العلاقة مع الغير (الصداقة والغرابة)

العلاقة مع الغير (الصداقة والغرابة)
لا تقف العلاقة بين الأنا والغير عند المستويين - الأنطولوجي والمعرفي - السابقين ، بل تتخذ شكل علاقة مركبة تشمل ما هو عاطفي وجداني وما هو أخلاقي وسياسي.. وبصدد العلاقة الأخلاقية، يلاحظ أنها تختلف باختلاف الأغيار أو باختلاف المعايير المعتمدة في تصنيف الغير ، حيث أنه عادة ما يتم التمييز - في هذا السياق - بين الغير القريب الذي نرتبط معه في علاقات تقوم على التعاون والتضامن (الصداقة)؛ وبين الغير البعيد الذي يمثله "الغريب"، والذي غالبا ما يكون موضوعا للكره والعداوة (الغرابة)..
- فكيف تتحدد الصداقة كعلاقة مع الغير القريب بوصفه مماثلا للأنا؟ وهل تنحصر الصداقة في هذه الصورة أم يمكن أن تتجاوزها نحو الغير الغريب باعتباره مخالفا للذات الفردية (الأنا) أو للذات الجماعية (النحن)؟
- وإذا كان الغير الغريب غالبا ما يواجه بالإقصاء بدعوى تهديده لوحدة الأنا أو النحن، فهل تمثل هذه العلاقة العدائية الشكل الوحيد والممكن تجاه الغريب؟
1- الصداقة:
تمثل الصداقة نموذجا إيجابيا للعلاقة مع الغير، وذلك باعتبارها تجربة تكتمل فيها إنسانية الإنسان كما يدل على ذلك المعنى اللغوي للفظ الصداقة الذي يتوجه نحو معاني الحب و المودة و الرغبة.. ومن أهم التنظيرات الفلسفية التي تم إنتاجها حول مفهوم الصداقة ما يرجع إلى الفلسفة اليونانية :
 
+ أفلاطـون :
تنبثق علاقة الصداقة حسب أفلاطون من الحالة الوجودية التي تميز وجود الإنسان، وهي حالة وسط بين الكمال المطلق و النقص المطلق تدفع الإنسان إلى البحث الدائم عما يكمله في علاقته مع الآخرين. فالكمال الأقصى أو المطلق يجعل الإنسان في حالة اكتفاء ذاتي لا يحتاج فيها إلى الغير، وفي حالة النقص المطلق تنعدم لديه الرغبة في طلب الكمال.. فلكي تكون هناك صداقة لابد أن تكون الذات في حالة نقص نسبي يجعلها تسعى إلى تحقيق الكمال مع من هو أفضل.. و من هنا تكون الصداقة عبارة عن علاقة محبة متبادلة يبحث فيها الأنا عما يكمله في الغير، لأن كل طرف يتصف بقدر كاف من الكمال لا يحول دون طلب كمال أفضل، وبقدر من النقص الذي يدفع بالضرورة إلى طلب الكمال.
+ أرسطو:
يميز بين ثلاثة أنواع من الصداقة تختلف من حيث طبيعتها و قيمتها، فالنموذجان الأولان (صداقة المنفعة والمتعة) متغيران نسبيان يوجدان بوجود المنفعة و المتعة و يزولان بزوالهما، و من ثم فهما لا يستحقان إسم الصداقة إلا مجازا.. أما النمط الثالث (صداقة الفضيلة) فيمثل الصداقة الحقة لأنه يقوم على حب الخير و الجمال لذاته أولا ثم للأصدقاء ثانيا. وفي إطار صداقة الفضيلة تتحقق المنفعة والمتعة كنتيجتين و ليس كغايتين. غير أن أرسطو يعترف بصعوبة تحقيق صداقة الفضيلة التي تعتبر بالنتيجة نادرة الوجود، و لو تحققت لما احتاج الناس إلى العدالة والقوانين.
هكذا قدمت الفلسفة اليونانية تصورين مختلفين حول الصداقة غايتهما دفع الأنا و الغير نحو تحقيق الفضيلة كهدف أسمى للحياة البشرية. وفي ذلك تعبير عن فهم فلاسفة اليونان لطبيعة الإنسان ككائن يظل متميزا بتحكمه في الغريزة الطبيعية وسموه نحو قيمة الفضيلة. ورغم هذه الغاية النبيلة التي سعت إليها هذه التصورات، فإنها ظلت سجينة ثقافة تميز بها المجتمع اليوناني العبودي، و تقوم أساسا على إقصاء الغير المتمثل في الغريب المختلف عن الأنا عرقيا و ثقافيا، ومن ثم فتفكير اليونان في الصداقة كان بمثابة تعبير عن العلاقة مع الغير القريب، و تقصي الغير الغريب الذي يقع خارج حدود المجتمع اليوناني الصغير(الأجانب أو المتوحشون)، أو حتى داخل هذا المجتمع (العبيد).
ومع الولادة الجديدة للفلسفة الغربية خلال عصر النهضة ، ستبرز تصورات حول مفهوم الصداقة تتجاوز المعنى الضيق الذي حصره فيها فلاسفة اليونان. فبالنسبة ل"كانط"، تمثل الصداقة قيمة أخلاقية تنبني على الحب و الإحترام المتبادل وتظل غاية سامية ومثالية ينبغي أن يسعى إليها الإنسان وفقا لمبدأ الواجب المطلق الذي يتسامى بالإنسان عن الإكراهات المادية المباشرة. و معنى ذلك أن الصداقة ينبغي ألا تتأسس على المنفعة المباشرة، بل يجب أن تكون إطارا لتحقيق كرامة الإنسان التي تتمثل في الإحترام المزدوج للذات وللغير، في نفس الوقت ،وذلك طبقا لما يقتضيه المبدأ الأخلاقي الذي يتأسس عليه السلوك الإنساني عند "كانط"، أي الواجب في ذاته منزها عن أية غاية نفعية.
أما "أوغست كونت"(1798/1857)، فالصداقة ترتبط عنده بمفهوم الغيرية (Altruisme) الذي يمثل لديه واجبا على كل شخص، وهو ما يقتضي من الفرد أن يتوجه بسلوكه نحو خدمة الغير، أو أن يعيش من أجل الآخرين (الإيثار).و مبرر ذلك ، بالنسبة ل"كونت" هو أن الفرد يدين للإنسانية بوجوده، وبما يحققه من تقدم و ازدهار، الأمر الذي يستوجب منه رد الدين من خلال الإنفتاح على قضايا الآخرين، أو نكران الذات و التضحية من أجل الغير. ومن ثم فنزعة الغيرية سيكون من شأنها أن تساهم في نشر قيم التضامن والأمن و الإستقرار في العالم.
غير أن هذه المواقف المنضوية تحت لواء الفلسفة الحديثة ، والتي طغت عليها نزعة إنسانية مثالية ، ستصطدم بما ميز التاريخ الأوروبي المعاصر من حركات استعمارية وحروب متنوعة جعلت مسألة الغير تظل إشكالية تفرض نفسها على الفكر الأوروبي كما سيتجلى ذلك في الفكر المعاصر الذي انشغل بمسألة الغير ممثلا في الغريب.
 
2- الغرابة:
يمثل مفهوم الغرابة الوجه السلبي للعلاقة مع الغير، إذ ينطوي على اعتبار الغير الغريب نقيضا للذات الفردية والجماعية، مما يستلزم مواجهته بمختلف أساليب النبذ والإقصاء. وهي حقيقة تؤكدها الشواهد التاريخية حول نوعية العلاقة بين الأفراد و الثقافات التي تختلف من حيث طبيعة القيم و المعتقدات. و يمكن الإستدلال على رسوخ النزعة الإقصائية تجاه الغريب بما ميز المجتمعات القديمة من علاقات صراعية قائمة على أساس الدفاع عن الهوية الذاتية مقابل نفي ما يخالفها(علاقة اليونان بالأجانب - الحروب الصليبية - الإستعمار الحديث). و لذلك نلاحظ غياب التفكير في الغير الغريب سابقا، مع استثناءات قليلة ، وحضورا بارزا للتفكير في الصداقة كعلاقة مع الغير القريب(فلاسفة اليونان مثلا)...
أما الفكر المعاصر (القرن 20)، وبفعل التحولات الإجتماعية والفكرية التي ميزت العصر الراهن، فينطوي على عدة مواقف فلسفية وعلمية ترفض هيمنة النزعة الإقصائية في التعامل مع الغريب سواء تمثل في الأفراد أو في الثقافات الأجنبية، وتحاول تأسيس نظرة أخلاقية تتجاوز ما كان يميز العلاقة مع الغير البعيد أو الغريب من إقصاء و تدمير...
في هذا السياق يندرج تصور" جوليا كريستيفا "(1941/...) القائم على نقد التصور السائد حول الغريب بوصفه المختلف عن الجماعة، والذي يهدد بالتالي وحدتها وهويتها. فالإعتقاد السائد بأن كل جماعة بشرية تتأسس على هوية خالصة هو اعتقاد وهمي في نظر "كريستيفا" ، لأن كل جماعة تشتمل على غريبها، و من ثم فإقصاء الغريب بدعوى الحفاظ على وحدة الجماعة هو موقف يقوم على المفارقة و التناقض. فالوحدة المزعومة للجماعة ليست سوى مظهرا يخفي التناقضات الداخلية التي تنكشف لنا عندما ندقق النظر في الإختلافات و التمزقات التي تجعل كل جماعة تحتوي على ما هو سوي ومنحرف،أو على ما يلائم قيمها وما يناقضه على السواء. وعن ذلك تقول "كريستيفا " : "ليس الغريب هو ذلك الدخيل المسؤول عن شرور المدينة كلها، ولا ذلك العدو الذي يتعين القضاء عليه لإعادة السلم إلى الجماعة. إن الغريب يسكننا على نحو غريب. إنه القوة الخفية لهويتنا ..."
كما نجد موقفا مشابها عند الأنتروبولوجي الفرنسي المعاصر" كلود ليفي ستراوس" الذي عرف بانتقاده الشديد لنزعة الهيمنة والإقصاء التي تميز الثقافة الغربية تجاه الثقافات الأجنبية. فهو يرى أن كل ثقافة بشرية لها مكانتها وإسهاماتها في الحضارة البشرية عموما. ويعتبر،بالنتيجة، أن التقدم الحاصل الآن في الغرب ليس إنجازا ذاتيا مستقلا عن المجهودات التي بذلتها ثقافات سابقة مهما بدت لنا بدائية. وهكذا فالعلاقة بين الثقافات ، كتعبير عن العلاقة بين الأنا و الغير، يجب أن تقوم على الحوار و الإعتراف المتبادل بالإختلاف والتمايز وليس على الإحتواء والهيمنة. لذلك يقول "ليفي ستراوس" :
" إن الإسهام الحقيقي للثقافات لا يكمن في قائمة اختراعاتها، بل في الفارق المميز الذي تكشف عنه فيما بينها. إن الشعور بالعرفان والتواضع الذي يستطيع كل عضو من أعضاء ثقافة معينة ، بل يجب عليه ، أن يستشعره نحو جميع الثقافات الأخرى، لا يمكن أن يتأسس إلا على الإقتناع التالي : أن الثقافات الأخرى مختلفة عن ثقافته اختلافا تتنوع أشكاله أشد ما يكون التنوع ، وذلك حتى وإن كان لا يدرك طبيعة هذا الإختلاف.."
هكذا يتبين أن العلاقة الأخلاقية مع الغير قد مثلت إشكالية واكبت تطور الفكر الفلسفي منذ لحظة النشأة التي تمثلها الفلسفة اليونانية، حيث نجد هيمنة لفكرة الغير القريب ، وهو ما انعكس في توجه التفكير الفلسفي اليوناني نحو التنظير لمفهوم الصداقة، بينما تقلصت أو انعدمت فكرة الغير الغريب في ظل ثقافة يونانية لا تخلو من خلفيات عبودية أو عنصرية.. ومرورا بالفلسفة الحديثة ذات النزعة الإنسانية ، والتي أضفت على مفهوم الصداقة طابعا شموليا يتجاوز حدود المجتمع الواحد لينخرط في الحياة الإنسانية، قبل أن تتبلور مشكلة الغير الغريب في سياق الفكر المعاصر الذي اتسم بالتشكيك في البداهة الراسخة نحو الغريب كموضوع للإقصاء و التدمير، وبالدعوة إلى تبني أخلاقيات الحوار و التسامح.
المصدر:
http://philosophie69.jeeran.com/riwek21/archive/2010/2/1021071.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك