العمل الدعوي الخيري.. رؤية في آفاق التطوير

العمل الدعوي الخيري.. رؤية في آفاق التطوير

أحمد بن عبد الرحمن الصويان
رئيس تحرير مجلة البيان
رئيس رابطة الصحافة الإسلامية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين.. وبعد:
فلقد مضى على الحملة الغربية الأخيرة على العمل الخيري عدة أعوام، وحققت هذه الحملة نجاحات عديدة في تحجيم العمل الخيري الإسلامي، وتقييد أنشطته وبرامجه، وقد ظهرت آثار ذلك بجلاء في أزمات إنسانية حدثت مؤخراً، مثل: أزمة دارفور، ومجاعة النيجر، وزلزال تسونامي في أندونيسيا، حيث غُيِّب العمل الخيري الإسلامي بشكل لافت، بينما أصبحت هذه الأزمات مرعى خصيباً للمنظمات التنصيرية والتغريبية.
ولا زالت بعض الدول الغربية تتعامل مع العمل الخيري والإغاثي الإسلامي بانتقائية قانونية، وتعده مصدراً من مصادر الإرهاب، رغم أنها لم تُثبت ذلك قانونياً، بل على العكس عندما أحيلت بعض القضايا إلى المحاكم الأمريكية ظهرت براءة العمل الخيري الإسلامي، كما حدث مع مؤسسة الحرمين مثلاً( ).
وفي الاتجاه نفسه لا زالت عدة دول تتعامل مع العمل الخيري الإسلامي بمنطق التوجس والقلق من جهة، ومنطق التهميش والإقصاء من جهة أخرى.
وقد استثمر هذا المناخ المتوتر عدد من الكتاب والصحفيين بانتهازية واضحة في تشويه صورة العمل الخيري ومؤسساته ورموزه، والتهويل من أخطائه، واختزال إنجازاته، بل واستعداء الأنظمة عليه وتخويفها منه ودفعها إلى مصادرته وإلغائه!
أما العاملون في القطاع الخيري الإسلامي فقد تباينت ردود أفعالهم إزاء هذه الحملة قوة وضعفاً، إقداماً وإحجاماً. ومن المفيد تقويم هذه المرحلة للإستفادة من إيجابياتها وسليباتها، من أجل تشكيل قاعدة انطلاق لبناء الصورة المستقبلية للعمل الخيري وتطويرها. وستركز هذه الدراسة على بناء بعض الرؤى المتعلقة بتطوير العمل الدعوي الخيري الموجه إلى دول العالم الإسلامي والأقليات المسلمة.

* ردود أفعال المؤسسات الخيرية:
تعددت الإيجابيات بفضل الله تعالى، وأثبتت المؤسسات أنها على مستوى المسؤولية. وليس الهدف في هذا المقام هو الاستقصاء أو الاستطراد، وإنما المناسبة تستدعي تقديم بعض الإيجابيات الكلية، ثم إتباعها ببعض السلبيات:
أولاً: من الإيجابيات:
1 ـ أثبتت الحملة الغربية الجائرة أن العديد من مؤسسات العمل الخيري والإغاثي متماسكة من الناحية الإدارية، ومنضبطة قانونياً ومالياً، ولم تنجح حملات التشويه الإعلامية المحلية والدولية أن تثبت عكس ذلك.
2 ـ أظهرت الأعوام الماضية قدرة كثير من المؤسسات الخيرية في إدارة الأزمات، وصناعة التغيير، والمرونة في إعادة الهيكلة الإدارية والتخطيط المرحلي.
3 ـ تأسس في هذه المرحلة عدد من المنظمات والهيئات المتخصصة في الدفاع عن العمل الخيري في المحافل الدولية، وإبراز الصـورة الإيجابية للمؤسـسات الفـاعلـة في هذا الميـدان. ومن أبرز هذه المنظمات: (جمعية أصدقاء المؤسسات الخيرية ـ FOCA) في واشـنطن، (والمكتـب الدولي للجمعـيات الإنسـانية والخـيرية ـ IBH) في جنـيف، وقد قدمت هذه المنظمات إنجازات متميزة عملياً وإعلامياً.
4 ـ شهدت هذه المرحلة تلاحماً محموداً بين المؤسسات الخيرية، وكان من ثمرات ذلك: تنسيق المواقف وتبادل الخبرات، والتعاون والتكامل في مشاريع عملية كثيرة، وعُقِد في هذا السياق عدد من المؤتمرات والندوات وحلقات النقاش وورش العمل، ومن بين هذه المؤتمرات:
أ ـ مؤتمر باريـس للجـمعيات الإنسـانية والخـيرية المنعـقد بتـاريخ: 6 ـ 7/11/1423هـ الموافق: 9 ـ 10/1/ 2003م.
ب ـ مؤتمر الآفاق المستقبلية للعمل الخيري، المنعقد في الكويت بتاريخ: 10 ـ 12/11/1425هـ الموافق: 23 ـ 25/11/2004م.
جـ ـ مؤتمر العمل الخيري الخليجي الثاني، المنعقد في الدوحة بتاريخ: 22 ـ 23/1/1427هـ الموافق: 21 ـ 22/2/2006م.
د ـ مؤتمر الحـرب على الإرهاب وأوضـاع المنظمات غير الحكومية، المنعقد في إسطنبول بتاريخ: 25 ـ 26/8/1428هـ الموافق: 7 ـ 8/9/2007م.
5 ـ تأسس في هذه المرحلة عدد من المؤسسات الخيرية الرائدة، من أهمها:
أ ـ المركز الدولي للأبحاث والدراسات (مداد)، في جدة: تأسس عام 1427هـ، ويسعى هذا المركز لإعداد دراسات استراتيجية لدعم وتقوية بنية العمل الخيري.
ب ـ مكتب بصائر للاستشارات التربوية، في الرياض: تأسس عام 1427هـ, وهو متخصص في بناء مناهج للتعليم الإسلامي تناسب البيئة الأفريقية.
كما أُسست أيضاً في هذه المرحلة عدد من مراكز التدريب خصوصاً المهتمة بالتدريب في المؤسسات الخيرية والتطوعية، من أهمها:
أ ـ مؤسسة بناء الأجيال، في جدة.
ب ـ مؤسسة عطاء، في الرياض.
جـ - مؤسسة إعداد، في الرياض.
وهذا النمو النوعي المتميز في العمل الدعوي الخيري يدل على حيويته وتجدده.
6 ـ نشطت في ظل الأزمة بعض المبادرات الفردية الجيدة ، ممَّا أدى إلى نوع توسع في بعض المناطق أو المجالات، بشكل غطى بعض الثغرات الناشئة عن انحسار أعمال المؤسسات فيها.
7 ـ نجحت المؤسسات الخيرية في تأكيد أهمية العمل الخيري والإغاثي وجَعْلِه جزءاً من التكوين الثقافي للمجتمع. وقد أكدت تلك الحملات الجائرة أن العمل الخيري متجذر في صفوف المسلمين بمختلف طبقاتهم واهتماماتهم؛ فالعمل الخيري ليس مجرد عمل إنساني فحسب، بل هو قبل ذلك قربة يتقرب بها المسلمون لنيل مرضاة الله ـ عز وجل ـ ، ومن ثم فإن محاولات مصادرته أو التضييق عليه ستبوء بالفشل على المدى البعيد، حتى ولو حققت نجاحات وقتية محدودة، {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد: 17].
ثانياً: من السلبيات:
1 ـ تقبُّل بعـض مؤسـسات العـمل الدعوي الخيري أو بعض العاملين فيها للواقع، وعجزهم عن الاستمرار، وتفريطهم في الإنجازات السابقة.
2 ـ الدفاع عن العمل الخيري تحول أحياناً إلى مناحة أو بكائية سلبية، ربما ولَّدت الإحباط عند بعض الناس.
3 ـ أثار بعض الناس خصومة مفتعلة بين العمل الخيري في البلاد العربية والعمل الخيري في مناطق المسلمين المختلفة، ممَّا أدى إلى انحسار العمل الخارجي وتضاؤل المشاريع الدعوية، والانكفاء على الداخل، مع أن العملين ينبغي أن يكونا متكاملين وليسا متعارضين.
4 ـ مع تصاعد الحملة الإعلامية على العمل الدعوي الخيري ظهرت أصوات تدعو إلى التركيز على العمل الإنساني الصِّرف، وإلغاء البرامج الدعوية والتعليمية، وقد أدى هذا الفصل الحاد بين الإغاثة والدعوة إلى ضعف الرسالة الدعوية في عدد من الأنشطة والبرامج، أو غيابها.
5 ـ أدى تحجيم مؤسسات العمل الدعوي الخيري إلى تشتت جهد المتطوعين، وقصور في توظيف طاقاتهم في مشاريع بديلة، ونشوء أعمال وأنشطة فردية مرتجلة وغير مدروسة.
6 ـ إحجام بعض المتبرعين والمحسنين عن دعم العمل الخيري، مما أدى إلى ضعف الموارد، وتعثر بعض البرامج.

آفاق تطوير العمل الخيري
نعيش اليوم في عصر شديد التغير، كثير التقلب، تقاربت فيه الشعوب، وتداخلت فيه الثقافات، وأصبحت الصراعات السياسية والاقتصادية، والتحولات الفكرية والثقافية والاجتماعية، تؤثر على الأفراد والجماعات والمؤسسات والدول.
ولقد نشأت المؤسسات الخيرية في بيئات تعاني من مشكلات متعددة، وورثت تركةً مليئةً بالأمراض المزمنة والأدواء المهلكة، ولهذا فهي تواجه تحديات متعددة المجالات، مما يتطلب أفقاً واسعاً قادراً على مكافحة أعراض العجز، وقادراً على التكيف مع المتغيرات المذهلة في هذا العصر.
وإن من الأولويات التي تواجه مؤسسات العمل الدعوي الخيري في هذه المرحلة: كيفية النهوض بها وتحديثها، وتطوير آلياتها الإدارية؛ لتستوعب هذه التحديات.
وإعادة بناء المؤسسات الدعوية الخيرية يتطلب قيادات حية وناضجة، تملك رؤى استشرافية عميقة، كما تملك القدرة على المبادرة وتفعيل الطاقات( ). إنَّ المؤسسة الرتيبة الراكدة؛ التي لا تتطور ولا تُحدِّث آلياتها وطرائق عملها ؛ مؤسسة هزيلة تعيش خارج إطار الزمن الذي نعيشه! وهي مؤسسة كتبت على نفسها التآكل التدريجي، حتى تسقط وتنتهي..!
وإذا كانت المرحلة السابقة شهدت انحساراً نسبياً للعمل الخيري، فإن الضغوط والتحديات المتتابعة، تؤكد ضرورة إعادة البناء من الداخل وإحكام أركانه، وفتحت آفاقاً رحبة وفرصاً جديدة يمكن أن ينطلق فيها العمل الخيري بعون الله.
ومن أهم آفاق التطوير المقترحة التي تتطلبها المرحلة القادمة:
أولاً: الانضباط الشرعي.
ثانياً: العناية بالعمل المؤسسي.
ثالثاً: إعداد الدراسات والبحوث الميدانية.
رابعاً: التخطيط.
خامساً: التخصص في العمل المؤسسي.
سادساً: توطين العمل الخيري.
سابعاً: التدريب ورفع مستوى الكفايات الإدارية والدعوية.
ثامناً: الالتزام القانوني للمؤسسات الخيرية.
تاسعاً: الانضباط المالي في المؤسسات.
وأرجو أن أوفق في عرض الموضوع ومعالجته بصورة علمية قدر الإمكان.
أولاً: الانضباط الشرعي:
وأقصد بالانضباط الشرعي: الالتزام بالأصول والقواعد الشرعية في الدعوة إلى الله، وبناء المؤسسات الخيرية بإحكام علمي، والوقوف عند حدود ما أنزله الله ـ تعالى ـ على نبيه × في كل شأن دقيق أو جليل.
وإن من فضل الله ـ تعالى ـ على أي مؤسسة خيرية أن يفقِّه الله ـ سبحانه وتعالى ـ القائمين عليها في دينه، فقد قال النبي ×: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين»( ). ومن مقتضيات ذلك: أن تحرص المؤسسة على صواب العـمل وتحقـقه لمراد الله. وكما أن الغـاية لا بد أن تكون شرعية فكذلك الوسيلة لتحقيق تلك الغاية لا بد أن تكون شرعية، والقصد مهما كان حسناً فإنه لا يكفي في صحة العمل.قال الله ـ تعالى ـ: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِـحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
ويتحقق الانضباط الشرعي في أمور كثيرة؛ ومنها:
1 - مراقبة الله ـ تعالى ـ في جمع الأموال من المحسنين، والورع في رعايتها، وحفظها، واستثمارها، وإنفاقها في وجوهها وأوقاتها الشرعية.
2 - الانضباط الشرعي في جميع البرامج والأنشطة والمشاريع.
3 - الالتزام بالأحكام الشرعية في التعاقد مع العاملين، وفي العقود والاتفاقات مع المنظمات الرسمية والأهلية.
4 - تولية أهل الفقه والديانة والقدرة بما يتناسب مع نوع العمل وحجمه؛ تحقيقاً لقول الله ـ تعالى ـ: {إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26].
وبالجملة؛ فإن الانضباط الشرعي هو ما يجعل أعمال المؤسسة كلها مبنية على شرع الله القـويم؛ كما أنه طريق إلى في تحقيق رضا الله تعالى، ونيل سعادة الدارين، وهو في الوقت نفسه حماية للمؤسسة من الوقوع في البدع والمخالفات المذمومة، ويجيرها من الوقوع في منزلقات التفرق والتنازع. ويجب على قيادات العمل الخيري ومديريه أن يتقوا الله ويراقبوه، ويستشعروا هذه الأمانة التي في أعناقهم. وإن ممَّا يحزن له المرء تفريطَ بعض المؤسسات في هذا الأمر، وتساهلَها فيه، بل ضيقَها أحياناً ببعض الناصحين الذين يذكِّرونها بحق الله تعالى، ويخشى أن يؤدي ذلك إلى حرمان عون الله وتأييده. نسأل الله العفو والسلامة!
وعلى من يتطلع إلى عون الله ورضاه ألا يتساهل في الامتثال لأمره وحكمه، أو يتكلف في التماس الرخص والمعاذير..!
ومن المقترحات العملية في هذا السبيل:
1 - الاستعانة بأهل الفقه والفطنة في مجالس إدارة المؤسسات الخيرية.
2 - التواصل مع العلماء، واستشارتهم، واستفتاؤهم في مختلف المسائل والنوازل.
3 ـ إعداد دورات شرعية لتثقيف الإداريين والعاملين في القطاع الخيري بالمسائل الشرعية التي يحتاجونها في مجال عملهم.
4 - العناية بالدعاة وطلبة العلم المحليين في مناطق العمل، فهم منطلق التصحيح والتغيير؛ ولذا فعلى المؤسسات الدعوية إن هي أرادت استنقاذ الناس من الضلالة، وحرصت على استقامة برامجها ومشاريعها ـ أن تُعنى بتأهيل القيادات العلمية، وخدمة الموجود منها ورعايته ؛ ليكونوا بعون الله ـ تعالى ـ اليدَ الكريمةَ التي تنير السبيل؛ وتقود إلى التزام الصراط المستقيم.
5 ـ تكوين آلية إدارية عملية للتقويم والتناصح داخل المؤسسة.
ثانياً: العناية بالعمل المؤسسي:
المقصود بالعمل المؤسسي في هذا البحث هو: العمل الجماعي الذي يلتزم بمبدأ الشورى والتناصح، ويقوم بتوزيع الأعمال والبرامج والصلاحيات على مجالس عمل، ولجان متخصصة، وفرق عمل متكاملة، تضم أعضاء مؤهلين.
ويخرج من هذا التعريف: العمل الفردي الذي قد يتسم بالارتجال ، أو ضعف التخطيط، كما يخرج منه العمل الجماعي الظاهري الذي هو في حقيقته عمل فردي، لكنه يتزيا بزيِّ العمل المؤسسي.
وتتجلى أهمية العمل المؤسسي في أمور عدة ؛ منها:
1 - تآلف القلوب وتآزر العقول لمزيد من الإنجاز والتصحيح والإبداع ؛ حيث يُسدِّد بعض العاملين بعضاً، وتتلاقح أفكارهم وتتكامل خبراتهم. ولهذا أُمِرَ سيِّدُ ولدِ آدم × ـ وهو أكمل الخلق عقلاً، وأخشاهم لله تعالى ـ بمشاورة أصحابه، فقال ـ تعالى ـ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159]، وقال ـ تعالى ـ: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].
2 - الاستقرار الإداري في جميع الأعمال والأنشطة؛ فإذا غاب فرد سدَّ مكانه آخرون، وإذا مرض أو عجـز قام مقـامه غيره، فلا يتوقف العمل بغياب أحد أو عجزه ؛ وبذلك يستمر العطاء ولا يتوقف، بإذن الله تعالى.
3 - رعاية حقوق المؤسسة والحفاظ عليها، وأداء الأمانة كما أمر الله تعالى؛ فالفرد ـ مهما كان مخلصاً ـ ربما يخطئ أو يقصِّر، ولا يجد من يقوِّمه ويرشده إلى الصواب ويأخذ بيده إلى الحق.
4 - استيعاب طاقات الأمة، وتوظيفها توظيفاً متكاملاً متآلفاً؛ فالعمل المؤسسي يضمن مناخاً أفضل للعمل والإبداع وتكامل الجهود.
5 - العمل المؤسسي الجماعي أقرب إلى الموضوعية والتجرد في اتخاذ القرارات ورسم السياسات؛ فالحوار وتبادل الآراء هو الذي يقود إلى اتخاذ القرارات وإنضاجها.
ولئن قصرت بعض المؤسسات الخيرية في تحقيق العمل المؤسسي في مرحلة سابقة؛ فإن المرحلة القادمة تتطلب جهداً حقيقياً وعملاً جاداً في إعادة البناء وإحكامه.
* مـن آفات العمل الفردي:
انفرد بالأمر: استبد ولم يشرك معه أحداً، والفردية هي: نزوع الفرد إلى التحرر من سلطان الجماعة( ).
إنَّ ثمة حقيقة مهمة يجب الإشارة إليها، وهي أن الفردية في إدارة كثير من أعمالنا الدعوية والخيرية هي السائدة مع الأسف الشديد، بل قد تتم ممارسة الفردية ـ أحياناً ـ في ظل الإدارة المؤسسية؛ حيث تختزل المؤسسة كلها بمجالسها ولجانها وفروعها في رأي رجل واحد؛ هو الذي يخطط، وهو الذي يتخذ القرارات، وهو الذي يرسم السياسات العامة، ويمسك بالمؤسسة من جميع أبوابها، ويدير مفاتيحها برؤيته الفردية التي تلغي عقول الآخرين، وتزدري ملكاتهم؛ حتى يصبح بقية الأفراد مجرّد أدوات صمَّاء للتنفيذ..!
بل تتضخم الفردية أحياناً في بعض الجمعيات حتى تتحول إلى مكتسبات شخصية!، ويزداد التضخم أحياناً في بعض البيئات إلى أن تتحول هذه الجمعيات إلى ممتلكات فردية تُورَّث للأبناء، وقد يكون من الأبناء من لا يستحق هذه الأمانة فيَضِيع ويُضيِّع، نسأل الله السلامة!
ولعلي ألخص هنا بعض آفات الفردية في إدارة العمل الدعوي والخيري:
1 - أنَّ العمل الفردي يتعرض عادةً للضعف والعجز بضعف الفرد وعجزه.
2 - يغلب على العمل الفردي التشتت، والتخبط، والتقلب؛ فتارة تراه يقتنع بشيء، وتارة أخرى تراه ينقلب إلى شيء آخر بدون وعي أو فقه.
3 - غالباً ما ترى المدير المستفرد يضيق بالنصيحة والتوجيه.
4 - غالباً ما ترى المدير المستفرد يضيق صدره بالرجال الأقوياء، من أصحاب الرأي وذوي الشخصية القوية؛ لأن المدير المستفرد لا يتسع صدره لرأي آخر، ولا يرضى بمخالفة أحد له، فمن تحته من الموظفين ليسوا شركاء معه في الأمانة، بل هم أدوات لتنفيذ آرائه وسياساته..!
5 - الأعمال والجمعيات التي تدار بطريقة فردية سرعان ما تتعرض أعمالها للرتابة، وتفقد روح التجديد والابتكار؛ لأن الفرد ـ مهما أوتي من ملكة إدارية أو علمية ـ لا بد أن يستنفد ما عنده من قدرات، ويقف ما عنده من طموح.
6 - تضخم مركزية الفرد تؤدي إلى غياب العمل بروح الفريق الواحد، وترى كل شخص يعمل في سرب مختلف؛ ممَّا يؤدي إلى تمزق المؤسسة وتآكلها.
7 - الرؤية الأحادية لا تتمتع ـ غالباً ـ بالدقة والموضوعية، بل تدور باتجاه واحد؛ مما يفقدها قوتها وسلامتها.
ولا شك أن بعض الأفراد يملك من القوة والنشاط والهمة العالية وسداد الرأي ما لا يملكه جمع من الناس، ولكن هذا الفرد سوف يزداد قوة وهمة وسداداً ـ بإذن الله تعالى ـ حين يجتمع معه أصحابه من ذوي القوة والرأي؛ ولهذا كان عمـر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وهو الراشد الملهم إذا عرضت له الحاجة، أو نزلت به النازلة جمع لها أهل بدر، رضي الله عنهم( ).

ثالثاً: إعداد الدراسات والبحوث الميدانية:
من المهم جداً أن تبدأ المؤسسات الإسلامية العملَ الخيري في المنطقة بعد فهم صحيح وإدراك واعٍ للبيئة. وأحسب أن التصور الدقيق للواقع الفكري والاجتماعي والدعوي من أنجع السبل لسلامة التخطيط ووضوح الرؤية.
* الأخطاء الشائعة في إعداد الدراسات والأبحاث الميدانية:
بعض المؤسسات والجمعيات لا تعتني بالدراسات والأبحاث الميدانية، وقد تعدها من الوقت المهدَر!، وغالباً ما تقع هذه المؤسسات والجمعيات في أحد الأمور الآتية:
1 - إعداد الدراسات والأبحاث بطريقة غير علمية؛ كأن يُكلَّف أحد الدعاة بأخذ جولة سريعة عابرة في بعض المدن والقرى، ويلتقي بعض الجمعيات والدعاة، ثم يدون ملحوظاته على شكل دراسة. ولا شك بأن هذه الجولات لا تعطي معلومات وافية وشاملة، بل تعطي انطباعات سريعة وغير دقيقة، أو غير ناضجة، وقد تتأثر بقناعات المرافقين في تلك الجولات.
ويتأكد تجنب هذه الطريقة بـِوجود طرق علمية مبنية على أدوات إحصائية، تبنى بحسب حاجة العمل ونوعية المعلومة التي يتطلبها، ثم يقوم على تحليلها مختصون عبر برامج إحصائية حاسوبية.
2 - أن بعضهم يبدأ العمل بطريقة تقليدية، وينظر بمنظار البيئة التي جاء منها؛ دون اعتبار أو نظر في الظروف الفكرية والاجتماعية والنفسية للبيئة الجديدة.
ولك أن تتصور مقدار التخبط الذي يحدث في الأعمال والأنشطة التي تنفذ بهذه العقلية..! ولا شك بأن الأعمال التي قد تنجح في بيئة ما لظروف معينة ليس بالضرورة أن تنجح في بيئة أخرى مختلفة في ظروفها. ومن الفقه أن نميز بين البيئات، وأن نعمل على استخدام الوسائل والطرائق المناسبة لها.
3 - أن بعضهم قد يستنسخ أعمال المؤسسات الأخرى بطريقة رتيبة، وغير مدركة لأهداف الأنشطة ومراميها وأبعادها الدعوية..!
إن الاستفادة من تجارب الآخرين مهمة، ولكن لا بد أن تكون استفادة واعية ناضجة؛ تدرس التجربة بمختلف أبعادها وملابساتها؛ حتى تُطبَّق ببصيرةٍ تراعي خصائص البيئة، وتحقق النجاح المطلوب.
إن العناية بإنشاء وحدات بحثية ملحقة بالمؤسسات الخيرية، أو مراكز مستقلة مخصصة للأبحاث والدراسات، من الأولويات المهمة لدى العمل الخيري، والتي من شأنها أن تساعده على تحقيق إنجازاته وطموحاته.
واللافت للنظر أن تجد من يتخذون قرارات مصيرية في برامج وأنشطة ينفقون فيها جهوداً كبيرة، وأموالاً طائلة؛ دون تصور للواقع الذي يعملون فيه، أو دون فحص للمعلومات والأخبار التي يحصلون عليها! ومن المهم أن نملك العاطفة الحية التي تدفعنا إلى العمل المعطاء، ولكن الأهم أن نضيف إلى ذلك عقلاً يستبصر الأمور ويدرك مآلاتها.
رابعاً: التخطيط:
التخطيط: هو وضع برنامج مستقبلي لتحقيق أهداف معينة، عن طريق حصر الإمكانات وتوظيفها؛ لوضع هذه الأهداف موضع التنفيذ خلال مدة محددة( ).
والتخطيط عملية إدارية أساسية للبناء المؤسسي، وهو آية وضوح الرؤية واستقامة الطريق؛ فبه تعرف المؤسسة: موقعها، وإلى أين هي ذاهبة؟ ومن أي الطرق؟ ومتى سوف تصل لأهدافها؟! وبه تُنسق جهود العاملين في المؤسسة ويؤلف بينها لتحقيق أهداف واضحة محددة متفق عليها.
والالتزام بالتخطيط يعني: البعد عن العشوائية والارتجال في العمل المؤسسي ما أمكن. وغيابه يؤدي إلى التخبط والاضطراب في العمل، والسير في طريق غير واضح المعالم.
والتخطيط الفعال هو التخطيط الذي يكون ثمرة جهد مشترك يقوم به أهل التجربة مع أهل الاختصاص، وتشترك فيه جميع المستويات الإدارية في المؤسسة؛ ابتداءً من الإدارة العليا، وانتهاء بالإدارات الميدانية التنفيذية المختلفة. ولقد أثبتت الدراسات الإدارية أن التخطيط الفعال يوفر ثلاث ساعات أو أربعاً يومياً عند التنفيذ.
وقد أثبتت التجربة الميدانية أن البعض يهوِّن من شأن التخطيط العلمي للبرامج الدعوية والتعليمية ونحوها، إما بلسان الحال أو بلسان المقال، بل قد يعدُّون ذلك لوناً من ألوان الترف المعرفي الذي لا ينفع الأمة! لذا يميل هذا النوع من المؤسسات إلى الفردية من جانب، وإلى العشوائية من جانب آخر، ويتسم بضعف الرؤية من جانب ثالث؛ مما قد يؤدي إلى ضعف الثمرة وقلة بركتها.
إنَّ ثمة ظاهرةً لافتةً للنظر، جديرةً بالعناية والاهتمام، وهي أن بعض المؤسسات الخيرية تعاني من أُمِّية إدارية، انعكست آثارها على المشاريع والأنشطة. ولهذا فإن من التحديات التي تواجه المؤسسات الخيرية: قدرتها على إعادة بناء نسيجها الإداري بناءً علمياً؛ ليكون أكثر قوة وتماسكاً، وأقدرَ على توظيف الطاقات واستيعاب المتغيرات المتلاحقة.
* ومن أهم جوانب التخطيط:
1 ـ تحديد أهداف المؤسسة الرئيسة بدقة، وتحديد الأهداف التفصيلية لكل قطاع من قطاعات المؤسسة. وإنَّ ضعف وضوح الأهداف عند بعض العاملين يؤدي ـ غالباً ـ إلى الخلط والتخبط، وتصبح المؤسسة عاجزة عن تحديد هويتها وطبيعتها؛ وقد يؤدي ذلك إلى التردد، والانتقال من مشروع إلى آخر بدون بصـيرة أو فهم. والنتيجة المتوقعة تتمثل في: ضعف الإنتاجية وقصورها، وتشتيت الجهود، وضياع الأموال.
2 ـ الاحتياجات الخيرية لأي منطقة من مناطق العمل كثيرة، ومن الفقه الحرصُ على تحديد الأولويات، والبدء بالأهم فالمهم، وذلك من جوانب التخطيط الدعوي التي يكون انعكاسها على بقية الأعمال كبيراً.
3 ـ عند وضع الخطط الدعوية من المهم إدراك إمكانات المؤسسة البشرية والمادية القادرة على تحقيـقها؛ لأن بعض المؤسـسات قد تخـتار أهـدافاً طمـوحـة، لكـنها قـد لا تكون مناسبة لها، أو لا تهيئ البيئة المناسبة لتحقيقها.
4 ـ ينبغي أن تتميز الخطة بالمرونة، بمعنى أن تكون قادرة على استيعاب المتغيرات، ومؤهلة لاستثمار الفرص الطارئة. ولا تعني المرونة ضعف الرؤية أو الارتباك.
5 ـ الخطة الناجحة هي التي تراعي الحاجات الآنية، وتعتني كذلك بالحاجات المستقبلية. والعمل الخيري المؤثر لن تظهر نتائجه خلال مدة يسيرة؛ ولهذا ينبغي أن تتميز برامجه بالعمق وطول النفس( ).
* من علامات الركود والرتابة في المؤسسات الإسلامية:
1 - انكفاؤها على قوالب إدارية جامدة مغلقة مقاومة للتطور؛ ترسخ الأمية الإدارية ، وتؤدي إلى الفوضى والتخبط.
2 - ضبابية الأهداف، وعدم وضوح الرؤية الآنية والمستقبلية.
3 - الضيق بالتجديد والإبداع في الوسائل والبرامج، وحصر الجهود في أعمال نمطية رتيبة.
4 - العجز عن استيعاب المتغيرات السياسية والقانونية؛ والتعامل مع الواقع الدولي والإقليمي بطريقة تؤكد الضعف والغياب عن الواقع.
5 - العجز عن التأقلم مع البيئات الاجتماعية والفكرية المختلفة بفاعلية ومرونة.
6 - العجز عن استثمار التقنيات التي تيسر سبل العمل، وتقلل من تكاليفه.
7 - ضعف برامج التنمية البشرية داخل المؤسسات.
* كيف يحدث التغيير؟
من خلال التجربة أحسب أن التغيير في المؤسسات الإسلامية سوف يفرض نفسه من حيث نشعر أو لا نشعر، ويذكر الإداريون أن هناك نوعين من التغيير:
1 - التغيير العشوائي:
ويحدث هذا النوع دون تدخل، أو اتباع خطة معينة، ولا تُبذل فيه محاولة للوصول إلى نتائج محددة، فهو تغيير غير إرادي!
2 - التغيير المخطط:
حيث يُتحكم في مسار هذا النوع من التغيير، ويُخطط لحدوثه، فتُحدد أهدافه وسرعته ومجالاته وطرق تنفيذه( ).
ولهذا فإن تفاعل المؤسسة مع البيئة المحيطة، واستثمارَها لجوانب النفع فيها، وأخذَها بزمام المبادرة والتطوير؛ من أهم مقومات التخطيط الناجح، ومن أهم مقومات الإبداع والنمو. إننا في حاجة ماسة لخطوات جادة وجريئة، وتكون كذلك خطوات واضحة ومدروسة ترفع من عقليتنا الإدارية، وتحقق طموحاتنا الدعوية والتعليمية.
وينبغي التأكيد هنا أن التطوير والتغيير المطلوب في المؤسسات الخيرية ليس لمجرد التغيير ومجاراة الآخرين، ولكنه تغيير مخطط يتلمس بحكمة جوانبَ القوة والتأثير؛ فيزيد من فاعليتها، ويؤلف بينها بانسجام وتكامل، ويتلمس بصدق جوانب الضعف والنقص فيدرؤها بالتصحيح والعلاج.
ويبدأ التطوير والتغيير بقناعات راسخة من الإدارة العليا في المؤسسة، ثم بإشاعة ثقافة التطوير والإبداع في مناخ المؤسسة ، وبذلك تتوافق الأقسام وتتكامل في بنائها.
خامساً: التخصص في العمل المؤسسي:
والمراد بالتخصص هنا: الاتجـاه بقـوة وتركيـز إلى منطـقة مـن مـناطـق العـمل، أو جانب من جوانب العمل الخيري.
إن الدخول في كل ميدان والاتجاه إلى كل بلد أدى إلى تشتت الأعمال في بعض المؤسسات الخيرية، وإلى ضعف في استثمار هذه الأعمال، وهذا بلا شك انعكاس لضعف الرؤية وقصور التخطيط.
* دواعي التخصص:
1 - أهمية إتقان العمل. وطريق الإتقان هو التخصص الذي يوحد الذهن، ويضاعف عطاءه، الأمر الذي لا يحصل بالتشتت.
2 - محـدوديـة الجهد والوقت الإنساني، وعجـز المرء عن تحقيـق كثير مـن رغباته وطـموحاته. ولذا كان مـن رحمـة الله بعباده أنه لا يكلف نفساً إلا ما آتاها، وإذا رام المرء عمل كل شيء لم ينل شيئاً. ومن هنا جاء التوجيه الحكيم: «عليكم بما تطيقون! فو الله، لا يمل الله حتى تملوا»، وكان أحب الدِّين إليه ما داوم عليه صاحبه( ).
3 - ضعف الموارد المالية في كثير من المؤسسات، خاصة في ظل الحصار الدولي المفروض على العمل الخيري.
4 - تفــاوت الناس في القـدرات والملــكات والـرغـبات، مما يجعل فــروض الكفايات متفاوتة في لزومها لأناس دون آخــرين. قال ـ سبحانه ـ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ } [الأنعام: 165].
5 - طبيعة العصر التي أوجدت مفهومَ: (نعمل شيئاً محدداً في زمن محدد)، محلَّ مفهوم: (أعمل كل ما أشتهي في أي وقت)؛ فلم يبقَ مكان لمن يريد حيازة كل شيء.
والتخصص المنشود في دائرة العمل الخيري نوعان:
أ - تخصـص نوعـي: وهو التخصـص في مجـال من مجـالات العمل؛ كالمجال الدعوي أو التعليمي أو الإغاثي ... وقد يكون أكثر تخصصاً في جزء من مجال؛ كرعاية الأيتام، أو بناء المساجد، أو كفالة الدعاة، أو دعوة الطلاب والمثقفين، أو دعوة المرأة، أو تعليم القرآن الكريم.
ب - تخصـص جـغرافي: وهو التخصص في المكان؛ كالعمل في دول معينة، أو قارة أو منطقة جغرافية. وقد يكون أكثر خصوصية؛ كالعمل في مدينة معينة مثلاً( ).
وكلما وُجد التخصص كان الأمر أفضل في الإتقان والانطلاقة الثابتة المطردة الواعدة؛ إذا توافرت شروط النجاح الأخرى وتخلفت موانعه.
إن دوافع عدم التخصص، مهما تذرعت بالموضوعية، فإنها تخفي كثرة الملل والسآمة، وقلة الثبات والإنتاج، وضعف الخبرة والبصيرة، وضيق الأفق. كيف لا؛ والواقع يشهد بأن التوسع غير المدروس يقلل الجودة، ويبعثر الجهود، ويضيع النتائج؟! كما يشهد بأن تخصص المؤسسات أمارة على نجاحها حين تصير مرجعاً في مجال عملها، ودليلاً إليه، ومستشارة فيه، وسبّاقة إلى فروعه( ).
سادساً: توطين العمل الخيري:
والمقصود بالتوطين: إيجاد مؤسسات خيرية محلية في الدول الإسلامية الفقيرة أو الدول التي توجد فيها أقليات مسلمة، قادرة على القيام بأداء الواجب الشرعي دون الاعتماد على غيرها من المؤسسات الإسلامية الدولية.
ونقل الخبرة وتوطين العمل الخيري في دول العالم الإسلامي ضرورة ملحة، ومرحلة استراتيجية مهمة، لا ينبغي التأخر عنها. وقد تأكد هذا المطلب بعد حصار العمل الخيري وتقييد حركته.
صحيح أنَّ ذلك يتطلب جهداً كبيراً ونفساً طويلاً، لكنْ ينبغي السعي لتحقيقه وِفق رؤية مدروسة ومتدرجة.
* فوائد توطين العمل الخيري:
لتوطين العمل الخيري في الدول الإسلامية الفقيرة أو دول الأقليات المسلمة فوائد كثيرة، من أهمها:
1 ـ استغناء العمل الخيري والدعوي في دول العالم الإسلامي عن دعم ورعاية المؤسسات الإسلامية الدولية، وقيامه بنفسه.
2 ـ المؤسسات المحلية أقدر على تفهُّم الاحتياجات المحلية، وممارسة الأنشطة الدعوية بحرية أكبر.
3 ـ التقليل من العوائق السياسية والأمنية الدولية والإقليمية المتعلقة بحركة الأموال وانتقال الدعاة.
4 ـ توثيق أواصر الإخاء بين المؤسسات الإسلامية الدولية والمؤسسات المحلية من جهة، وبناء الثقة بين المؤسسات المحلية ورموزها الدعوية ومجتمعاتهم من جهة أخرى.
* من متطلبات توطين العمل الخيري:
1 ـ الحرص على بناء مؤسسات خيرية قوية ومتخصصة، واستيفاء أسس النجاح قدرَ الإمكان، وذلك بتكوين مجالس إدارة جماعية، ووضع أنظمة ولوائح إدارية، تعين في استقامتها على الطريق الصحيح بإذن الله.
2 ـ العناية ببناء الرجال وإعداد القيادات الإدارية والعلمية والدعوية؛ القادرة على تحمُّل المسؤولية، والمؤهلة لأخذها بحقها، يقول الأستاذ عبد الله العقيل: «إن بناء الرجال هو أعظم ثروة يتركها أيّ مدير قيادي للمنظمة، حتى يترك جيلاً من الموظفين والمديرين المخلصين المعتمدين على أنفسهم، والذين يتحلون بالنشاط والمبادرة الذاتية والاعتمادية والمسؤولية العالية»( ).
إننا بحاجة ماسة أن نتعامل مع القيادات المحلية بمنطق التقدير والثقة وتفويض الصلاحية، وأن يكون ذلك وفق رؤية استشرافية بعيدة النظر.
3 ـ رعاية طلاب المنح - النابهين منهم خصوصاً - الدارسين في الجامعات العربية والإسلامية، فهم من البذور المستقبلية الواعدة لتوطين العمل الخيري والدعوي في بلدانهم.
4 ـ عقد شراكات جادة بين المؤسسات الإسلامية الدولية والمؤسسات المحلية؛ لتحقيق التواصل البنّاء وتبادل الخبرات والتجارب.
5 ـ كثير من الدول لا تخلو من خلافات بين بعض الدعاة والجمعيات، وينبغي أن يكون للمؤسسات الدولية دور جاد في التأليف وتقريب وجهات النظر وتوحيد الصفوف، والتحذير من النزاعات والصراعات التي تفسد العمل وتذهب بحلاوة الدعوة.
6 ـ إيجاد استثمارات وقفية في الدول الإسلامية تقوم على تمويل الأنشطة الخيرية المتنوعة.

سابعاً: التدريب ورفع مستوى الكفاءات الإدارية والدعوية:
إنَّ الناظر في كثير من الأوساط الدعوية والمؤسسات الخيرية يجد قصوراً في أمور ثلاثة؛ هي:
الأول: قصورٌ في الطاقات المبدعة. وليس هذا القصور ناتجاً عن قلة عدد الراغبين في العمل الخيري، بل هو ناتج عن قلة المعادن الكريمة التي يُعضّ عليها بالنواجذ، وهذا مصداق قول النبي ×: «إنَّما الناس كالإبل المائة؛ لا تكاد تجد فيها راحلة»( ).
الثاني: قصورٌ في اكتشاف الطاقات، ثم قصور في توظيف الطاقات توظيفاً مثمراً، يُسَخِّر ملكاتها، ويوجِّه قدراتها.
الثالث: ضعفٌ قيادي وإداري في التأليف بين الطاقات الموجودة وجعلِها تنتظم في فرق عمل منسجمة، تتكاتف لتحقيق أهداف المؤسسة.
والقيمة الحقيقية لأي مؤسسة ليست فقط في مواردها المالية، أو قوتها الإدارية، أو سعة انتشارها، ولكن تتركز قوتها في رجالها؛ فَهُم ثروة بنائها، وهم الأعمدة التي تعين ـ حقاً ـ في استقرار المؤسسة وثباتها؛ ولهذا كانت الدقة في حسن اختيارهم وتوظيفهم، ثم العناية بتدريبهم، ورفع قدراتهم، وصقل طاقاتهم؛ من أهم جوانب القوة والتميز، ومن أهم أسس النمو والاستقرار المستقبلي.
* تعريف التدريب وبيان أهميته:
التدريب هو: «الجهود المنظمة والمخططة لتطوير معارف وخبرات واتجاهات المتدربين، وذلك بجعلهم أكثر فاعلية في أداء مهامهم»( ).
واللافت للنظر أن بعض المؤسسات الخيرية لم تقتنع بعدُ بأهمية التدريب، وقد تظن أنه مجرد هدر للأموال والأوقات! ولا شك بأن هذا خطأ؛ فلقد أثبتت الدراسات أن التعليم والتدريب يسهمان في رفع مستوى الانتاج. وبناءً على ذلك؛ فإن أي تقدم في العمل المؤسسي يعتمد بدرجة كبيرة - بعد توفيق الله تعالى - على التعليم والتدريب( ).
والمتابع لواقع المؤسسات الخيرية الإسلامية الدولية والمحلية يجد نسبة لافتة من العاملين فيها من غير المتخصصين في العمل الخيري الذي يمارسونه؛ وذلك لندرة الجامعات والمعاهد التي تعتني أصلاً بالعمل الدعوي والخيري في العالم الإسلامي( )، ولحداثة عمرها الخيري في كثير من البيئات الإسلامية، كما أن بعض المتخصصين منهم لم يكتسبوا خبرات ميدانية تستثمر تعليمهم.
إنَّ كثيراً من العاملين في المؤسسات الخيرية يتميز بالصدق والحرص - والله حسيبهم -، ولكن ليس بالضرورة أن يكون هؤلاء الصادقون على قدر كافٍ من القدرة والكفاية العملية.
ولهذا فإن أولى أولويات المؤسسات الإسلامية في المرحلة القادمة ينبغي أن تكون بناءَ العاملين الأَكْفَاء القادرين على تحمل المسؤولية، والعناية الفائقة بهم، وتدريبهم؛ لأداء مهامهم بكفاية وفاعلية؛ تحقيقاً لقول المولى ـ جل َّ وعلا ـ: {إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26].
وها هنا قضية مهمة؛ وهي أهمية إشاعة روح التنافس المحمود بين الموظفين، ودفعهم للتسابق في الخيرات؛ حتى يدركوا أن الموظف الذي لا ينمو ولا يتطور، ولا يرتقي أداؤه مع مرور الوقت؛ موظف عاجز ضعيف الأثر في أمته، وغير مؤهل للحفاظ على تلك الوظيفة.
* قبل التدريب:
من الملحوظات المهمة التي يجب الانتباه إليها قبل البدء في تدريب الموظفين:
1 - وضع نظام متقن لتعيين الموظفين؛ حتى تضمن المؤسسة استقطاب الكفايات المتميزة للعمل فيها.
2 - إيجاد الحافز المستمر للتعلم، وتنمية الرغبة في بناء الذات وتطويرها. وهذا الحافز لن يتحقق إلا إذا كانت بيئة المؤسسة بيئةً صحيةً تحرص على ذلك، وتشجع على الإبداع، وتعين على التميز.
3 - التدريب بدون تخطيط يعد هدراً للموارد. ويتم تحليل الحاجات التدريبية في المؤسسة بمقارنة الأداء الفعلي بالأداء المرغوب فيه، وتحديد حجم الفارق الذي يمكن معالجته بالتدريب.
* متى يفقد التدريب أهميته؟
من خلال التجربة تبين أن هناك مؤسسات وأشخاصاً قد لا ينفعهم التدريب حقاً، بل يتحول إلى عبء نفسي ومالي، ومن هؤلاء:
1 - المؤسسات التي لم تقتنع أصلاً بجدوى التدريب لموظفيها، ولكنها تفعل ذلك مجاراة للمؤسسات الأخرى، أو إسكاتاً لموظفيها.
2 - الشخص الذي ضعف عنده الدافع للعمل والإنجاز: فالداعية الذي يضعف عنده الهم الدعوي، وتقل غيرته على دين الله ـ تعالى ـ لا ينفع معه التدريب؛ لأن إتقانه للمهارات الدعوية لن يزيد من فاعليته وإنتاجه، وهو في حاجة إلى إحياء الدافع الدعوي أولاً.
3 - عدم مناسبة الموظف لوظيفته: فحين يُكلَّف داعية بمتابعة مشروع هندسي ـ كما يحدث كثيراً في بعض المؤسسات الخيرية ـ فإن التدريب لن ينفع؛ لأن الداعية لا يملك المقومات الأساسية للإشراف الهندسي، وتدريبه على ذلك تكليف بما لا يطاق، وهدر للأموال والطاقات.
4 - الشخص المتعالي: فهذا الشخص بعُجبه يُضيِّع على نفسه وأُمَّته فرصاً عظيمة لمزيد من البناء والتطوير.
ومثل هؤلاء الذين أشرت إليهم ـ وأمثالهم ـ ينبغي معالجة مشكلاتهم أولاً، ثم السعي لتدريبهم. ولهذا كله فإنني أؤكد ما جاء في تعريف التدريب وأنَّه عملية مخططة؛ فالتدريب المرتجل بدون رؤية واضحة لا شك أنه عبء على الموارد المؤسسية، ولن يؤدي إلى رفع كفاءات الموظفين.
* التدريب بين بيئتين:
التدريب في بعض المؤسسات قد ينظر إليه أنه نوع من العقوبة، مثير للإحباط وعدم الاطمئنان، وذلك عندما تُشعِر إدارة المؤسسة الموظفَ بعجزه وضعف كفايته وقدرته؛ ولهذا فهي تلزمه بالتدريب لمعالجته.
والتدريب في مؤسسات أخرى يُعَدُّ نوعاً من الثواب والتحفيز والبناء يحدو الموظف إلى التفاعل معه، عندما تُشْعِرُه إدارته بأنها لحرصها عليه وتقديرها لجهوده حرصت على تدريبه؛ وبذلك تكسب ولاءَ المتدرب، وتستفيد من طاقاته وإبداعاته.
والمتوقع من مديري المؤسسات الخيرية أن يدركوا أيضاً أنه لا فائدة من التدريب إذا لم نُعطِ الموظفين بعد ذلك فرصة كافية لتطبيق ما تدربوا عليه، بل إن التهاون في ذلك قد يؤدي إلى نتائج عكسية، من أقلها سلبية: شعور الموظف بالإحباط..!

* من نتائج التقصير في التدريب:
لتقصير المؤسسات الخيرية في التدريب نتائج سلبية عديدة؛ منها:
1 - أن إهمال التدريب، وضعفَ العناية ببناء الرجال، أدى إلى ضعف الإنتاجية، ورتابة كثير من الأعمال والبرامج الدعوية، وغياب التجديد والإبداع في كثير من الوسائل الدعوية، فضلاً عن الفوضى الإدارية.
2 - ندرة القيادات والطاقات المتميزة داخل بعض المؤسسات والجمعيات أدى إلى أن يُوسَّد الأمر إلى غير أهله في كثير من الأحيان. ولا تخفى النتائج السلبية التي تنتج عن هذا..!
3 - القصور في توطين العمل الخيري في الدول الإسلامية ودول الأقليات المسلمة، واستمرار اعتماده على المؤسسات الإسلامية الدولية.
4 - عالجت بعض المؤسسات مشكلةَ ندرة القيادات وضعف الطاقات في البيئات الدعوية عن طريق استقطاب بعض القيادات والطاقات من بيئات أخرى. وهذا لا بأس به في مرحلة مؤقتة، وبخطة واضحة، إلى أن يتم تدريب طاقات محلية مؤهلة لتحمل المسؤولية؛ إذ هي أقدر من غيرها على التعامل مع بيئتها( ).

ثامناً: الالتزام القانوني للمؤسسات الخيرية:
توجد لكل البلدان التي تعمل فيها المؤسسات الخيرية الإسلامية قوانين تنظم العمل الخيري، وتضع له حدوداً، وتفرض عليه أموراً لا بد من الالتزام بها. ولكي تحصل الفائدة المرجوة من العمل، ويستفاد من تلك القوانين، ولكي تُجتنب المخاطر والمعوقات التي تهدد عمل المؤسسات الخيرية؛ لا بد من مراعاة الأمور الآتية:
(1) التعرف على القوانين المحلية المتعلقة بالجانب الخيري.
(2) اتخاذ مستشار قانوني للمؤسسة:
وذلك في كل بلد تشرع بالعمل فيه، وتكون مهمته ضمان سلامة الوضع القانوني للمؤسسة، والإجابة عن الاستشارات القانونية التي ترد عليه، وتقديم دورات قانونية متخصصة لمن يحتاج من موظفي المؤسسة.
(3) وضع دليل بالإجراءات اللازمة:
وهي الإجراءات التي يلزم اتخاذها أو مراعاتها قبل الشروع في تنفيذ عمل ما، مع أهمية المراجعة لهذه الإجراءات، نظراً للتغيرات القانونية والإدارية التي تحصل في كثير من البلدان بين فينة وأخرى.
(4) القيام بتنفيذ الجوانب القانونية الرئيسة، والتي تتمثل فيما يأتي:
أ ـ وضع نظام أساسي للمؤسسة يتضمن هوية المؤسسة ورسالتها في البلد الذي تعمل فيه، والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، والأنظمة واللوائح التي توضح طريقة عملها وإدارتها، مع بيان الهيكلة الإدارية للمكتب، وصلاحيات الأمناء وأعضاء مجلس الإدارة، ونحوها من الأمور المهمة، مثل: حق المؤسسة في الاقتراض أو الاستثمار.. ونحو ذلك.
ب ـ أهمية أن تبقى الأنشطة التي تقيمها المؤسسة في بلد ما متوافقة مع نوع الترخيص الذي تحمله ؛ وذلك تلافياً للاستشكالات التي قد يطرحها عدم قانونية الأنشطة الخارجة عن نطاق الترخيص.
ج ـ التأكد من صلاحية الإدارة المالية لمكاتب المؤسسة، وتحقيقها الحد الأدنى من متطلبات القانون ؛ وذلك لكي تتأكد المؤسسة من تحقيق ضبط مالي وانضباط قانوني لا يعرضها للمساءلة.
د ـ كتابة عقود عمل مع العاملين في المؤسسة؛ تكون متوافقة مع المتطلبات الدنيا لطبيعة العقود التي تنص عليها جهات الاختصاص في كل بلد. وتبرز أهمية هذه العقود في كونها من المتطلبات القانونية للمؤسسة، وأنها مرجع التحاكم عند حصول مشكلات مع الموظفين.
هـ ـ القيام بتوصيف وظائف العاملين في المؤسسة من الناحية الإدارية.
و ـ القـيام بتسجيل المؤسسة في مصلحة الضرائب والتأمين الاجتماعي؛ إذ إن الإعفاءات الضريبية - الممنوحة للمؤسسات الخيرية - لا تشمل في كثير من البلدان الضرائب على رواتب الموظفين والتأمينات الاجتماعية، ولكن لا بد من دراسة القوانين المتعلقة بالضرائب والتأمينات الاجتماعية بشكل جيد؛ حتى تتمكن المؤسسة من وضع خطة تكفل تسجيل من تلزمه الضرائب من الموظفين لدى تلك المصالح بأقل كلفة ممكنة.
(5) مراعاة العلاقة القانونية والمحاسبية بين المركز الرئيس والمكاتب الفرعية:
وذلك لأن طبيعة العلاقة بينهما تختلف بحسب نوع الترخيص، والنظام الأساس للفرع. ويجب على إدارة المكاتب الفرعية مراعاة القضايا التي تهتم بها الجهة المشرفة على المؤسسات الخيرية في بلد المركز الرئيس. وتأتي في مقدمة هذه القضايا كيفية صرف المبالغ التي يتم تحويلها من المركز الرئيس إلى الفرع؛ إذ من الأهمية بمكان أن تُصرَف في خدمة أهداف المؤسسة، وأن تقيد وتسجل وتصرف تبعاً للقوانين في بلد الفرع، مع تحضير حسابات تفصيلية توضح تلك المصاريف لكل مشروع، ثم القيام بتدقيقها من محاسب قانوني معترف به؛ لتكتسب الصفة القانونية.
(6) الحرص على تعيين الموظفين - وبخاصة إذا كانوا من غير أهل البلد - بناءً على الأنظمة السائدة في البلد:
فعلى المؤسسات الخيرية تجنب تعيين أي موظف ـ وخاصة في المناصب القيادية ـ مخالفاً لهذه الأنظمة؛ مع الحرص على الالتزام بقوانين الإقامة والتنقل لهم.
(7) يجـب الحرص على عـدم التـداخل بين العـمل الخيري بأبوابه المختلفة والأنشطة السياسية؛ لأن ذلك قد يسبب - في العاجل أو الآجل - إشكالات قانونية تؤثر على العمل الخيري.
ويدخل في هذا السياق تعيين موظفين - خاصة في الإدارة العليا - لهم أنشطة سياسية أو ينتمون لأحزاب سياسية.
(8) التقويم المستمر للانضباط القانوني في المؤسسة.

تاسعاً: الانضباط المالي في المؤسسات الخيرية:
المال عصب الحياة وشريان العمل، وقوام المؤسسات الخيرية. كما أنه أمانة كبيرة في أيدي القائمين على المؤسسة والعاملين فيها كل بحسبه، كما أن الانضباط المالي في أي مؤسسة رمز لقوتها وسلامتها ؛ فاقتضى ذلك كله الدقة والضبط المالي للمؤسسة في جميع الجوانب المالية ؛ من جمعٍ واستثمار وصرف.
ويتأكد هذا لأمرين:
1 - أن حفظ المال وحسن التصرف فيه بدقة وضبط هو مقتضى أداء الأمانة التي أمر الله ـ عز وجل ـ الناس بأدائها، وأوجبَ عليهم وضعَها في مواضعها الشرعية.
2 - أن في ذلك رعايةً للأمانة التي وكَّلهم المحسنون على أدائها، وأمروهم بصرفها في مصارفها الشرعية.
ولذا فإن من الضروري أن تضع المؤسسات الخيرية ضوابط محكمة تنظم القواعد المالية الداخلية، وترتب العلاقات المالية؛ سواء أبين مكتب المؤسسة الرئيس والفروع المختلفة، أم بين الفروع والعاملين فيها والمتعاملين معها.
ومن التنبيهات المهمة في هذا المقام:
1 - لا بد من اتباع نظام محاسبي دقيق وواضح في كل بلد للمؤسسة في عمل، مع توفير كل الإمكانات البشرية والتقنية لإنجاحه، كما يفضَّل أن يكون ذلك النظام متسقاً مع الأنظمة المحاسبية المتبعة في كل بلد، وأن يوجد محاسب قانوني لكل مكتب من مكاتب المؤسسة.
وفي المؤسسات التي تتبع نظام صرف مركزي لا بد أن تقدم المكاتب الفرعية للمركز الرئيس تقارير محاسبية شهرية منتظمة؛ للاطلاع عليها، وتدقيقها، وعرضها على المحاسب القانوني؛ لكي يتسنى معالجة الخلل ـ إن وجد ـ في حينه.
2 - يجب الالتزام بالأنظمة والقوانين المالية السائدة في البلد الذي تعمل فيه المؤسسة ـ ما لم تكن حراماً ـ ، سواء في الحوالات المالية أو صرف العملات ، أو الإنفاق على المشاريع، أو البيع أو الشراء.. ونحوها. مع ضرورة الوضوح التام في هذه المعاملات، والحرص الشديد على تدوينها وضبطها، وحفظ الوثائق والمستندات المتعلقة بها.
وفي الدول التي تُلزم المؤسسات الخيرية برفع تقارير مالية دورية يجب الالتزام بذلك، والتعامل مع الجهات المسؤولة بدقة وشفافية.
3 - ينبغي السعي الجاد للوصول إلى الاستقلالية المالية للمؤسسات الإسلامية؛ من خلال الأوقاف الخيرية والاستثمارات التجارية، فهذا أضمن في قوتها واستمرار أنشطتها( ).
وهناك عدد من الضوابط لهذا الجانب يلزم مراعاتها:
أ - أن يتولى إدارة المشاريع الاستثمارية ومتابعتها مَنْ جمع بين صفتَي الخبرة والأمانة؛ تحقيقاً لقول المولى ـ جلَّ وعلا ـ: {إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] .
ب - أن يتولى القرارَ الاستثماري فريقٌ من أهل الخبرة والاختصاص، وتجنُّب القرارات الفردية المتسرعة.
ج - استفراغ الجهد في إعداد الدراسات الاستثمارية، مع الحرص على الاستثمارات المأمونة تجارياً وذات العائد الربحي الأكبر، والبعد ما أمكن عن جوانب المخاطرة.
د - البعد تماماً عن الاستثمارات التي قد يختلط فيها الحلال بالحرام، والتورع عن مواطن الشبهات، مع التنبه إلى المسائل الدقيقة في المعاملات التجارية.
هـ - تقييم الاستثمارات التجارية سنوياً؛ للنظر في مناسبة الاستمرار فيها من عدمه.
4 - الحرص على التخطيط المالي، ووضع موازنات سنوية دقيقة للمكاتب الفرعية والمشروعات والأنشطة.
5 ـ يشرف على إعداد ومراجعة الموازنات والخطط المالية أهل القدرة والخبرة؛ حيث إن من الأخطاء الشائعة أن بعض مؤسساتنا الإسلامية قد تكلف بذلك بعض الدعاة ممن لا يدركون كثيراً من الفنون المحاسبية؛ فيحدث الخلط والاضطراب.
6 ـ يتهاون بعض الموظفين ـ من حيث لا يشعر أحياناً ـ في صرف الأموال الخيرية على الأنشطة والمشاريع، ويحدث هدر غير متزن أحياناً بحجة أنها لم تصرف إلا في الخير! وهذا خطأ ظاهر، ومقتضى الأمانة يُلزمنا بصرف أقل التكاليف المالية المتيسرة لتحقيق أعلى المصالح الشرعية الممكنة( ).

الخاتمة
يقوم العمل الخيري على قطاع حيوي من قطاعات الدعوة الإسلامية المباركة، وتقدم المؤسسات الخيرية بمختلف تخصصاتها جهوداً متميزة تستحق الإشادة والتقدير. وأختم هذه الورقة بذكر النتائج ثم التوصيات.
أولاً: النتائج:
1 ـ ينبغي أن لا تؤدي الضغوط الدولية والإقليمية على العمل الخيري إلى الانحسار أو التراجع؛ بل ينبغي أن يكون ذلك محفزاً ومشجعاً على مزيد من العطاء والإنجاز. قال الله ـ تعالى ـ: {إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء: 104].
2 ـ العمل الخيري في حاجة ماسة إلى التطوير وإعادة البناء من الداخل، ويتطلب ذلك جهداً كبيراً وأفقاً واسعاً؛ يستوعب المتغيرات السياسية والظروف الإقليمية والدولية.
3 ـ الانضباط الشرعي في العمل الخيري منطلق رئيس لاستقامته على جادة الصراط المستقيم، وينبغي أن يكون لطلاب العلم دور رئيس في إدارته وتوجيهه.
4 ـ العفوية والارتجال، أو الجهود الفردية غير المدروسة، لا يمكن أن تنهض بالعمل الخيري أو تحقق تطلـعاته وطموحـاته. أما العمـل المؤسـسي المحكم فإنه الطريق الصحيح لترسيخ العمل الخيري والحفاظ عليه.
5 ـ من الخيارات المستقبلية المهمة: الحرصُ على توطين العمل الخيري في الدول الإسلامية المختلفة ومناطق الأقليات المسلمة، والسعيُ لتأسيس أعمال مؤسسية مستقلة قادرة على النهوض بنفسها؛ بتدريب رجالها، وإنشاء الاستثمارات الوقفية لها، وإبرام الشراكات القوية معها.
6 ـ رعاية طلاب المنح الدارسين في الجامعات العربية والإسلامية، والحرص على تأهيلهم وبناء ملكاتهم علمياً ودعوياً وإدراياً، ليكونوا - بإذن الله - البذرة المباركة لتأسيس العمل الخيري.
7 ـ العناية بالتدريب ورفع القدرات والإمكانات من الأولويات المهمة للانتقال بالعمل الخيري إلى طور المهنية، ثم الإبداع والتجديد.
8 ـ التخصص في العمل الخيري مطلب مهم ينبغي حث المؤسسات الخيرية عليه؛ لتحقيق مزيد من التحسين والإتقان.
9 ـ الانضباط القانوني والمالي مطلبان مهمان ليس لمجرد رد الشبهات والضغوط الدولية فحسب، بل ينبغي أن يتحول ذلك إلى هدف رئيس وثقافة خيرية عامة؛ من أجل أداء الأمانة الشرعية ، وتحقيق أكبر قدر ممكن من الجودة والارتقاء الإداري.
ثانياً: التوصيات:
1 ـ مستجدات المسائل الشرعية التي تطرأ على العمل الدعوي الخيري ـ خاصة في بعده الخارجي ـ كثيرة جداً، وأوصي طلاب الدراسات العليا في قسمي الفقه والدعوة باستقرائها وبحثها وتأصيلها.
2 ـ العمل الخيري والتطوعي عِلْم من العلوم الدعوية المهمة التي لم تأخذ حظها من الدراسة والبحـث، وهـو جـدير بأن تخصـص له كلـية أو معهد، يمكن أن يبدأ بقسم في إحدى كليات الدعوة أو العلوم الاجتماعية، ثم ينمو تدريجياً.
وإلى أن يتحقق ذلك أوصي كليات الدعوة وأقسام الثقافة الإسلامية بإضافة مواد خاصة في أصول العمل الخيري ومهاراته.
3 ـ ينبغي لكل مؤسسة من مؤسسات العمل الخيري مراجعة لوائحها الإدارية وأطرها التنظيمية، وأدائها الوظيفي، بواسطة مؤسسة من مؤسسات التطوير الإداري المتخصصة، أو خبير من خبراء الإدراة.
4 ـ العمل الخيري يحتاج إلى غطاء إعلامي يُبرِز إنجازاته المشرقة، ويدفع الشبهات والأوهام التي قد يثيرها بعض المبطلين. ولئن قصرت المؤسسات الخيرية في لغتها الإعلامية في وقت سابق، فإنني أوصي بضرورة تصحيح الوضع وإعطاء الإعلام عناية خاصة.
5 - لكثير من المؤسسات الإسلامية الخيرية تجارب وخبرات مهمة تراكمت خلال أكثر من عقدين من الزمان ، ومن المهم جداً حث تلك المؤسسات على تدوين تجربتها في العمل الدعوي الخيري؛ من أجل استثمار تلك التجارب وتوظيفها من المؤسسات الناشئة أو الأفراد العاملين في القطاع نفسه.
6 ـ تكوين مجلس للتنسيق بين المؤسسات الخيرية، من أهدافه: تحقيق أواصر الأخوة والتعاون على البر والتقوى، وتبادل الخبرات، والتشاور، وتنسيق البرامج.
7 ـ تأسيس مؤسسة دعوية تعنى برعاية طلاب المنح خصوصاً، وتقدم لهم الخبرات والبرامج الخادمة للعمل الدعوي الخيري، والتي قد لا يتضمنها منهج الدراسة الجامعية، من أجل الارتقاء بآفاقهم الخيرية والدعوية.
8 ـ تأسيس إدارة قانونية أو تعيين مستشار قانوني في كل مؤسسة خيرية من أجل ضبط عمل المؤسسة والتأكد من التزامه بالقوانين المنظمة للعمل الخيري.
وختاماً:
أسأل الله ـ عز وجل ـ أن يستعملنا جميعاً في طاعته، وأن يجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

الأكثر مشاركة في الفيس بوك