الدولة في اللسان والاصطلاح العربيين

عبد الرحيم العلام

 

تطرح مسألة الدولة في العصر الحاضر مجموعة من الإشكاليات وتتقاسمها العديد من وجهات النظر، لكن قليلة هي الدراسات التي تهتمّ بتعيين مفهوم الدولة في اللّسان و الاصطلاح العربيين؛ فالذين تملّكتهم رغبة «استعادة نموذج الدولة النبويّة» لا تجد لديهم أيّ تحديد لهذا النموذج، فهل «الدولة» النبويّة أو «دولة الخلافة الراشدة» أو «دولة معاوية» تتطابق وما ننعته اليوم بالدولة L’ETAT؟ ألا تسقط القراءة الاسترجاعية مفهوم الدولة الحديثة على نموذج تاريخي يختلف تماما عن الواقع المعاصر؟ ألا يسهم الجمع بين ما يُسمّى «شموليّة الإسلام» ومركزيّة الدولة الحديثة وقوّتها في الحد من حريّة المجتمع و الأفراد؟

لا نعتقد أن أيّة دراسة بإمكانها الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها في غياب العودة إلى ما قصدته القواميس العربيّة من كلمة «دولة» من ناحية، و في غياب مقارنة المفهوم الحديث للدولة بالممارسة التاريخية للمسلمين؛ لتبيّن ما إذا كنا نقصد نفس المفهوم، أم أنّنا إزاء مفهومين مختلفين من ناحية ثانية. فعندما نتحدّث مثلا، عن «دولة النبيّ» أو «دولة معاوية»، يجب ألاّ يغيب عن أذهاننا التحديد اللغوي والمفهوميّ الذي نسقطه على ما ننعته بـ«دولة» وقتئذ. لذلك سنحاول في هذه الورقة أن نعطي لمحة سريعة عن كيفيّة نظر المسلمين العرب لكلمة «دولة» بالموازاة مع تعريف القواميس الأجنبية لكلمة L’ETAT، و نبيّن كيفيّة تمثل الممارسة التاريخية للمسلمين مفهوم الدولة.

رغم كون الدولة اسم، إلاّ أنّها أيضا «فعل» متحرّك منتقل، وليست حالة ثابتة State, Static كما في المعنى الأوروبي وجذره اللغوي اللاتيني

 

 

الدولة لغة - في لسان العرب- هي اسم الشيء الذي يُتداول، والدولة «الفعل و الانتقال من حال إلى حال».[1] الدَّولة والدُّولة: العقبة في المال و الحرب سواء، وقيل: الدُّولة، بالضم، في المال، و الدَّولة، بالفتح، في الحرب، وقيل: هما سواء فيهما، في الحرب، وقيل: هما سواء فيهما، يضمان و يفتحان؛ وقيل: بالضم في الآخرة و بالفتح في الدنيا، وقيل: هما لغتان فيهما، و الجمع دُول و دول[2]. الدَّولة والدَّولة لغتان: و منه الإدالة الغلبةً. و أدالنا الله من عدوّنا: من الدولة؛ يقال: اللّهم أدلني على فلان وأنصرني عليه. و تداولنا الأمر: أخذناه بالدُّول. و قالوا: دواليك، أي مداولة على الأمر؛ قال سيبويه: وإن شئت حملته على أنّه وقَعَ في هذه الحال، ودالت الأيام أي دارت، والله يداولها بين الناس. والدولة: لغة في التّوَلَة. يقال: جاءنا بدُولاته أي بدواهيه، و جاءنا بالدّولة أي بالداهية[3]ما نلاحظه ممّا سبق، أنّه رغم كون الدولة اسم، إلاّ أنّها أيضا «فعل» متحرّك منتقل، وليست حالة ثابتة State, Static كما في المعنى الأوروبي وجذره اللغوي اللاتيني. فمصطلح State في الإنجليزية أو Etat في الفرنسية مستمدّ من الأصل اللاتيني Status وفعله Stare الذي يقابله الفعل To Stand في اللغة الإنجليزية[4]. بمعنى يقف وينتصب ويصمد، ويكون في موقف أو وضع معيّن، ويظلّ قائما أو نافذا ساري المفعول،[5] كما جاء في معانيه المعجمية. وعلى العكس من ذلك «دال ويدول» في العربية، إذ يقال للشيء إذا أصابه البلى أو تعرّض للزوال «اندال القوم تحوّلوا من مكان إلى آخر».[6] وبينما تشتقّ من «دولة» صفة «الدائل» بمعنى المنقلب والزائل، فإن صفة Static المشتقّة من State (دولة بالإنجليزية) تعني «الساكن والمستقرّ والمثبت في موضوع» ومثله Status؛ أي الحالة أو الوضع و خاصة الشرعي القانوني، بما هو وضع ثابت معترف به، ومن المشتقّات ذات الصلة أيضا Status، وهو التمثال القائم أو النصب الثابت في موضعه دون تبدّل. كما يعني مصطلح Quo Status في اللاتينية و الفرنسية الوضع المثبت والسائد قبل أيّ تغيير أو التمسّك بديمومة ذلك الوضع. ومنه Statique بالفرنسيّة كصفة للثبات والسكون وكمصطلح لعلم توازن القوى المؤدّي إلى تثبيت الأوضاع واستقرارها. بينما يرتبط المعنى اللغوي لـ «دولة» في العربية بفكرة تداول الغلبة والسيطرة بين قوم وقوم آخرين ينازعونهم في الحرب أو المال، وهما أهم وظيفتين لسلطة الحكم في المجتمعات القديمة بخاصة، فالدولة في الحرب أن تدل إحدى الفئتين على الأخرى، ويقال: كانت لنا عليهم الدولة. وفي المثال يقال: صار الفيء دولة بينهم يتداولونه مرّة لهذا، ومرة لهذا...فيكون لقوم من دون قوم». وقد يكون التداول لأكثر من مرّة كأن يهزم أحد الجيشين الجيش الآخر: ثم يُهزم الهازم، فتقول رجعت الدولة على هؤلاء كأنّها «المرة»، ومنه «الأدالة والغلبة، وأدالنا الله من عدونا، يقال اللهم أدلني على فلان و انصرني عليه... ومنه حديث أبي سفيان وهرقل: ندال عليه و يدال علينا، أي نغلبه مرّة، و يغلب أخرى».[7] ومن منطلق هذا المعنى، فإنّ لفظ دولة قبل أن يكتسب مفهومه السياسي المحدد في العربية بمعنى السلطة والقوة المتغلبة الحاكمة، كان يعني «الدور» و «الدورة» مثل دور الإنسان في الثراء و الجاه ثم انقلاب «دورة» الدهر عليه، أو العكس بمعنى تحوّله إلى دور الثراء والجاه بعد أن كان معدما أو خاملا. ومنه أيضا «دورة» الأيّام و الفصول، إلى أن توسّع معنى الكلمة في تطوّره الدلالي (السيمانتيكي) المتدرّج، فاتخذ معنى «دورة» تقلّب عجلة الدهر والأقدار بحظوظ الأمم ومصائرها «تداولا» بين عزّ و ذلّ. ولمّا كان «تداول» الخضوع المتعاقب للسلطات الحاكمة من أقدار الأمم اقترب المعنى ودخل في إطار المفهوم السياسي إلى أن ارتبط به واقتصر عليه في الاستعمال اللغوي العام، وتمّ إغفال معانيه الأخرى المذكورة كما يحدث في حالات عديدة من التطوّر والتغيير السيمانتيكي للكلمات، كما هو مقرّر في علم اللّغة.

 

لفظ دولة قبل أن يكتسب مفهومه السياسي المحدد في العربية بمعنى السلطة والقوة المتغلبة الحاكمة، كان يعني "الدور" و "الدورة"

 

 

 

 

والجدير بالملاحظة أنّ مشتقّات جذر «د-و-ل» لم ترد في القرآن إلاّ في آيتين بمعنى التداول والمداولة [كي لا يكون دولة بين الأغنياء منك ] (الحشر:7) و [تلك الأيّام نداولها بين الناس] (آل عمران:140) ولم يتضمّن القرآن أيّة إشارة لفظيّة من اشتقاق هذه الكلمة لمعنى «الدولة» بالمفهوم السياسي. ولعلّ ذلك مردود إلى أنّ عرب شمال الجزيرة الذين نزل القرآن بلغتهم وخاطبهم لم يعرفوا قبل الاسلام الدولة من حيث هي مؤسّسة سياسيّة شاملة و كيان دائم ثابت، أو حتى من حيث هي حكومة منتظمة ذات صلاحيات مقررة واضحة، وإن عرفوا أشكالا أوّليّة من السلطة السياسية المشتركة بين شيوخ القبائل و أعيانها المتمثلة في «الملأ» و «دار الندوة» بمكّة على سبيل المثال.[8] فالكلمة التي كانت تستخدم بوجه عام للحديث عن الدولة، لدى العرب، أو المجتمع السياسيّ هي المدينة، ومن الواضح أنّ هذا يمثل محاولة لنقل معنى الكلمة اليونانية Polis والأخرى Politeia. أمّا مختلف أنواع المدن التي ذكرت في المصنّفات اليونانية: المدينة الأوليغارشية والأرستقراطية والديمقراطية، إلى آخره، فقد قدّمت كلّها كمدينة مع صفة تميّز كلاّ منها عن الأخرى.[9] بهذا التحديد اللغوي لمعنى «دولة» في اللّغة العربية وEtat و State في اللّغات الأجنبية، نكون أمام ترجمة غير وفيّة للمعنى على الأقل في عصرنا هذا، فـ Etat في الفكر الغربي تعني الثبات والصمود و الاستقرار، بينما «دولة» في اللغة العربية تعني التحوّل والدوران وعدم الاستقرار، و هو الأمر الذي سايرته التجربة السياسية للمسلمين العرب؛ حيث يتّضح ذلك سواء من خلال التعابير السياسيّة المستعملة أو من واقع حال الممارسة. فمن الشائع القول عن عمر بن الخطاب إّنه مؤسس الدولة الإسلامية. وهذا «صحيح فقط من وجهة تقدير مساهمته الكبرى في تطوير وسائل السياسة الدينيّة وأدواتها، وهي الوسائل التي سوف ترثها الدولة. ولكنّ جوهر سياسة عمر لم يكن شيئا آخر سوى متابعة أهداف السياسة الدينيّة للخليفة الأوّل، وبالتالي للرسول، على طريق تنظيم الفتوحات الدينية، وحماية الجماعة الإسلاميّة الناشئة و تعميق التربية الإسلاميّة و القرآنيّة».[10] ولتبديد الزعم الذي ينسب تأسيس الدولة لعمر بن الخطاب، نورد قول عمر نفسه الذي أقرّ فيه أنّه «لا ملك على عربي»؛ حيث التأكيد من عمر على «أنّه ليقبح بالعرب أن يملك بعضهم بعضا، وقد وسع الله و فتح الأعاجم». وقد قال ذلك في معرض رفعه الحظر الذي وضعه أبو بكر على القبائل التي أخضعت بعد حروب ما يسمى بـ«الردّة» فيما يتعلّق بمشاركتها قريشا في الفتوحات خارج الجزيرة، وهو ما يشير إلى أنّ فكرة السلطة السياسيّة التي تعتبر أحد أركان الدولة الحديثة، لم تكن واردة في ذهن العرب.

 

الكلمة التي كانت تستخدم بوجه عام للحديث عن الدولة، لدى العرب، أو المجتمع السياسيّ هي المدينة

 

 

 

فعمر بن الخطاب كان قد أحسّ بعميق فهمه لطبيعة العرب و أوضاعهم، إنّهم حديثو عهد بالانتظام تحت سلطة الدولة والخضوع لنظامها[11]، وهو ما يشير إليه ابن خلدون كقاعدة من قواعد الاجتماع السياسي من أنّ «الدولة العامّة في أوّلها يصعب على النفوس الانقياد لها بقوّة قويّة من الغلبة والغرابة إن الناس لم يألفوا ملكها ولا اعتادوه، فإذا استقرّت الرئاسة في أهل النصاب المخصوص بالملك في الدولة وتوارثوه واحدا بعد واحد في أعقاب كثيرين ودول متعاقبة، نسيت النفوس شأن الأوّليّة. واستحكمت لأهل ذلك النصاب صبغة الرئاسة».[12] وبينما جرى حسم الخلاف حول الزعامة السياسية خلال الفترة الانتقاليّة، فإنّ الخلافات الأخرى استمرّت وتطوّرت حتى قادت إلى حرب أهلية، خاصّة بعد مقتل الخليفة الثالث و الصراع الذي نشب بين معاوية و عليّ. يقودنا هذا التحليل إلى المضيّ في تبنّي الفرضية التي شكلت محور اهتمام هذه الدراسة، لا سيّما وأنّ العرب كانوا يطلقون على حكم غير الخلافة مصطلح دولة. وكانت هذه تدلّ على سلالة بدلا عن الأرض أو الشعب.

 

إنّ صفات الثبات والاستقرار والتجرّد التي تتّصف بها الدولة Etat لم يشهدها الواقع السياسي للمسلمين

 

 

 

لكن على أيّة حال، فالعبارة اليوم هي الكلمة المستخدمة للدلالة على الدولة. وقد جعل هذا أكثر احتمالا، عندما تنهار سلالة؛ حيث إنّ الوحدة السياسيّة نفسها تتلاشى، ويجب أن يعاد تجميعها. وكان من اللازم إيجاد دولة جديدة.[13] فضلا عن أنّ المسلمين ظلّوا إلى فترة غير قصيرة بعد ظهور الإسلام يستخدمون مصطلح «ملك» للدلالة على مفهوم «الدولة» عند سواهم من الأمم.[14] والجدير بالملاحظة في هذا الصدد أنّ مصطلح «مملكة» كان يعني في عرفهم الدولة من حيث هي دولة مجرّدة، بغضّ النظر عن نظام الحكم فيها، ملكيّا كان أو غير ذلك، فالتمييز بين النظم الملكية والجمهورية لم يعرف إلاّ في العصر الحديث. وإلى حدود هذه اللّحظة الزمنيّة، لم نجد أنّ «دولة» لا تعني سلطة الحكم المنبثقة من داخل الجماعة ذاتها والمعبّرة عن كيانها السياسي بأيّ شكل من الأشكال، وإنّما تعني سلطة الإكراه والتغلّب والقهر التي يُلحقها الأعداء بالجماعة والأمّة، الأمر الذي يشير إلى أنّ مصطلح «دولة» عند العرب وإلى بداية قيام «دولتهم» في الإسلام، لم يتّخذ بعد مفهومه المؤسّسي السياسيّ للسلطة المشروعة حكومة كانت أو كيانا أشمل.[15] وفي هذا السياق، يأتي حديث معاوية – كما أورد الطبري نصّه في تاريخه – وذلك في مجال تأكيده لحقّ قريش في الخلافة دون غيرها من العرب أو العجم «...هل تعرفون عربا أو عجما أو سودا أو حمرا، إلاّ قد أصابه الدهر في بلده وحرمته بدولة، إلاّ ما كان من قريش، فإنّه لم يردهم أحد من الناس بكيد إلاّ جعل ضدّه الأسفل... »،[16] فمن الواضح أنّ دولة هنا تعني التعرّض لاضطهاد الغير و بطشهم وكيدهم، و أنّ قريشا وحدها هي التي لم تعرف هذا الأمر، ولم يصبها الدهر بـ«دولة»، أي بسيطرة الغير عليها من القوى الأجنبيّة.

 

 عمد العباسيون إلى استعمال كلمة «دولة» في الاصطلاح السياسيّ العربيّ و الإسلاميّ

 

 

 

 

وفي مقابل عدم تمكّنهم من بناء النظام السياسي المرتكز على مشروعيّة الخلفاء الأوائل، عمد العباسيون إلى استعمال كلمة «دولة» في الاصطلاح السياسيّ العربيّ و الإسلاميّ؛ و لأنّ هذه الكلمة ارتبطت أصلا كما تبيّن بمعنى «الدولة والغلبة»، فإنّها استخدمت أوّلا للتعبير عن معنى «الثورة» أو «الانقلاب» العباسي (هكذا نرى، أن جذر دولة في المصطلح العربي يشي بأصله الانقلابي أكثر من مفهومه المؤسسيّ)، فقد ذهب «دور» الأمويين في السلطة و الجاه، ودالت بهم «الدولة» لتدور عجلتها لصالح بني العباس، فتأتي دورتهم أي «دولتهم» في دوران عجلة القدر و التاريخ؛ لذا سمّى العباسيّون انتصارهم على الأمويين دولة. ففي أوّل خطاب له نسب أبو العبّاس السفّاح «الدولة» للعباسيين وحدهم، وليس لأنصارهم أو لعموم المسلمين «يا أهل الكوفة أنتم محلّ محبّتنا ومنزل مودّتنا، أنتم الذين لم يتغيّروا ...حتى أدركتم زماننا وأتاكم الله بدولتنا...فاستعدوا فأنا السفّاح المبيح و الثائر المبير».[17] لكن، وبما أنّ «دور» العباسيين في السلطة والرفعة استمرّ طويلا و ترسخ انقلابهم لعصور؛ فلقد غدت «دولة» بني العباس رمزا للسلطة القادمة المستمرّة لأجيال، بعد أن كانت مجرّد دولة انقلابية، فمبدأ التغيير و التطوّر الدلالي لكلمة دولة في المصطلح العربي يتّخذ تدريجيا معنى السلالة الحاكمة ثمّ الحكومة القائمة والنظام القائم، و أخيرا معنى الدولة بمفهومها الحديث في القانون الدولي.[18] يلاحظ أنّ كلمة دولة إلى حدود الحكم العباسي، لم تخرج عمّا أقرّته القواميس اللّغوية، إذ لم تكن الدولة قد تحدّدت كمفهوم مجرّد يفيد الاستقرار و الثبات و الانفصال عن النظام السياسي، وهو ما نستخلصه من هذه الفقرة من "الأدب الكبير" لابن المقفع إذ يقول: «إذا كان سلطانك عند جدّة دولة، فرأيت أمرا استقام بغير رأي...فلا يغرنّك ذلك، فالأمر الجديد ممّا تكون له مهابة في أنفس أقوام... ». فنرى أنّ المصطلح قد دخل الأدب السياسيّ على ألسنة الكتّاب واقترب من معناه السلطوي المحدّد، لكنّه لا يزال يشي بمعناه كدورة أو انعطاف مستجدّ (جدة دولة)، فكأنّها دولة مستجدّة بذاتها، وليست تغييرا للسلطة داخل كيان دولة قائمة فعلا منذ صدور الإسلام، كما هو متصوّر تاريخيا. وابن المقفّع نفسه كان لا يزال يستخدم في كتاباته تعبير: «الدنيا دول».[19] وليس الفقه، بهذا المنظور، مهتمّا بالدولة بوصفها فكرة فلسفيّة مجرّدة، أو بوصفها ظاهرة تاريخيّة بالرغم من انتباهه بوضوح إلى هذين المظهرين. إنّه يرى الحكومة في المحلّ الأوّل بوصفها أداة إلهيّة، وكجزء ضروري وأصيل من التدبير الإلهيّ المتواصل من أجل الجنس البشري.[20] كما لازالت العرب إلى حدود هذه اللحظة من تاريخ المسلمين، تأبى فكرة الخضوع للحاكم أو «الدولة»، كما كان قد تنبّأ بذلك الخليفة الثاني عمر بن الخطاب. فعلى الرغم من مرور أربعة قرون من القيادة العربيّة لـ «الدولة» الإسلاميّة، وتعايش العرب مع هذه «الدولة» بشكل أو بآخر، نجد أنّ ظاهرة نفورهم من الخضوع لسلطة دولة مركزية بادية في مسلكهم السياسيّ. فهذا المتنبّي يصف مسلك القبائل العربيّة مع أميرها العربيّ سيف الدولة عندما أقام «الدولة الحمدانيّة» في حلب، ويصفه في أبيات[21]، ويحذّره من أن «يأخذ أهل الحضر والبدو بضبط لم تعوده العرب في السياسة»؛ فالعرب في نظر المتنبّي «متى أحسّت بـ "ضبط" تنفر كما تنفر الوحش متى شمّت ريح الإنس».

على سبيل الختم

نرمي من خلال هذه الدراسة إلى التأكيد على أنّه لو أردنا أن نسقط المفهوم الحديث للدولة Etat على الكيان السياسي الذي ساد نظام الحكم الإسلامي، فإنّنا سنكون آنذاك أمام غياب أي وجود للدولة في كلّ تجارب الحكم في بلاد المسلمين، فأركان الدولة الحديثة غائبة في مجملها، ثمّ إنّ صفات الثبات والاستقرار والتجرّد التي تتّصف بها الدولة Etat لم يشهدها الواقع السياسي للمسلمين. وأمّا إذا أردنا الاقتصار على التعريف اللّغوي للدولة، فإنّ ما شهده التاريخ السياسي الإسلاميّ كان حقّا دولة بكلّ ما تحمله كلمة دولة من معان، فالمسلمون لم يعرفوا ـ إلى وقت قريب ـ الدولة إلاّ بما هي تداول وانقلاب و صراع ودوران، وإنّما عاشوا في ظلّ دول تحمل أسماء حاكميها، وتنتهي بانتهاء حكمهم، دول لا حدود إقليميّة قارّة لها، ولا سيادة كاملة على ترابها، ولا شعب ـ بالمفهوم الحديث للشعب ـ يعيش على رقعتها، فضلا عن غياب طرق مستقرّة لتدبير شؤون الحكم وسبل تداوله. بهذا نكون أمام كيان سياسيّ، تتداول فيه «الدول» كما تتداول فيه أنظمة الحكم. إنّ التمييز بين المعنيين السابقين للدولة، سيجنّبنا إسقاط ما يعتقده البعض «شمولية الإسلام» على الدولة المركزية الحديثة، لتنتقل هذه الأخيرة من دولة مركزية مدنية مؤسساتية مؤطَّرة بمبادئ دستورية ومراقَبة من قِبل مجتمع مدني من سماته الحرية و المسؤولية، إلى دولة مركزية شموليّة لا تكتفي برعاية شؤون المواطن الاجتماعية والحياتيّة، وإنّما تسهر على الأخذ بيد «الرعايا» إلى «الطريق المستقيم المؤدّي إلى الجنة». وبهذا، نكون أمام دولة تهتمّ بكافّة مناحي الحياة الدنيوية والأخروية لـ «الرعايا» مستغلّة في ذلك مركزيّة وقوّة الدولة الحديثة. لذلك، وجب الحذر من إمكانيّة إسقاط ما يُعتقد أنّه «شمولية للإسلام» على الدولة المركزية الحديثة. فالتوسّل بأداة مركزية قوية فاعلة بهدف إنزال فكر شموليّ على الواقع، سينعكس لا محالة على القيم الإنسانيّة النبيلة وأهمّها قيمة الحريّة، لأنّ استعادة الفكر السلفيّ التقليديّ الموازي للدولة التي لا تمتلك الوسائل الكفيلة بضبط وإحصاء أنفاس المجتمع، في ظلّ مركزية وقوة الدولة الحديثة وما تملكه من إمكانيّات تقنية ولوجستية، سيجعلنا أمام نموذج لم يشهد له التاريخ مثيلا. لا يعني هذا أنّ الكنسية في أوروبا أو الأنظمة الأوتوقراطية في التجربة الإسلامية لم يسعيا إلى محاصرة حريّة الإنسان، والحدّ من حقوقه، بل نؤكّد من خلال الدراسة، أنّ ذلك كان مطلبا ملحّا تمّ تنفيذ جزء منه، وصاحب الفشل باقي عناصره بفعل ضعف الدولة في العصور الوسيطة؛ حيث لمّا تقوّت الدولة وامتلكت القدرة والقوّة كان الفكر الإنسانيّ بدوره قد تقدّم واستنار، فأمست الحقوق والحريّات من ضمن المقدّسات؛ لذا نلحّ على أنّ الدولة المركزيّة القويّة يمكنها في غياب فكر مستنير، محترم لحقوق الإنسان، أن تستحيل كائنا يشبه ذلك الوحش الذي وصفه هوبز في كتابه «اللفياتان».

ـــــــــــــــــــــــــــــ

لائحة المصادر و المراجع:

ابن منظور، لسان العرب، دار المعارف، القاهرة، المجلد 2، دون تاريخ.

عبد الرحمان بن خلدون، المقدمة، تحقيق كاترمير، طبعة باريس، 1858، المجلّد الأوّل، مكتبة لبنان 1992.

قاموس، المورد، دار العلم للملايين، روحي البعلبكي، بيروت، 1991.

الجوهري، معجم الصحاح، عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، ط 3، بيروت 1984

أنتوني بلاك: الغرب و الإسلام، الدين و الفكر السياسي في التاريخ العالمي، ترجمة فؤاد عبد المطلب، عالم المعرفة، العدد 394، الكويت،2012.

برهان غليون: نقد السياسة: الدين و الدولة، المركز الثقافي العربي، الطبعة 4، 2007

برنارد لويس: لغة السياسة في الإسلام، ترجمة، ابراهيم شتا، دار قرطبة، ط1، 1993

جابر الأنصاري: التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام، مكوّنات الحالة المزمنة، دار الشروق، ط2، 1999.

[1] ابن منظور، لسان العرب، دار المعارف، القاهرة، المجلد 2، دون تاريخ.ص 1456.

[2] نفسه

[3] نفسه

[4]International Encyclopaedia of the Social Sciences vol 15,Macmillan Co,New York,1968, P.144

بتوسّط من جابر الأنصاري: التأزم السياسي عند العرب و سوسيولوجيا الإسلام، مكوّنات الحالة المزمنة، دار الشروق، ط2،1999، ص29.

[5] قاموس، المورد، دار العلم للملايين، بيروت، 1991، ص 898

[6]الجوهري، معجم الصحاح في اللغة، تحقيق عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، ط 3، بيروت، 1984، ص 1700.

[7] جابر الأنصاري: التأزم السياسي، ص 29.

[8]نفسه، ص 31

[9]برنارد لويس: لغة السياسة في الإسلام، ترجمة، ابراهيم شتا، دار قرطبة، ط1، 1993، ص 57

[10] برهان غليون: نقد السياسة: الدين و الدولة، المركز الثقافي العربي، الطبعة 4، 2007 ص 68

[11] جابر الانصاري: التأزم السياسي، ص 35

[12] عبد الرحمان بن خلدون، المقدمة، تحقيق كاتمير، طبعة باريس، 1858، المجلد الأول، مكتبة لبنان 1992. ص 279.

[13]أنتوني بلاك: الغرب والإسلام، الدين و الفكر السياسي في التاريخ العالمي، ترجمة فؤاد عبد المطلب، عالم المعرفة، العدد 394، الكويت،2012.ص 116

[14] جابر الانصاري: التأزم السياسي، ص 35. وقد استخدم القرآن مصطلح "ملك" حتى بالنسبة للأنبياء الذين تولّوا السلطة السياسيّة في بلادهم وعلى قومهم، وهم أبعد ما يكونون في طبيعة حكمهم عن مسلك الملوك الدنيويين {و آتاه الله الملك و الحكمة و علّمه مما يشاء} البقرة 251، {وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب} سورة ص 2. و يؤكد المفسر ابن كثير هذا المعنى بقوله "أي جعلنا له ملكا كاملا في جميع ما يحتاج إليه الملوك..." و استخدم القرآن أيضا مصطلح الملك بصيغة الفعل للإشارة إلى "دولة" سبأ في جنوب الجزيرة العربية وهي من "الممالك" أي "الدول" التي عرفها عرب الجنوب قبل الإسلام {إنّي وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم} النمل 23.

[15] جابر الأنصاري: التأزم السياسي، ص 31

[16] نفسه

[17] جابر الأنصاريّ: التأزم السياسي، ص 32

[18] برنارد لويس: لغة السياسة في الإسلام، وكذلك جابر الأنصاريّ: التأزم السياسي، ص 32

[19] جابر الأنصاريّ: التأزم السياسي، ص 32

[20]برنارد لويس: لغة السياسة في الإسلام، ص 51

[21] جابر الانصاري: التأزم السياسي، ص 39

المصدر: https://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%...

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك