الإسلام والعنف دور المثقف في تغيير الصورة النمطية عن الإسلام والمسلمين على مستوى البناء والإصلاح

الإسلام والعنف دور المثقف في تغيير الصورة النمطية عن الإسلام والمسلمين على مستوى البناء والإصلاح

نبيل علي صالح

لا تزال وثائر الضجة القوية المثارة حول واقع الحركة الإسلامية –في طبيعة مضمونها الفكري والتاريخي وأسلوبها الحركي ومفاهيمها السياسية المختلفة- تتصاعد في أكثر من موقع ثقافي واجتماعي وسياسي يتحرك هنا وهناك، في ما يثار حالياً من حديث واسع ومتواصل في العالم كله عن التطرف والتعصب والعنف والإرهاب الذي أصبح –على ما يظهر في مختلف الدوائر السياسية ووسائل الإعلام الغربية- سمة لازمة لهذه الحركة في محتواها الفكري، وآليات عملها الحركية المتعددة في سياق الحياة العامة وعلى المستويين الداخلي والخارجي..

ومن الطبيعي أن نؤكد هنا على أن هذا الجدل الإعلامي عن الإسلام (المتطرف) لا يتوافق أبداً مع ما عرف عن طبيعة الإسلام المعتدل في ذاته، في انفتاحه، وتسامحه، ومرونته، وإيمانه بالحوار الهادئ العقلاني والمتوازن.. نعم توجد هناك كثير من الحركات والنخب الإسلامية التي سبق لها أن ارتكبت بعض الأعمال اللاإنسانية المنافية لأبسط قواعد ومبادئ الأخلاق عن طريق أفراد مسلمين منظمين (وموظفين) سياسياً لديها، مما قد يسيء إلى تلك الصورة الناصعة عن واقعية الإسلام المعتدل، ويساهم في تثبيت الصورة المشوهة والمعروفة عن المسلم لدى الشعوب والحضارات الأخرى، ولكن ذلك ليس قاعدة عامة يمكن أن يؤسس عليها في ما يتعلق بتكوين صورة جلية عن حقيقة وجوهر الدين الإسلامي كرسالة إنسانية، محورها الإنسان (العادل مع ذاته ومع الآخرين انطلاقاً من إيمانه بالله كقاعدة روحية وإيمانية).

وحتى تكتمل الصورة هنا لا مناص من الإشارة إلى أن كثيراً من تيارات الإسلام السياسي، أو ما عرف بـ”تيارات الصحوة الإسلامية” سبق أن تعرضت (ويتعرض قسم منها حالياً) إلى قمع سياسي وأمني كبير من قبل كثير من حكومات ونظم المنطقة العربية والإسلامية أكثر مما تعرضوا له وواجهوه في بلاد الغرب (الكافر!!؟=كما يقولون) الذي فروا إليه للتنعم بمناخات الحرية الكاملة عنده هرباً من الضغوطات والملاحقات والتشريد والقتل، حيث وصل هذا العنف الدموي حد شن حروب إلغاء واجتياح بلدان بأكملها تحت مسمى مكافحة “الإرهاب الأصولي الإسلامي”، والقضاء على بذور “التطرف الدينية”، الأمر الذي استدعى من تلك التيارات ردود أفعال تدميرية فانطلقت لتكفر مجتمعاتها وحكوماتها ولتعلن الجهاد ضد بلدانها، فدخلنا في دوامة لا منتهية من العنف والعنف المضاد، ومن الصراعات والانقسامات الفكرية والاجتماعية والسياسية، وبدل من أن تتجه بلداننا نحو الاهتمام بقضايا التطوير الاقتصادي والإصلاح السياسي والتنمية البشرية للنهوض بواقع الإنسان والمجتمعات العربية والإسلامية (التي هي أحوج ما تكون للنهوض والبناء والإصلاح العقلي والفكري) انحرفت النخب والسلطات السياسية باتجاه الصدام والمواجهة، وصبت كامل جهودها وطاقاتها في سبيل القضاء على ما تطلق عليه “التطرف والإرهاب الأصولي”، الذي كان العنوان الظاهر لمحاربة وسحق كل أنواع المعارضات السياسية والفكرية الأخرى من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وهانحن الآن جميعاً نتحرك في أتون شبه حروب أهلية وانقسامات داخلية عربية-عربية بعضها معلن وبعضها الآخر مخفي كالنار تحت الرماد ينتظر شرارة التفجر الأولى.

طبعاً أنا أميل هنا إلى جانب الحسم الإيجابي المباشر في رفضي لصورة الإسلام العنيف والمتطرف التي يحاول الكثيرون إبرازها وتعميمها حالياً في أصقاع العالم كله، وأعتقد أنه بإمكاننا وعي وفهم الإسلام من داخله كدين قادر على تحريض أجمل ما في المسلمين من طاقات إبداعية، وتحشيد طاقات الناس عندنا في طريق الإصلاح والتنمية البشرية والمجتمعية، وذلك عبر التجديد والإصلاح العقلي في بنية الدين الفكرية والمفاهيمية، لأننا مهما حاولنا القول باستحالة الجمع بين الدين والحياة أو بين الدين والواقع العملي للناس فإننا سنبقى بنلف وندور في حلقة مفرغة، وسنظل في حالة من الجدل والسجال الفكري العقيم غير المنتج، ونحن هنا لا نقصد تديين الحياة والسياسة والواقع، بل إننا نصر على علمنة الدولة والنظام السياسي وعدم تدخل الدين أو اشتغاله في آليات الحكم السياسي، ونصر أكثر على ما أسميناه في بعض دراساتنا بـ”العلمنة المؤمنة” –إذا صح التعبير، أي عدم رفض الدين من جهة، وعدم السماح للمتدينين بالسيطرة على السياسة والواقع من جهة أخرى. فمن حق رجل الدين أن يمارس السياسة من موقعه كمواطن حر ومسؤول تجاه وطنه ومجتمعه وأمته، وليس من موقعه كداعية أو كرجل دين يعتقد بأفكار ومعارف مقدسة فوق الواقع والحياة. أما أن يفرض رجل الدين رأيه وقناعاته الدينية المقدسة على غيره من أفراد المجتمع، أو أن يمارس المتدين السياسة من موقع المقدس، فذلك أمر مرفوض بالمطلق، لأن السياسة اشتغال بالنسبوي المتغير، والدين حالة راقية من المقدس الروحي، فليس للسياسة شأن به لأن ساحتها الحياة المتغيرة، وهي عبارة عن مجموعة من آليات العمل والمنافذ العملية التي يسمح بها القانون لخدمة الناس وتلبية احتياجاتهم ومحاولة حل مشاكلهم، والفضاء الاجتماعي المدني (ذي المنشأ العلماني) مفتوح على مصراعيه، ومناخ الحرية يسمح للجميع بأن يعبروا عن طروحاتهم وأفكارهم بما لا يتعارض مع مصالح الناس وطموحاتها في البناء العقلي والعلمي وتأمين متطلباتها الوجودية الأساسية. نعم يمكن للدين أن يمارس دوراً توجيهياً وترشيدياً ومعنوياً من خلال القيم والأخلاق العليا ذات المنشأ الديني. أما أن يتدخل الدين بالسياسة فذلك تدنيس لعظمة الدين، وقتل لمنطق السياسة باعتبارها مساومات وتجادلات وصراعات ومساجلات تداخلها اشتراطات نسبية وفنون حكم أرضية وقيم نسبوية وغايات ومقاصد نفعية.

واستكمالاً لما تقدم أطرح بعض الأسئلة الهامة والضرورية التي تتصل بصلب الموضوع، مدار البحث والتحليل: هل يمثل الطرح الإسلامي حالة تطرف وإرهاب أم حالة اعتدال وسلام؟!. أي هل يمكن أن يقبل الدين الإسلامي –وهو دين التسامح والعقل- باستخدام وسائل وأدوات الضغط والقوة من عنف وإرهاب ضد المدنيين والأبرياء، وضد قيم الإنسانية التي هي نفسها قيم الأديان السماوية كلها؟!. أم أن التأويلات الإسلامية –وغير الإسلامية- للنصوص التاريخية هي التي تقدم لنا الإسلام بهذه الصور النمطية المشوهة والمنحرفة؟!. ثم ما هو المقياس الموجود حالياً لدى النخب السياسية والثقافية في توصيفها للإسلام بصفة التطرف أو صفة الاعتدال؟!. هل هي الظروف والوقائع الراهنة المحاصرة في حسابات الواقع الزمنية، أو هي المتغيرات والتحولات المتسارعة في آفاق المستقبل والغيب؟!..

لاشك بأن العرب يعيشون في العصر الراهن –وفي كثير من مواقعهم ومحاور امتداداتهم- وضعاً صعباً لا يحسدون عليه أبداً كما ذكرنا آنفاً والواضح هنا أنه -وبغض النظر عن هذا الضغط ولغة التآمر السياسي والاقتصادي والإعلامي الدولي اليومي على بلاد الإسلام والمسلمين، والتي تعمل ليلاً ونهاراً على إملاء شروطها، وفرض هيمنتها وتحكمها بثروات وموارد العالم الإسلامي الهائلة، وتوصيف هذا الدين توصيفاً سلبياً من خلال اعتباره دين الإرهاب والتطرف والعنف- أقول: أنه بغض النظر عن ذلك كله، لا يمكن للعرب والمسلمين أن يتهربوا من تحمل المسؤولية الأكبر عن ذلك، إذ أن كثيراً من مفكرينا وعلمائنا وسياسيينا ساهموا بفعالية في إعطاء الآخرين تلك الصورة السوداوية عنا، بل وثبتوها بقوة داخل أذهانهم ومدركاتهم.

-صحيح أن الإسلام لا يرى أن العنف هو الأسلوب الأوحد للصراع في خط التحدي ورد التحدي، بل يطرح –بدلاً عنه- أسلوب الحوار والرفق والتسامح باعتبار ذلك هو القاعدة والأصل في مواجهة المشاكل في اتجاه الحل، من خلال الآية: “ادعوا إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة..”.

وصحيح أيضاً أن الإسلام يعتبر أن الأسلوب العملي الأنجح والأكثر فعالية ومصداقية في العمل السياسي هو الأسلوب الذي ننفتح من خلاله –بوعي وإدراك وصدق- على الآخرين، لنحول حتى الأعداء إلى أصدقاء، وذلك من خلال الآية: “ولا تستوي الحسنة والسيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم”.

-وصحيح أن الإسلام –كفكر أيديولوجي- يطرح مشروعه الثقافي والسياسي بالوسائل الحضارية الإنسانية السلمية في مواجهة الطروحات والمشاريع الفكرية والسياسية الأخرى، من دون أن يجد لنفسه في ذلك أي بادرة تطرف في الشكل والمضمون (ومن دون أن يكون بحاجة له طالما أن المناخ سلمي وعقلاني وهادئ وآمن ومستقر)، ويرى أن حريته (كمشروع حضاري يمارس عملية الدعوة والتبليغ) هي جزء من حرية الآخرين المطلوبة لهم والضرورية لإنعاش واقع مجتمعاتهم وأوطانهم.

-وصحيح أيضاً أن الإسلام يعمل (من خلال تربية الفرد المسلم) على تأصيل الاستقلال في نطاق الشخصية الإسلامية الواعية في حياة الأمة، وتربية المسلمين جميعاً على أساس مبادئ وقيم الإسلام النقي والصافي في فكره وروحه وحركته، بحيث تبرز التمايزات والفواصل الروحية والعملية بين الإسلام وبين التيارات والقوى الأخرى.

إن كل ذلك صحيح، ولكن الواقع السياسي الإقليمي والدولي الموضوعي فرض نفسه بقوة -من خلال معادلاته وتنوعاته وضغوطاته- أمام الواقع الداخلي الذي تعيش فيه الحركة الإسلامية وباقي تيارات وقوى الأمة الأخرى من اليمين واليسار، ليكون موقع هذه الحركة مواجهاً تماماً لكل الدول والمشاريع والمحاور السياسية والاقتصادية في العالم التي تعمل باستمرار على تشويه صورة هذه الحركة في وجدان الرأي العام الإسلامي من جهة، والرأي العام الدولي من جهة ثانية، وذلك عبر التركيز الدائم على المفردات السلبية داخل مواقع الحركة الإسلامية، وهي مفردات ووقائع صحيحة في الأغلب، ولم تمارس تلك الحركات الأيديولوجية –وعلى رأسها الحركات الإسلامية- أي نقد موضوعي مهم ونوعي بشأنها إلا فيما ندر، مما جعل المواقع الفكرية والسياسية الكبرى في العالم تستفيد من تلك النقائص والثغرات القائمة والموجودة أصلاً لتثير أجواء العاطفة الإنسانية المضادة كجزء من الحرب الدولية المفروضة أصلاً على الإسلام.

© منبر الحرية ، 13 ماي /أيار2010
المصدر: http://minbaralhurriyya.org/index.php/archives/2891

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك