الثقافة بين التخلف والتخلق

الدكتور خالد زهري

 

مصطلح الثقافة يصبح فارغاً من محتواه في المجتمعات المتخلفة. فالثقافة والتخلف لا يتعايشان في المجتمعات المتحركة المتطورة، بينما يسيران في خط تعايشي وتساكني في مجتمعاتنا المتخلفة. ولا سبيل لنا إلاّ إحياء الثقافة المتخلفة والمنفتحة، وذلك انطلاقا مما عندنا من قيم روحية ومقومات دينية أصيلة. وكلمة «إسلامي» يجب أن تتسع لتشمل كل فردٍ جادٍّ يخدم الحضارة الانسانية، والتفكير الديني هو الذي ينتشل الإنسان من التخلف النظري والعملي، باعتباره الهدف النبيل الذي جاء من أجله الاسلام.

وما نشاهده من انبهار بحضارة الغرب في عالمنا الإسلامي ومن تقليد وتبعية إنما هو ناشئ عن غياب ثقافة «التخلّق» ونحن مدعوون إلى عقلانية تستمد أصولها من أعماق التخلق الديني.

من المصطلحات التي شغلت بال الإنسان المعاصر، واحتلت حيزاً واسعاً في نقاشاته ودراساته مصطلح «الثقافة»، بل إن هذا المصطلح كاد أن يظفر بتبوء مقام أم القضايا المعاصرة، لولا أن زاحمه مصطلح «الحداثة».

لقد كثر الكلام على «الثقافة»، و«المثقف»، و«التثاقف»، و«المثاقفة»، و«أزمة الثقافة»، و«آفاق الثقافة»، و«علاقة الثقافة يالتقدم والتخلف»، إلخ. وكثرت الخلافات في التعريفات والمفهومات، وتاه المصطلح في متاهات من الجدالات العقيمة، والقياسات غير المنتجة. لكن مما اتفقوا عليه أوكادوا أن الثقافة عنوان نخبوي يميز صفوة من المتعلمين الفاعلين في المجتمع.

بيد أن هذا المصطلح ظل في المجتمعات المتخلفة مفرغاً من محتواه الحقيقي، ولم يعرف مناطه طريقا إلى التحقيق، مما جعله شهيراً في مبناه، غريباً في معناه.

ولتقرير ذلك وبيان علته، يكون لزاماً علينا الرجوع بالمصطلح إلى مدلولاته اللغوية،ثم النظر في مناطه، وفي أي العالمين كان متحققاً، أعني:العالم المتقدم، والعالم المتأخر. وإن تحقق في العالم المتقدم، فهل كان منبنياً على أساس مادي صرف، أو أن له نصيبا من التخلق؟



التأصيل اللغوي للثقافة:

إن أهم الدلالات اللغوية التي يختزنها لفظ «ثقافة" هو:الحذق،والفهم، وسرعة التعلم، والفطنة،والذكاء، والظفر بالشيء، والمصادفة، والأخذ، والتسوية(1) .

وبدلا من المصطلح «مثقف» المتداول لدى المعاصرين، تزودنا المعاجم بألفاظ ثلاثة هي:«ثقف» –بتسكين القاف-، و«ثقف» –بضم القاف-، و«ثقف» –بفتح القاف-، وهي ألفاظ مترادفة تحمل معاني: الحاذق،والفهم، والضابط لما يحويه القائم به، وذوالفطنة والذكاء، والثابت المعرفة بما يحتاج إليه(2) .

بيد أن لفظ «ثقف» مشتق من الفعل المتعدي«ثقف»ـ بكسر القاف ـ، ومن الفعل اللازم «ثقف» ـ بضم القاف ـ. فترتد «الثقافة» ذات دلالتين: دلالة موضوعية، ودلالة ذاتية.

أما الموضوعية، فتنصب معانيها نحو ما هوخارج عن ممارس الثقافة، فهو يصادف الشيء، فيأخذه ويسويه، أوـكما يمثل الزمخشري ـ يؤدب غيره ويهذبه ويثقفه(3) .

وأما الذاتية، فتنصب معانيها، نحو ذات المتصف بالثقافة. فهويتولى نفسه بالرعاية، تأديباً وتهذيباً وتثقيفاً، إلى أن يصير حاذقاً فهماً متعلماً ذا ذكاء وفطنة.

أقول عوداً على بدء:نجد في المعاجم العربية اسم «ثقف» ـ بتسكين القاف وضمها وكسرهاـ الذي قد تكون دلالته مرادفة لدلالة مصطلح «مثقف"لدى المعاصرين. لكن الزمخشري يصرح بورود هذا المصطلح عند العرب، وبعبارته: « ومن المجاز:أدبه وثقفه، ولولا تثقيفك وتوفيقك لما كنت شيئاً، وهل هذّبت وتثقّفت إلا على يديك؟!»(4) ..

معنى هذا أن لفظ «مثقف» استعمل لدى الأقدمين،لكن الظاهر أنه لم ينل حظاً كافياً من الشهرة والتداول.

وهنا يتعقبنا سؤال: لماذا لم ينقل مصطلحا «ثقافة» و«مثقف»(=ثقف بتسكين القاف وضمها وكسرها) من دلالاتهما اللغوية إلى دلالات اصطلاحية؟ لاسيما إذا علمنا أن كتب التراث قد نشط مؤلفوها في نقل الألفاظ من دلالاتها الوضعية الأصلية إلى دلالات مجازية وكنائية وعرفية وشرعية، بل إن كثيراً من الألفاظ هجرت دلالاتها اللغوية لتحل محلها دلالات اصطلاحية.

نتساءل تارة أخرى : لماذا لم يعرف مصطلحا «الثقافة» و«المثقف» طريقهما إلى كتب الأقدمين، خاصة كتب الكلام، والفلسفة، وآداب البحث والمناظرة،إلخ؟

لماذا لم يظفرا بنفس الحظ الذي نالته ألفاظ أخرى، كلفظ «الفكر» مثلا الذي انتقل من دلالته اللغوية: «إعمال الخاطر في الشيء»(5)، إلى دلالات اصطلاحية، من قبيل:«الفكر عبارة عن ارتباط بعض المعلومات بالأخرى للحصول على معلوم جديد،وتبديل مجهول ما إلى معلوم»، و«الفكر ترتيب أمور معلومة لتحصيل أمور مجهولة»، و« الفكر عبارة عن حركة سير الذهن من المقدمات إلى النتائج»(6) .

ورب معترض يقول :إن لفظ «فكر»كان معوضاً في دلالته الاصطلاحية للفظ «ثقافة»، لاسيما أن «المفكر» القديم و«المثقف» المعاصر بينهما وجه تشابه، وهوالتميز معرفياً عن سائر الناس، والانخراط في سلك الصفوة، فقد قال الرئيس أبوعلي ابن سينا مقرراً هذا المعنى:«وما جمعنا هذا الكتاب لنظهره إلا لأنفسنا ـ أعني الذين يقومون منا مقام أنفسنا ـ، وأما العامة من مزاولي هذا الشأن، فقد أعطيناهم في «كتاب الشفاء»

ما هوكثير لهم، وفوق حاجتهم»(7) . وهويقصد بمن هم في مقامه أهل الفكر، وهم الذين يعينون المطلوب، ويبرهنون عليه بتأليف القضايا لإدراك النتائج، ويقيسون ليعلموا بما هوشاهد ما هو غائب.

والجواب: إن هذا الاعتراض يبطل إذا علمنا أن مصطلح «فكر» أخص من مصطلح «ثقافة». فالأول عمل ذهني،يستلزم تعيين المطلوب،ثم البرهنة عليه بتأليف المقدمات الملفوظة أوالمعقولة، وتطبيق القواعد الكلية على جزئياتها لمعرفة حكم الجزئيات، ولهذا كثر تداولـه في كتب المنطق والكلام والفلسفة. بيد أن الثاني، وإن كان كالأول صفة اكتسابية تورث تعلماً وتحصيلاً، وتنتج حذقاً في تسوية الأمور، فإنه لا يستلزم من الموصوف به ترتيب قضايا معلومة، وبرهنة عليها، لإدراك علوم مجهولة .

علاوة على ذلك، فإن الاعتقاد الإسلامي قائم على وجوب الجمع بين العلم والعمل، مما يجعل الموصوف بالثقافة لا يسمى مثقفاً إلا إذا كان عالما بمعانيها، عارفاً بمقاصدها، عاملاً بمقتضاهاً،متخلقاً بدلالاتها، فيكون مهذباً، سوياً،إلخ.

بيد أن « المفكر» يخرج من هذه القاعدة أويكاد،لأن المفكر الذي يقيس، ويؤلف القضايا، ويبرهن على المطلوبات، ويبني النتائج على المقدمات، لا يكون ملزماً بالعمل بمقتضى ما ينظر له، فقد يكون بصدد البرهنة على صحة مطلوب رياضي، أوفلسفي، أونظري تجريدي، مما لا يستلزم عملاً بمقتضاه، مع إقرار أن البرهنة على صحة مطلوب عقدي تستلزم وجوب الإذعان لقاعدة الجمع بين العلم والعمل، وإلا كان المفكر متنصلا من روح المسؤولية،ومتجرداً من قيمة الصدق الذي يجعله سمة رئيسة للمطلوب الذي يبرهن عليه.

ثم نتساءل: هل يمكن أن نسحب المعنى اللغوي للفظ «ثقف» ـ بتسكين القاف وضمها وكسرها ـ الوارد لدى الأقدمين على المعنى الاصطلاحي المعهود لدى المعاصرين؟ وذلك بنسج علاقة خصوص وعموم بين المعنى اللغوي الأصيل والمعنى الاصطلاحي الحديث، مع لحاظ أن مفهوم «المثقف» بدلالاته النظرية لدى المعاصرين أكثر انطباقاً على الأقدمين منه على المعاصرين. فقد كانوا نموذجاً تعرفياً حياً للجمع بين العلم والعمل، بخلاف «المثقف» المعاصر الذي غالبا ما يعوزه العمل، وإن لم يعوزه العمل أعوزه إتقان العمل، مما يهوي بالثقافة المعاصرة في خضم أزمات خطيرة، تعصف بالمحتوى الحقيقي للمصطلح، وتجعله أقرب إلى الفلسفات النظرية العائمة في الفضاء منه إلى الوسيلة النبيلة لإصلاح الذات والمجتمع.

وهذا الحكم الذي أصدرناه على «الثقافة» عند المعاصرين يعيدنا إلى الدعوى التي أوردناها في صدر هذا البحث، وهوأن مصطلح «الثقافة» في المجتمعات المتخلفة ظل مفرغاً من محتواه الحقيقي، وهذا موضع تعليل ذلك وتحريره:



الثقافة بين التقدم والتخلف

يأخذ الصراع في المجتمع الغربي بين الثقافة والتخلف طابعاً جدلياً عنيفاً، بحيث

لا يركنان إلى التساكن، ولا يجيبان داعي التعايش.

فغالباً ما نلفي الإنسان الغربي إما مثقفاً، وإما متخلفاً. وقلمّا يقع البصر على وعاء بشري يحوي هذين المفهومين النقيضين:التخلف والثقافة.

بينما يسير التخلف والثقافة في خط تعايشي وتساكني في مجتمعاتنا المتخلفة عموماً، والعربية خصوصاً، بل الأدهى والأمر أن الثقافة في هذه المجتمعات تمد التخلف بأسباب القوة، وعناصر النماء، وعوامل البقاء، وتشحنه بوقود الحيوية و النشاط، وبحوافز الحركة والتأثير . فتأخذ الثقافة صيغة التابع الخنوع والذليل، عوض المبادر بالتغيير والتعديل والتأثير.

وهذا هوالسر المختفي وراء ذلك الانفصام النكد الذي يتمظهر بجلاء بين الثقافة المحصلة، والسلوك المنتهج في عالمنا المتخلف، حيث الفوضى الاجتماعية، والانفصام في الأواصر الاجتماعية، وانفكاك الروابط الإنسانية، ناهيك عن الانحطاط الذي يشمل كل القطاعات الاقتصادية والتعليمية والإدارية،إلخ، وما يترتب عن ذلك من سوء التدبير،وفساد الإدارة.

قد يقول قائل:إن هذه السمة ليس المجتمع الغربي نفسه في منجى منها، بل هي أبرز فيه منها في مجتمعاتنا.

ولكن أقول: إن تلك السمة إن كان لها نصيب في المجتمع الغربي ـ ولا ينكر ذلك منكرـ فهي تكاد تنحصر في زوايا ضيقة داخل المجتمع، وهي المواطن المشبوهة التي لها صفة الاستثناء والشذوذ، والآفة العظمى في المجتمع المذكور هي في غياب «التخلق» كما سنبين بعد حين، بينما هي في المجتمعات المتخلفة حضارياً وفكرياً وتقنياً أظهر في الأماكن العامة، ولا يكاد يسلم منها ذوالمستوى الفكري الرفيع أوالوضيع، وهي مادية وأخلاقية على السواء.

إن السلوك المنحط، والتعامل الخسيس الذي يسري في كيانات التخلف غدا كارثة تهددها بالفناء الوبيل، وتعصف بها في ركن مظلم من أركان التاريخ البائسة . هذا وإن كثيرا من صورنا الاجتماعية المفجعة لا يليق تشبيهها إلا بصور من العصر الحجري، بل بصور أحط وأخس. فقد كان للإنسان الحجري صفات نبيلة، كالتضامن الأسري أوالعشيري، والإخلاص في العمل البدائي واليدوي...مما هومفقود أويكاد في مجتمعاتنا التي عقدت روابط النسب والمصاهرة الحميمة مع التخلف وتوابعه، ورحبت في دائرتها الفكرية والسلوكية بكل ما يمت إلى الانحطاط بصلة.

ولا يفهم مما سطرته أنني أدعو إلى اعتناق الفكر الغربي، وما أفرزه من نظريات ومفاهيم دون النظر فيها، وتمييز غثها من سمينها، إذ لكل مجتمع خلفياته الفكرية وأسسه النظرية التي يقيم بها واقعه، ويجعله منسجماً مع ميراثه وتراثه، ومتمشياً وفق روحه وتطلعاته، لكن دعوتي منصبة ـ بإلحاح ـ إلى اقتفاء أثرهم في إبعاد الشقة، وتعميق الهوة، بين التخلف والثقافة :فكراً وسلوكاً.

فما هومقصود هذه الثقافة؟ وما السبيل إلى بلورتها؟

من منطلق اعتقادي بوجوب التلاقح الحضاري، وضرورة مدّ الجسور بين الثقافات، وفتح باب الحوار بين الحضارات، أقرر أن ماهية هذه الثقافة هي المفهوم الإسلامي الأصيل في بعده المتحضر، والبعيد عن الشذوذ الفكري، والتطرف العملي، وبكلمة: «الثقافة المتخلقة والمنفتحة» .

وأما سبيل بلورة هذه الثقافة فببنائها على القيم الروحية والمقومات الدينية الأصلية، وبتطعيمها بالمفاهيم الغربية ذات البعد التجديدي والحداثي، والبعيد عن العلل القادحة. وهذا ـ لاجرم ـ هومسمى : الجمع بين الأصالة والمعاصرة.

وبناء على هذا، فإن من ضمن تجليات التخلف الذي يأخذ بناصية الثقافة، ويتحكم في مسارها، ما نلمسه من نتاجات فكرية ذات منطلق ديني، لكن صفوها مكدر بتفكير ساذج، وتنظير متخلف، صادرين من جهات تتقمص مصطلح «إسلامي» لتتسربل به، وتمرر من خلفه تأويلات فاسدة، ومفاهيم خاطئة.

لقد صار مصطلح «إسلامي» الذي يتسربل به مثقفون مسلمون، ويحملون شعاراته، في مسيس الحاجة إلى إعادة النظر وتصحيح الفهم. فهو غالباً ما جمع في جعبته بين النقيضين المعهودين،وعقد بينهما حلفاً تصالحياً متيناً، إنهما:التخلف، والثقافة. التخلف من حيث التفاسير الدينية والفكرية والسياسية الفاسدة التي يضيق لها صدر الدين،

ولا يرحب بها. والثقافة من حيث إن أناساً مثقفين هم الذين يحملون هذا الشعار، ويسعون على قدم وساق لإنجازه، وتحقيق مقتضياته،كبديل حضاري. ناهيك عن خلو الجمع بين النقيضين المذكورين من أهم أساس يقوم عليه الدين، وهو«التخلق».



التحقيق في مصطلح «إسلامي»:

إن المفهوم الكلاسيكي ـ والذي لا يزال ساري المفعول ـ لمصطلح «إسلامي» هو: «الفرد المسلم الذي ينظر للبديل الحضاري ـ وهوالإسلام ـ، أويسعى لتحقيقه على صعيد الواقع».

فيكون كل إسلامي مسلماً، وليس كل مسلم إسلامياً. إذن بين مصطلحي «إسلامي» و«مسلم» خصوص وعموم، إذ الثاني عام، بحيث يتسع ليشمل الأول ضرورة واقتضاء، يخلاف الأول، فليس من اللزوم ترحيبه بالثاني في دائرته.

لكن أرى أن هذا المفهوم قد صار متجاوزاً، لما فيه من تحجيم للفكر الإسلامي، وتضييق لأفقه، ولما فيه من مداليل القزمية الفكرية والانغلاق الحضاري، وبكلمة : الإنقطاع عن التأثر بالفكر الإنساني غير الإسلامي والتأثير فيه.

وعليه فكلمة «إسلامي» يجب أن تتمطط، وتتسع، لتشمل كل فكر جاد، وبحث عميق ومسؤول، يخدم الحضارة الإنسانية، ولا يتصادم وروح الإسلام، وآفاقه الرحبة، ومقاصده الروحية والعقلية.

فكل من سلك هذا المسلك في فكره وبحثه، كان إسلامياً، وإن كان غير مسلم، وفي هذا الإطار يمكن أن نولج المستشرقين ذوي البحوث الموضوعية والنزيهة في حقل الدراسات العربية والإسلامية، والتحقيقات الفذة في التراث العربي الإسلامي. فمجهودهم في ذلك أوضح من الشمس في رابعة النهار. ومن أنكر هذا، متسلطاً على القوم بأقبح النعوت، وأشنع الصفات، فهوجاهل جهلاً مطبقاً بفضل الاستشراق في إخراج تراث ضخم إلى النور، ولوعول هذا التراث على أهله لقدموه قرباناً للأرضة والحشرات.

وبذلك نستنتج أن علاقة الخصوص والعموم التقليدية القائمة بين صطلحي «إسلامي» و«مسلم» علاقة غير سليمة، بل فاسدة، مما يجعلها لاغية، لاسيما بعد أن ألمحنا إلى أن هذه العلاقة تخدم التخلق وتغذيه من حيث يظن أصحابها أنهم يحملون مشاريع ثقافية بديلة. ولعل الصحيح والأليق أن نتجاوز هذه العلاقة بصياغة علاقة جديدة، وهي علاقة الترادف والتداخل بين مصطلحي «إسلامي» ومصطلح جديد ذي دلالة انفتاحية، وهومصطلح «باحث جاد»، دون تلوين مصطلح «إسلامي» بأي عقيدة أوإيديولوجيا أومذهب سياسي، آخذا المفهوم التالي: «الإسلامي هو من خدم التراث والفكر الإسلاميين، وأسهم في إخصابهما وتجليتهما بمنظور جاد وتعقيلي، سواء كان الخادم مسلماً أوغير مسلم». ولا غروأن يكون هذا المفهوم من المعاني المستفادة من قوله صلى الله عليه وسلم:« إن الله عز وجل ليؤيد الإسلام برجال ما هم من أهله».(8)،(9) .

وقد لاحظت أن أساطين العلم والمعرفة من قدماء المسلمين قصدوا هذا المفهوم، وبنوا على أساسه مواقفهم، وصنفوا مصنفاتهم. فمثلا الإمام أبوالحسن الأشعري في كتابه «مقالات الإسلاميين» أطلق مصطلح « إسلامي» على كل من فكر ونظر وصنف في ظل المجتمع الإسلامي، ولوكان ـ بمنظوره العقدي ـ غير مسلم أومسلماً مبتدعاً في الدين.

وكذلك صنع الإمام أبوالمظفر الإسفراييني في كتابه «التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين»، حيث صنف في الباب الثاني الموسوم بـ« في بيان فرق الأمة على الجملة» حتى المفكرين الذين أجمع المسلمون على تكفيرهم، وسائر أبواب الكتاب تؤكد ذلك وتزكيه.

وفي كتاب «خبيئة الأكوان في افتراق الأمم على المذاهب والأديان» أدرج مؤلفه محمد صديق حسن خان بهادر القنوجي في القسم الثاني من الكتاب «فرق أهل الإسلام» كل الفرق، المحقة والمعتدلة والغالية، وعنوان هذا القسم يوحي ضرورة ولزوماً بما أصبوا إلى تثبيته.

وهل يمكن أن ينكر منكر فضل العالم النصراني إسحاق بن حنين الذي ترجم قسطاً وافراً من التراث اليوناني، خاصة مؤلفات أرسطو في المنطق والفلسفة التي أسهمت في إغناء التراث الإسلامي؟!

وهل يمكن أن نتجاهل مؤلفات العالم اليهودي أبي نصر السموأل بن يحيى بن عباس المغربي الأندلسي الذي أفاد المسلمين بمؤلفاته في الطب والحساب والهندسة؟!

وبموجب التعريف الذي رسمنا به مصطلح «إسلامي» لا نرتاب ولا نماري في وصف إسحاق بن حنين والسموأل بأنهما من ألمع الإسلاميين وأعاظمهم.

يتم في هذا المقام ـ إذن ـ تحكيم مقياس عقلي ومحك موضوعي في التمحيص، وفرز الغث عن السمين، في سبيل صياغة ثقافة أصيلة ومنفتحة.

ومفاد هذا المقياس أن من كان جاداً في بحثه،وعميقاً في تحليله، بما يخدم الفكر الإسلامي والإنساني، ويبصر بخبايا القضايا، فهومثقف إسلامي، ومن كان جامداً في الحكم على الأشياء، جاهلاً بحركة التاريخ، سامداً عن تحديات الواقع وما يفرضه من حقائق بغض النظر عن صدورها وورودها، كان متخلفاً وإن افترى على نفسه وغيره بالانتساب للثقافة، وعنوان «إسلامي» لا يمت إليه بصلة وإن ادعى خدمة «الإسلام» ونفخ في بوق الدعاية لمشاريع وهمية تفتقر إلى شروط التطبيق العلمي السليم.

ومن تجليات التخلف العاض بنواجذه في الثقافة الدينية ما نلفيه من مصنفات تعرض عن معالجة قضايا الأمة المصيرية، ومطالب الإنسان الملحة، لتخوض غمار التصنيف في وجوب إرخاء اللحية وحلق الشارب، وفي تفسيق المرأة وتكفيرها إذا طالبت بحقها في المشاركة السياسية والاجتماعية والثقافية، وفي تكفير كل ما يرد من الغرب، ولوكان ذا بعد إنساني نبيل يدفع بعجلة التقدم إلى الأمام. فكم من النظريات العميقة في حقل العلوم الإنسانية ومناهج البحث العلمي لم تعرف طريقها إلينا بسبب الجهل بالتطور العلمي من جهة، والنظر إلى تلك النظريات بعين الريبة والتهمة من جهة أخرى!

إن حمل مشعل الغيرة المزعومة على «سلامة الدين» ومحاربة كل دخيل,بما يخدم التخلف ويجذره، ليؤكد ما نراه من وجوب إعادة النظر في مفهوم مصطلح « إسلامي» ليصفى من كل فكر طفيلي متعفن، وإن كان منطلقه الغيرة على الدين، وليؤلق بكل فكر جاد ومسؤول، وإن لم يكن إسلامي المنطلق والغاية.

وهذا ـ لا ريب ـ هومسمى «الحكمة» التي يأمر الدين بالسعي الدؤوب لاقتنائها، بغض النظر عن تلوناتها الدينية، وسرابيلها العقدية، وصيغها الثقافية . والعاقل اللبيب هومن ينفذ ببصيرته ـ لا ببصره ـ إلى ما وراء الألوان والسرابيل والصيغ، لا أن يصدر أحكاماً متعجّلة ورعناء، بناء على تعلقه بالأعراض لا بالجواهر، وبالقشور لا باللباب. وإخال هذه الدلالة هي التي يريدها الحديث النبوي الكريم:«الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهوأحق بها»(10)

وصفوة القول :إن «الحكمة»هي المحدد العلمي الدقيق والجاد لمصطلح «إسلامي»، والثقافة الأصيلة المتخلقة والمنفتحة هي المحدد العملي للمصطلح، بغض النظر عن منطلق الحكمة ومصادرها، وعن خادم الثقافة الأصيلة ورائدها.



الفارق بين الدين والتدين:

كما حققت في مصطلح «إسلامي»، أرى لزاما أن أحقق في مصطلحي «دين» و«تدين».

فالأول يعني النبع الأصيل، والورد الصافي، أعني الكتاب والسنة. والثاني مصوغ بصيغة «تفعل» من الصيغة الفعلية «تفعَّل» التي تفيد التكلف كما يقرر أهل اللغة وأرباب النحو العربي.

والتكلف لا يخلومن انطباعه بطابع السذاجة عند الصدور والورود، ولذا أمرنا القرآن الكريم بنبذ التكلف اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول عز وجل على لسان رسوله الكريم: « وما أنا من المتكلفين»(11).

ومن هذا المنطلق يمكن القول : إن التفكير الديني والتفكير المتدين بينهما بون شاسع وهوة سحيقة، ولا يلتقيان إلا في المادة اللغوية التي اشتق منها المصطلحان.

فالتفكير الجاد، والنظر العميق، اللذان يخدمان الحضارة الإسلامية، وينتشلان الإنسان من حمأة التخلف النظري والعملي ـ كهدف نبيل جاء من أجله الإسلام، وحض على انتهاجه ـ يصنف في إطار «التفكير الديني»، ولوكان المفكر غير مسلم . بينما التفكير القشري، والتحليل الضيق، اللذان يجذران الانكماش الفكري، والعزلة الثقافية، ويفتحان الباب بمصراعيه للتخلف كي يعشش في الفكر والممجتمع، يصنف في إطار «التفكير المتدين»، ولوكان المفكر مسلماً.

ويقاس على هذا « المفكر الديني» و«المفكر المتدين». وهذا بناء على ما قررناه قبل حين، وهو أن الدين ـ وهومرادف أويكاد للإسلام ـ مبناه على التخلق والانفتاح، والتدين مبناه على التكلف والتقليد، وهما من الخواص اللازمة للتخلف.



تغرب الثقافة وتخلقها:

لا يقول قائل:إنني ـ من خلال ما حررته ـ أنظر بعين الازدراء للثقافة في العالم المتخلف، وأقصي مكتسباته الثقافية في مقابل التقدير للثقافة في العالم المتقدم، لاسيما أنني صرحت بأن الصراع بين الثقافة والتخلف في المجتمع الغربي يأخذ طابعا جدليا عنيفا، بيد أنهما في المجتمعات المتخلفة يتساكنان ويتعايشان، بل يستمد التخلف نماءه وبقاءه من الثقافة.

ليس قصدي من ذلك تبجيل الغرب، ولا تقديس مكتسباته، وإنما القصد وضع ثقافتين في كفتي ميزان، للحكم بالأفضلية على الثقافة التي رجحت كفتها، وهذا لا يعني الحكم بالفضل المطلق عليها.

ولكن أعترف أن الغرب قد تفطن إلى أهمية الثقافة في بيان كيان الأمة، واستنكف أن يجعل للتخلف موضعاً في ثقافته.

هذه حقيقة سامية توصل إليها القوم، وجسدوها بجد واجتهاد، بعد أن نفضوا عنهم غبار «التدين» التقليدي، واستجابوا لمقتضيات الطبع المستقيم والعقل السليم.

ولا غروأن نجد الإسلام سباقاً لإثبات هذه الحقيقة، فقد عض أهله ـ في حقب رقيهم ـ بالنواجذ على دينهم، وانفتحوا على كل الثقافات المعاصرة لهم، فاستفادوا من حضارات الروم واليونان والفرس والهند والصين، فكانوا نموذجاً حياً للأصالة والانفتاح. وأمثلة ذلك من الكثرة بحيث لا يضبطها قانون العد والحصر.

والزعم بأخذ ثقافة الغرب إلى درجة التغرب، يفضي بنا إلى التقليد الذي قررنا قبل حين بأنه من اللوازم العرضية للتخلف.

لقد أنشأ الغرب ثقافة سامقة تخلب الأبصار، وتلهب المشاعر، مما يجعل آفاتها باهتة، لا تظهر إلا لمتأمل أصيل ومنفتح، يدقق النظر في اللباب دون الانبهار بالبهارج.

ولا جرم أن الآفة العظمى التي تنكشف لهذا النظر السليم هي آفة غياب«التخلق».

حقاً لقد أسست للثقافة الغربية بعض الأدبيات الأخلاقية، مثل الكتاب الرائع الموسوم بــ"Maximes" لمؤلفه الأديب الأريب الفرنسي" La Rochefoucauld" (1613_1680)، لكن هذه الأدبيات الأخلاقية ظلت قاصرة لأمرين:

أولهما: أنها أخلاقيات أرضية، حددت العلاقات الأخلاقية بين الإنسان وأخيه الإنسان، ولم تقم وزناً لعلاقة الإنسان بخالقه، وأقصت القيم الروحية من الفعل الثقافي.

ثانيهما: أن هذه الأخلاقيات الأرضية غمرتها أمواج من الفلسفات والأدبيات التي تبيح للعالم الكبير الألمعي أن يرتكب في حياته الخاصة أخس السلوكات، وأقبح الممارسات التي يمجها الذوق السليم. إنها فلسفات وأدبيات تؤسس لثقافة تبيح الانفصام النكد بين العلم والعمل .

لقد كان الفرنسي « SADE» (1740_1814) أديباً لامعاً، وأسهم بنصيب وافر في بناء الثقافة الغربية، واعتبر عنصراً هاماً من العناصر المكونة لهذه الثقافة، لكننا نلفيه يقضي معظم حياته في السجون برفقة المجرمين وسفلة القوم، بل بلغت جرائمه الأخلاقية حداً جعل المتابعة القضائية له تعيد النظر في جرائمه ليأخذ صفة «المختل عقليا» عوض صفة «المجرم»، وبذلك يحل ضيفا في مستشفيات الأمراض العقلية، بعد أن كان نزيلاً ثقيـلاً في السجون الفرنسية، وكتابـــه « la philosophie dans le boudoire" تنبئ بنفسية مريضة، وأخلاق عفنه بعنوان «الفلسفة».

لقد كانت الثقافة الغربية رائدة في أبعادها المادية، والاستفادة منها لازمة، أخذا بمقتضى الانفتاح والأصالة الواجبين شرعياً، والضروريين حضارياً، لكن تجردها من التخلق يجعلها ثقافة بتراء، ولا تستحق أن تكون بديلاً نموذجياً للتحرر من وعثاء التخلف.

فالحضارة الغربية الحديثة ـ بعبارة الفيلسوف الدكتور طه عبد الرحمن ـ«على الرغم مما أتت به للإنسان من مكتسبات وقدرات مختلفة، حضارة ناقصة، لخلوها كلياً من اليقين في نفع هذه المكتسبات، ونجوع هذه القدرات، مما يدعونا إلى طلب عقلانية فوقها تستمد أصولها من أعماق التخلق الديني الذي هووحده يورث هذا اليقين المفقود»(12) .

ــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1 - .لسان العرب: دار صادر، بيروت، ط. 3، 1414هـ/1994م،مادة «ثقف»،ج.9،ص.19ـ20.

2 - المصدر السابق: نفس المادة والجزء والصفحة.

3 - أساس البلاغة:دار الفكر،بيروت،1409هـ/1989م، مادة «ثقف»،ص.73ـ 74.

4 - المصدر السابق: نفس الصفحة.

5 - لسان العرب: مادة «فكر»،ج.5،ص.65.

6 - المنطق لمرتضى المطهري: دار التيار الجديد،بيروت،ط.1،1413هـ/1993م،

ص.20ـ 21.

7 - منطق المشرقيين:تقديم شكري النجار، دار الحداثة، بيروت،ط.1،1982،ص.22.

8 - عزاه السيوطي للطبراني في «المعجم الكبير».

9 - عن ابن عمر، انظر جمع الجوامع أو الجامع الكبير: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ج.1،ص.177.

10 - رواه الترمذي في جامعه : أبواب العلم، باب في فضل الفقه على العبادة، رقم الحديث:2827.

11 - سورة ص/ 86.

12 - سؤال الأخلاق: المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط.1، 2000،ص.76.

المصدر: https://iranarab.com/Default.asp?Page=ViewArticle&ArticleID=639

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك