الـمنهج المقارن وآفاق بناء رؤية جديدة للآخر دلالات الاختلاف في المشترك

محمد إدريس

 

شهدت المباحث الدينية في العقد الثاني من القرن العشرين جملة من التحوّلات التي طالت أسس البحث في العلاقات القائمة بين الأديان؛ ففي تلك الفترة أَلّف إميل دوركايم(1858-1917)Durkheim Emile"الأشكال الأولية للحياة الدينية: "نظام الطوطم بأستراليا"، وفي هذا الكتاب بيّن أنّه" لا توجد أديان خاطئة، فجميعها صحيح".[1] وقد شكّل هذا التصوّر القاعدة الرئيسة التي قامت عليها الدراسات المعاصرة التي لم تعد تفاضل بين الأديان، وهو تصوّر ما انفكت مختلف المقاربات (علم الاجتماع الديني،الأنثربولوجيا الدينيّة،علم الأديان المقارن،...)[2]تؤكّده، وقد أدّى تعدّد المقاربات وانفتاح العلوم الإنسانية على حقول معرفية متنوّعة إلى وضع أسس جديدة للبحث في النص الديني. فالدين رؤية للعالم ولمنزلة الإنسان فيه، ولما يقوم بينه وبين عالم الغيب وكائناته من علاقات، وهي علاقات يمثّل الآخر حجر الأسس فيها؛ فالرحمة والرأفة والإحسان إلى الآخر تُعدّ قيما أساسية في الأديان التوحيديّة، التي تُحدّد فيها علاقة الإنسان بالله في ضوء علاقة الإنسان بالإنسان. وفي هذا المقال نقف على آفاق البحث المقارن من منظور علم الأديان، وما نهض به من أدوار في بناء علاقة جديدة بين الأنا والآخر، إذ تبدو الحاجة إلى بناء تصوّر جديد لعلاقة الأنا بالمغاير دينيا مطلبا ملحا في ظلّ ما نراه في مناطق عديدة من العالم (مصر، فلسطين، لبنان،...) من صراعات عقائدية سرعان ما اتّخذت ، وما تزال - من العنف (إبادة الآخر) مقوّما لها، جاعلة من إلغاء الآخر شرط بقاء الأنا. لقد بيّن علم الاجتماع الديني أنّ الغاية الرئيسة التي تنشُدالأديان هي توحيد المؤمنين، بما يوفر الدين من قيم مشتركة، تقوّي انخراط الفرد في الجماعة، وما يعنينا في هذه المسألة: هل استطاعت الممارسة التاريخية للأديان توحيد المؤمنين؟ أَلا يمكن القول إنّ جزءا من النصوص الحواف (الممارسة التاريخيّة) حاد عن غايات النصوص المقدّسة؟ أَلم يكن بالإمكان تطوير الرؤية الدينية لتجاوز الوحدة الصغرى (أتباع العقيدة الواحدة) إلى وحدة كونيّة تجمع بين البشر على اختلاف أديانهم؟ هذه بعض الإشكاليات التي نروم الإجابة عنها في مبحثين: نعالج في الأول صورة الآخر في النصوص المقدّسة؛ أمّا في الثاني، فنتناول خصائص المنهج المقارن باعتباره المقوّم الرئيس لأيّ مشروع يروم تأسيس علاقة وطيدة بالآخر.[3]

 أدّى تعدّد المقاربات وانفتاح العلوم الإنسانية على حقول معرفية متنوّعة إلى وضع أسس جديدة للبحث في النص الديني.

 

 

 

I- روافد النص المقدّس، صورة الآخر أنموذجا

نسعى في هذا المبحث إلى تبيّن سلطة الواقع السياسي والاجتماعي، ودورهما في تحديد مواقف النصوص المقدّسة من الآخر؛[4] فالحروب التي شُنّت على الآخر، والتي كانت وراء سفك دماء آلاف العباد، باسم الله قامت. قُدّس الموت والخراب والدمار، ولحشد العباد وكسب تأييدهم، وتبرير الاعتداء على الآخر، استند مدبّرو الحروب وصنّاعها (الحروب الصليبيّة،...)،[5] إلى آي النصوص المقدّسة. ولا غرابة في ذلك، فـ"كلّما كان المقدّس عند طرف غير مقدّس عند الطرف الآخر تعطل الحوار".[6] لقد اتّخذت النصوص المقدّسة في آيات عديدة مواقف متشدّدة من الآخر، على أنّ هذه الصورة قابلتها صورة أخرى فيها احترام للآخر، ودعوة إلى التعايش معه. إنّ محاولة فهم الأسباب التي دعت إلى المراوحة بين محاربة الآخر والدعوة إلى التعايش معه تتطلب منّا إعادة النظر في السياقات التي نشأت فيها تلك المواقف.

 

كلّما كان المقدّس عند طرف غير مقدّس عند الطرف الآخر تعطل الحوار

 

 

 

أ- الآخر في العهد القديم : المراوحة بين العنف والتعايش

تعدّدت في "العهد القديم" الآيات الّتي فيها حثّ على عدم الاقتراب من الآخر والتواصل معه أو الاختلاط به، إذ عُدّ الزواج بالأجنبيات جرما عظيما؛[7]ففي النص التوراتي أحداث عديدة مارس فيها بنو إسرائيل العنف على الآخر، من ذلك ما ورد في الأصحاح الخامس والثلاثين من "سفر التكوين"من أنّ يعقوب أقام بين أهل شكيم/ نابلس العابدين" للآلهة الغريبة"،[8] ويبدو أنّ يعقوب لم يطل مقاما في أرض نابلس، حتّى اغتصب شكيم بن حَمُورَ الحِوِّيِّ دينة بنت يعقوب. ولا غرابة أنْ يتولّى يعقوب وأبناؤه الانتقام من المُعتدي على شرفهم، ولكنّ ما يلفت الانتباه هو أنّ يعقوب عمد إلى الحيلة - لما جاءه شكيم لخطبة دينة- بأنْ اشترط ختن كلّ ذكر في المدينة، فلمّا كان اليوم الثّالث من الختن، قام ابنا" يَعْقُوب شِمْعُون وَلاَوِي [...] وَأَتَيَا عَلَى الْمَدِينَةِ بِأَمْنٍ وَقَتَلاَ كُلَّ ذَكَرٍ. [..] ثُمَّ أَتَى بَنُو يَعْقُوبَ [...] وَنَهَبُوا الْمَدِينَةَ لأَنَّهُمْ نَجَّسُوا أُخْتَهُمْ. [...] وَكُلّ مَا فِي الْمَدِينَةِ وَمَا فِي الْحَقْلِ أَخَذُوهُ. وَسَبُوا وَنَهَبُوا كُلَّ ثَرْوَتِهِمْ وَكُلَّ أَطْفَالِهِمْ وَنِسَائهُمْ."[9] بيَّن الحدث المُتخيّل الأسس الّتي أقامت عليها الجماعة الإسرائيليّة وعيها بذاتها وبصلتها بالآخر؛ فالقوم رفضوا دعوة السّلام الّتي قدّمها شكيم وأبوه يوم قالا ليعقوب وأهله"لِنَصِيرَ شَعْباً وَاحِداً"،[10]ونرى في نهب المدن وتخريبها فسادا، بينما يرى فيه يعقوب ثأرا لشرف ابنته. العنف والانتقام من الآخر والرغبة في محوه كان شكلا من أشكال التعويض، وقد نهضت الأحداث المُتخيّلة في هذا المجال بدور مهمّ في إعطاء الجماعة اليهودية خصوصية ودورا في التّاريخ السياسي للمنطقة؛ فجماعة إسرائيل التي لم تستطع الانغماس في الحياة الثّقافيّة والدّينيّة والسّياسيّة للمنطقة، إذ ظلّت الجماعة قبائل رعويّة، لا أرض لها ولا تاريخ، ولا وزن لها في المنطقة، بل يكاد أهل تلك المنطقة من حثّيين وأمُوريين وكنعانيين.... وغيرهم لا يشعرون بوجود هؤلاء البدو. وما يقوّي هذا الرأي عندنا هو أنّ اليهود اتّخذوا في فترات الاستقرار موقفا إيجابيا من الآخر؛ فالاعتداء عليه ذنب لا يغفر، من ذلك أنّ الرب الإله توعّد داود بالعقاب بسبب دفعه بأوريا الحثّي إلى الموت قصد الزّواج بامرأته.[11]ولا غرابة في ذلك، فالرب الإله بارك الآخر، مثلما بارك بني إسرائيل.[12] حدّدت أسفار"العهد القديم" في أكثر من موضع علاقة بني إسرائيل بالمغاير دينيا وثقافيا؛ فكان قوامها العنف والإقصاء. [13]ونحن إذا ما تأملنا تلك العلاقة ألفيناها لاتخرج عن السائد بين الأمم في تلك العصور من حروب ومواجهات مستمرّة.

 

 العنف والانتقام من الآخر والرغبة في محوه كان شكلا من أشكال التعويض

 

 

 

 

ب - الآخر في العهد الجديد: من الإلغاء إلى الاعتراف

ذكرت "أعمال الرسل"، أنّ كلاّ من الرسول بطرس والرسول بولس وجدا معارضة شديدة من الجماعة اليهودية، ومن بعض الرّسل بسبب دعوتهما إلى ضرورة انفتاح العمل الرّسوليّ على الأمم الأخرى.[14]وقد انقسم التلاميذ بسبب هذه الدعوة إلى قسمين، وهو ما عبّرت عنه الخصومات التي قامت بين برنابا وبولس من جهة، وبين بطرس وأغلب الرّسل من جهة أخرى؛[15] ذلك أنّ الانفتاح على الأمم المجاورة فيه مخالفة لممارسات المسيح الّذي اعتبر نفسه مخلّصا لليهود دون غيرهم؛ فهو "لم يُـرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ"[16] إنّ الانفتاح على الآخر يبيّن بعض الوسائل الّتي اعتمدها الرّسل لمواصلة نشر كلمة المسيح، وجعل رسالته أمرا واقعا لها أنصار ومؤيدون. ولا يفوتنا في هذا المجال الإشارة إلى أنّ ما أقدم عليه التلاميذ مثّل تجاوزا للتصور الديني الذي وضعه المسيح، على أنّ ما قام به التلاميذ كان ضرورة اقتضتها الظروف؛[17] فـ"أعمال الرسل" مثّلت حركة اجتماعيّة ودينيّة إصلاحيّة أثارت اضطرابات سياسية هدّدت مصالح شرائح عديدة من المجتمع اليهوديّ وغير اليهوديّ،[18]وقد سعت تلك الفئات إلى اضطهاد التلاميذ والتضييق عليهم، وهو ما فرض على الرسل نشر تعاليمهم بين الأمم المجاورة. وفي ما يتعلق بهذه المسألة نشير إلى أنّ هذا الانفتاح كان انفتاحا جزئيّا، إذ ظلّ لليهود الدور الرئيس،[19] إذ اقتصر العمل التّبشيريّ على اليهود دون غيرهم من جهة،[20] ومن جهة أخرى، بقي طقس الختان أهم الطقوس الدّالة على الانخراط في الجماعة المؤمنة بيسوع رغم سعي بطرس إلى إلغاء ذلك.

إنّ الانفتاح على الآخر يبيّن بعض الوسائل الّتي اعتمدها الرّسل لمواصلة نشر كلمة المسيح

 

 

ج - الآخر في القرآن الكريم

منح النص القرآني للإنسان حرية تقرير مصيره ، ذلك أنّ المبدأ الرئيس الّذي قام عليه "القرآن الكريم" مداره على أنّ " لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ".[21] الإيمان والكفر مسألتان متعلقلتان بالفرد، ونحن إذا ما تأمّلنا أحوال الإنسان في القرآن الكريم، ألفيناها متنوّعة مختلفة باختلاف مواقف الإنسان من التوحيد الّذي يعدّ جوهر الإسلام؛ فالإنسان هو المسلم، وهو الكافر والمشرك، هو المؤمن بما جاء به محمّد، وهو المكّذب به العابد للأصنام والأوثان، أو هو أتباع الأديان التوحيدية (اليهود، النصارى) . وقد حدّد النص القرآني في آيات عديدة العلاقات التي قامت بين الجماعات الدينيّة؛ فكانت متحاربة حينا متعايشة في فضاء واحد في طمأنينة وسلام حينا آخر، وما يلفت الانتباه في ما يتعلق بالوضع الأوّل (الحرب،...) أنّ الدعوة إلى قتل الآخر وإباحة دمه كانت قصاصا وردّ فعل على العنف الممارس ضد الجماعة المسلمة، وهو ما يتجلّى في الآيات القرآنية التالية:" َاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ [...] وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ [...] حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [...] فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ [...] وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ". [22] ارتبط العنف في النص القرآني بأوضاع مخصوصة تكون فيها الجماعة المسلمة مهدّدة في وجودها، وهو ما يعني أنّ "العنف إزاء الغير [...مأتاه] عنف الغير إزاءنا [فـ] المبادرة بنفي الغير مستبعدة، بل يوصي القرآن بنفي هذا النفي"؛[23] ذلك أنّ دم الآخر محرّم على المسلم، مثلما هو محرّم عليه دم المسلم. تميّزت علاقة الأنا بالآخر في النصوص المقدّسة بالمراوحة بين التواصل والانفصال، على أنّ العنف والإقصاء موقف اقتضاه وضع الأنا في لحظات تاريخيّة معيّنة؛ فكلّما شكلّ الآخر تهديدا للأنا ووجوده وقيمه، انقلب التواصل عنفا متبادلا. لقد وضعت النصوص المقدّسة أسس التعايش السلمي بين أتباع الأديان التوحيديّة - وغيرهم-، فلماذا ضاقت الحياة اليوم باليهودي والمسيحي والمسلم، فلم يعد قادرا على التواصل والعيش مع الآخر في فضاء واحد؟ تعود المسألة - في تقديرنا- إلى سطوة الممارسات التاريخية التي جعلت من الإقصاء قاعدة، وهي بذلك تكون قد قوّضت أهم أس قامت عليه الأديان التوحيدية (الدعوة إلى التعايش)؛ فكان التعصّب ماهية الدين، وكان سفك دم الآخر شكلا من أشكال التقرّب إلى الله .

 

 تميّزت علاقة الأنا بالآخر في النصوص المقدّسة بالمراوحة بين التواصل والانفصال، على أنّ العنف والإقصاء موقف اقتضاه وضع الأنا في لحظات تاريخيّة معيّنة

 

 

 

 

: II الـمـبـحث المـقــارن وبـناء صـورة الآخــر

أ- البحث المقارن في المقاربات التقليديّة من الإلغاء إلى الاحتواء

وما فيها من عوج، وهو ما جعل المبحث المقارن يتّسم في تلك المدوّنات التقليدية بالمعيارية؛ فالمجادلات التي قامت بين أتباع الأديان التوحيديّة عمّقت الخلاف والعداء والبغضاء بين المنتمين إليها،[24]ووسعت دائرة الفتق بدلا من أنْ تقرب القلوب وتؤلّف بينها. ورغم تعدّد المحاولات الساعية إلى إعادة فهم علاقة الأنا بالآخر بعيدا عن القول بالتحريف، فإنّ تلك المحاولات انتهت - في تقديرنا- إلى نتائج متشابهة، رغم انطلاقها من مسلّمات فكرية متباعدة؛ فالمقاربة التاريخيّة التي رامت تأسيس رؤية جديدة بالبحث في أهم الروافد، وأشكال التأثير والتأثر القائمة بين الأديان، انتهت إلى المفاضلة بين الثقافات والأديان، عندما جعلت العلاقة القائمة بينها خاضعة لمبدأ التأثير والتأثّر،[25] وهي قراءة حاولت المقاربة الجدلية المادية تجاوزها عندما رأت في تشابه الأوضاع الاجتماعية والعادات والتقاليد دليلا قاطعا على تماثل في الأوضاع الاقتصادية والمادية،[26]وهو تصوّر سرعان ما هدّمت المقاربات الأنثربولوجية أركانه، عندما بيّنت أنّ التشابه دال بالأساس على وجود تفاعل بَنَّاءٍ بين الثقافات والشعوب والأديان مأتاه اشتراكها في الهواجس.

 

 أنّ الكونية لا تتجلّى في المماثلة، وإنّما في المغايرة الّتي لا تؤدّي إلى محو الهوية Identité بقدر ما توطّد أركانها من خلال الانفتاح على الآخر

 

 

 

 

ب - تاريخ الأديان / علم الأديان[27] وبناء أسس جديدة للمبحث المقارن[28]

كانت الدراسات المعاصرة المهتمّة بالظاهرة الدينيّة على اختلاف مشاربها (علم النفس الديني، علم الاجتماع الديني، علم الأنثربولوجيا الدينيّة،...) على وعي بأنّ البحث في الظاهرة الدينية لا يهدف إلى بلوغ الحقائق الدينيّة بما هي حقائق متعالية على التاريخ والواقع. لقد أسس الوعي بالعلاقة الجدلية القائمة بين النصوص المقدّسة وواقعها تصوّرا جديدا قوامه أنّ البحث المقارن لا يروم تبيّن وجوه المطابقة بقدر ما يسعى إلى فهم الاختلاف وتبيّن دلالاته،[29]فعلم الأديان المقارن بيّن أنّ" لكل مجتمع وثقافة خصوصياتها، وفي ذلك تقويض لفكرة المركزية الثقافية[...] فإذا بالتنوّع الثقافي وحقّ الاختلافDifférence أسّ البحث في علم الأنثربولوجيا، ذلك أنّ الكونية لا تتجلّى في المماثلة، وإنّما في المغايرة الّتي لاتؤدّي إلى محو الهوية Identité بقدر ما توطّد أركانها من خلال الانفتاح على الآخر".[30] في ظل هذه الرؤية أصبح من الممكن الحديث عن حوار بنّاء بين الأديان والثقافات والحضارات، يقوم على" الاعتراف بالآخر [...] شريكا [...] له ما لنا من الحقوق [...وهو ما يحقّق] التكافؤ [...الّذي يعني] أنّ الآخر ذات ليست بأقلّ من ذاته هو".[31] وقد ترتّب على تحديد أسباب الائتلاف والاختلاف بين الأديان والثقافات وضع أسس جديدة للبحث المقارن، تقوم بالأساس على الوعي بأنّ "المـقارنـة [تنأى عن] القـول إنّ هذا النص أخذ عن ذلك [...] أو أساء النقل، بل يقتضي المنهج المقارن معرفة التوظيف الجديد الّـذي يـكـتـسـبه نـفـس الحدث [...] في النصوص والأديان المختلفة...".[32] أخرج علم الأديان المبحث المقارن من السياق الجدالي الاحتوائي المؤسَّس على النزعة المعيارية القائم على مبدأي التطابق والتجانس، ومنحه دلالات جديدة تكون فيه المقارنة طريقة نقف من خلالها على خصوصيات الرؤى الدينيّة ضمن المشترك (القصص/العقائد/...)، وفي ذلك ردّ على أصحاب التصوّرات التقليدية التي رأت في اقتباس الأديان [33]من بعضها البعض حجّة دامغة على وجود انتحال. يؤكّد "التناص" بين النصوص المقدّسة في مستوى القصص أنّ العلاقة التي تجمعها، تتأسس على مبدَأ الاقتراض؛[34] فكل نص يعمل على "امتصاص"رموز وشخوص وأحداث ومُتخيّل النصوص السابقة له، وذلك بإعادة صياغته في قوالب جديدة وفق تصوّر جديد.[35]

ج - آليات البحث المقارن بين الأديان التوحيديّة (قصص الأنبياء أنموذجا)

إنّ الاختلاف القائم بين نصوص الأديان التوحيديّة يتجلّى في جوانب عديدة، من أهمّها الإرث القصصي المشترك (قصص الأنبياء،...)، ونحن إذا ما تأمّلنا أشكال المحاكاة بينها ألفيناها ثلاثة، وهي:

1.الحذف: يقوم النص اللاحق بحذف جملة من الأحداث التي ذُكرت في النصوص السابقة، ومثال ذلك حذف القرآن الكريم تجديف أيوب على الله (سفر أيوب في العهد القديم).

2.الإضافة: يذكر النص اللاحق أحداثا لم يقع ذكرها في القصّة الأصلية/ النص السابق له، ومثال ذلك جعل القرآن الكريم إبراهيم مقاوما للأصنام.

3.التحويل: اتّخذ التحويل في قصص النصوص المقدّسة بعدين؛ يتمثّل الأوّل في استبدال الأطراف المساهمة في الأحداث، ومثال ذلك جعل القرآن الكريم الشيطان ينهض في قصّة الخلق بالدور الّذي نُسب إلى الحيّة في سفر التكوين. أمّا البعد الثاني، فيتجلّى في نسبة الحدث إلى أطراف غير تلك التي نُسب إليها الحدث نفسه في النص السابق، ومثال ذلك جعل النص القرآني السامري صانعا للعجل، بعد أنْ كان هارون في التوراة من صنعه، ومثال ذلك أيضا إلقاء القوم إبراهيم في النار، وهو حدث تعلّق في "العهد القديم" بالنبي دانيال.

إنّ النظر في مختلف الأشكال التي ذكرنا، يبيّن أنّ محاكاة النص المقدّس للنص السابق لا تخلو من علامات عديدة دالة على الإضافات التي أحدثها النص اللاحق في أحداث النص السابق، فإذا بالتشابه مقتصر على الظاهر؛ فالنصوص المقدسة، وإنْ اتّخذت من السابق لها منوالا، فإنّها أضفت دلالات خاصة بها على الأحداث والمقولات المقتبسة. شهدت النصوص المقدسة عمليات تحويل حتّى تتواشج الأحداث المستعارة ومقتضيات المنظومة الدينية والثقافية التي يراد إنشاؤها، فإذا بالنص الديني يهوديا كان أم مسيحيا أم إسلاميا نص جامع، اشتركت في وضع أسسه ثقافات مختلفة، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال نسبته إلى من انتهت إليه (بولس، بطرس،...) أو الثقافة التي ترعرع فيها (اليهودية، العربية الإسلامية)، إنّها نصوص كونية قبل أنْ تكون نصوصا خاصة بثقافة ما.

 

النص الديني يهوديا كان أم مسيحيا أم إسلاميا نص جامع، اشتركت في وضع أسسه ثقافات مختلفة

 

 

 

 

خاتمة

اتّسمت العلاقة بين أتباع الأديان التوحيدية بالعدائيّة؛ فكلّ جماعة دينيّة رأت في عقائد الآخر انحرافا عن الصراط المستقيم، وهو ما أدّى إلى ممارسة العنف المتبادل (الحرب،..) الّذي سعينا إلى تتبّع آثاره والوقوف على دلالاته، فبان لنا أنّه مقاومة لكلّ أشكال إلغاء الأنا؛ فالحرب لم تكن القاعدة الّتي بنى عليها هذا الدين أو ذاك علاقات أتباعه بأتباع الأديان الأخرى، على أنّ الممارسات التاريخيّة جعلت من العنف قاعدة، إذ حُمّل الدين بدلالات التعصّب والرغبة في إقصاء الآخر واقتلاعه مقابل السعي إلى إثبات الذات، وكأنّ العالم لا يسع الطرفين معا. وما زاد الوضع تأزّما انخراط رجال الدين وعلماء الكلام في مجادلات رامت الحطّ من الآخر. ورغم المحاولات التي سعت إلى إعادة بناء علاقة واضحة مع الآخر استنادا إلى بعض المقاربات الحديثة، فإنّ أغلب تلك المحاولات انتهى إلى بناء مركزية جديدة تكون فيها الأديان مُؤثّرة ومتأثّرة. ولئن قامت هذه المقاربات على تصوّر مخصوص اختزل الكونية في البحث عن أشكال المطابقة التي لم يكن لها وجود، فإنّ التطورات المعرفية والأنساق الفلسفية والنظريات المختلفة (نظرية التناص،..) قد فتحت آفاقا جديدة للبحث المقارن، الّذي رام مع علم الأديان والأنثربولوجيا الدينيّة. [36]تجاوز دائرة الذات بالسؤال عن وجوه تفاعلها مع الآخر[37]الّذي ينتمي إلى فضاءات ثقافية مغايرة، وهو ما عمّق وعي الذات بخصوصياتها. وبهذا المعنى، فإنّ المقارنة بين الأديان ضرورة يتحقّق بها فهم الذات لذاتها، ولمنزلة الإنسان في الكون، من خلال تبيّن ما يصلها بالآخر وما يفصلها عنه.

وفي ظلّ هذا التصوّر الجديد، عُدّ الاختلاف بين الأديان والمذاهب اختلافا في التصوّرات،ذلك أنّ الأصل في الإنسان الاختلاف والمغايرة. وبناء على ذلك، فليس ثمّة ما يدعو إلى اعتبار اشتراكها في الإرث العقائدي والقصصي دالا على سرقة اللاحق ما للسابق؛ فالاقتباس له آليات وأشكال متعدّدة يقود النظر فيها إلى القول إنّ لكل نص رؤاه، على أنّ ما يجمع بين الأديان - التوحيدية وغيرها- إيمانها بالإنسان وتقديسها له، وتلك هي القاعدة التي يجب أنْ يُقام عليها كلّ حوار بنّاء بين معتنقي الأديان التوحيديّة.

ــــــــــــــــــــــــــــ

[1]«Il n’y a pas donc, au fond de religions qui soient fausses. Toutes sont vraies à leur façon », P3. Durkheim(Emile): Les formes élémentaires de la vie religieuse : le système totémique en Australie, 2emEd, paris, 1925.

[2]Ch2. Meslin(Michel)(1926-2010): pour une science des religions, Ed du seuil, Paris, 1973,

[3]إلياد(مرسيا): تاريخ الأديان، ترجمة حسن قبيسي، العرب والفكر العالمي، عـ29/30ـدد، مركز الإنماء القومي، بيروت لبنان،2010، ص ص 48-49.

[4] بيّن الجمل(بسّام): في حركيّة العقائد الدينيّة: مقاربة علم الاجتماع الديني، مجلة آداب القيروان، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقيروان، العــ 09/10ـددان،(مجلد واحد)، تونس،2012-2013، ص 260 "أنّ العلاقة المعقّدة بين المجتمع والدين لا تمارس تأثيرا في اتّجاه واحد [...] أي تأثير المجتمع في الدين. وإنّما يوجد تأثير عميق يمارسه الدين على المؤسسات الدينيّة والاقتصاديّة على حدّ سواء".

[5] انظر قول جيعط (هشام): أوروبا والإسلام، دار الطّليعة للطّباعة، ط 2، بيروت لبنان، 1991، ص 53 "الجهاد في آخر تحليل ليس إلاّ دفعا عسكريا [... ففي] دراسة حديثة [نتبيّن] كم كان صعبا أثناء الحروب الصّليبية إحياء شعلة الجهاد القديمة".

[6]موران (أدغار)(1921-2010)Edgar Morin: الحوار يفترض التكافؤ، ترجمة صابر الحباشة، ضمن كتابات معاصرة، المجـ20ــلّد،العــ80ـدد، بيروت لبنان، آيار/حزيران،2011، ص9.

[7] العهد القديم، سفر عزرا 10/1- 3، سفر ملوك الأوّل 11/9- 13.

[8]العهد القديم، سفر التّكوين 35/4.

[9] العهد القديم، سفر التّكوين 34/25-29.

[10] العهد القديم، سفر التّكوين 34/22.

[11] العهد القديم، سفر صموئيل الثاني 12/10- 19

[12] العهد القديم، سفراللاّويين19/34 و20/2 و24/16، سفر العدد9/14، سفر التّثنية1/ 16-17 و10/18-19.

[13] العهد القديم، سفر زكريا 14/12-15.

[14]استند أصحاب هذا التوجّه على ما أظهره يسوع من محبّة للآخر من خلال مداواته المرأة الكنعانية، يضاف إلى أقوال منسوبة إليه فيها دعوة واضحة لأبناء الأقوام الأخرى للانضمام إلى الشريعة الجديدة(العهد الجديد، إنجيل يوحنّا4 /21-24).

[15] العهد الجديد، أعمال الرسل 15/39-40.

[16] العهد الجديد، إنجيل متّى15/24، إنجيل مرقس7/24-30.

[17]العهد الجديد، أعمال الرسل 10/44-45 و13/46-47.

[18]العهد الجديد، أعمال الرّسل19/21-41.

[19]العهد الجديد، أعمال الرسل 18/6.

[20]العهد الجديد، أعمال الرسل16/3.

[21]سورة البقرة 2/256

[22]سورة البقرة 2/191-194

[23]بوحديبه (عبد الوهاب): القصد في الغيرية، الوسيطي للنشر، صفاقس تونس،2003، ص 50

[24]ذكر الشّرفي (عبد المجيد): الفكر الإسلاميّ في الرّدّ على النّصارى إلى نهاية القرن الرّابع/العاشر، الدّار التّونسيّة للنّشر (تونس) والمؤسسة الوطنيّة للكتاب بالجزائر (الجزائر)،ط 1، 1986 أكثر من أربعين اسما في هذا المجال.

[25] Solomon (Jana):les Prophètes de L'Ancien Testament, traduction Carl Gustav, 2émEd, Bordas, Paris, art « Abel ».

[26] , ch4.Hart (Moïse) :Le judaïsme (Origines et histoire), vol 2 ,Payot, Paris Voir

[27]أشار ميشال مسلان في ما يتصل بهذه المسألة إلى أنّ الدراسات الغربية اعتبرت مصطلح علم الأديان La science des religions مرادفا لمصطلح تاريخ الأديان Histoire des religions ، وقد بيّن أنّ أوّل من استعمل مصطلح "علم الأديان" هو المفكّر الألماني ماكس ملّلر(1823-1900م)Max Müller ، وذلك في سنة 1867م، وفي الفترة نفسها دعا أجينيوبورنوفEugène Burnouf إلى وضع أسس لعلم الأديان La science des religions.

,(op. cit),p10.Meslin (Michel) : pour une science des religions

[28] حدّد مرسيا إلياد مجال بحث علم الأديان المقارن بأنّه"دراسة تاريخها[الأديان] أي تفاصيل مساراتها وتغيّراتها وتبدّلاتها[...بغاية] استخلاص مساهمتها في الثقافة بأسرها، اُنظرإلياد (مرسيا): تاريخ الأديان،(سبق ذكره)، ص53.

[29] Ibid, p160.

[30] إدريس (محمّد):المقارنة من القراءة الجدالية إلى القراءات السّياقية، ضمن ندوة إشكالية المنهج في العلوم الإنسانيّة، منشورات مدرسة الدكتوراه، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقيروان، جامعة القيروان، تونس 2012، ص ص 42 -43.

[31]موران(أدغار): الحوار يفترض التكافؤ، (سبق ذكره)،ص ص 9-10.

[32]الشرفي (عبد المجيد): لبنات، دار الجنوب، سلسلة معالم الحداثة، تونس، 1994، ص 108.

[33]نشير في ما يتعلق بهذه المسألة إلى أنّ علاقة التّناص لم تقتصر على النصوص المقدّسة في ما بينها بل تجاوزتها لتطول أساطير سابقة لها، فالنصوص المقدّسة تحفل بأساطير لها مرجعيات ثقافية متباعدة، أعادت النصوص المقدّسة إنتاجها وفق رؤية مخصوصة.وهو ما يتطلب من عالم الأديان المقارن تبيّن المقاصد الّتي دفعت بمدوّني هذا النّصّ إلى الذّهاب هذا المذهب، وترك ذاك، بعيدا عن المقارنات الّتي تبحث عن سرقة أدبيّة (محاولات بعض المسـتشرقين) أو عـن خروج عن النّـصّ الأصـليّ الأميـن الّـذي لا يطوله تحريف أو عوج.

[34]العبدولي (تهامي): النبي إبراهيم في الثقافة العربية الإسلامية، دار المدى، ط 1، سوريا، 2001، ص 37.

[35] ابن رمضان (فرج): محاولة في تحديد وضع القصص في الأدب العربي القديم، حوليات الجامعة التونسية، عـ32ـدد، 1991، ص 262 .

[36],(op. cit),p256.Meslin (Michel) : pour une science des religions

[37] أركون (محمّد) (1928- 2010): نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية، ترجمة هاشم صالح،دار الساقي، ط1، لندن أنجلترا،2011.

المصدر: https://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D9%87%D8%AC-%...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك