العلاقة بين الديني والسياسي في السياق الأوروبي: خصوصيّة التجربة الإيطاليّة

عدنان المقراني

 

ملخص

تستعرض الورقة تنوّع السياقات الاجتماعية والدينية الأوروبية بشأن العلاقة بين الديني والسياسي، بتلخيص الفروق بين السياقات البروتستانتية والكاثوليكية، وبالتركيز على الحالة الإيطالية، التي تتميز باحتضان مركز الكثلكة العالمية، فروما عاصمة لدولتين، وكل ما يطرحه ذلك من إشكالات قانونية وسياسية. علما أن صلة الديني بالسياسي في إيطاليا لا تنحصر في العلاقة بين حاضرة الفاتيكان والدولة الإيطالية، بل تشمل دور الحركات الدينية الكاثوليكية في الحياة السياسية والمجتمع المدني، مع الإشارة إلى أوضاع الأديان الأخرى مثل اليهودية والإسلام. وتستنتج من كلّ ما سبق خصائص العلمانية الإيطالية، فهي علمانية من نوع خاص تختلف عن نظيراتها داخل الإطار الكاثوليكي نفسه وخارجه.

تحدّي الحداثة

التجاذب بين الأديان والدولة الحديثة هو جزء من إشكالية أكبر هي إشكالية العلاقة بين الأديان والحداثة، والتي بدورها جزء من إشكالية أوسع دائرةً هي إشكالية العلاقة بين الأديان والتاريخ، أو الوحي والتاريخ. لا يتّسع المجال هنا لتحديد الإشكالية بكل أبعادها وتعقيداتها، ولكن يمكن القول بشيء من الاختصار والتبسيط إن الأديان نشأت وتطوّر فكرها ضمن الأطر التقليدية للعالم القديم (ما قبل الحداثة)، وهو العالم الذي انقلبت عليه الحداثة وتحدّته. لقد بقيت الأديان الشاهد على بقايا عالم قديم في قلب العالم الجديد والحديث، وهي مجبرة على مواكبة هذا الموج العارم حفاظًا على بقائها، وإلا فإنها تحكم على نفسها بالتحوّل إلى قطع ميتة تُزيّن بها أدراج المتاحف. التطرّف الديني والنزعات الموغلة في محافظتها، في أحد أبعادها، هي ردّات فعل إزاء زحف الحداثة وتبعاتها من علمنة وعولمة ودمقرطة. فالحداثة أنتجت الدولة الحديثة، وهي نمط من التسيير السياسي والإداري جديد ومختلف تماما عن النماذج التاريخية التي تعايشت معها الأديان. ردّات فعل المسيحية على الحداثة كانت متفاوتة. يمكن اعتبار انشقاق الكنائس الإصلاحية الإنجيلية (البروتستانتية)، بدايةً من القرن السادس عشر، أول ضربة تلقتها الكنيسة الأم، الكنيسة الكاثوليكية، نتيجة الاصطدام بالحداثة. لقد استطاعت الكنائس البروتستانتية التاريخية الكبرى(2) أن تواكب الحداثة، بل أن تمهّد لها وتكون أحد محركاتها الهامة،(3) ويتجلّى ذلك على أكثر من صعيد:

1.الالتصاق بالدول القومية أو الوطنية في نشأتها، فكانت بمثابة الداعم الديني والأيديولوجي لانبثاقها، في فترة سابقة لظهور الأيديولوجيات العلمانية واللادينية.

2.تمثل ذلك أيضا من خلال الاعتماد على اللغات الوطنية بترجمة الكتاب المقدّس إليها والتخلّي عن اللاتينية كلغة ليتورجية وعالِمة فوق قومية. وهذا يعني "دمقرطة" فهم النص الديني وتفسيره وجعله في متناول الجمهور الواسع وليس حكرا على نخبة محدودة من رجال الدين. وقد تأكّد ذلك من خلال اكتشاف الطباعة مما فتح آفاقًا غير مسبوقة للتعليم والقراءة.

3.وبالإضافة إلى تجاوز اللاتينية من تحت نحو اللغات الحديثة، تم أيضا تجاوزها من فوق، أي من خلال العودة إلى اللغات الأصلية والأقدم للكتاب المقدس، وهي أساسًا العبرية واليونانية. وهذا يعني العودة إلى الينابيع والتأسيس للدراسات الكتابية بالمعنى الحديث، في حوار خلاّق مع العلوم الإنسانية واللسانية والتاريخية...

4.كما أظهرت الكنائس البروتستانتية قدرة على تجديد هياكلها ومكافحة الفساد داخلها، وذلك بالتدريج عبر الأساليب الديمقراطية الشفّافة في الإدارة، وعبر إدماج العلمانيين (غير رجال الدين) في تسيير شؤون الكنيسة، بإعطائهم دورًا قياديًّا للمرأة كقسّيسة ثم كأسقفة، وأخيرًا عبر طرح الموضوع الشائك الذي لا يزال يدور حوله الجدل، وهو موضوع المثليين الجنسيين ودورهم داخل الكنيسة وفي المواقع القيادية.(4)

اليوم وفي عصر ما بعد الحداثة، السؤال الذي كثيرا ما تطرحه اليوم الكنائس التقليدية والمحافظة على الكنائس "الحداثية"، إن صحَّ التعبير، كنوع من النقد والعتاب: هل أفادت تلك المواكبة للحداثة الكنائس؟ وهل دعمت موقعها في المجتمع؟ أم تراها حوّلتها إلى نوادٍ نخبوية مغلقة تاركة المجتمع لهيمنة العلمانية اللادينية؟ أليست تلك التفسيرات الحداثية هي "خروج ديني من الدين"؟ بمعنى آخر، إن انفتاح الكنائس البروتستانتية الرئيسة على الحداثة أثّر في الكنائس أكثر مما أثّر في الحداثة، ولم يجعل تلك المؤسسات الدينية بمنأى عن "أزمة المعنى" التي تلف عالم ما بعد الحداثة. وهذا ما يفسر عودة قطاعات من الشباب إلى الأشكال التقليدية والمحافظة كعلامة على التواصل التاريخي والأصالة، أو بابتداع تعبيرات دينية جديدة أكثر حيوية وتفاعلية في العلاقة مع الجماهير.(5) السؤال الجوهري هو: هل يمكن بالفعل التوفيق بين الدين والحداثة؟ أم أن الحداثة هي جوهريا لادينية ونافية للدين من الفكر والحياة، وأن ما جرى من محاولات توفيقية هي في الحقيقة تلفيقات على حساب الدين، أو هي تغييرات شكلية وسطحية في الدين الذي يظل قوة محافظة ومناقضة لمعنى الحداثة. بعبارة أخرى، الحداثة لن تكتفي بالتنازلات، بل ستذهب قُدمًا حتى تقضم آخر ما تبقى من الظاهرة الدينية. وهناك من يرى أن الحداثة عندما تفعل ذلك فإنها تتآكل وتنتحر، لأنها ستطلق ماردا دينيا يخرج من أعماق العطش الداخلي للإنسان للمعنى وللمطلق، وهو هذه المرة عطش عارم وغير مؤطر بالتقاليد وحكمة العصور الغابرة، بل هو تيار جارف يقضي أول ما يقضي على ما تبقى من حداثة، تلكم هي الأصولية، تديّن بلا ثقافة أو "الجهل المقدس" حسب تعبير أوليفييه روا Olivier Roy. أمام زحف الحداثة، ظلت الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأرثوذكسية، أقرب إلى المحافظة وردّات الفعل وتصحيح المسار عند الضرورة القصوى، بل والتراجع عن تلك المكاسب والإصلاحات بإعادة تأويلها وإفراغها من محتواها، عندما تسنح الفرصة. لا يزال الجدل محتدما داخل الكنيسة الكاثوليكية بين جناحين، أحدهما محافظ والآخر إصلاحي، وإن كانت الغلبة للجناح المحافظ الذي استطاع أن يفرض إلى حد الآن خطوطه الحمراء التي لا تقبل التفاوض أو التراجع.(6) تمثّل الكنائس الأرثوذكسية بامتياز التوجه التقليدي المحافظ المتشبّث بالأشكال القديمة، رغم وجود شخصيات فكرية ولاهوتية ذات فكر تجديدي هام، خاصة من بين العلمانيين. الكنيسة الكاثوليكية من جانبها، حاولت اتخاذ مواقف وسطية بين التقليد والحداثة، وإن كانت أقرب للتقليد منها إلى الحداثة. ومن بين الأمثلة على محاولات الإصلاح الداخلي:

1.الرهبانية الفرنسيسكانية، التي كانت من أولى "الإرهاصات" الإصلاحية، ويبدو أن مارتن لوثر Martin Luther (ت. 1546م) كان متأثرًا بفرنسيس الأسيزي Francesco d’Assisi (ت. 1226م)(7) ، تمثّل العودة إلى مبادئ الفقر والبساطة والخدمة، كنوع من الرفض لكنيسة الثروة والسلطة والجاه. وفي الحقيقة إن هذا التجاذب بين الكنيسة كسلطة دينية ودنيوية وسياسية من ناحية، والحركة الرهبانية منذ بزوغها في القرن الثالث الميلادي إثر اعتراف الامبراطورية الرومانية بالدين المسيحي كدين رسمي للدولة(8).

2.الإصلاح المضاد (Controriforma) أو الإصلاح الكاثوليكي، الذي برز فيه الآباء اليسوعيون، خاصة بعد المجمع التريدنتيني (انتهى سنة 1563م)، فكان مقاومة نفوذ الكنائس الإصلاحية مدعاة لنوع من الإصلاح بالانفتاح على العلوم العصرية والثقافات المختلفة.

3.المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965م)، يمثّل خطوة كبيرة في سبيل الإصلاح، ولكنه على الرغم من أهميته يظل إصلاحا جزئيا، يتجلى ذلك من خلال المسكوت عنه، فلم تجر إصلاحات هيكلية أساسية. كما لم يضع حدا للتجاذب المستمر إلى اليوم حول الخطوات الانفتاحية، فيما يتعلق بالعلاقة مع الأديان الأخرى مثلا، حيث نشهد تأويلات تسعى للحد من أبعاد تلك القرارات. موضوع الإصلاح يظل مطروحا بإلحاح على المسيحية، لأن تحديات الحداثة وما بعد الحداثة لا تزال ضاغطة، رغم الحلول الوسطية والتنازلات المقدمة. والمسيحية ليست الاستثناء بين أديان العالم، ولكنها الحالة التي تستدعي اهتماما خاصا لتواجدها في البلدان الأكثر تحديثا في العالم، حيث مركز الحداثة ومأتاها، وحيث هذه الحداثة نفسها باتت تعاني من أعراض الشيخوخة وتبعات أزمة عميقة.

الكنيسة والسياسة

لمن ينظر من الخارج مطبّقًا المعايير الحديثة في وصف وتقييم الدول والنظم، يمكنه وصف نظام الحكم في دولة الفاتيكان بأنه: ملكية غير وراثية، ثيوقراطية مطلقة، يحكمها شخص معصوم، هو البابا، مؤيد من الروح القدس (وهو الله في اللاهوت المسيحي)، وهو خليفة بطرس، وممثّل المسيح (الله) على الأرض. وهو نظام ذكوري يقصي المرأة تمامًا عن الإدارة ودوائر القرار. البابا هو الذي يعيّن، يُقال بالإيطالية ما معناه حرفيًّا "يخلق"، الكرادلة الذين سيختارون خلفه. البابا يعين الأساقفة، والشورى غير ملزمة له، بمعنى أن سينودس الأساقفة يرفع إليه المقترحات، وهو الذي يقرر ما يراه مناسبا. لقد مرت العلاقات بين الفاتيكان والدولة الإيطالية بالمراحل التالية:

القطيعة:لقد كانت الوحدة الإيطالية على حساب السلطة الدنيوية والسياسية للبابا، مما أدى إلى سقوط "الدولة البابوية" Lo Stato Pontificio سنة 1870. رفض البابا بيوس التاسع الخروج من الفاتيكان علامة على الاحتجاج، حاثًّا الكاثوليك على عدم المشاركة في الحياة السياسية من خلال قرار باسم "ليس من المناسب" Non expedit، أي ليس من المناسب أن يكون الكاثوليكي منتخِبًا ولا منتخَبًا، والذي دام ما يزيد عن الثلاثين عامًا 1868-1919.

المصالحة: مثّل العهد الفاشي نقلة نوعية في علاقة الكنيسة الكاثوليكية بالدولة الإيطالية، حيث عقدت اتفاقيات اللاتران Patti Lateranensi سنة 1929 في عهد بينيتو موسولوني Benito Mussolini. وقد تم التنصيص على الاتفاقية في الدستور الإيطالي سنة 1948 بعد سقوط النظام الفاشي. وجددت الاتفاقية سنة 1984 في عهد رئيس الوزراء الأسبق بيتينو كراكسي Bettino Craxi.

 

المشكلة الدستورية

جاء في المادة الثالثة من الدستور ما نصّه: "لكل المواطنين نفس القدر من الكرامة الاجتماعية، وهم سواء لدى القانون دون تمييز في الجنس أو العرق أو اللغة أو الدين أو الأفكار السياسية أو الأوضاع الشخصية والاجتماعية". "على الجمهورية إزالة جميع العوائق الاقتصادية والاجتماعية التي تحدّ في الواقع من حرية المواطنين والمساواة بينهم، وتحول دون التنمية التامة للشخصية الإنسانية ودون المشاركة الفعلية لجميع العاملين في التنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي للبلاد". في حين تقول المادة السابعة منه: "الدولة والكنيسة الكاثوليكية، كل واحدة ضمن النظام الخاص بها، كيانان سيدان مستقلان". "تنظم العلاقات بينهما اتفاقيات اللاتران ولا يتطلب تغيير هذه الاتفاقيات، المقبولة من قبل الطرفين، إجراء تعديل في الدستور". أما المادة الثامنة فتقول: "كل العقائد الدينية حرة بالتساوي أمام القانون". "للعقائد الدينية، المختلفة عن العقيدة الكاثوليكية، الحق في تنظيم نفسها من خلال قوانينها الخاصة، ما دامت لا تتعارض مع القانون الإيطالي". "علاقتها مع الدولة منظّمة وفقًا لوثائق تفاهم مع ممثليها". يلاحظ من خلال قراءة هذه المواد الدستورية أن هناك درجتين في تعامل الدولة الإيطالية مع الأديان، هناك العلاقة الخاصة والممتازة مع ديانة الأغلبية وهي الديانة الكاثوليكية، أما بقية الأديان فتتمتع بامتيازات أقل، فاتفاقات التفاهم معها لا ترقى إلى المستوى السيادي للفاتيكان. ولقد باءت المحاولات التي سعت لتجاوز هذه الازدواجية القانونية في التعامل مع الأديان من قبل الدولة الإيطالية بالفشل ، وذلك من خلال مشاريع قوانين للحرية الدينية، كان آخرها المشروع الذي اقترحه الوزير باولو فيريرو Paolo Ferrero سنة 2007. هذا ناهيك أن كل الأديان لا تتمتع بهذه الاتفاقات، مثل الإسلام، وبعضها وقع ممثلوها الاتفاقات ولكن ظلت في الأدراج ولم تفعّل بعد.

الكنيسة والأحزاب

عرفت العلاقة بين الكنيسة الكاثوليكية والساحة السياسية الإيطالية تطورا ملحوظا بمجرد سقوط تهديد الحرمان، وتصالح الفاتيكان مع الدولة. فدعمت الكنيسة في الأول، وخاصة بعد سقوط النظام الفاشي، حزبا مسيحيا بعينه هو "الديمقراطية المسيحية"، ولكن سرعان ما تبدت حدود هذا الخيار، فقد أصبح للكنيسة أنصار داخل معظم الأحزاب السياسية بنسب متفاوتة، رغم أن طبيعة موقع مجلس أساقفة إيطالية كانت أقرب إلى اليمين منها إلى اليسار عمومًا. ذلك أن اليمين أقرب إلى تأكيد الامتيازات التي تحظى بها الكنيسة و التي يمكن أن تختزل في الامتيازات التي من بينها:

1.ضريبة الثمانية بالألف، وهي ليست خاصة فقط بالكنيسة الكاثوليكية في إيطاليا، ولكن لكل الأديان التي تربطها عقود تفاهم مع الدولة الإيطالية، ولكن كون الكاثويكية هي ديانة الأغلبية فهذا يمثل دخلا هاما للكنيسة، وتقتطع الضريبة بشكل آلي من الذين لا يعلنون نية صريحة بتوجيه هذه الضريبة إلى جهة أخرى.

2.إعفاءات ضريبية عديدة من بينها الإعفاء من ضريبة العقارات (وقد تم التخلي مؤخرا عن هذا الامتياز تحت ضغط الأزمة الاقتصادية التي تعيشها إيطاليا).

3.كما تتمتع المدارس الكاثوليكية الخاصة بامتيازات تجعلها مساوية للمدارس العمومية في تلقي دعم الدولة. كما تشرف الكنيسة على التعليم الديني في المدارس الحكومية، حيث تقوم بتعيين المعلمين وعزلهم عند الضرورية إذا ما أخلوا بالشروط المهنية والأخلاقية المطلوبة، في حين تدفع الدولة رواتبهم باعتبارهم موظفين لديها. هذا الامتياز لا يتمتع به أي دين آخر في إيطاليا.

يوضح التحليل السابق خصوصية الحالة الإيطالية في الساحة الأوروبية، فلا يمكن مثلا ترجمة كلمة Laicità الإيطالية والتي تعني "علمانية" بالعربية، بالكلمة الفرنسية Laicité ، فالبون شاسع بين المفهومين، وإن تشابه اللفظ، بحكم التاريخ والثقافة. فالكنيسة حاضرة بشدة في المجتمع والسياسة على الرغم من تنامي مظاهر العلمنة في الحياة العامة والعلاقات بين الأشخاص. ومن علامات المدّ والجزر في علاقة المواطن بالدين، يمكن الاستعانة بنتائج الاستفتاءات التي عاشتها إيطاليا في العقود الأخيرة، والتي مثلت منعطفات حاسمة في الحراك الاجتماعي:

 

1.الاستفتاء حول الطلاق سنة 1974، الذي سمح بالطلاق بأغلبية 59 %. علمًا أن الطلاق محرَّم في الديانة الكاثوليكية، على الرغم من أن المحاكم الكنسية تملك صلاحية إبطال العقد من أساسه كنوع من "الحيل الفقهية". والإبطال يختلف عن الطلاق، لأنه يعتبر العقد وكأنه لم يكن من الأساس، فهو بمثابة العودة بعقارب الزمن إلى الوراء إلى اللحظة التي سبقت عقد القران.

2.الاستفتاء حول الإجهاض سنة 1981، الذي سمح به على الرغم من المعارضة الشديدة للكنيسة ، والتي تعتبر الإجهاض قتلا عمدا، ومن اللحظة الأولى لنشأة الحياة، وأنه خطٌّ أخلاقيٌّ أحمر غير قابل للتفاوض. وهذان الاستفتاءان يمثلان علامتين مميزتين في تاريخ علمنة المجتمع الإيطالي.

3.لكن هذا الصعود في اتجاه البحث عن مزيد من الاستقلالية وربما الرفض للكنيسة، عرف تراجعا سنة 2005 في الاستفتاء حول التلقيح الاصطناعي، حيث دعا الكاردينال كاميللو رويني Camillo Ruini، الذي كان آنذاك رئيسا لمجلس الأساقفة الإيطاليين، إلى مقاطعة الاستفتاء فسقط بسبب ضعف المشاركة وعدم بلوغها النصاب القانوني.

من التطورات الأخيرة، دخول الحركات الدينية الكاثوليكية بشكل شبه مباشر في العملية السياسية، كمثال على ذلك مشاركة أندريا ريكاردي Andrea Riccardi، مؤسّس ورئيس حركة سانت إيجيديو Sant’Egidio، الذي كان وزيرا للتعاون الدولي والاندماج في حكومة التكنوقراط التي ترأسها ماريو مونتي Mario Monti (2011-2013). وعندما ترشح مونتي وإلى جانبه ريكاردي للانتخابات التشريعية سنة 2013 ضمن قائمة "الخيار المدني"، كانت توجد دلالات على دعم هذه القائمة من قبل مجلس الأساقفة الإيطاليين وإن بطريقة مبطّنة.

موقع الإسلام

يبلغ عدد المسلمين في إيطاليا حسب الإحصاءات الرسمية حوالي مليون ونصف مليون نسمة، قرابة الـ 2 % من العدد الإجمالي للسكان، فالإسلام يعدّ الديانة الثانية ديموغرافيا في البلاد. وعلى الرغم من ذلك فإن الإسلام لا يحظى بأي اتفاقية تفاهم مع الدولة الإيطالية، مما يحرم المسلمين من أية امتيازات ضريبية أو تنظيمية أو حتى على صعيد تكوين الأئمة، حيث لا يمكن للدولة قانونًا أن تموّل مباشرةً المعاهد الدينية. ويرجع ذلك من ناحية إلى الانقسامات التي تشهدها الساحة الجمعوية الإسلامية، وإلى غياب الإرادة السياسية من قبل الحكومات المتعاقبة، باستثناء المحاولة المحتشمة لحكومة رومانو برودي Romano Prodi لحضّ الجمعيات الإسلامية على جمع شملها ولو في شكل قطبين لإجراء اتفاقيتين عوض اتفاقية واحدة، ولكن هذه الجهود لم تؤت أكلها نظرًا لقصر عمر الحكومة (2006-2008). في ظلّ غياب قانون عام للحرية الدينية، وانعدام اتفاقية تفاهم مع الدولة حسب الدستور، وغياب رؤية سياسة حكومية مركزية، فإن الشؤون الإسلامية متروكة عمليا للحكم المحلي على صعيد البلديات. لذا يصبح الترخيص لبناء مسجد مشكلة سياسة ومجالا للمزايدة الانتخابية في البلديات التي يسيطر عليها اليمين، فنجد من يجمع التوقيعات لأجل الاعتراض على المشروع أو الاحتجاج على إعطاء الرخصة، وأحيانا يتدخل الأساقفة للدعم أو للرفض. كل ذلك ما كان ليحدث لو كانت القواعد محددة و واضحة.

الحداثة المنقوصة

على الرغم من أن الكاثوليكية، وفقا للدستور، ليست دينًا رسميًا للدولة، إلا أنها تحظى بوضع خاص وبمجموعة من الامتيازات لا تزال موضع جدل لدى قطاع من المجتمع الإيطالي، وإن كان ذلك لم يرق إلى درجة الأولوية السياسية لدى الأحزاب، فالاتجاه الغالب هو الحفاظ على الوضع القائم كما هو وعدم مراجعته مراجعة جذرية. لهذه الأوضاع صلة بما يسمى بـ "الحداثة المنقوصة"، حسب تعبير يورغن هابرماس Jürgen Habermas، بل الديمقراطية نفسها تبقى مشروعا طور الإنجاز، حيث يصعب نقل التجارب الأخرى، في حين يمكن الاستفادة منها قدر الإمكان، مع الأخذ بعين الاعتبار مواطن الخصوصية التي تحول دون المحاكاة. التجربة الإيطالية، في نظري، هي من التجارب غير القابلة للنقل، لأن حالة الكنيسة الكاثوليكية ودولة الفاتيكان، هي حالة فريدة بل وحيدة من نوعها في العالم غير قابلة للقياس ولا لإعادة الإنتاج.

لمصدر: https://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك