلق بطبيعة العقيدة أو القيم أو الرؤية، بل في بعض الجزئيات التي إقتضتها تحولات الزمن و إعتبارات التاريخ. فالإسلام هو دين إكتمال المسار الإبراهيمي، و بذا كان لا بد أن يتسم بالمرونة و الإنفتاح و اليسر ليستوعب إختلاف السياقات المكانية و الزمانية. فهو، لهذا السبب، دين يقوم على إحترام الإختلاف و التعددية و قبول حرية الرأي و العقيدة.
فالتنوع مطلوب حسب نص القرآن الكريم، وهو من آيات الخلق السامية، كما في قوله تعالى " و من آياته خلق السماوات و الأرض و إختلاف ألسنتكم و ألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين " (سورة الروم).
فليس من هدف الإسلام حمل الناس على ملة واحدة أو عقيدة مشتركة، بل إن إختلافهم مطلوب مقصود " و لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم " ( سورة هود ).
و يبين القرآن الكريم الحكمة من الإختلاف بأنها " التعارف " و " التعاون على البر و التقوى " و " التسابق إلى الخير "، بما فصلته الآية الكريمة " و لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة و لكن ليبلوكم في ما أتاكم فأستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون " (سورة المائدة).
و لهذا السبب أعلن الإسلام حرية العقيدة و نبذ الإكراه في الدين و وضع ضوابط دقيقة لتعميق خط التفاعل و التعارف بين بني البشر الذين يتفقون في أصولهم و عمود نسبهم ( كلكم لآدم و آدم من تراب )، كما يتفقون في قدراتهم المعرفية و العقلية و الروحية، و لا يتمايزون إلا بسلوكهم الأخلاقي و ميزاتهم الروحية المكتسبة المتاحة لجميع الناس.
و عندما يتحدث القرآن الكريم عن العائلة الإبراهيمية يحرص على عبارات التعظيم و التمجيد، مبرزا فضل أنبياء بني إسرائيل مكثرا من قصصهم، منوها بشرائعهم، مستخرجا العبر من جهادهم و صبرهم.
فالنبى موسي ذكر في القرآن الكريم 136 مرة حتى قيل " كاد القرآن أن يكون موسويا "، و عيسى عليه السلام ذكر بإسمه 25 مرة و 11 مرة بإسم المسيح، في حين ورد إسم مريم العذراء 34 مرة في التنزيل المحكم. و في الحديث الشريف الذي رواه الشيخان البخاري و مسلم " الأنبياء أبناء علاّت، أمهاتهم شتى، و دينهم واحد ".
و قد إختطت النصوص الإسلامية إطارا دقيقا للتعامل مع أهل الكتاب أساسه البر و التودد لمن يسالم المسلمين و لا يعتدي عليهم : " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين و لم يخرجوكم من دياركم إن تبروهم و تقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين و أخرجوكم من دياركم و ظاهروا على إخراجكم أن تولوهم و من يتولهم فأولئك هم الظالمون ". ( سورة الممتحنة ).
فالتمييز هنا واضح و صريح بين المعتدي و المحارب و المهادن المسالم، و الأصل في علاقة المسلم بأخيه اليهودي و المسيحي هو التعاطف و التعاون، و يحذر القرآن الكريم من التعميم الخاطئ المتمثل في الحكم على أهل ديانة ما بسلوك بعض المنتمين إليها : " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل و هم يسجدون. يؤمنون بالله و اليوم الآخر و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و يسارعون في الخيرات و أولئك من الصالحين. و ما يفعلوا من خير فلن يكفروه و الله عليم بالمتقين " ( سورة آل عمران ).
و قد طبّق الرسول، صلى الله عليه و سلم، و خلفاؤه الراشدون هذه التعاليم الربانية أحسن تطبيق، و تمثلوها في علاقاتهم بالأقوام و الملل الذين تعاملوا معهم في مراحل تأسيس الدولة الإسلامية و خلال عهود توسعها.
و يشكل دستور المدينة الذي ينظم علاقة الأمة المسلمة الناشئة باليهود ضمن دولة مدنية قائمة على التنوع تجسيدا موضوعيا لهذه الرؤية القرآنية للتنوع الديني.
فمن بنود هذا الدستور الذي تتجاوز بنوده الخمسين :
" لليهود دينهم و للمسلمين دينهم... و من تبعنا من يهود فإن لهم النصر و الأسوة، غير مظلومين و لا متناصر عليهم... و أن بطانة يهود و مواليهم كأنفسهم.. و أن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين، و على اليهود نفقتهم، و على المسلمين نفقتهم، و أن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ... و أن بينهم النصح و النصيحة و البر المحض من أهل هذه الصحيفة دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه ".
فمن الواضح من هذه المعاهدة التي تكرس تحالفا متينا بين المسلمين و اليهود يقوم على المساواة المطلقة و حقوق المواطنة المتماثلة – إن إختلاف الدين لم يكن له أثر في طبيعة العلاقة بين المجموعتين المتعايشتين، و لم ينحل العقد إلا بغدر قبائل يهود المدينة التي إختارت الإنحياز للخط المناوي للمسلمين.
و لا يختلف عهد النبي، صلى الله عليه و سلم، لنصارى نجران في آخر عهد البعثة النبوية عن هذه الرؤية المنفتحة المتسامحة، فنص على الأخص على ما يلي :
" و لنجران و حاشيتها، و لأهل ملتها، و لجميع من ينتحل دعوة النصرانية في شرق الأرض و غربها، قريبها و بعيدها، فصيحها و أعجمها، جوار الله و ذمة محمد النبي رسول الله، و على أموالهم، و أنفسهم و ملتهم، و غائبهم و شاهدهم، و عشيرتهم، و بيعهم، و كل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير. لا يغير أسقف من أسقفيته، و لا راهب من رهبانيته .. و لا يطأ أرضهم جيش.. و أن أحمي جانبهم، و أذب عنهم و عن كنائسهم و بيعهم و بيوت صلواتهم.. و أن أحرس دينهم و ملتهم أين كانوا.. بما أحفظ به نفسي و خاصيتي و أهل الإسلام من ملتي ".
و من أهم هذه الوثائق المرجعية التي تحدد إطار علاقة المسلمين بالديانات الأخرى وصية الخليفة الراشد الأول أبوبكر الصديق ليزيد بن أبي سفيان أمير جنده الذاهب إلى الشام، وهي وثيقة هامة تؤصل قانون و أخلاقيات الحرب في الإسلام :
" إنك ستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم و ما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له.. و إني أوصيك بعشر : لا تقتل إمرأة و لا صبيا. و لا كبيرا هرما. و لا تقطعن شجرا مثمرا. و لا تخربن عامرا. و لا تعقرن شاة و لا بعيرا إلا المأكلة و لا تحرقن نخلا و لا تغرقنه، و لا تغلل و لا تجبن ". (1)
فما نستخلصه من هذه الوثائق المرجعية الأساسية هو أن أحكام التمييز و الفصل ليست هي المقياس الأصلي لعلاقة المسلمين بأهل الكتاب، بل إن الإسلام يعتمد معيار الدولة المدنية غير الدينية التي تقوم العلاقة بين مواطنيها على أساس المصلحة المشتركة و التعاون على دفع الظلم و تحقيق العدل.
فأحكام أهل الذمة التي نجدها في كتب الفقه القديم هي من مفهوم و تأويلات الفقهاء بحسب أوضاع ظرفية، و ليست من صلب الدين نفسه.
كما أن ما عرفته بلدان الإسلام في بعض الفترات الحالكة من إضطهاد للأقليات الدينية اليهودية و المسيحية، لم يكن سوى شذوذا عن القاعدة الأصلية، وهو على العموم يفسر بطغيان الحكام و إستبدادهم الذي طال مختلف السكان بما فيهم المسلمين.
فحوار الإسلام مع الديانتين اليهودية و المسيحية كما دشنه النبي، صلى الله عليه و سلم، و وضع أصوله ثم سار على هديه الكريم خلفاؤه الراشدون يرتكز على أربعة مبادئ أساسية هي :
- قبول الإختلاف و التنوع
- عدم الإكراه على الدين
- التعاون على البر و التقوى
- تحريم العدوان و تقييد الحرب أخلاقيا
و لا تزال هذه المبادئ تشكل خلفية ثمينة و صالحة لحوار مستقبلي ناجع و منفتح بين الديانات الثلاث.
2- آفاق الحوار الإسلامي مع الديانات التوحيدية
من المؤكد أن الحوار الإسلامي مع الديانات الأخرى اليوم يختلف كليا من حيث الأهداف و الآليات عن تجربة الحوار السابقة في العصور الوسطى، لإختلاف السياقات و تغير أنماط التدين و أشكال حضور الدين في المجتمعات المعاصرة بالمقارنة مع المجتمعات الإسلامية و المسيحية الوسيطة التي كانت تنتظم بحسب مقاييس الدين.
و مع ذلك فإنه يجب الحفاظ على لب الرؤية الإسلامية المنفتحة و المتسامحة من أجل جدال بالتي هي أحسن مع الحضارتين اليهودية و المسيحية.
و يمكن أن نقسم الرهانات المستقبلية لهذا الحوار إلى ثلاثة ملفات حيوية : ملف ديني، و ملف حضاري، و ملف إستراتيجي.
أما الملف الديني فيتعلق بضرورة التغلب على أنماط التشويه و سوء الفهم الموروثة عن حقبة الصراعات الدينية السابقة و الحروب الصليبية.
و لا يكون ذلك إلا بتشجيع الدراسات المقارنة بين الديانات الثلاث لتبيان الأوجه المشتركة الكبيرة بينها، و للتدليل على أن الفروق الطفيفة بينها لا تشكل عائقا للتعايش و التفاعل بينها.
ففي الساحة الغربية يجب مراجعة الدراسات الإستشراقية المتأثرة بمناخ الحروب الصليبية لتنقيتها من ما خالطها من دس و تشويه لصورة الإسلام و نبيه و قيمه و شعائره، مع الإستفادة من كبار المستشرقين المنصفين الذين أشادوا بروحانية الإسلام و سماحة قيمه و تسامحه.
و لا بد هنا من التنويه بالخطوات الإيجابية التي قطعتها الكنيسة الكاتولوكية منذ المجمع الفاتيكاني و صدور وثيقةNostra Actate عام 1965 التي تبنت الحوار مع المسلمين و الإنفتاح عليهم، من منطلق تعزيز المحبة و الوحدة بين أتباع الديانات التوحيدية.
فقد نص المجمع الفاتيكاني بوضوح على " أن الكنيسة تنظر بتقدير إلى المسلمين الذين يعبدون الله الأوحد، الحي القيوم، الرحيم القدير، خالق السماء و الأرض، الذي وجه كلامه إلى البشر، و إنهم يسعون في الخضوع بكل نفوسهم لأحكامه الحقة كما خضع إبراهيم لله، الذي ينتمي إليه الإيمان الإسلامي بطيبة خاطر. و أنهم يجلون يسوع كنبي، و إن لم يعترفوا به كإله، و يكرمون مريم أمه العذراء... وإذا كانت قد نشأت، على مر القرون، منازعات و عداوات كثيرة بين المسيحيين و المسلمين، فالمجمع المقدس يحض الجميع على أن يتناسوا الماضي، و يسعوا في تحقيق تفاهم صادق بينهم، و يعملوا معا على صيانة و دعم العدل في المجتمع و القيم الأخلاقية، و أيضا السلم و الحرية لجميع البشر ". (2)
إن هذه المقاربة الجديدة تفتح الباب واسعا للحوار البناء بين المسلمين الذين لم يكن لهم أصلا مشكل عقدي مع الديانة المسيحية، و إن كان لا بد من التنبيه إلى أن بعض التيارات الأصولية المسيحية المتطرفة لاتزال تتمسك بالصورة المشوهة السابقة، و من بينها الحركات الصهيونية المسيحية في أمريكا.
و قد إستمعنا لبعض رموز و أركان هذا التيار يسب الإسلام و ينعته بالديانة الزائفة الشريرة بعد تفجيرات نيويورك في سبتمبر 2001.
أما بخصوص اليهودية، فلا بد من التمييز الواضح بين الجانب المتعلق بالمعتقدات و القيم الدينية و الجانب المتعلق بالتوظيف السياسي و الأيديولوجي لهذه القيم و المعتقدات كما هو شأن الفكر الصهيوني الذي قامت عليه الدولة الإسرائيلية المغتصبة و العدوانية.
و لئن كان الإسلام يعترف برسالة موسى و يعظم أنبياء بني إسرائيل، و يقترب من حيث أحكامه و تعاليمه من الشريعة اليهودية (في مقابل المسيحية التي لا شرائع لها )، فإن النصوص التلمودية و شروح الهالاخاه المعتمدة لدى المؤسسة الدينية اليهودية لا تزال مشبعة بالكراهية و الحقد على الديانتين المسيحية و المسلمة و لا تزال رافضة الإعتراف برسالة الإسلام، و من ثم فإن أي حوار مطلوب بين الإسلام و اليهودية يتطلب أولا تصحيح هذا الخلل الخطير في التعامل مع الديانات الأخرى.
و في الساحة الإسلامية، لا بد من مراجعة بعض الأحكام الفقهية و التأويلات الدينية التي تنظر نظرة مناوئة لأتباع الديانات الأخرى، و منها أحكام أهل الذمة التي تجاوزها التاريخ و لم يعد لها معنى في دولة المواطنة المدنية الحديثة.
و كثيرا ما يفهم من آيات السيف الواردة في سورة براءة أن علاقة الإسلام بأهل الكتاب بعد إنتصار الإسلام أصبحت تقوم على الحرب لفرض الإستسلام و الجزية.
و لقد فند العلامة رشيد رضا في تفسيره " المنار " هذه الصورة مبينا أن المقصود من الآيات المذكورة و خصوصا الآية 29 " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " هو " أنها تعني قاتلوا الفريق من أهل الكتاب، عند وجود ما يقتضي وجوب القتال كالإعتداء عليكم أو على بلادكم أو إضطهادكم و فتنتكم عن دينكم أو تهديد أمنكم و سلامتكم ". ففي القرآن مائة آية موزعة على 48 سورة تأمر بالتعامل الحسن مع أهل الكتاب، في مقابل تلك الآيات التي نزلت في سياق محدود معروف.
أما الملف الحضاري فيتعلق بعلاقة حوار الديانات بحوار الحضارات الذي هو من الشعارات الأساسية المطروحة اليوم.
فمع أن الحضارة الغربية ليست كما هو معروف حضارة يهودية – مسيحية، إلا أنه لا يمكن إنكار أهمية هذا العامل الديني في تشكلها التاريخي – فهي الحضارة التي ورثت الإمبراطوريات المسيحية الوسيطة، و إستوعبت التراث الديني اليهودي و المسيحي في مفاهيمها و قيمها الحضارية و السلوكية.
فالمشكل المطروح اليوم هو هل يشترك المسلمون مع اليهود و المسيحيين في القيم و المفاهيم المؤسسة للحضارة الحديثة ؟ لقد طرح هذا السؤال بحدة و قوة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. و من أبرز تجلياته الرسالة التي بعثها ستون مثقفا أمريكيا من المحافظين المتدينين إلى مثقفي العالم الإسلامي يطالبنوهم فيها بالإندماج في الثقافة العالمية الحديثة بالإنطلاق من خمسة مبادئ، لا يرون أن الإسلام يقرها وهي :
1- إن البشر يولدون متساوين في الكرامة كما في الحقوق.
2- الشخصية الإنسانية هي العنصر الأساسي في المجتمع، و تكمن شرعية دور الحكم في حماية هذه الشخصية، و المساعدة في تأمين فرص التفتح الإنساني لها.
3- يرغب البشر بطبيعتهم في البحث عن غاية الحياة و مقاصدها.
4- حرية الضمير و الحرية الدينية من الحقوق التي لا يمكن إنتهاكها في الشخصية الإنسانية.
5- القتل بإسم الله مخالف للإيمان بالله وهو يشكل خيانة عظمى لكونية الإيمان الديني. (3)
و بطبيعة الأمر، ليس للمسلمين إعتراض على هذه المبادئ الخمسة التي أصّلها الإسلام و شدد عليها منذ أربعة عشر قرنا بتكريسه تكريم الإنسان، و تحريم قتل النفس بغير حق، و رفضه الإكراه في الدين، و مطالبته بالعدل بين الناس.. و مع ذلك، فلا بد للمسلمين من بذل جهد علمي و فكري واسع لتفسير و شرح منطلقاتهم الحضارية، و تنقية دينهم من شوائب التطرف و التشدد التي ليست منه و إنما هي من دس و تشويه المجموعات الإرهابية و حركات الغلو و التنطع.
و لا بد في هذا السياق من التنبيه إلى الأصول الشرقية للديانات السماوية التي نزلت في نفس الأرضية الحضارية و التي أنزل فيها الإسلام، فلا عبرة إذن بالتمييز بين قيم حضارية شرقية و غربية متناوئة، بل يتعين البحث عن جذورهما المشتركة و أنماط التأثر و التأثير الواسعة بينهما ضمن التراث الإنساني الشامل.
فرسالة النبي إبراهيم عليه السلام، ظهرت في بلاد الرافدين و إنتقلت عبر ذريته بين مصر و الجزيرة العربية و فلسطين. و كانت لغة السيد المسيح هي الآرامية القريبة من العربية..
و كما إستوعبت الحضارة العربية – الإسلامية التراث اليوناني – الروماني و نقلته إلى الغرب الحديث بعد تطويره فكانت صلة الوصل الضرورية بين هذا التراث و النهضة الأوروبية، فإن الحضارة الإسلامية لا تجد اليوم غضاضة في هضم قيم و معارف الحضارة الغربية الحديثة التي هي في الحقيقة أول حضارة كونية بالمعنى الصحيح للعبارة لأنها حصيلة إمتزاج مختلف الثقافات و الديانات و في مقدمتها حضارتنا و ديننا.
أما الملف الإستراتيجي، فيتعلق بالتصور الشائع في بعض الأوساط الغربية بكون الإسلام هو العدو الإستراتيجي الجديد الذي خلف الخطر الشيوعي، بالإستناد لما نلمسه اليوم من تنامي أنشطة الإرهاب و العنف التي تستهدف البلدان الغربية و على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
و يبين المفكر و الكاتب البريطاني فريد هاليداي، ضحالة هذه النظرية التي يسميها بنظرية الفراغ، معتبرا أن ليس من مقارنة بين الخطر الشيوعي و الإسلام الذي يجب أن لا يخلط بينه و بين حركات التطرف و الإرهاب، منتهيا إلى " أن أساس مقاربتنا لقضية العالم الإسلامي و العلاقات الدولية.. يجب ألا يكون الدين أو النص أو العقيدة، بل النظر إلى الممارسات الفعلية للشعوب و الدول و تفحص كيفية إستعمالها للدين، و ليس العكس ".
فالمشكلات الإستراتيجية المعقدة التي يطرحها الإرهاب اليوم لا علاقة لها بالدين الإسلامي، بل هي مشاكل تفسر بأزمة إنتقال النظام الدولي من توازنات الحرب الباردة إلى نمط الأحادية القطبية الذي لم يعزز بعد توازناته.
و الإرهاب الذي لا دين له و لا حضارة بل هو ظاهرة عرفتها و تعرفها حاليا كل السياقات و المجالات الحضارية، إستهدف العالم الإسلامي أكثر من غيره، و لا بد من تحديد دقيق لمفهومه و طرق التعامل الفعال معه، للتمييز بينه و حق المقاومة المشروعة ضد الإحتلال ضمن ضوابط القانون الدولي.
و يمكن للحوار الديني أن يلعب دورا فاعلا في تجنيب العالم مخاطر العنف و الإرهاب، من خلال غرس قيم التسامح و السلم، إلا أن هذا الهدف مشروط بعوامل أربعة أساسية يتوجب التنبيه إليها وهي :
- الدفاع عن الشرعية الدولية و فكرة الشراكة بين الأنظمة الإقليمية التي يتكون منها النظام الدولي بما فيها النظام الإقليمي العربي – الإسلامي الواسع و النظام الإقليمي الغربي برافديه الأساسيين الأوروبي و الأمريكي.
- السعي المشترك لحل القضايا الشائكة العالقة التي تسمم العلاقات بين العالم الإسلامي و الغرب، و في مقدمتها القضية الفلسطينية التي هي العقدة المستعصية في العلاقة بين المسلمين و اليهود.
- عزل و محاربة حركات الإرهاب و العنف التي ترفع كذبا اللافتة الدينية سواء كانت يهودية كما في صهيونية شارون المتعصبة و التي تدعمها الأحزاب الأصولية الأرتدوكسية- ، أو مسيحية أو مسلمة.
- بناء تحالف قوي بين أتباع الديانات الثلاث للتنسيق ضد المخاطر الكبرى التي يواجهها العالم، و أهمها إنتشار أسلحة الدمار الشامل و الأسلحة غير التقليدية التي تستأثر بها الدول الصناعية المتقدمة، و إنتشار الجريمة و العنف، و تلوث البيئة، و تفكك الأسرة، و إنفلات التقنيات الجديدة من التوجيه الأخلاقي و التسديد الروحي.
------------------------------------
(1) راجع هذه الوثائق في : مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي و الخلافة الراشدة – جمعها و حققها حميد الله الحيدرابادي – طبعة القاهرة 1956
(2) حول الحوار الإسلامي – المسيحي راجع :
ندوة العيش المشترك في الإسلام و المسيحية – اللجنة الوطنية اللبنانية للتربية و الثقافة و العلوم – بيروت 2002 – راجع على الخصوص بحث د. محمد السماك : في ثقافة الحوار الإسلامي – المسيحي ( ص 260 – 266 )
(3) راجع رسالة المثقفين الأمريكيين في :
مجلة الإجتهاد العدد 54 – ربيع 2002 ص 201 - 213
http://www.mansourdialogue.org/Arabic/lecs%20(42).htm