تأملات في مركب حوار الحضارات: أي حوار وأية مقومات؟

حنافي جواد

 

موضوع حوار الحضارات موضوع طريف واسع شامل، يتداخل فيه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والأنثروبولوجي...كما يتداخل فيه البُعد المحلي والدولي.

 

موضوع يستحق حقًّا أن يكون مجالًا للمطارحة والتأسيس، من خلال مقاربة شمولية تعكس الترابط بين حقول معرفية ومجالات كثيرة وثرية، المفروض أن كل البشر قد أسهموا في تشييد الصرح الحضاري بحظ ما، هنا نشير إلى الأبعاد الكونية للحضارة بعيدًا عن التضييق الممنهج الذي يراد منه تقزيم أو تفضيل أنساق حضارية على أخرى لاعتبارات أيديولوجية أو سياسية مغطاة بالمفاهيم العلمية...

 

فالحوار لا يستقيمُ إلا بين العقلاء المدركين لبعضهم البعض، المعترفين بوجودهم، الراغبين في عقد صلات تواصلية، وَفْقًا لعقود اجتماعية أو أدبية أو قانونية، يجسدها الحوار، وتحتضنها الإنسانية بأبعادها الشمولية.

 

والحضارات جمعٌ، مفرده حضارة، ويحيلنا ضدها للبداوة، ولكل حضارة بداوة، بالنظر للتطور والتغير الجذري، فيبدو الجديد قديمًا، والقديم تراثًا، والتراث أساطيرَ أو هرطقات...وقد يحفظ ذلك كله في أنساق الهُوِيَّة.

 

والحضارة لا تحاور، إنما الإنسان هو الذي يحاور، يرسل ويتلقى، يسأل ويجيب ويتفاعل، يأتلف ويختلف، وتلك سنة في الكون.

 

وهنا فعل (أنسنة) للحضارة؛ أي: نضفي عليها صفات بشرية، والقصد حوار أعيان وأفراد الحضارة.

 

إن فعل الامتزاج بين الثقافات (التثاقف) فعل بشري صرف، وإن بدا عمليةً ميكانيكية أو كيماوية سرعان ما تظهر نتائجها وتختفي عملياتها، خصوصًا في عالم أصبح قرية صغيرة، بل نحن اليوم سكان في عمارة واحدة - وسنكون غدًا في شقة واحدة - منا الأعلَوْن والأسفَلون، إذا طرق فينا الطارق سمعناه، إلا من شاء منهم أن ينعزل، ولاتَ حينَ مناص!

 

والحوار اليوم متاح وميسَّر أكثر من أي وقت مضى، تكفيك ضغطات أو لمسات تجدك في الصين أو اليابان في المكتبات أو المتاجر والأروقة العالمية (حضارة رقمية)... ولكن المثير الغريب أنه كلما تيسَّر أمر التواصل، زاد الانعزالُ، وغرق الإنسان في نفسه، فتكون الحضارة التكنولوجية كاشفة لزيف مقولات العوائق والبُعد، وما يتذرع به من ذرائع واهية!

 

المقومات الحضارية:

تقوم الحضارة البشرية على مقومات مرئية وغير مرئية، مادية ومعنوية.

 

سرعان ما ينصرف الناظر منا إلى المقومات المادية، ويتحاشى المقومات الروحية والنفسية الرَّابضة في أعماق المنتج الحضاري، كونها مقومات لا ترى بالعين المجردة، جريًا على منطق العلوم البحتة والاجتماعية، التي لا يجري تعاملها إلا مع المحسوس المنظور،حقًّا إنها لا ترى إلا للعيون المشربة بروح الوجدان.

 

إن سر التكامل بين المادة والروح - بين الجسد والوجدان - في الكائن البشري، هو الداعي للنظرة الثنائية للبناء الحضاري.

 

دعنا نقول: إن الإنسان هو الذي يبني الحضارة - بتضافر العقل الجمعي طبعًا - الإنسان الجسد والروح، وما ينتجه (الإنسان) لا يخلو من ملامح منظورة، مشاهدة بالحس، وأخرى غير منظورة.

 

المنظور منها لا إشكال فيه، أما غير المنظور فإنه الفلسفة والقِيَم والأبعاد اللامادية في المنتج الحضاري.

 

إنها الخلفية السيميائية والمعرفية والمهارية والشعورية واللاشعورية...قل: إنها روح الحضارة "الجوانية" في مقابلة المظاهر والأشكال "البرانية" الخارجية.

 

فيتبين - من هنا - أن الجسم الحضاري كالجسد البشري، ويعتريه ما يعتريه.

 

مقومات الحضارة:

♦ الإنسان، الكائن القصدي، المفكر الواعي، الاجتماعي، أس الأسس، وركن الأركان، ولكنه لا يشتغل منعزلًا؛ إذ ثمة شروط وضوابط تجعل لفعله أبعادًا حضارية.

 

♦ البيئة الفيزيقية المواتية للإنتاج الحضاري؛ فالمحيط المادي هو المجال الذي يفعل فيه الفكر البشري، لا من باب التصور، بل من باب العمل، إذا توافرت له ظروف الاشتغال، وكأننا نميز هنا بين بيئتين:

أ - بيئة مادية من موارد طبيعية وتقنية ومواصلات ومصادر طاقة وإنتاج...

ب - ظروف مادية ومعنوية مناسبة للإنتاج والحركة الحضارية.

 

فقد تتوافر الوسائل، وتغيب الأفكار والخطط، فلا يتحقق الإنتاج.

 

♦ الثقافة السائدة قد تكون عائقًا أو محفزًا على البناء الحضاري؛ فالثقافة الغنية الثرية الممكنة في التاريخ والقادرة على المواجهة والتدافع، هي الكفيلة بتخريج أفواج تبصم حضاريًّا.

 

فثقافة المغلوب المنهك بقيود التبعية الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والتقنية وقروض الأبناك الدولية، بشروطها التحكمية، الراهنة للمستقبل -لن تكون إلا تبعًا أو نسخة شائهة لثقافات الحضارات الأخرى، أو مجالًا للسخرية الحضارية؛ أي: عندما يقدم (أحيدوس) و(التبوريدا) و(الدقة المراكشية) (والكناوية) (الطاجين) (الكسكس المغربي بسبعة خُضَر)...على أنها أفضل إنتاج ثقافي حضاري يستغل في السياحة الرخيصة، بينا يقدم (الآخر) التكنولوجيات، وآخر الصيحات التقنية ( الروبوت الطبيب - الطائرة المسعفة...).

 

♦ الحضارة في جوهرها ترسب ثقافي، دعني أقول: إنها الترسبات الثقافية في تكاملها وتناغمها وتضافر مكوناتها؛فالحضارة كل، والثقافة جزء منه،والثقافة تتغذى من روافد أسرية واجتماعية وتعليمية وإعلامية (في عصر استبداد الصورة)، وإستراتيجية وفقًا لسياسات الدول وأولوياتها...

 

♦ سياسات الدول وخططها القصيرة (التخطيط الوظيفي) والبعيدة (التخطيط الإستراتيجي) مقوم من مقومات إرساء دعائم الصرح الحضاري.

 

فالنبات الحضاري ينتعش في أجواء الاستقرار، كما يموت في تربة الاستبداد والقمع المادي والرمزي، والقلاقل والاضطرابات، فحيثما حل الخراب اختفت الحضارة.

 

♦ الإبداع من مقومات الحضارة والتحضر، في مختلف الميادين والحقول، فتراكم الإبداعات وتلاقح الإنتاجات الأدبية والعلمية والفنية والتقنية...وثقافة الاعتراف، ولم لا الاختلاف، تبث روحًا يلتئم منها نسق منظم مهيكل، تخبو فيه الملامح الحضارية، ثم يكتبها التاريخ، ويدرجها في الحضارة الإنسانية (المحلية أو الجهوية أو القطرية أو العالمية...).

 

♦ حضارة أو حضارات؟ إن الحضارة عمل إنساني مشترك، ساهمت فيه كل الشعوب بنصيبها.

 

دعنا نتأمل...

الذين يغيرون العالم بابتكاراتهم وإبداعاتهم وسياساتهم،قلة قليلة في كل بلد، وفي كل أمة، فليس كل المجتمع الأمريكي أو الألماني بعبقري، ولا منتج، وليس كل متعلم بفاعل في مجتمعه، وكذا في سائر الشعوب والأمم.

 

إن الفاعلين منهم على رؤوس الأصابع، والسر - كلُّ السر - في النسق المجتمعي والثقافي والسياسي والتنظيمي الذي تجري عليه البلاد،فلا تخلو عبقرية من أي مجتمع، ولكنها قد تخبو وتفتُرُ، وقد تضمحل؛ لأنها لا تجد التربة والرِّيَّ والطقس المناسب!

 

إن التراكم الحضاري العالمي قسم الدول قسمين: دول تستفيد وتؤسس على الموجود الذي عدلته كثيرًا، وقطعت فيه أشواطًا ومراحل كبيرة، ودول أخرى تغني أغنية (كان أبي)، و(كنا في الماضي)، وما تزال حتى الساعة تبكي على الأطلال، ولم تضع رِجلها في طريق التنمية.

 

صحيح قد تكون لها حضارة، رغم الانهيار، ولكن الحضارات في موازين التحضر ليست واحدة؛فالحضارة التي تنتج وتغزو السماء ليست كالتي تغزو الأرض، وتستنزف الموارد، ولا تحقق اكتفاءها الذاتي، إن "فلاحيًّا" أو تقنيًّا، أو تجدها تعاني من اختلال موازينها التجارية.

 

♦ عندما ندرج المقومات اللامادية في الحضارة ينبغي ألا يُفهَمَ منه أن السعادة تبني الحضارة؛ فالسعادة نتاج العدالة.

 

ولا نجادل في كون الإسلام مرسيًا - بتوجيهاته التعبدية والاجتهادية - للمعالم الحضارية؛ لإحقاق العدالة الإلهية كما يريدها الحق سبحانه وتعالى.

 

إن الصرح الحضاري لا يخرج عن السنن الإلهية، ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ [الفتح: 23]، فيتبين أن كل من سار على الدرب - متخذًا السنن وسيلة - وصَل.

 

فالكون مخلوق على نواميسَ لا تنخرق إلا أن يشاءَ الله؛ (قانون الفيزياء - الكيمياء - ومعادلات الحياة...).

 

♦ الدولة والحضارة:

قوة الدولة وقوة أجهزتها الإدارية والتدبيرية والعسكرية وتنظيماتها الاقتصادية من قوة الحضارة،بل لا يمكنُ الحديث عن الحضارة إلا في ظل دولة؛ حيث يسُود الاستقرار والأمن.

 

والفذلكة، في هذه النقطة، أن الكمال الحضاري، بالمعنى الروحي للكلمة، مكفولٌ في التزام الشرع الإسلامي (التوحيد - العدل - المساواة - الأخوَّة - الرقابة الذاتية - نَبْذ العنف بجميع أشكاله...).



المصدر: https://www.alukah.net/web/hanafijawad/0/96160/

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك