المناظرات الفكرية وإرساء دعائم ثقافة التسامح

خلف أحمد محمود أبو زيد

 

من فروع المعرفة وفنون الأدب التي تفرّد بها تراثنا العربي والإسلامي، فرع أسماه الأقدمون “أدب المناظرة”، وهو باب من أبواب العلم، عالج به أسلافنا قضيتين نحتاج إليهما أشد الحاجة في هذا العصر؛ القضية الأولى تحديد منهج الحوار، وتبادل الرأي حول القضايا الخلافية عن طريق وضع عدد من القواعد الموضوعية التي تكفل الوصول بهذا الحوار إلى غايته من تجلية الحقائق، ووزن الاعتبارات المتعارضة، وتمحيص أوجه الخلاف على نحو يمكّن الجماعة في نهاية الحوار من الوصول إلى أفضل الحلول المناسبة لمشاكلها..

 

كانت المناظرات في الحضارة الإسامية تحمل بغية واحدة، هي نر العلم والثقافة في جو ساده التسامح والحوار البناء وروح البحث العلمي الحر الذي كان سببًا في الرقي العلمي وتنشيط الحركة العلمية والفكرية.

والقضية الثانية الاتفاق على عدد من الآداب التي تتصل بالحوار وسلوك أطرافه، صيانة لكرامة المتحاورين، وحفاظًا على الاحترام المتبادل بينهم، بما يشجعهم على مواصلة الحوار وهم آمنون من سهام التجريح، وقذائف الاتهام بالباطل، الأمر الذي كان له أثره البالغ في ترسيخ منهج المجادلة الفكرية عند المسلمين، وساهم في تجديد فكر الأمة وتفتح الأذهان وتمرين العقول على التفكير السليم، وحسن التأني والبراعة في تناول الموضوع، ومقارعة الحجة بالحجة مع الأخذ بأسباب الثقافة والمعرفة والاطلاع، الأمر الذي أثرى الحياة الفكرية، ودفع بعجلة الحضارة الإسلامية إلى التقدم في ظل هذه الروح الإيجابية الفكرية، التى قامت على إذِّكار ثقافة التسامح بين المتحاورين على نحو يخدم قضايا الفكر والإبداع والتجديد بين أبناء الأمة الإسلامية.

 

بدايات المناظرات في تراثنا الإسلامي

ولو حاولنا البحث عن جذور هذه الظاهرة في حضارتنا الإسلامية وتراثنا العربي، لوجدنا أنها في بادئ الأمر كانت مجالس العلم -مجالس المناظرة والمذاكرة- تعقد في المساجد وما يلحق بها من مدارس. فقد كانت المساجد أكبر معهد للدراسة، ولم تكن فقط للعبادة وحدها، بل كانت معاهد للعلم تجري فيها المناظرات بين العلماء. فقد حكى “المرزباني” في “الموشح”: “أن مسلم بن الوليد كان يملي شعره في المسجد، وأن الناس كانوا يتناظرون في المسجد”.. ثم حبب ذلك إلى نفوس الخلفاء العباسيين الذين انتبهوا إلى عمق وتأثير هذا الفن النثري الجديد، فلجؤوا لتوظيفه في تجديد فكر الأمة وعقائدها باستقدام العلماء إلى مجالسهم، وانعقاد حلقاتهم العلمية في قصورهم، وحاكاهم في ذلك علية القوم وسائر الأمراء.

 

لقد كانت هناك مناظرات حقيقية جرت علانية حسب اختصاص كل صاحب علم وفكر، فكان منها الفقهية في المسائل الدينية، وفي النحو والصرف واللغة والأدب..

ومما ورد في ذلك أن الخليفة المهدي بن أبي جعفر المنصور، اتخذ مما كان يعقده للعلماء من مجالس، وسيلة لتحقيق مسائل الدين، التي كان يتجادل فيها المتجادلون للرد على الزنادقة والملحدين، وطلب إلى العلماء أن يناقشوهم في حوارهم بمثل كلامهم من غير الاحتكام إلى القرآن والسنة، لأن الحاج لا ينبغي أن يحتج عليه بما لا يؤمن به، فنشأ من ذلك علم الجدل والمناظرة، وعلم الكلام.

 

وقد عُرف عن الخليفة المأمون أيضًا، أنه كان مثقَّفًا واسع الثقافة، يجيد فروعًا كثيرة من العلوم في كلها تناظر؛ فقد روي عنه أنه لما دخل بغداد أمر أن يدخل عليه من الفقهاء والمتكلمين وأهل العلم، وجماعة يختارهم لمجالسته ومحادثته، واختير له من الفقهاء لمجالسته مائة رجل، فما زال يختارهم طبقة من طبقة حتى جعل منهم عشرة.

 

ولقد أثمر هذا الاهتمام من قبل الخلفاء العباسيين بفن المناظرات إلى تسابق العلماء إلى ترجمة علم المنطق، ونقله إلى اللغة العربية، باعتباره أداة البراهين وآلة الفكر الحديث، كما اقتبس العديد من العلماء والأئمة علوم الرياضيات والطبيعيات والإلهيات، واستخدموا وقائعها من البراهين العقلية والأدلة المنطقية في تدعيم حججهم خلال هذه المناظرات التي كانوا يعقدونها فيما بينهم، الأمر الذي أثرى الحركة الفكرية في هذا العصر، وأثمر الحضارة والتقدم العلمي الذي أضاء العالم خلال تلك الحقبة الهامة من عمر الحضارة الإسلامية.

 

مناظرات خيالية

لقد عني المسلمون عناية كبيرة بهذه الظاهرة الأدبية والفكرية، لدرجة أن بعضهم قد ألف مناظرات خيالية بهدف التدريب على فن المناظرة والمناقشة والحوار، وإعلاء وتشجيع هذه الروح الجديدة، كي تسود بين العلماء والأدباء على النحو الذي يخدم فكر الأمة؛ حيث جرت مناظرات بين أطراف مختلفة من الطبيعتين الصامتة والمتحركة، فألف “الجاحظ” رسالة بعنوان “سلوة الحريف بمناظرة الربيع والخريف”.

 

 لم يقتصر فن المناظرات على الأدباء والشعراء والفقهاء، بل امتد ليشمل العلماء وأصحاب الاتجاهات الفكرية على اختلافها التي لجأ بعضها إلى إعمال العقل، بينما التزم البعض الآخر بالموروثات والنقل.

ومن هذا القبيل أيضًا، تلك المناظرة التي أوردها “الجاحظ” في مقدمة كتابه “الحيوان” بين صاحب الديك وصاحب الكلب، وكانت غايته من ذلك الرياضة الذهنية، والمحاجة العقلية التي تخدم ما قصد إليه من وراء تلك المناظرات ومن المناظرات الخيالية الطريفة التي عني بها الأدباء، وتناقلتها كتب الأدب في العصر المملوكي، وما بعده هذه المناظرة بين السيف والقلم عن ابن نباته المصري وغيره من أدباء ذلك العصر، فقد ورد فيها على لسان السيف أشعار للقدماء تفضِّل السيف على القلم، منها قول أحدهم:

 

سل السيف عن أصل الفخار وفرعه

 

فإني رأيت السيف أفصح مقولاً

 

ومما يرد على لسان القلم في تفضيله على السيف قول ابن الرومي:

 

كذا قضى الله للأقلام مذ بُرِيتْ

 

أن السيوف لها مذ أرهفتْ خدمُ

 

مناظرات حقيقية

لقد كانت هناك مناظرات حقيقية جرت علانية حسب اختصاص كل صاحب علم وفكر، فكان منها الفقهية في المسائل الدينية، وفي النحو والصرف واللغة والأدب.. أخذت فيها ثقافة الحوار كامل بعدها كوسيلة حضارية للاتصال المعرفي بين العلماء والأدباء تبعًا لشغفهم العلمي، ورغبة في الوصول إلى الحق.

 

وقد حكت لنا كتب الفقه وطبقات الفقهاء مناظرات كثيرة بين أصحاب مالك وأصحاب أبي حنيفة، وبين الفقهاء والمحدثين، وبين الشافعي ومحمد بن الحسن.. حيث كانت هذه المناظرات الفقهية في معظمها تستند على أدلة عقلية، هي السبر والتقسيم والمناسبة والشبه والطرد والدوران وتنقيح المناط وطرق أخرى، والأمر الأهم أنها كانت تجري في ظل ثقافة التسامح، بما تحمل من غايات سامية بين المتحاورين بغية الوصول إلى الحق الذي لا يفسد للود قضية، الأمر الذي أثر في طريقة التفكير والإنتاج الفكري للفقهاء المسلمين. كما حكت لنا كتب النحو بعضًا من المناظرات بين العلماء في النحو واللغة، ولعل من أشهرها تلك المناظرة التي جرت بين “الكسائي” و”سيبويه” في العصر العباسي.. كما كان للمناظرات الشعرية بين الشعراء دور كبير في الارتقاء بالأدب وإزكاء روح المنافسة والحرص على التجويد، الأمر الذي ساهم في إثراء حركة الأدب وازدهارها في هذا العصر.

 

لقد عني المسلمون عناية كبيرة بهذه الظاهرة الأدبية والفكرية، لدرجة أن بعضهم قد ألف مناظرات خيالية بهدف التدريب على فن المناظرة والمناقشة والحوار، وإعلاء وتشجيع هذه الروح الجديدة

كما لم يقتصر فن المناظرات على الأدباء والشعراء والفقهاء، بل امتد ليشمل العلماء وأصحاب الاتجاهات الفكرية على اختلافها التي لجأ بعضها إلى إعمال العقل، بينما التزم البعض الآخر بالموروثات والنقل. ويكفينا في هذا الصدد أن نستشهد برأي مؤرخ العلم الشهر “بدبزموند بريال” إذ يقول: “لم يضع الدين الإسلامي منذ البداية قيودًا على الفكر البشري، فعندما ظهر الإسلام لم يكن هناك خطر على من يؤمن بالوثنية أو الفلسفة.. فقد سعى قادة المسلمين عقب القرن الأول لفتوحاتهم سعيًا جادًّا في الحصول على المعارف اليونانية القديمة، وعلى غيرها من الثقافات قدر ما كان القرآن يسمح به”. فكثرت مسائل العلم وتشعبت قضاياه، وتطلب ذلك أن يكون للاجتهاد مكانته في نشاط العلماء، وكل مجتهد يحاول أن يظهر رأيه ويدافع عنه حتى يثبت نفسه في ميدان العلم أخذًا وردًّا.. فازدهرت بحور العلم من خلال هذه المناظرات بين أصحاب كل اتجاه علمي ومعرفي، وأصبحت أسس الحوار صلبة تحتمل ما يلقى عليها من رياح فكرية عاتية، الأمر الذي أثرى ملكة الاجتهاد في تعليل الأمور والبحث عن الحقائق، فأثمرت من أعمال العقليات المتفتحة الأفكار مذاهب سياسية ودينية جديدة بواجهات فلسفية ورؤى علمية.

 

وفي النهاية نقول: لقد كانت هذه المجالس والمناظرات تحمل بغية واحدة، وهدفًا واحدًا هو نشر العلم والثقافة الصحيحة في جو ساده التسامح والحوار البناء وروح البحث العلمي الحر، بعيدًا عن أي تعصب ذميم وفكر مريض، الأمر الذي كان سببًا كبيرًا من أسباب الرقي العلمي الذي حفز العلماء والفقهاء والمفكرين عامة للبحث والنظر، وحملهم في نفس الوقت على الجدِّ في تصفية المسائل المعلقة، حتى يظهروا في هذه المجالس بمظهر الخبير الثقة الدقيق النظر، مما ساهم في تنشيط الحركة العلمية والفكرية، وشجع أربابها من العلماء والمفكرين خلال تلك الحقبة الهامة من تاريخ الحضارة الإسلامية.

 

المصدر: https://hiragate.com/%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%86%d8%a7%d8%b8%d8%b1%d8%a7%d8...

 

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك