الدعوة إلى وحدة الأديان وتقاربها في ميزان الوسطية

د. محمد المهدي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وآل بيته وصحبه ومَن والاه.

 وبعدُ:

 

فهذه محاضرة حول: منهج الوسطية في تقارُب الأديان وحوار الحضارات، أبدؤها بتعريفاتٍ لهذه المصطلحات والألفاظ.

تعريفات عامَّة:

1- تعريف الوسطيَّة:

 

لغةً: وسط الشيء ما بين طرفَيْه؛ ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة: 143]؛ أي: عدلاً، فهذا تفسير الوسط وحقيقة معناه، وأنَّه اسم لما بين طرفي الشيء وهو منه[1].

 

حقيقة الوسطيَّة:

 

الخيار والعدل، وسائر أنواع الفضل.

 

ووسطية الأمَّة بين الأمم بارزة.

 

ووسطية أهل السُّنَّة في الأمَّة واضحة في مسائل كثيرة ومنها:

 

فهم وسطٌ باب صفات الله - سبحانه وتعالى -: بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبِّهة.

 

وهم وسطٌ في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية وغيرهم.

 

•- وفي باب وعبد الله بين المرجئة والوعيديَّة من القدريَّة وغيرهم.

 

باب أسماء الإيمان والدِّين بين الحروريَّة والمعتزلة، وبين المرجئة والجهميَّة.

 

وفي أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بين الرافضة والخوارج[2].

 

2- تعريف التقارب:

 

لغة: القُرب نقيض البُعد، قرُب الشيءُ بالضمِّ يقرُب قربًا وقربانًا وقِربانًا فهو قريب... ومنه قوله - تعالى -: ﴿ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ﴾ [ق: 41]، وما قربت هذا الأمر ولا قربته؛ قال - تعالى -: ﴿ وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾ [البقرة: 35]، وقال: ﴿ وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا ﴾ [الإسراء: 32]، والتقارب ضد التباعد، وفي الحديث: ((إذا تقارَبَ الزمان))، وفي رواية: ((إذا اقترب الزمان))، والقرابة والقُربى الدنوُّ في النسب، والقُربى في الرَّحِمِ، وهي في الأصل مصدر، وفي التنزيل العزيز: ﴿ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى ﴾ [النساء: 36]، وما بينهما مَقرَبةٌ ومَقرِبة ومَقرُبة؛ أي: قرابة، وأقارب الرجل وأقربوه عشيرته الأدنون، وفي التنزيل العزيز ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214][3].

 

ويُراد بالتقارب:

 

في عُرف دعاة التقارب أكثر من معنى ومن ذلك:

 

إذابة الفوارق بين الإسلام واليهوديَّة والنصرانيَّة؛ فيكون التوحيد عند المسلمين كالتثليث عند النصارى، ويكون التشبيه عند اليهود مساويًا للتَّنزيه عند المسلمين، وأنَّ الكتابين المحرَّفين: (التوراة والإنجيل) كالقرآن الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه، وهكذا بقيَّة أباطيل أهل الكتابين كالحقائق الشرعيَّة في الإسلام، وهذا التقارب باطلٌ.

 

وهناك تقارب حق، وحوار حق، وهو المحاورة والمجادلة بالتي هي أحسن لنقلِهم في الشِّرك إلى التوحيد.

 

4- تعريف الأديان:

 

قال في "اللسان": والدِّين الطاعة، وقد دِنته ودنت له أطعته، قال عمرو بن كلثوم:

 

وَأَيَّامًا لَنَا غُرًّا كِرَامًا            عَصَيْنَا المَلْكَ فِيهَا أَنْ نَدِينَا

 

ويُروى: وأيام لنا ولهم طوال، والجمع الأديان يُقال: دان بكذا ديانةً وتديَّن به فهو ديِّن ومتديِّن، ودينت الرجل تديينًا، إذا وكلته إلى دينه، والدِّين الإسلام، وقد دنت به[4].

 

تعريف الحضارات:

 

لغة: الحضارة لها عدَّة معانٍ[5]:

 

يقال: حضر يحضر حضورًا وحضارةً: ضدُّ الغياب، ويُقال: حكمت فلانًا بحضرة فلان؛ أي: بوجوده.

 

الحضارة: الإقامة في الحضر؛ أي: المدن... وقد أنشد القطامي:

 

فَمَنْ تَكُنِ الحَضَارَةُ أَعْجَبَتْهُ            فَأَيُّ رِجَالِ بَادِيَةٍ تَرَانَا

 

في الاصطلاح المتعارف عليه: "ثمرة كلِّ جهدٍ يقوم به الإنسان لتحسين ظروف حياته، والرقيِّ بها، سواء أكان المجهود المبذول للوصول إلى تلك الثمرة مقصودًا أم غير مقصود في المجالين المادي والروحي"[6].

 

فالسَّلفي: هو مَن انتسب إلى السَّلف، والسَّلف هو المتقدِّم، والمتقدِّمون سلف المتأخِّرين، كما أنَّ المتأخِّرين خلف للمتقدمين.

 

ومنه قوله - تعالى -: ﴿ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ [النساء: 23]، وقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((... أنتم سلفنا ونحن بالأثر))، وقوله لابنته فاطمة: ((... ونعم السلف أنا لك))[7].

 

وهذه الكلمة ليست ممدوحةً على الإطلاق ولا مذمومة على الإطلاق، وإنما بحسَب ما يتعلَّق بها، فقد يكونُ سلف القوم سيئًا، وقد يكون سلف القوم صالحًا، ففراعنة العصر أسلافهم الفراعنة المتقدِّمون، والاشتراكيون أسلافهم لينين واستالين وغيرهما، وللصالحين أسلافٌ صالحون، هذا على مقتضى اللغة العربية، إلى هنا لا إشكال في معناها[8].

 

أمَّا في الاصطلاح فله معناه الخاص ومدلوله المضبوط، فعندما نقول: "السلف الصالح" استبان بأنَّ لنا سلفًا صالحين.

 

وسلفنا الصالح هم: الصحابة وتابعوهم من أصحاب القرون الثلاثة المفضَّلة، ومن العلماء مَن يضبطها قبلَ حدوث البدع.

 

فمَن سلك مذهبهم وسار على طريقتهم كان سلفيًّا، وعلى هذا اصطلح العلماء، فكم لقَّبوا من العلماء بهذا اللقب لاتِّباعهم للسلف الصالح، فأطلقوا عليه لفظة "سلفي"[9]!

 

الدعوة إلى وحدة الأديان في العصر الحاضر[10]:

 

بعد أنْ ظهرت عدَّة دعوات مشبوهة في فتراتٍ سابقة قويت في الربع الأخير من القرن الرابع عشر الهجري، وحتى عامنا هذا 1416هـ، وفي ظلِّ النظام العالمي الجديد: جهرت اليهود والنصارى بالدعوة إلى التجمُّع الديني بينهم وبين المسلمين وبعبارة أخرى: "التوحيد بين الموسوية والعيسوية والمحمدية" باسم "الدعوة إلى التقريب بين الأديان"، "التقارب بين الأديان"، ثم باسم "نبذ التعصُّب الديني"، ثم باسم: "الإخلاء الديني" وله فُتِحَ مركز بمصر بهذا الاسم، وباسم: "مجمع الأديان" وله فُتِحَ مركز بسيناء مصر بهذا الاسم، وباسم: "الصداقة الإسلامية المسيحية"، وباسم: "التضامن الإسلامي المسيحي ضد الشيوعية" ثم أخرجه للناس تحت عدَّة شعارات:

 

• "وحدة الأديان"، "توحيد الأديان"، "توحيد الأديان الثلاثة"، "الإبراهيمية"، "الملة الإبراهيمية"، "الوحدة الإبراهيمية"، "وحدة الدين الإلهي"، "المؤمنون"، "المؤمنون متَّحدون"، "الناس متَّحدون"، "الديانة العالمية"، "التعايش بين الأديان"، "المِلِّيُّون"، "العالمية وتوحيد الأديان".

 

ثم لحقها شعارٌ آخَر وهو "وحدة الكتب السماوية"، ثم امتدَّ أثر هذا الشعار إلى فكرة طبع: "القرآن الكريم، والتوراة والإنجيل"، في غلاف واحد!

 

ثم دخلت هذه الدعوة في: "الحياة التعبُّدية العملية"، إذ دعا "البابا" إلى إقامة صلاة مشتركة من ممثِّلي الأديان الثلاثة: الإسلاميين والكتابيين وذلك بقرية: "أسيس" في: "إيطاليا"، فأُقيمت فيها بتاريخ: 27/10/1986م، ثم تكرَّر هذا الحدث مرَّات أخرى باسم: "صلاة روح القدس"، ففي: "اليابان" على قمَّة جبل: "كيتو" أُقيمت هذه الصلاة المشتركة، وكان - وا حسرتاه! - من الحضور ممثِّل لبعض المؤسسات الإسلاميَّة المرموقة.

 

وما يتبع ذلك، من أساليب بارعة للاستِدراج ولفت الأنظار إليها والالتفاف حولها؛ كالتلويح بالسلام العالمي ونشدان الطمأنينة والسعادة للإنسانيَّة، والإخاء والحريَّة والمساواة والبر والإحسان، وهذه نظيرة وسائل الترغيب الثلاثة التي تنتحلُها الماسونية: "الحرية والإخاء والمساواة"، أو: "السلام والرحمة والإنسانية"، وذلك بالدعوة إلى "الروحية الحديثة" القائمة على تحضير الأرواح، روح المسلم وروح اليهودي وروح النصراني وروح البوذي وغيرهم، وهي من دعوات الصهيونيَّة العالميَّة الهدَّامة، كما بيَّن خطرها الأستاذ محمد محمد حسين - رحمه الله تعالى - في كتابه "الروحية الحديثة دعوة هدامة - تحضير الأرواح وصلته بالصهيونية العالمية"[11].

 

وهنا مع إيماننا ببطلان الدعوة إلى ما يُسمَّى بوحدة الأديان بمفهوم الغربيين فلا بُدَّ من ذِكر ما اتَّفقت عليه الشرائع من الأصول وإن اختلفت في فُروع تشريعاتها؛ ليكون الحكم بعد ذلك سهلاً، وكذا الحوار مع أهل الكتاب، وليظهر للباحث المنصِف هل هؤلاء الكتابيُّون مع هذه الثوابت والأصول، أم ينسفونها نسفًا؟!

 

الأصول التي اتَّفقت عليه دعوة الرسل:

 

الأصل الأول: إثبات التوحيد:

 

قال الإمام الشوكاني: "... قد روى جماعةٌ من أكابر علماء الإسلام أنَّ الشريعة كلها اتَّفقت على إثبات التوحيد على كثرة عدد الرسل المرسَلين، وكثرة كتب الله - عزَّ وجلَّ - المنزلة على أنبيائه"[12].

 

ففي كتاب الله - تعالى -: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25].

 

فالأنبياء جميعهم ثبت أنهم "كانوا يقاتلون مَن عبد الأصنام، ويستحلُّون دماءهم، ويحشدهم على ذلك أتباع موسى، وأخبار الملَّة اليهودية، وكل نبي بعثَه الله من أنبياء بني إسرائيل يوجبُ على بني إسرائيل قتال مَن يعبد الأصنام، وغزوهم إلى ديارهم، وقد اشتملت التوراة أيضًا على حكاية ما كان من أخبار الأنبياء قبل موسى، وما كان بينهم من الدعوة إلى التوحيد والفِرار من الشِّرك والتنفير عنه.

 

ومن نصوص التوراة ما ذُكِرَ في الفصل العشرين منها من السفر الثاني - أي: سفر الخروج - ولفظه: "أنا الله ربك الذي أخرجك من أرض مصر بيت العبودية، لا يكن لك معبود آخَر من دوني، لا تصنع لك منحوتًا، ولا شبهًا لما في السماء من العلو، وما في الأرض مثلاً وما تحت الأرض، لا تسجد لهم، ولا تعبدها؛ لأني الله ربُّك القادر الغيور" انتهى..."[13].

 

وفي المزمور الموفي ثمانين ما لفظه: "ولا يكن فيك إلهٌ جديد، ولا تسجد لإلهٍ غريب؛ لأني أنا هو الرب إلهك"، انتهى[14].

 

"وبالجملة فكتب الله - عزَّ وجلَّ - بأسرها ورسله جميعًا متَّفقون علي التوحيد والدعوة إليه، ونفي الشرك بجميع أقسامه.

 

وأمَّا دعوة الأنبياء المتقدِّمين على موسى إلى التوحيد فقد تضمَّنت التوراة حكايةَ ما كانوا عليه من التوحيد والدعوة إليه ونفي الشرك... فإنها قد حكت ما وقع منهم من عند أبينا أدم ومَن بعده من الأنبياء؛ كنوح وإبراهيم ولوط، وإسحاق وإسماعيل ويعقوب، ويوسف... إلى عند قيام موسى - سلام الله عليهم أجمعين"، انتهى[15].

 

الأصل الثاني: إثبات المعاد:

 

"ففي التوراة في أوَّلها عند الكلام على ابتداء الخليفة التصريحُ باسم الجنة ولفظه: "فغرس الله جنانًا في عدن شرقيًّا وابقًا، ثم آدم الذي خلق وأنبت الله"...".

 

"... كما قد وقع التصريحُ في التوراة بالجنَّة كما ذكرنا فقد وقع التصريح فيها باسم النار ولفظها في التوراة: "شول واش"، قال علماء اليهود: ومعنى اللفظين "جهنم""[16].

 

"... والحاصل أنَّ هذا أمر اتَّفقت عليه الشرائع، ونطقت به كتب الله - عزَّ وجلَّ - سابقها ولاحقها، وتطابقت عليه الرسل أوَّلهم وآخِرهم، ولم يخالف فيه أحدٌ منهم، وهكذا اتَّفق على ذلك أتباع جميع الأنبياء من أهل الملل، ولم يُسمَع عن أحدٍ منهم مَن أنكر ذلك قطُّ.

 

ولكنْ ظهر رجلٌ من اليهود زنديق يُقال له: موسى بن ميمون اليهودي الأندلسي[17] فوقع منه كلام في إنكار المعاد، واختلف كلامه في ذلك؛ فتارةً يثبته وتارة ينفيه، ثم هذا الزنديق لم يُنكر مطلق المعاد، إنما أنكر بعد تسليمِه للمعاد أنْ يكون فيه لذَّات حسيَّة جسمانيَّة، بل لذَّات عقليَّة روحانيَّة، ثم تلقَّى ذلك عنه مَن هو شبيه به من أهل الإسلام؛ كابن سينا... فقلَّدوه تقليدًا لذلك اليهودي الملعون الزنديق، مع أنَّ اليهود قد أنكروا عليه هذه المقالة، ولعنوه وسموه كافرًا"[18].

 

الأصل الثالث: إثبات النبوَّات:

 

"الأنبياء - عليهم السلام - على كثرة عددِهم، واختلاف أعمارهم، وتبايُن أنسابهم، وتباعُد مساكنهم، قد اتَّفقوا جميعًا على الدعوة إلى الله - عزَّ وجلَّ.

 

وصار الآخر منهم يقرُّ بنبوة متقدَّمه، وبصحَّة ما جاء به، وإذا خالفه في تحليل بعض ما حرَّمَه الله على لسان الأوَّل، أو تحريم ما أحلَّه الله له ولأمَّته، فهو مقرٌّ بأنَّ الحكم الأوَّل تحليلاً وتحريمًا هو حقٌّ، وهو حُكم الله - عزَّ وجلَّ - وأنَّه الذي تعبَّد الله به أهل تلك الملَّة السابقة، واختاره لهم كما اختار للملَّة اللاحقة ما يُخالفه، والكلُّ من عند الله - عزَّ وجلَّ - وذلك جائزٌ عقلاً وشرعًا في ملَّة واحدة فضلاً عن الملل المختلفة"[19].

 

وبالجملة فلا شكَّ ولا ريب أنَّ الأنبياء متَّفقون على تصديق بعضهم بعضًا.

 

وأنَّ ما جاء به كلُّ واحد منهم فهو ما عند الله - عزَّ وجلَّ - وقد عرفناك فيما سبق أنَّ عددهم بلغ إلى مائة ألف وأربعة وعشرين ألفًا، ولا خلافَ بين أهل النظر أنَّ اتِّفاق مثل هذا العدد يفيدُ العلم الضروري بصدق ما اتَّفقوا عليه، بل اتِّفاق عُشر هذا العدد، بل اتِّفاق عُشر عُشرِه يفيدُ ذلك"[20].

 

هذا، وليعلم أنَّ الشرائع اتَّفقت في مقاصدها على حِفظ الضروريَّات وهي: الدين، والنفس، والمال، والعقل، والنسب، والعرض، والنسل؛ فقال - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36].

 

أمَّا في فروعها فقد ورد الخلاف، وقد قال - تعالى -: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48].

 

ماذا بعد الإسلام من اتِّفاق؟

 

أهل الكتاب اليوم ليسوا مؤمنين بالتوحيد الذي جاءت به الرسل، بل الشرك عندهم ألوانٌ متعدِّدة، وكذلك ليسوا مؤمنين بنبوَّة النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فنحن معهم في خلافٍ، وهم مع دعوة رسل الله في شِقاق.

 

فكتبهم قد بشَّرت برسالة النبي محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - فعليهم الإيمانُ به والدخولُ فيما جاء به، ولما لم يكن ذلك الإيمان حاصلاً فلا شأنَ لهم بالحديث عن الرسل، والكتب المنزلة عليهم حتى يؤمنوا بمحمد - صلَّى الله عليه وآله وسلَّم - وما جاء به.

 

ما خصَّ به أهل الكتاب من أحكام في دولة الإسلام:

 

تم إنَّ أهل الكتاب خصُّوا بأحكام في حكم الشريعة الإسلامية منها:

 

1- بحقِّ الاعتقاد: فإن كنَّا نكفرهم بالشرك لكن لهم في الإسلام حقُّ الاعتقاد بدون إكراه؛ فقد قال - تعالى -: ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [البقرة: 256].

 

2- أداء العبادات: كفلت الشريعة الإسلامية لأصحاب الدِّيانات الأخرى ممارسةَ شعائرهم الدينيَّة، وأداء عباداتهم.

 

3- الحقوق الماليَّة: وهذه الحقوق الماليَّة منها ما يُؤخَذ منهم مقابل مصلحةٍ لهم، ومنها ما يُبذَل لهم خدمةً وتعاون عند عجزهم ومنها:

 

أولاً: أخذ الجزية: وهي ضريبةٌ تُستَوفَى من الذميين مقابل حمايتهم وحماية أموالهم والكف عنهم، وكذلك علامةً لخضوعهم واتِّباعهم للدولة الإسلاميَّة.

 

ولو تأمَّلنا أحكامَ الجزية لتبيَّنَ لنا ألها ليست بذلك الغرم الشديد.

 

فأولاً: تُؤخَذ الجزية من الرجال الأحرار العقلاء فقط، فلا تجب على المرأة والصبي والمجنون؛ لأنهم تبع لغيرهم، وتسقط عن الذمي إنْ أسلم أو مات، ولا تسقط عن الشيخ الكبير والمريض إذا كانت لديهما القُدرة على أدائها.

 

ثانيًا: من حيت مِقدارها فقط راعت الشريعة الإسلاميَّة الوضع المالي لأهل الذمَّة؛ فيُؤخَذ من الأغنياء 48 درهمًا، ومن متوسط الحال 24 درهمًا، ومن الفقراء 13 درهمًا، وهذا بالسنة الواحدة.

 

ثالثًا: العطاء من بيت المال: إذا كان جمهور الفقهاء قد ذهبوا إلى أن ليس لغير المسلمين نصيبٌ من أسهم الزكاة، وأنَّ لهم حقًّا في بيت مال المسلمين، وأنَّ الذميِّين سواء في الحقوق مع المسلمين في كفالة بيت المال للمعوزين منهم.

 

3- حق الوظيفة والعمل:

 

أكَّد الفقهاء قديمًا أنَّ الوظائف التي تتعلَّق بأمور العقيدة والجهاد وقيادة الأمَّة، والمناصب ذات الخطورة التي تتعلَّق بوضع الخطط العمليَّة، وتوجيه دوائر الدولة المختلفة، لا تُسنَد إلا للمسلمين؛ لأنها ولايات لا يتولاها إلا مَن ينتمي إلى مبادئ الإسلام وعقيدته فيخدمها.

 

يقول الله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 118].

 

وما سوى ذلك من الأعمال والخدمات الإنسانيَّة كالطب والهندسة والصناعة وغيرهما فيجوزُ الاستفادة منهم بها.

 

ويُراعَى في ذلك الاختصاص والكفاءة والنزاهة، إذا أمن مكرهم وغدرهم.

 

4- الحقوق الاجتماعيَّة: ومن هذه الحقوق الاجتماعيَّة التي يستحقُّها أهل الكتاب في المجتمع المسلم ما يأتي:

 

1) المساواة أمام القضاء إذا تحاكم الذميُّون إلى قضاة المسلمين جاز ذلك، ويقضي بينهم بما أنزل الله.

 

وبما يقضى به بين المسلمين يقول الله - تعالى -: ﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاؤوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [المائدة: 42].

 

وإن كان للذمِّي حقٌّ عند أكبر الشخصيَّات في الدولة الإسلامية فله حقُّ مقاضاته.

 

2) حُسن التعامُل معهم؛ يقول الله - تعالى -: ﴿ لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8].

 

وقد جسَّد النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذا المفهوم القُرآني؛ فكانت له علاقات طيِّبة مع أهل الكتاب الذين لم يُعادوا الإسلام، ولم يخونوا الله ورسوله، وما حادثة زيارة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - للغلام اليهودي ببعيدةٍ عنَّا، بل إنَّ إباحة الشريعة للمسلمين أنْ يتزوَّجوا من الكتابيَّات عاملٌ مهم في تقوية العلاقات الاجتماعيَّة معهم؛ ولذا نجد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُوصي الذين يفتحون مصر بالأقباط بقوله: ((إنَّكم ستقتحمون مصر، وهي أرض يُسمَّى فيها القيراط، فإذا اقتحَمتُموها فأحسِنوا إلى أهلها؛ فإنَّ لهم ذمةً ورحمًا))، وفي رواية: ((ذمَّة وصهرًا))؛ رواه مسلم.

 

وفعلاً حينما فتحها عمرو بن العاص أحسَنَ إلى أهلها؛ فكتب أحد مُؤرِّخيهم عن ذلك، فكان تسامحه مع مصر أثناء ولايته مثار دهشة المصريين وإعجابهم.

 

وهذه المعاملة الحسنة ينبغي التعامُل معهم بها بقصد جرِّهم إلى الإسلام.

 

ومن حقوق أهل الذمَّة حماية المسلمين لهم ممَّن يغزوهم في بلاد المسلمين كما يحمون المسلمين.

 

وعلى أهل الذمَّة ألا يدعوا المسلمين إلى دِينهم المحرَّف، ولا يتزوَّجوا المسلمات، ولا ينشروا المنكرات ويُعلنوها في أوساط المسلمين، وألا يكونوا عيونًا وجواسيس للكفَّار، وأنْ يدفعوا الجزية كما تقدَّم.

 

الحوار مع أهل الكتاب والكفَّار والمشركين جائز بالتي هي أحسن:

 

منطلق الحوار قولُ الله - تعالى -: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64].

 

ينقسمُ حكم الحوار معهم إلى قسمين:

 

الأول: الحوار الممدوح:

 

وهو الجدل الذي يُقصد به تأييدُ الحق أو إبطال الباطل، أو أفضى إلى ذلك بطريقٍ صحيح، ومن هذا الجدل ما هو فرضُ عينٍ ومنه ما هو فرض على الكفاية.

 

يقول شيخ الإسلام ابن تيميَّة: "... والدعاء إلى سبيل الرَّبِّ بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ونحو ذلك ممَّا أوجبه الله على المؤمنين، فهذا واجبٌ على الكفاية منهم، وأمَّا ما وجب على أعيانهم فهذا يتنوَّع بتنوُّع قدرهم وحاجتهم ومعرفتهم..."[21].

 

وقال - رحمه الله - أيضًا: "... فأمَّا المجادلة الشرعيَّة كالتي ذكرها الله - تعالى - عن الأنبياء - عليهم السلام - وأمر بها في مثل قوله - تعالى -: ﴿ قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ﴾ [هود: 32]، وقوله: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ﴾ [الأنعام: 83]، وقوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ﴾ [البقرة: 258]، وقوله: ﴿ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]، وأمثال ذلك، فقد يكون واجبًا أو مستحبًّا، وما كان كذلك لم يكن مذمومًا في الشرع"[22].

 

الثاني: الحوار المذموم:

 

وهو الجدل الذي يُقصد به الباطل أو تأييده، أو يُفضي إليه، أو كان القصد منه مجرَّد التعالي على الخصم والغلبة عليه فهذا ممنوعٌ شرعًا، ويتأكَّد تحريمُه إدا قلب الحق باطلاً أو الباطل حقًّا؛ قال ابن تيميَّة - رحمه الله -: "والمذموم شرعًا ما ذمَّه الله ورسوله؛ كالجدل بالباطل، والجدل بغير علم، والجدل في الحق بعدما تبيَّن"[23].

 

ويدخُل في هذا النوع دعواتُ التقارب، ونظريات الخلط بين الأديان؛ فإنها من الباطل الصرف؛ كما يدخُل فيه كثيرٌ من الحوارات الحضاريَّة المعقودة مع أهل الكتاب لما تُفضي إليه من الباطل.

 

ما الهدف من الحوار مع أهل الكتاب؟

 

الهدف هو معرفة الحقِّ والصواب، والدُّخول في دين الإسلام.

 

موضوعات الحوار مع أهل الكتاب:

 

1- الأمر بتوحيد الله وعبادته وحدَه لا شريك له؛ كقوله - تعالى -: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64]، وقال - تعالى -: ﴿ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [المائدة: 72]، وقال - تعالى -: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ﴾ [المائدة: 73].

 

2- الأمر بالإيمان برسالة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنَّه رسول الله - تعالى - إلى العالم أجمع، وهم داخلون تحت عموم رسالته؛ كقوله - تعالى -: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [المائدة: 19]، وقوله: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146].

 

3- إثبات القُرآن لنسخ أديانهم وتحريف كتبهم وبطلانها، ووجوب إيمانهم بالقُرآن؛ قال - تعالى -: ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 75]، وقال: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48].

 

4- الرد على شُبهاتهم وافتِراءاتهم ونهيهم عن الغلوِّ في الدِّين، وهذا كثير في القرآن والسُّنَّة.

 

ملحوظة: فالحوار معهم في مسائل دُون هذه لا يُجدي ولا ينفع، أو أنْ نوافقهم على باطلٍ في شريعتنا، وهذا كذلك باطل.

 

توحيد الأديان وإقرار كلٍّ على ما هو عليه خرق لإجماع المسلمين:

 

"المراد بتوحيد الأديان الوصول إلى القول بصحَّة جميع المعتقدات والدِّيانات، وأنها ينبغي أنْ تكون جنبًا إلى جنب، تتزامل في الإيمان، دون أنْ يتخلى كلُّ دِين عن عقائده وشرائعه الخاصَّة به.

 

وهذا النوع على قسمين:

 

القسم الأول: الوحدة الصُّغرى، وهذا خاص بالأديان التي تعلن انتماءها إلى إبراهيم - عليه السلام - وهي: الإسلام واليهودية والنصرانية؛ ولذلك يُطلِق أصحاب هذا القسم على هذه الأديان (الأديان الإبراهيمية).

 

وتفرَّع عن هذا القسم من الحوار الدعوة إلى بناء مسجد وكنيسة ومعبد في محيط واحد، في رحاب الجامعات والمطارات والساحات العامَّة، والدعوة إلى طباعة القُرآن الكريم والتوراة والإنجيل في غلافٍ واحد.

 

"والقسم الثاني: الوحدة الكبرى، وهذا شامل لجميع الأديان والملل الوثنيَّة، بل والملحدين؛ بجامع أنَّ تلكم الوثنيَّات آثار نبوَّات سابقة، وأن الملحدين يؤمنون بالإنسان، وأنَّ للحياة معنى"[24].

 

"الخلاصة: أنَّ دعوة المسلم إلى توحيد دِين الإسلام مع غيره من الشرائع والأديان الدائرة بين التحريف والنسخ ردَّة ظاهرة وكفرٌ صريح؛ لما تعلنه من نقضٍ جريء للإسلام أصلاً وفرعًا، واعتقادًا وعملاً، وهذا إجماعٌ لا يجوز أنْ يكونَ محلَّ خلاف بين أهل الإسلام"، وإنها دخول معركة جديدة مع عبَّاد الصليب ومع أشدِّ الناس عَداوةً للذين امنوا"[25]، وهم اليهود.

 

حال مَن يدعون أنهم من أصحاب الأديان الآن مع الإسلام:

 

"إنَّ الدعوة إلى وحدة الأديان دعوةٌ قديمة؛ فقد دعا إليها أهلُ الحلول والاتحاد من زنادقة المتصوِّفة؛ كابن عربي، والفرق الباطنيَّة كإخوان الصفا.

 

وأمَّا عند النصارى فيُعتبر الراهب "رامون لول" المتوفَّى عام 1315هـ أوَّل مَن دعا إلى تصويب جميع صور العبادات والأديان.

 

وأمَّا الدعوة إلى التقارُب في الإبراهيمية فيُعتَبر المستشرق الفرنسي "لويس ماسينيون" أوَّلَ مَن دعا إليها بحماس، عن طريق كتاباته عن الحلاج، وعن طريق تدريسه في جامعة القاهرة، وإدارته لمجلَّة العالم الإسلامي عام 1919م.

 

وأخيرًا: تأتي محاولة روجيه جارودي للتحاوُر بين الأديان على أساس إقامة وحدةٍ فيدراليَّة للطوائف الدينيَّة، ورأى أنَّ الرابط بين الأديان هو الإيمان بمعناه الأرحب والأوسع، والذي يمكن أنْ يُوجد حتى عند الملحِدين؛ فهم لديهم إيمان بالإنسان، ورأى أنَّ أفضل دين فيه سعة ورحابة يمكن أنْ يتقبَّل فكرته هذه هو الإسلام، ولكن ليس بمدلوله الخاص، وإنما بمدلوله العام؛ والذي يعني الاستسلام لله".

 

وتُعتَبر فرقة البهائية هي أبرز من يدعو إلى توحيد الأديان، وتسمِّي الدين الملفَّق بالديانة العالميَّة، والذي تبشِّر به البهائيَّة وتدعو إليه، وتعتقد أنَّه الدِّين الناسخ لجميع الأديان السابقة، والذي يمكن أنْ يُوحِّد العالم، ويُعطي له السعادة والراحة والاطمئنان.

 

فممَّا يُنادي به البهاء: "أن يتَّحد العالم على دين واحد، ويصبح جميع الناس إخوانًا، وتتوثَّق عُرى المحبَّة والاتحاد بينهم، وتزول الاختلافات الدينيَّة".

 

ومن أبرز دعاته في العالم الغربي:

 

أولاً: أصحاب الديانة المونية، وهؤلاء أتباع "صن مون" الكوري الشمالي الثري، والذي لفَّق لهم دينًا من النصرانية واليهودية والإسلام والبوذية، وكذلك من النظريات العلمية، وادَّعى النبوة، وأنَّه جاء بدينٍ يوحد العالم، ويكسبه السعادة والسرور.

 

ثانيًا: أصحاب ديانة كريسلام: هذا الاسم الجزء الأوَّل منه يدلُّ على النصرانيَّة، والتاني: الإسلام، فهي مزيجٌ منهما، قام بذلك الأب الأسباني "إيميلو غاليندور آغيلار"، ودعا الناس إلى التوحُّد على هذا المبادئ الملفَّقة من هاتين الديانتين، وتُطالب بالتخلُّص من وصاية المؤسَّسات الدينيَّة التي أثبتت بدلاً من أنْ تكون عوامل مساعدة أنها عقبات في طريق التوحيد[26].

 

التقريب بين الأديان هل هو ممكن؟

 

التقريب بين الأديان قد يكون مرفوضًا وقد يكون مقبولاً:

 

التقريب المرفوض:

 

هو الذي يُقصَد به إذابة الفوارق الجوهريَّة بين الأديان المختلفة؛ كالتوحيد في الإسلام، والتثليث في النصرانية، والتنزيه في العقيدة الإسلاميَّة، والتشبيه في العقيدة اليهودية... وغيرها.

 

ومن الفوارق الأساسيَّة: أنَّ كتاب المسلمين (القُرآن) محفوظ من كلِّ تغيير وتبديل من الله - تعالى - بخلاف التوراة والإنجيل اللذين قامت الأدلَّة على وقوع التحريف فيهما بالحذف والزيادة والتغيير، وقد قاله علماء الغرب أنفسهم من يهود ونصارى.

 

التقريب المقبول:

 

هو أنْ يكون في ضوء الحقائق التالية:

 

1) الحوار بالتي هي أحسن، والحكمة والموعظة الحسنة؛ لإقناعهم بالدُّخول إلى الإسلام؛ لقوله - تعالى -: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64].

 

2) التركيز على القواسم المشترَكة بيننا وبين أهل الكتاب وهذا نصُّ ما جاء في الآية الكريمة: ﴿ ... وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 46].

 

3) التعاون لمواجهة الإلحاد والوثنيَّة فأهل الكتاب لم يكونوا أشدَّ كفرًا من أهل الإلحاد والوثنية، والأحكام التي خصَّ الله بها أهل الكتاب من قبول الجزية، والزواج من نسائهم، وأكل ذبائحهم خِلاف الوثنيين والملحِدين تدلُّ على ذلك.

 

4) مُناصرة قضايا العدل والشُّعوب المستضعَفة.

 

5) إشاعة روح التسامح لا التعصُّب، فتكفير الله لهم وضلالهم لا ينافي حرصَنا على الرِّفق بهم والإحسان إليهم، والتعامل معهم بموجب الإحكام التي خصَّها الله - تعالى - بهم في الفقه الإسلامي من ذبائح، وجوار، وبيع وشراء...

 

أصول خالف بها أهل الكتاب المسلمين:

 

1- التوحيد والإساءة في حق الله - تعالى -:

 

إساءة اليهود في حق الله - تعالى -:

 

"إن (اليهود) - قبَّحهم الله - هم بيت الإلحاد، والتطاوُل الخطير على الله - تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا - وهذا بعض ما في القُرآن الكريم من عقائدهم الإلحاديَّة، وكُفرهم بالله - عزَّ وجلَّ - قال الله - تعالى -: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 30]، وقال الله - تعالى - عن اليهود: ﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ﴾ [آل عمران: 181]، وقال سبحانه: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [المائدة: 64].

 

وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ﴾ [النساء: 150، 151].

 

إساءة النصارى في حقِّ الله - تعالى -:

 

إنَّ النصارى هم المثلِّثة، عباد الصَّليب، الذين سبُّوا الله مسبَّة ما سبَّه إيَّاها أحدٌ من البشر، وقد فضَحهم الله في القُرآن العظيم.

 

قال الله - تعالى -: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 30، 31]، وقال - تعالى -: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ﴾ [المائدة: 73]، ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ [المائدة: 72]، وقال - جلَّ وعزَّ -: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ﴾ [النساء: 171].

 

2- الإيمان بالرسل:

 

فقد نسبت اليهود الردَّة إلى نبيِّ الله سليمان - عليه السلام - وأنَّه عبد الأصنام كما في سفر الملوك الأول، [الإصحاح /11/ عدد/5].

 

ونسبت اليهود إلى نبيِّ الله هارون - عليه السلام - صناعة العجل، وعبادته له كما في [الإصحاح/32 عدد/1 من سفر الخروج]، وإنما هو عمل السامري، وقد أنكره عليه هارون - عليه السلام - إنكارًا شديدًا، كما هي القُرآن الكريم.

 

وقد نسبت اليهود إلى خليل الله إبراهيم - عليه السلام - أنَّه قدَّم امرأتَه سارة إلى فرعون؛ لينالَ الخير بسببها؛ كما في [الإصحاح/12 العدد/14 من سفر التكوين].

 

وقد نسبت اليهود إلى لوط - عليه السلام - شربَ الخمر حتى سكر ثم زنى بابنته كما في سفر التكوين، [الإصحاح/19 العدد/30].

 

ونسبت اليهود الزِّنا إلى نبيِّ الله داود - عليه السلام - فولدت له سليمان - عليه السلام - كما في سفر صموئيل الثاني [الإصحاح/11 العدد/11].

 

ونسبت النصارى - قبَّحهم الله - إلى جميع أنبياء بني إسرائيل أنهم سُرَّاق ولصوص؛ كما في شهادة يسوع عليهم إنجيل يوحنا [الإصحاح/ 10/ العدد/8][27].

 

3- الولاء والبراء:

 

فاليهود والنصارى يُوالون أعداءَ الله من المشركين والوثنيين، ويُحاربون المسلمين الموحِّدين.

 

4- استباحة دماء المخالفين:

 

وهذا واضحٌ في الحروب العالميَّة، وفي حروب الصليبيين، وفي الحرب على المسلمين الآن، ولا سيَّما في فلسطين وأفغانستان والصومال وغيرها.

 

5- عدم احترام الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - مع وجود الإساءة له في كتاباتهم، ولا يُوجد دلك في المسلمين:

 

وأوضح مثالٍ نشرُ الرسوم المسيئة للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الصحف الدانمركية.

 

حوار الحضارات[28]:

 

تعريفات:

 

الحوار في اللغة[29]: مشتق من الحور، وهو الرجوع؛ قال - تعالى -: ﴿ إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ ﴾ [الانشقاق: 14]، فالحوار هو مُراجعة الكلام والمحاورة المجاوبة وأحار الرجل الجواب؛ أي: ردَّه وما أحارة؛ أي: ما ردَّه.

 

ثانيًا: معنى الحوار اصطلاحًا:

 

الحوار اصطلاحًا: هو لفظ عام يشملُ صورًا عديدة؛ منها: المناظرة والمجادلة، ويُراد به مراجعة الكلام والحديث بين طرفين، دون أنْ يكون بينهما ما يدلُّ بالضرورة على الخصومة.

 

وقد يكون مرادفًا للجدل؛ كقوله - تعالى -: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [المجادلة: 1]، وقد يفترقان حين يتحوَّل الحوار إلى لددٍ في الخصومة، فهو حينئذٍ يُسمَّى جدالاً لا حوارًا، وقد يكونُ الحوار مرادفًا للمناظرة؛ لأنَّ المتناظرين يتراجعان الكلامَ في قضيَّةٍ ما، بعد النظر فيها بعين البصيرة، إلا أنَّ المناظرة أدلُّ في النظر والتفكُّر، كما أنَّ الحوار أدلُّ في الكلام ومراجعته.

 

حوار الحضارات:

 

عقَد بعض المنظرين الغربيين نظريَّات حول عُقم حوار الحضارات والثقافات، وانتهوا إلى أنَّ الحوار الإيجابي بين الحضارات قد انتهى بتطوُّرها إلى شكل الحضارة الغربية الليبرالية الحاضرة، ولم يبقَ أيُّ أملٍ أو فائدة لحوارٍ، وهذا ما أورده (فرانسيس فوكو ياما) صاحب نظرية (نهاية التاريخ) في صورتها الحاليَّة.

 

وإذا كان (فوكو ياما) قد انتهى إلى أنَّ التطوُّر في خط التاريخ البشري قد تكلَّل بانتصار الليبراليَّة واندِحار الاشتراكية؛ فإنَّ (صموئيل هنتنجتون) صاحب نظريَّة (صراع الحضارات) يزعم أنَّ أعنف معارك التاريخ هي التي لم تقع بعدُ.

 

وأنها لن تكونَ على صعيد الدول القومية، ولا على صعيد المحاور الفكريَّة، وإنما ستتطوَّر إلى مستوى أعلى هو مستوى الحضارات البشريَّة التي هي أوسع كيانٍ ثقافي ينتمي إليه الإنسان.

 

إنَّ وحدة التحليل عنده هي الحضارة، ومع أنَّه يعترف بأنَّ العامل الحضاري عامل شديد التعقيد، إلا أنَّه يزعم مع دلك أنَّه قد سيطر عليه، ولكن مجرَّد الاطِّلاع العابر على تعريفه للحضارة يُؤكِّد أنَّه لم يصل إلى تعريف دقيقِ الحدِّ لذلك المفهوم.

 

الحضارة عند هنتنجتون "هوية ثقافية"، هذا هو تعريفه لها، وعندما يدركُ أنَّه تعريف هلامي، وبعيد جدًّا عن أنْ يكون تعريفًا جامعًا مانعًا، كما يقول "المناطقة" فإنَّه ينعطف نحو مزيد من الشرح والإيضاح؛ فيحدثنا عن أنَّ الهوية الثقافية تترادفُ وتندرج في الانتماءات الأكبر: "إنَّ ثقافة قرية من قُرى الجنوب الإيطالي قد تختلف عن ثقافة قرية في الشمال الإيطالي، ولكن كلتا القريتين تشتركان لا محالةَ في خصائص الثقافة القوميَّة الإيطاليَّة الجامعة، وهذه الثقافة الجامعة هي التي تميِّز كلَّ القرى الإيطالية عن القرى الألمانية مثلاً، ولكن دلك لا يمنع أنَّ كلَّ القُرى الأوربيَّة تجتمع تحت ظلِّ ثقافة أوسع هي ما يُسمَّى بالثقافة الأوربيَّة، وهي الثقافة التي تميِّز كلَّ القرى الأوربيَّة عن القرى العربية أو الآسيوية".

 

هذا المستوى الثقافي الأخير هو ما يعنيه هنتنجتون بالحضارة، وهو تعريفٌ غير محكم؛ لأنَّ صاحبه سرعان ما يدخل في التخبُّط وينقض ما سبق أنْ أبرمه.

 

إنَّ (هنتنجتون) ليس مؤرخًا راسخًا (كتوينبي) مثلاً، ولا عالم اجتماع ضليع كماكس فيبر! ولذلك فهو ينزلق في الأخطاء المتوالية، إنَّه يقول مثلاً في تأكيده لتعريفه ذاك للحضارة: "إنَّ العرب والصينيين والغربيين ليسوا جزءًا من أيِّ كيان حضاري أوسع".

 

وهذا خطأ محض؛ لأنَّ العرب جزءٌ من الحضارة الإسلاميَّة التي هي الوحدة الكبرى، ولا يوجد شيءٌ يُسمَّى بالحضارة العربية بمعزلٍ عن الحضارة الإسلاميَّة، ولا شيء يسمَّى بالحضارة الإسلامية بمعزلٍ عن الثقافة العربية، إنَّ خطأ هنتنجتون هنا هو في مرادفته ما بين العرب والإسلام، وعدم إدراكه أنَّ العرب لا يُمثِّلون أكثر من خمس مُسلمي العالم الذين تمتدُّ رقعتهم الجغرافيَّة حتى أوربا والصين، وهو الأمر الذي يلغي مقولةَ هنتنجتون الثانية بأنَّ الغربيين أو الصينيين لا يمكن أنْ يكونوا جزءًا من أيِّ كيانٍ حضاري أوسع.

 

ويرى هنتنجتون أنَّ عالمنا المعاصر يتشكَّل من سبع حضارات آو ثمانٍ هي الحضارة الغربيَّة والكونفوشيوسية واليابانية والإسلامية والهندية والسلافية الأرثوذكسية والأمريكية اللاتينية، ويمكن إضافة الحضارة الإفريقيَّة إذا ما تساهلنا في التصنيف هذه الحضارات بالتعريف السابق لها، هي أشدُّ تجذُّرًا في الأرض وفي الحياة الإنسانيَّة من المعتقدات الطارئة التي تظهر وتعمر حينًا من الدهر ثم تحتفي، أمَّا هذه الحضارات المذكورة فهي ذات ثوابت عميقة عمادها اللغة والثقافة والتراث والدين، وتمتلك نظريات مُتباينة نحو علاقات البشر بالله، وعلاقات البشر ببعضهم الآخَر، وعلاقات الحاكم بالمحكوم، وعلاقات الأسرة فيما بين أفرادها... إلى آخِر هذه العلاقات.

 

وبناءً على مفهوم هنتنجتون فإنَّ هذا التبايُن في الأفكار والآراء ليس مآله إلى الاضمحلال أو الزوال بحالٍ مهما تكثَّفت وسائل الالتقاء والاتصال بين البشر، فهذه اللقاءات والاتصالات ستُؤدِّي إلى عكس ذلك تمامًا؛ إذ إنها ستُؤدِّي إلى تنامي إحساس كلِّ حضارة بصفاتها المتميِّزة التي تمنعُ ذوبان أهلها في الحضارات الأخرى، وأبلغ مثال على ذلك هو ما تثيرُه هجرة الجزائريين المسلمين إلى فرنسا من تيقُّظ للحس الحضاري الفرنسي واشتعال عدائه للمسلمين، إنَّ مثالاً كهذا - وهو ليس مثالاً فريدًا في بابه - يحدونا لأنْ نُقرِّر "أنَّ التواصل والتفاعل بين الشعوب ذات الحضارات المتباينة يؤدِّي إلى اشتعال الوعي الحضاري لدى شعبٍ ما، ويزيد حدَّة الخلافات والعداوات الممتدَّة في عمق التاريخ".

 

وهكذا يستخدم هنتنجتون الحجَّة التي كان يُخشى أنْ تستخدم ضدَّ نظريَّته، يستخدمها لصالح نظريَّته المزعومة، فهو لا يُوافق على أنَّ التواصُل والتحاور الحضاري سيكون إيجابيَّ العائد، وإنما سيُؤدِّي إلى التناحُر والتناوش والتصارُع وحسب.

 

وإضافةً إلى التواصُل والتفاعُل يأتي عامل التحديث الاقتصادي الذي يعتقد هنتنجتون بأنَّه سيزيد من حدَّة التمايُز الحضاري بين الشعوب، إنَّ التحديث في نظر هنتنجتون سيُدمِّر المجالات الثقافيَّة الأصغر، كالثقافة المحلية، والقومية، ويحرِّر الشعوب من أسرها، وحينها لن تجدَ تلك الشعوب سوى البوتقة الحضاريَّة الأكبر التي تعدُّ الدين أعظم عناصرها التكوينيَّة، ولعلَّ هذا هو سرُّ انتشار الأديان الآن، وسرُّ تصاعد الحركات الدينية الأصوليَّة التي يمكن العثور عليها في النصرانيَّة واليهودية والبوذية، بقدر ما يمكن العثور عليها في الإسلام، "وفي معظم هذه الحركات لا يخفى أنَّ أكثر المنجذبين إليها هم الشباب؛ بسبب عمليات التحديث، ومن خريجي الجامعات، وبالذات في مساقات العلوم البحتة والتقنية، وهؤلاء هم الذين غدَوْا يُكافحون مظاهرَ العلمانية في مجتمعاتهم، وقد صدَق عليهم قول جورج ويجل: "إنَّ نزع العلمانيَّة عن العالم يمِّثل إحدى الحقائق الاجتماعية المسيطرة على الهزيع الأخير من القرن العشرين"!

 

إنَّ صِراع الحضارات هو ضربة لازب في تقدير هنتنجتون لهذا الشأن الخطير، إنَّه يضع الأمرَ بهده السهولة المثيرة: "أمَّا بالنسبة لصراع الحضارات فإنَّ السؤال هو: مَن أنت؟ وهذا سؤال لا بُدَّ من أنْ تجيبَ عليه، وكما تُدرك بداهة فإنَّ إعطاءك إجابةً خاطئة عن هذا السؤال في البوسنة أو القوقاز أو السودان يعني أنْ يسدد الرصاص إلى رأسك فورًا".

 

وهكذا تُصاغ النظرية بلغة الروايات، وواضح ما في اللغة التي صِيغت بها هذه الأمثلة من التحيُّز والكراهية العارمة للعالم الإسلامي، والمعنى السالف واضح جدًّا؛ فإنَّ اعتراف الإنسان الغربي بأصول هويَّته في أيِّ أرض إسلامية قد يقود إلى ممارسة العنف ضده، والغريب أنَّ هنتنجتون لا يختار الأمثلة إلا من هذه الأوطان الإسلاميَّة التي تضطهد أغلبيَّاتها بوساطة الأقليَّات المدعومة من الحضارة الغربيَّة، إنَّ هنتنجتون يسيرُ في ذلك مع تحريض وسائل الإعلام الغربية العشوائي للإنسان الغربي غير المثقَّف ضد ما يسمى بالخطر الإسلامي، وهو مجرد "وهم" تريدُ هذه الوسائل بإلحاحها عليه أنْ تُلصقه في ذاكرة الإنسان الغربي، الذي يمكن أن يبقى مفزوعًا بذلك الخطر "الوهمي"!

 

إنَّ هذا الصدام التلقائي "المحتمي" بين السائل والمجيب يتطوَّر على مستويين آخرين "فعلى المستوى الأول ستتصادمُ مصالح المجموعات التي تحتشدُ على خطوط التوتُّر الفاصلة بين الحضارات من أجل الاستِحواذ على الأرض وإخضاع المنافسين، وعلى المستوى الثاني ستتصادمُ الدول ذات الحضارات المختلفة؛ من أجل تحقيق سيطرتها والعسكرية، والتحكُّم في المؤسسات الدولية، ونشر قيمها السياسية والدينية على مستوى النظام العالمي "وهنا تنال مسألة الحدود الفاصلة بين الحضارات جلَّ عناية هتنتجتون، وهو يسميها "حدود التوتر"؛ حيث يبرز معالم الحدود الفاصلة في أوربا بين النصرانية الغربية من جهة والنصرانية الأرثوذكسية من جهة أخرى، ثم يعود ليُركِّز على التهاب حدود التوتر بين الحضارتين الغربية والإسلامية، ويستعرض تاريخ الحروب الصليبية بحملاتها المتتالية وفصول الصراع الأوربي مع الدولة العثمانية، وموجة الاستعمار الغربي التي توجَّهت إلى العالم الإسلامي، ثم الحروب العربية الإسرائيلية" حدثت لأنَّ إسرائيل ممثِّلة لروح ومضامين الحضارة الغربية"، كما يقول ثم قيام مَن سماهم بـ"الإرهابيين العرب والمسلمين" باستخدام سلاح الضعفاء؛ حينما قاموا بقصف الطائرات والمنشآت الغربية وخطف الرهائن، وهنا نسي هنتنجتون أنْ يقول ولو كلمةً عابرة عن الاحتلال والإرهاب الإسرائيلي الذي ما زال ينصب على الفلسطينيين منذ أكثر من نصف قرن!

 

لقد ساق هنتنجتون نظريَّته في صِراع الحضارات على أنَّه صِراع يحدث بين كلِّ الحضارات، ولكن طاب له فقط أنْ يُركِّز على صِراع الحضارتين الإسلامية والغربية، بالطبع فإنَّه لم ينسَ أنْ يضعَ المسلمين في مقام المعتدِّي المبادر بالصدام، بل لم ينسَ أنْ يتوسَّل لتأكيد ذلك بشهادة مزوَّرة من أحد الكتَّاب المسلمين؛ وهو الكاتب الهندي م.ج أكبر حيث يقول: "إنَّ الحرب ستبدأ من جانب العالم الإسلامي؛ لأنه سيُصارع من أجل تشييد نظام عالمي جديد، وإنَّ كلَّ دولة العالم الإسلامي من المغرب إلى باكستان ستُشارك في الصراع".

 

ثم أردف ذلك بشهادةٍ أخرى من أستاذه القديم في هارفارد المؤرِّخ اليهودي البروفيسور برنارد لويس: "الذي جعل همه قبل أوانه أنْ يثبت أنَّ هنالك تزويرًا طرأ على المصاحف القرآنيَّة التي يعتمد عليها المسلمون الآن، وأنَّ هناك مخطوطات مصاحف تُثبت هذا التزوير"، وقد استشهد بكلام لويس في شهاداته عن صراع الحضارات بقوله: "إنَّ العالم سيشهد مزاجًا فائرًا سيزيدُ هيجان الحكومات، ويُؤدِّي إلى تضارُب خططها وسياساتها، وسيؤدِّي ذلك كله إلى نتيجةٍ واحدة مؤكَّدة هي صراع الحضارات ليس غير، وسيقوم المسلمون وهم خصومُنا القدامى بردِّ فعل غير عقلاني ضد تراثنا اليهودي - النصراني المشترك، وثقافتنا العلمانيَّة، وعلى انتشار تراثنا وثقافتنا عبر العالم".

 

هذه الآراء العدوانيَّة الشاطحة الرافضة لحوار الحضارات حريٌّ بها أنْ تجدَ الدراسة والعناية من قِبَلِ المفكِّرين والدُّعاة المسلمين، فالحوار حتى مع عدم تحقُّق جميع شروطه وآدابه من قبل الطرف الآخر أفضل من الانقطاع عنه والانصراف إلى موقف الصدام، وكما يقول خالد بن عبدالله القاسم في كتابه "الحوار مع أهل الكتاب: أسسه ومناهجه في الكتاب والسنة": "أمَّا الامتناع عن الحوار مع الظالمين واتِّخاذه منهجًا مطردًا، فهذا يُخالف منهج النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد حاوَرَ - عليه الصلاة والسلام - اليهودَ في المدينة، وكانوا يكتمون ما أنزل الله، ويلبسون الحث بالباطل، كما حاور نصارى نجران ودعاهم إلى المباهلة، فرفضوا".

 

وهكذا يتَّضح حرص الإسلام على الحوار؛ لكونه أداة من أدوات بيان الحث وواجب المسلمين هو أنْ يأخذوا به سبيلاً للبيان، وأنْ يعملوا على تفعيل تلك الأداة؛ إبلاغًا للدين، وتخفيفًا لحدَّة الصراع بين البشر ما دام هناك سبيلٌ لإبلاغ الدعوة وإيصالها بطريق الحوار وتبادُل الأفكار والآراء[30].

 

تقويم تجربة الحوار بين الأديان[31]:

 

التجارب السابقة في الحوار غير مبشِّرة بخير؛ فعلى مدى نصف قرنٍ من الزمان جرب في أركان الأرض الأربعة:

 

1- مئات المؤتمرات والندوات والملتقيات ضمَّت مشايخ وأساقفة وحاخامات وكهنة.

 

2- أُسِّست عشرات المعاهد والمراكز المتخصِّصة في قضايا الحوار.

 

3- طُبِع آلاف الكتب والبحوث والدوريات.

 

4- بُنِيت مجمَّعات الأديان التي تضمُّ مسجدًا وكنيسة وكنيسًا ومعبدًا وثنيًّا.

 

5- أُقيمت الصلوات المشتركة بين أتباع الدِّيانات المختلفة برعاية البابا.

 

وباستقراء الكمِّ الهائل من هذا النشاط نسجِّلُ الحقائق التالية:

 

أولاً: دعوة (الحوار الإسلامي النصراني) بصورتها السائدة غربيَّة المولد والمنشأ، ترعرعت في حجر النصارى الغربيين على اختلاف طوائفهم، وانطلقت مبادراتها الأولى من المرجعيَّتين الكبريَيْن لنصارى العالم: الكنيسة الكاثوليكيَّة ومجلس الكنائس العالمي، وأسَّس كلٌّ منهما دائرة مستقلَّة للحوار مع غير النصارى.

 

ثانيًا: جرت هذه الفعاليات في وضعٍ غير متكافئ؛ حيث الجانب النصراني هو الأقوى سياسيًّا وعسكريًّا وتخطيطيًّا، بينما الجانب الإسلامي يتخبَّط في مشاكله المتنوِّعة، ولا يملك المحاورون أهدافًا واضحةً، ويفتقرون إلى الكفاءة العلمية والتخطيط.

 

ثالثًا: تمَّ تغييب الهدف الإسلامي الأصيل من الحوار، المتمثِّل في قوله - تعالى -: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64]، والمجاهرة بأنه: (لا حوار في قضايا الاعتقاد) والاكتفاء بالبحث عن أوجُه الاتِّفاق، وإقصاء أوجه الافتراق، والاشتغال بقضايا فرعيَّة باهتة.

 

رابعًا: كانت أهداف التقارُب لدى النصارى في مبدأ الأمر: استغلال المسلمين للوقوف في وجه المدِّ الشيوعي الزاحف على مختلف مناطق العالم، وخطف البريق الإسلامي الذي سطع على العالم المنفتح بعد الحرب العالميَّة الثانية، بالتمظهُر بزمالة الأديان وتساويها، ثم آلَ الحال إلى استخدام الحوار وسيلةً للبشارة والتنصير.

 

خامسًا: لم يَحِدِ النصارى قيدَ أنملةٍ عن معتقداتهم، فلم ينتهوا عن قولهم: "ثلاثة"، ولا عن غلوِّهم في الدين، وأصرُّوا على إنكار نبوَّة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحقيقة الحال أنَّ النصارى يريدون من غيرهم أنْ يقتربوا منهم فحسب، ولا يُقابلون ذلك إلا بمظاهر جوفاء، وبيانات إعلاميَّة يتسلَّلون من خلالها إلى أتباع الدِّيانات الأخرى؛ قال - تعالى -: ﴿ هَا أَنْتُمْ أُولاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ﴾ [آل عمران: 119].

 

ومن شواهد ذلك:

 

أ- إصرار النصارى على الجهر بعقائدهم الباطلة في مُلتقيات التقارُب لم تحمل المُجاملة آباء الكنيسة، بل صدعوا بكُفرهم وتثليثهم بين ظهراني المسلمين دون مواربةٍ، ومن أمثلة ذلك:

 

كلمة البابا يوحنا بولس الثاني في الدار البيضاء بالمغرب التي حُشِدَ له فيها عشرات الآلاف من الشُّبَّان والشابَّات المسلمين، الذين حملَتْهم الحافلات على حين غرَّة من مَدارسهم وجامعاتهم حتى غصَّت بهم مدرجات "الإستاد" الرياضي، في 19 أغسطس عام 1985م، وممَّا جاء فيها قوله: "إنَّكم تعلمون أنَّ سيدنا يسوع في اعتقاد المسيحيين هو الذي يدخلهم في معرفة حميميَّة للذَّات الإلهيَّة التي تفوقُ كلَّ إدراكٍ بشري، وفي نوعٍ من الاتحاد الابني بعطايا الله ومواهبه؛ ولذلك فهم يشهدون أنَّه هو الرب والمخلِّص"، ثم ختم كلمتَه الطويلة بابتهال.

 

كلمة رئيس أساقفة إسبانيا الكاردينال الكاثوليكي، أنريكي ترانكون في مؤتمر "التقدير الإيجابي لمحمد وعيسى في المسيحية والإسلام" المعقود في قرطبة عام (1397هـ، 1977م) حين خاطَب المؤتمرين قائلاً: "إنَّ عقيدتنا في التثليث لا تنقصُ شيئًا من ذلك التأكيد القاطع المطلق من ذلك الإيمان الذي ينبغي لإخواننا المسلمين أنْ يعترفوا لنا به، فنحن كذلك نرفض الشرك مثلهم، ولا نرضى أن نُتَّهم بأنَّنا نشرك مع الله آلهةً أخرى... بجانب ذلك نؤمن بأنَّ لعيسى صبغةً إلهية... تلك العلاقة الخاصة والحميمة بين الله وهذا الإنسان، هي بالنسبة لنا أيضًا سرٌّ لا يُدرك، واستنادًا إلى نصوصنا وتقليدنا العقيدي نعبِّر عن الوحدة الإلهية بالتثليث".

 

ب- إصرارهم على إنكار نبوَّة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - لقد أبى النصارى الزاعمون أنهم يسعون إلى التقارب مع المسلمين مجرَّدَ التسليم بنبوَّة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى ولو لم يتَّبعوه كما يُؤمنون بعامَّة أنبياء بني إسرائيل، فحينما انعقد مؤتمر (التقدير الإيجابي لمحمد وعيسى في المسيحية والإسلام) وفي قرطبة عام (1397هـ 1977م) كان المتوقَّع من جهة غير كنسية "جمعة الصداقة الإسلامية المسيحية" أنْ تعلن اعترافها بنبوَّة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولكن "التقدير الإيجابي" لم يبلغ هذا الحدَّ، وأفصح الأب جاك جوينيه عن السرِّ الأثيم في ذلك بقوله: "إنَّ الاعتراف بمحمد نبيًّا يعني الاعتراف بكلِّ ما يتضمَّنه القرآن؛ وبالتالي بأنَّ محمدًا خاتم المرسَلين وخاتم الأديان، وهذا لا يُعتبر سوى إلغاء لإنجيل المسيح".

 

سادسًا: المضي في تضليل الخلق بما تسمونه "التبشير"، مستغلِّين الفاقة المعيشيَّة والصحيَّة والأمنيَّة لكثيرٍ من شعوب العالم الثالث، وغالبيَّتهم مسلمون، ولتحقيق مكاسب جديدة ومواطئ أقدام لمنصِّريهم وإقامة كنائسهم تحت شعار التقارُب والحوار والتسامح.

 

سابعًا: موالاة بعضهم بعضًا، وموالاة اليهود والمشركين على الظُّلم والعدوان ضدَّ المسلمين في فلسطين والبوسنة، وإندونيسيا والفلبين وغيرها.

 

ثامنًا: دلَّت النصوص الشرعيَّة القاطعة على بطلان "دعوة التقريب بين الأديان"؛ لأنَّ دين الله واحدٌ هو الإسلام الذي ابتعث الله به محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - وما سواه إمَّا باطل أو منسوخ، فمَن رام التقريب بينه وبين غيره فقد رغب عن ملَّة إبراهيم، وابتغى دينًا غير دين الإسلام، وطعن في صدقه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعموم رسالته، وأنكر هيمنة القُرآن على الكتب السابقة، ونسخة لأحكامها وخالَف إجماع المسلمين، واتَّبع غير سبيل المؤمنين من الصحابة والتابعين، وكلها لوازم لا محيدَ لدُعاة التقريب عنها، وفسادها معلومٌ من الدِّين بالضَّرورة وفساد اللازم يدلُّ على فساد الملزوم، وبطلان الفرع يعود على الأصل بالإبطال.

 

تاسعًا: دلَّ الواقع العملي المشاهد خلال محاولات دعوة التقريب بين الأديان في العقود الخمسة المنصرِمة على ظُهور بعض النتائج والآثار الملموسة الناجمة عن تجربة التقريب مثل:

 

1- التسوية بين كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، القُرآن والكتب المحرَّفة المنسوبة إلى أنبياء الله، التي بأيدي اليهود والنصارى اليوم، ووصفها جميعًا بـ"مقدسة" و"سماوي" و"كلام الله".

 

2- التسوية بين بيوت الذِّكر والرحمة: المساجد وبيوت العذاب والشرك، من معابد اليهود والنصارى والمشركين، ومشاركتهم من صلواتهم واحتفالاتهم الدينيَّة.

 

3- إقامة المؤسَّسات البحثيَّة المشتركة بين الأديان بغرَض تنقية المناهج الدراسية والوسائل الإعلامية من النقد المتبادَل، ورفع الأحكام العقديَّة والشرعيَّة في شأن أهل الكتاب واستلام اعترافات صريحة وضمنيَّة من نُظَرائهم المسلمين على صحَّة دِينهم وكتبهم، وإعادة عرض الإسلام بصورةٍ مشوَّهة خداج كالتصرُّف الباطني.

 

الخلاصة:

 

1- السلفيَّة هي اتِّباع الكتاب والسُّنَّة وفهمهما كما فهمَهُما السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأئمَّة المسلمين.

 

2- وسطيَّة الإسلام في أبوابٍ كثيرة بين طرفي نقيض من أهل الكتاب؛ فهم بين اليهود الذين يقتلون الأنبياء والآمِرين بالقسط من الناس وبين النصارى في عبادتهم لهم وتأليههم.

 

فتوسَّط المسلمون بينهم؛ فهم يحبُّون الأنبياء ويتَّبعونهم دون جفاءٍ ولا غلوٍّ.

 

وهم في الدنيا بين اليهود الذين يحبُّون الدُّنيا ويتنافَسون عليه بجشعٍ وهلعٍ، ويتمتَّعون بكلِّ حلالٍ وحرامٍ، وبين رهبانيَّة النصارى وتحريمهم ما أحلَّ الله لهم.

 

فتوسَّط المسلمون فيها بالزهد وعمارة الآخِرة، مع عدم تحريم الطيِّبات.

 

3- الدعوة إلى وحدة الأديان الثلاثة بتذويب الفوارق بينها؛ فيُساوي أصحاب التثليث والشاتمين لله وقتلة الأنبياء مع أهل التوحيد والاتِّباع لرسل الله - عليهم الصلاة والسلام - ويقرُّ كلٌّ على ما هو عليه... دعوة إلى هدم الإسلام، وتقويض بُنيانه، وخيانة للأمَّة بل ولليهود والنصارى الذين يجبُ ردُّهم إلى الحق ونصحهم، وأنَّ التجارب الماضية مع النصارى في الحوار كانت غير مهدَّفة ومخطط لها من قبل المسلمين، وإنما كانت تخدمُ أهلَ الكتابين مع إصرارهم على باطلهم.

 

4- الحوار بين الحضارات أو المجموعات مطلوبٌ للوصول إلى الحق لا لإقرار كلٍّ على باطله، ويتساوى الظلمات والنور، والظل والحرور، والأحياء والأموات.

 

5- مع كون أهل الكتاب كفارًا بنصِّ القُرآن والسُّنَّة والإجماع، إلا أنهم خصُّوا بأحكام، ومن ذلك: تركهم على ما هم عليه، ولا يرغمون على الإسلام ودفع الجزية، وجواز الزواج من نسائهم، والحوار معهم بالتي هي أحسن، وحمايتهم من كلِّ عدوٍّ خارجي يغزوهم إلى دِيارهم ما داموا تحتَ حكم المسلمين.

 

والله وليُّ التوفيق.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] "لسان العرب": مادة (وسط) 7/426.

[2] "العقيدة الواسطية"؛ لشيخ الإسلام ابن تيمية.

[3] "لسان العرب": مادة (قرب) 1/662.

[4] المصدر السابق: مادة (دان) 13/171.

[5] المصدر السابق: مادة (حضر) 4/167.

[6] بحث بعنوان "الحضارة الوسط، والوظيفة والمنطلقات"؛ للدكتور محمود عبدالله عاكف.

[7] أخرجه البخاري (11/80 رقم 5928) كتاب الاستئذان، باب مَن ناجى بين يدي الناس، وأخرجه مسلم (4/1904 برقم 2450)، كتاب الصحابة، باب قضائل فاطمة.

[8] انظر: "لسان الميزان" (6/330)، و"النهاية في غريب الحديث" (2/290).

[9] "الأنساب"؛ للسمعاني (7/104) قال: "السَّلفي: بفتح السين واللام وفي أخرها الفاء، هذه نسبةٌ إلى السلف وانتحال مذهبهم".

[10] "الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان"؛ للشيخ بكر أبو زيد - رحمه الله.

[11] "الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان"؛ للشيخ بكر أبو زيد - رحمه الله - وسوف أذكر بعضَ دعاة ما يسمَّى بوحدة الأديان في الوقت الحاضر فيما بعدُ.

[12] "الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني"، "إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات" 1/484، تحقيق: صبحي حلاق.

[13] "الفتح الرباني" 1/486.

[14] المصدر السابق: 1/488.

[15] المصدر السابق 1/789.

[16] المصدر السابق : 1/492.

[17] ترجمة الزركلي في "الأعلام" (7/ 329، 330).

[18] "الفتح الرباني .. إرشاد الثقات": 1/496.

[19] المصدر السابق 1/508.

[20] المصدر السابق: 1/509.

[21] "درء تعارض العقل والنقل" (1/51-52).

[22] "درء تعارض العقل والنقل" (7/ 156).

[23] "درء تعارض العقل والنقل" (7/156).

[24] انظر: "الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان"؛ للشيخ بكر أبو زيد، ورسالة بعنوان: "الحوار بين الأديان حقيقته وأنواعه"؛ للشيخ أبي زيد بن محمد مكي.

[25] "الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام من الأديان"؛ للشيخ بكر أبو زيد - رحمه الله.

[26] رسالة بعنوان: "الحوار بين الأديان حقيقته وأنواعه"؛ للشيخ أبي زيد بن محمد مكي.

[27] "الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان".

[28] بتصرف من كتاب: "الحوار مع أصحاب الأديان مشروعيته وضوابطه وآدابه"؛ لأحمد بن سيف الدين تركستاني.

[29] "لسان العرب" مادة (حور).

[30] نقلاً عن: "الحوار مع أصحاب الأديان مشروعيته وضوابطه وآدابه"؛ لأحمد بن سيف الدين تركستاني.

[31] المقال للدكتور أحمد بن عبدالرحمن القاضي.

المصدر: https://www.alukah.net/culture/0/41471/

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك