بين الفكر العربي وتحديات الاستشراق من خلال إشكالية المنهج

عبد اللطيف الخمسي

لا يمكن نقد الاستشراق دون التعرض لمسألة المنهج والبعد المنهجي في الفكر الاستشراقي والذي مارس وما زال يمارس سلطة معرفية ومنهجية على الفكر العربي والإسلامي. هذا الأخير الذي لم يعط أهمية للمنهج إلا في السنوات الأخيرة، في ظل اشتداد التبعية الفكرية وصدمة الحداثة. ويمكن القول بأن ما هو ثابت في الفكر الغربي عامة هو ذاك الجدل الإبستمولوجي العميق بين العقل (Raison) والمنهج ( Méthode). فالعقل الغربي أساسه الثورة المنهجية. وتداخل العقل والمنهج يمثل قاعدة الحداثة الفكرية الغربية منذ ديكارت صاحب مقال في المنهج إلى حدود فكر الاختلاف المبشر بمنهجية التفكيك، أو فايرناند صاحب كتاب ضد المنهج والذي طرح فيه قضايا إبستمولوجية هامة تصنف داخل ما يصطلح عليه بفوضوية فايرباند، في حقل الإبستمولوجيا والفلسفة. والمشاكل والعوائق التي يعانيها العقل العربي والإسلامي تتحدد في مستوى المنهج بالدرجة الأولى. فمازال التهاون في سؤال المنهج قائما ومقاربة النظريات المنهجية ضعيفة، والانتقال من منهج لآخر، يشكل موضة معرفية ليس إلا. فلا مشادة في إشكالية المنهج كما يرى المفكر عبد الله العروي والذي يقول، بحسه التاريخاني: "عندما أتكلم عن المنهج أعني في الواقع منطق الفكر الحديث بعد أن انفصل عن الفكر القديم"[i].

 

والقطيعة مع المناهج التراثية تمثل الثابت الإبستمولوجي الذي لا يمكن للفكر العربي الراهن أن يتخلى عنه. إذا هو أداة نقد التراث ونقد العقل العربي وخوض معركة معرفية ضد مؤسسة الاستشراق التي جسدت التحولات الفكرية الغربية، وتفاعلت مع ثورات العلوم والمناهج، وهنا سلطة المستشرق، إذ لا يمكن محاورته من خارج المناهج وطرق التفكير. فالاستشراق إذن يفرض ذاته إبستمولوجيا، قبل أن يصوغ نظرية في الإيديولوجيا. ومن هنا فكل تراجع عن مكتسبات الإبستمولوجيا وعلم المناهج يعد إذعانا لسلطة المعرفة التقليدية، وبداية العجز عن تفكيك خطاب الاستشراق. والحوار الإبستمولوجي مع هذا الأخير يتخذ أهمية قصوى، بل مدخلا لتقويض إيديولوجيا المستشرقين المتسلحين بأقوى المناهج وأعظم النظريات الفلسفية والعلمية. فهل يمكن إذن الكلام عن حداثة فكرية عربية ناقدة بعمق للاستشراق دون تملك الإبداع المنهجي أو قل سلاح المنهج؟ يستحيل إذن تجاوز أزمة الاستشراق دون بناء وتأسيس ثورة منهجية داخلية، قادرة على نقض أزمة العقل العربي وبالتالي نقض منهج الاستشراق والقيام بما لم يقم به المستشرقون في مجال الدراسات التراثية. نقد الاستشراق إذن أساسه تأسيس عقل عربي نقدي، أساسه التحرر المنهجي، وهنا بالطبع، لا تخلف عن إنجاز الحداثة الفكرية المعاصرة، والتي يجب التعامل معها بحس نقدي وإبداعي، في أفق تقويض سلاح الاستشراق المنهجي بشكل يخدم رهانات الفلسفة في المجتمع العربي المعاصر. ولا ننسى أن حقل الفلسفة في المحيط العربي تتضارب فيه مناهج متعددة من مادية تاريخية وتفكيكية وبنيوية، وهو الأمر الذي يطرح المزيد من التساؤلات من أهمها: هل التعدد المنهجي في الفكر العربي الراهن، ساهم في بلورة سلطة معرفية استطاعت أن تنتقد بعمق المنظومة التراثية وتنفذ لأعمق الفكر الغربي، أم أن ذلك لم يزد إلا في تكثيف الكثير من العوائق الإبستمولوجية وتوليد المزيد من الإنزياحات الإيديولوجية؟ في هذا السياق إذن تأتي أهمية ومشروعية التناول الإبستمولوجي للخطاب الاستشراقي، سواء كان نابعا من الغرب أو من الشرق، خصوصا وأن المشكل ليس في الاستشراق بالدرجة الأولى بل في إمكانية بناء عقل فلسفي عربي نقدي متحرر من سلطة اللامعقول التراثي من جهة، ومن هيمنة الآخر ونماذجه المعرفية الجاهزة من جهة أخرى. والملاحظ أن الحركة الفكرية العربية أنتجت تصورات معرفية عميقة، في إطار نقد الاستشراق بالدرجة الأولى. وقد يظهر ذلك من خلال مساهمات إدوارد سعيد وهشام جعيط وعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وأركون. ولعل إنجازات هذا الأخير في حاجة ماسة للتقييم والنقد والإثراء خصوصا وأنها تندرج في صلب مشروع فلسفي هادف، يستجيب للكثير من الأسئلة والقضايا، وفق منظور نقدي لا يتعامل بعفوية مع الآخر، ولا بإسقاط مع التراث. فنقد الاستشراق عند محمد أركون يندرج في إطار نقد العقل الغربي ونقد التراث معا. وبالفعل فالكاتب، لا يجد مانعا من الدعوة لتملك سلطة الاستشراق وخوض معركة ضده وضد آليات تفكيره وإبراز حدوده وبالتالي إبداع استشراق بديل يسميه بـ"الإسلاميات التطبيقية" (أو إسلامولوجيا مطبقة). ولعل السقوط في إيديولوجيا الاستشراق كان نابعا من الغياب المنهجي، وضعف التواصل مع الحداثة الفكرية ومستجداتها، من طرف الفكر العربي. وما محاولة محمد أركون إلا مدخلا لاستدراك هذا الخلل، خصوصا وأن المعضلة المفروضة بإلحاح هي: تفكيك الاستشراق، والذي أثبت قوته وجدارته في دراسة التراث العربي الإسلامي، ولو من خلال مناهج باتت حاليا كلاسيكية، أو لا توفي بالمطلوب في مجال التحليل والتركيب والإجابة عن الرهانات المعاصرة. وكما يقول محمد أركون عن طبيعة فهم الاستشراق الهيمني لنصوص التراث: "القراءة التي قدمتها الإسلاميات الكلاسيكية عن هذه النصوص تضل القارئ أكثر مما تضيء له الأشياء بخصوص الرهانات الحقيقية للأحداث الحالية والقوى المتنافسة والمطامح الجماعية والتوجهات الغالبة والمسيطرة المفروضة في المجتمعات العربية والإسلامية"[2]. فهناك وعي إبستمولوجي حاد من طرف الكاتب بتخلف الاستشراق   الكلاسيكي، سواء على مستوى المنهج أو الواقع. ويستثمر محمد أركون آخر إنجازات الفلسفة والعلوم الإنسانية في الغرب، من أجل تقويض الاستشراق من جهة ونقد العقل الإسلامي من جهة أخرى. إنه لا يتهم ولا يستهين بالمستشرقين، بل يحاور ويساجل بلغة العلم والفلسفة، وهو ما يثير، حفيظة دعاة التقليد والتراثوية، ورافضي الحداثة ومعلني طوبى: سقوط الاستشراق. فتحديث العقل العربي والإسلامي عنده يوازي عملية تفكيك العقل الاستشراقي. والمسألة تمثل إشكالا واحدا، يتمحور حول ضرورة نقض المركزية التراثية أو الثيولوجية وإبراز مفارقات وتهافت المركزية العرقية الأوروبية أو ما يسميه فلاسفة الاختلاف ورواد العقلانية المعاصرة بضرورة تفكيك التمركز الإثني الأوروبي "Déconstruction de l'éthnocentrisme"، واستراتيجية أركون هي كالتالي: "إن الإسلاميات التطبيقية تريد أن تقضي على هذه الهيمنة [ أي هيمنة الآخر والاستشراق معا]"[3]. وتشكل عملية بناء هذه الإسلاميات التطبيقية، في نظري، مدخلا هاما لإعادة الاعتبار لقضية الاستشراق ورهانات التراث الملتهبة، وأسئلة الواقع الراهن، فهي إذن محاولة لخلق مسار إبستمولوجي نقدي يحاول تجاوز مغالطات الكثير من الدراسات التراثية من الجانب المرجعي وبناء تصور للكثير من القضايا المطروحة، كالمسألة الدينية والعلمانية والديموقراطية والمقدس والمخيال، والتطرف، والسلطة. وتبقى المنطلقات النظرية لمحمد أركون هي المحددة لأطروحاته حول الحداثة والعلمنة وإشكالية المعنى والأصولية. ونتائج الكثير من مباحثه العميقة هي في حاجة لإعادة بناء نقدي، من أجل تفعيل عقلانية عربية نقدية معاصرة، قادرة على التحرر من عوائق التراث واللامعقول. والحق أن خطاب أركون الفلسفي المتميز، ما زال يتعرض لاتهامات باسم علموية ما، أو لافتراءات وفق منظور إيديولوجي دوغمائي، في لحظة، مازال يسجل إحدى المكتسبات الفكرية الراهنة منذ طه حسين، صاحب مشروع قوبل بالرفض من قبل عقلية الاحتجاج. من الصعب إذن فهم ونقد العقل الاستشراقي دون مواكبة الفكر الغربي الراهن. وإذا كان الاستشراق الهيمني، حسب أركون، ما زال حبيس المنهجية التاريخية والفيلولوجية، فإن العقل العربي والإسلامي بقي متخلفا حتى عن هذه المنهجية، وهذا ما أعطى القوة لمؤسسة الاستشراق والتي يجب الاعتراف بمجهوداتها وخدماتها للمجتمع العربي-الإسلامي بخصوص الدراسات التراثية وهنا يقول أركون: "لا يمكننا أن نتحدث عن الإسلام والتاريخ دون أن نصطدم في طريقنا بالمستشرقين والاستشراق. هذا مستحيل. لأن المستشرقين هم الذين أدخلوا تاريخيا في دراسة الإسلام الكلاسيكي أو الفترة الكلاسيكية للإسلام منهجية جديدة لم تكن معروفة حتى ذلك الوقت من قبل الأدبيات التأريخية الإسلامية الكلاسيكية (أو إذا شئتم علم التاريخ الإسلامي التقليدي المتوارث). وهذه المنهجية ندعوها بالمنهجية الفيلولوجية (أي منهجية فقه اللغة وعلومها)"[4]. ولعل قوة الاستشراق ما زالت قائمة لحد الآن، في غياب خلخلة متكاملة للتراث العربي-الإسلامي، هذا الأخير الذي ما زال يشكل قلعة مسكوتا عنها، رغم بعض المجهودات التنويرية التي تقابل بالرفض من حين لآخر. إن عملية نقد التراث ليست بالأمر السهل، وتحقيق قطيعة معه، لا تبدأ إلا من تملكه منهجيا وإبراز حدوده وعوائقه وجوانبه المعقولة واللامعقولة. ولا ننس أن الاستشراق رسم صورته عن الإسلام والشرق، من خلال إلمامه بالتراث وكنوزه، وهذا الواقع لا يمكن تصحيحه، إلا من داخل إعادة فحص المادة التراثية من جانب، وتقييم تجربة الاستشراق من جانب آخر، دون نسيان الدور التاريخي الذي أسداه المستشرق (حتى ولو كان متعصبا للإسلام والتراث الشرقي، أو كما يقول أحد المتخصصين في الدراسات التراثية، والعارفين بالفكر الغربي ومادة الاستشراق، وهو د.عبد الرحمان بدوي: "إن فضل الاستشراق على الدراسات العربية والإسلامية فضل كبير لا ينكره إلا جهول أو جاحد عاجز عن الإنتاج.."[5]. وقد حاول هذا المفكر القيام بمهمة الاستشراق، ضد الاستشراق، فاتحا جبهات عديدة على مستوى التفكير، أهمها رصد أبعاد وإيجابيات وخفايا التراث العربي-الإسلامي، حيث انتقد التراثوية، وقيم أطروحات استشراقية وأعاد الاعتبار للمنهج العلمي في التحقيق وتناول الأصول المرجعية. فأسس بالفعل "مؤسسة معرفية" ما زالت تمد الكثير من الباحثين بمادة الدرس، حتى وإن صمتوا عن ذلك. إن التحقيقات وفحص المتون وإعادة النظر في الموروث أعمال تمثل أساس نقد التراث والسجال مع الاستشراق ورسم استراتيجية فعلية للتحرر من اللامعقول التراثي. فعلاقة الفلسفة الإسلامية بالفكر اليوناني وتحول الفكر الإسلامي في اتجاه أوروبا النهضة، وطبيعة التعامل مع النص الأفلاطوني والأرسطي في المجتمع العربي-الإسلامي كلها تمثل أسئلة كل متناول للتراث أو مراهن على تجديد العقل أو تقويض الفهم الاستشراقي المغلوط، وقد حاول بدوي تقديم أعظم المقاربات وفق رؤية شمولية للفلسفة كمشروع متعدد الأبعاد والمجالات والجبهات. وكل إذعان لسلطة الاستشراق لن يجعل العقل العربي إلا سجين التراث من جانب وسجين الآخر من جهة أخرى. وهنا يكمن الرهان الصعب للمفكر العربي الراهن، وهو بالدرجة الأولى: إحلال سلطة معرفية بديلة مكان المعرفة الاستشراقية. وكما يقول محمد أركون: "وينبغي بشكل خاص أن نتجنب المغالطات أو الإسقاطات التي يرتكبها برنارد لويس، عندما يقدم آراءه العمومية الفضفاضة سواء عن الإسلام أو عن أوروبا"[6]. إن استراتيجية التفكير التي ينتهجها أركون، هي استراتيجية متعددة الابعاد تتموقع بين نقد التراث ونقد الحداثة ونقد الاستشراق. وسؤاله: كيف يفهم الإسلام اليوم؟ يمثل إحالة لطبيعة التفكير في مادة الإسلام، سواء من طرف التراثويين أو المستشرقين أو رجال السياسة الغربيين. ودلالة "نقد" لا تعني إلا محاولة إعادة بناء مفهوم الإسلام بشكل حداثي-إبداعي في أفق تجاوز العقل الإسلامي الأورثودوكسي وسلطة الخطاب الاستشراقي المتعصب. فالإسلاميات التطبيقية تمثل رهانا عميقا هدفه هو بناء عقل إسلامي نقدي جوهره الانتقال من الثيولوجيا إلى الأنثروبولوجيا، على قاعدة علوم الحداثة. وكما يقول أركون: "أما النقد الاستشراقي فلم يفعل إلا أن زاد في خطورة المنهجية الإيمانية الشكلية للمسلمين وتفاقمها ضمن الاتجاه الأكثر فليلوجية وتاريخوية"[7]. ويمكن ملاحظة الطموح الكوني في فكر أركون، حيث يتناول بروح كونية، الدين والعلمنة والحداثة، مدافعا عن قيم الاختلاف والتقدم والنسبية، ومكرسا نظرة نقدية لأهم القضايا التهابا وهي حقوق الإنسان والتي من خلالها يوجه نقدا للتراث وللخطاب الديني وللاستشراق المتعصب. وانخراط الكاتب في الرهانات الكونية أعطى لفكره طابع الانفتاح والسجالية والعمق النظري، لكن دائما في إطار أطروحة "نقد العقل الإسلامي" رافضا لكل استهلاك إيديولوجي للتراث سواء في الغرب أو في بلاد الإسلام. إنها محاولة لنقد الاستشراق من داخل نقد العقل الإسلامي، ونقد هذا الأخير، من خلال نقد التعامل الاستشراقي مع التراث العربي والإسلامي. وفي هذا السياق يلمح لقضية  معرفية أساسية وهي استحالة بناء الحداثة الفكرية المنشودة دون القطع مع إكراهات العقل الثيولوجي ودون تمثل مستجدات الفكر المعاصر، "وهكذا ننتقل من منهجية التاريخ الراوي الفللوجي إلى منهجية التاريخ الإشكالي الذي يدرس بشكل نقدي كل فترة ويكتشف الحدود الفاصلة فيما بين ما يمكن التفكير فيه وما يستحيل التفكير فيه"[8]. إشكالية الاستشراق إذن إشكالية فلسفية، في العقل العربي-الإسلامي الراهن، وبالتالي فبناء مشروع فلسفي بديل يمر عبر نقد مسلمات الاستشراق، من داخل نقد التراث والحداثة على حد سواء. إن إسلاميات محمد أركون، تحاول الانخراط في معركة، تاريخية وليس فقط أكاديمية، وهذا يتوضح من خلال الأطروحات التي يبلورها الكاتب، في إطار سجاله  مع الاستشراق والتيارات المحافظة، ومن بين هذه الأطروحات الهامة: "العلمنة المنفتحة والعلمانوية"، "نقد الاستثمار الإيديولوجي للتراث"، "الحداثة مفهوم ينتمي لكل الأزمان"، "العلمنة هي موقف الروح أمام إشكالية المعرفة"، "الأصولية كعودة مكبوت"، "الدين كبعد أنتربولوجي في حياة الإنسان"، "الرأسمال الرمزي للشعوب"، "مديونية المعنى وإرادات الهيمنة". إنها قضايا علمية-سجالية، تجعل من فلسفة وإسلاميات الكاتب حوارا مباشرا وإبستمولوجيا مع الآخر، ومع النزعات التراثوية. وربما خطاب الكاتب النقدي والراقي، ما زال مغيبا ويمارس عليه الصمت، مع أنه في الغرب شكل مجالا للكثير من المقاربات، خصوصا في ظل التحولات الفكرية الراهنة التي يعرفها الغرب، وخصوصا عملية نقد ومأسسة مفاهيم كالعلمانية والمقدس والديموقراطية والحداثة، وفق رهانات معرفية جديدة. وفي هذا السياق، لا يمكن فهم إسلاميات أركون دون استيعاب أنثروبولوجيا الأديان والتصور الحداثي للأسطورة، وسوسيولوجيا بيير بورديو الذي حاول القيام بتركيب عميق لخطابين فكريين هامين هما: خطاب ماركس وخطاب ماكس فيبر. كما أن الكاتب يرتبط فلسفيا بمنهجية التفكيك وانتقادات هابرماس لمشروع الحداثة. ويبقى الطابع المعرفي هو الغالب على مجمل مقارباته، والتي تتخذ طابعا متعددا ومتنوعا، سواء على مستوى المرجعية أو المناهج. ومن القيم الإبستمولوجية التي يركز عليها، هناك تصور العقل الأنواري والوضعية، في مجال تناول الكثير من القضايا الحية. ويبقى الرهان أمام كل مثقف هو نقد العقل الدوغمائي من جانب وإبراز حدود العقل الغربي عندما يرتبط بإرادة الهيمنة، وكما يقول: "إن مهمة المعرفة اليوم تكمن في تحديد كيفية اختراق المعرفة الأسطورية للمعرفة العقلانية ودرجة هذا الاختراق وضمن أية ظروف يتم"[9]. ولا تبتعد مسألة الاستشراق عن هذه الإشكالية المعرفية. فالخطاب الاستشراقي ذاته، يتميز بجانب من العملية، وقد يزعم الحقيقة المطلقة، ولكنه يوظف أساطير علموية تهدف إلى أسطرة الشرق والإسلام وتاريخه. مما يعني أن تفكيك العقل الاستشراقي، في نظرنا، لا يعني إلا عملية الفصل بين المعقول واللامعقول داخله، بشكل يحافظ على سلطة العقل وصلاحية المنهج، وأفق التاريخ، لصالح ضرورات الحداثة. ومن هنا فالرجوع لتراث ونقد العقل الإسلامي، لا يعني سوى تحرير هذا الأخير من سلطة الاستشراق ومن هيمنة التيارات المحافظة، والتي تخوض معارك لا حداثية من أجل تملك الأصول. ويمكن القول بأن إشكالية الأصول، تمثل عقدة التعامل مع الاستشراق  العارف بأسس التراث وكنوزه، والذي يعمل بشكل مستمر على صياغة عالم الشرق والإسلام وثقافته، بشكل يعطيه دائما المشروعية المطلقة، في غياب عقل عربي-إسلامي حداثي. فالرهان الأساسي إذن، هو إعادة بناء أصول التراث، وخصوصا الفلسفي، وخلخلتها، في أفق تجاوز مسلمات الاستشراق وعواقبه. دون نسيان أن استيعاب الفكر الاستشراقي ضرورة معرفية، لأن عبر ذلك يمر الحوار العلمي مع الذات والآخر، خدمة للعقلية الحداثية ومشروع التحرر الفكري. ويمكن القول، بأن الفكر العربي والإسلامي ما زال يرفض التعامل النقدي مع الأصول، ومازال يكثف المسكوت عنه داخل الدراسات التراثية، في لحظة تتميز الدراسات الاستشراقية العلمية، بالكثير من الصلاحية والدلالة. وتبقى المعرفة الرائجة حول الإسلام والتراث عامة، وعن الشرق، أساسها الكثير من المغالطات والإسقاطات، وكما يقول: أليكسي جورانفسكي: "… نجد أن "علم الإسلاميات" هذا يشكل بدوره عددا ضخما من "الأساطير" و"الخرافات" الغربية الجديدة حول الإسلام، ولم يفعل شيئا مهما، اللهم إلا أنه أضفى صبغة علمية على الأضاليل القديمة، والخرافات والقوالب النمطية الغربية العنيفة عن الإسلام"[10]. موضوع الإسلام ليس سهلا، فهو يشكل عمقا تاريخيا، خصوصا عندما نتكلم عن التراث والتاريخ والفلسفة في المحيط العربي-الإسلامي. إنها إشكالية فهم ومقاربة ومرجعيات، لا يمكن تأطيرها إلا داخل مفهوم العقل الإسلامي وليس من خلال الإسلام كمفهوم مطلق. والرهانات المعاصرة تفرض القطع مع تصورات خاطئة عن الإسلام –كمحايثة وتعين- سواء نبعت من الفكر السائد أو من قلب مؤسسة الاستشراق. هنا تتوضح أهمية المنهج ودلالته الإشكالية، والذي لا يمكن البحث عن أسسه وإطاره الإبستمولوجي إلا داخل مشروع الحداثة الفكري. أليس البحث عن نظرية المنهج البديل، داخل التراث يعد محض مغالطة لا تخدم إلا سلطة الاستشراق؟ كما أن تأويل إنجازات الغرب المعاصر من داخل التراث العربي-الإسلامي يعد تعبيرا عن مركزية شرقية-إسلامية تريد أن تتمثل الاستشراق وسلطته المنهجية والمعرفية بشكل مقلوب، بل أشد هيمنة ولا علمية، من الاستشراق التقليدي المتعصب، الذي يحاول دائما العصف بماهية التراث العربي-الإسلامي، والادعاء بأنه كاتم أسراره، وهذا لا يقود، سواء من طرف المركزية الاستشراقية الغربية أو للمركزية الإسلامية إلا إلى تكريس العوائق أمام كل محاولة لتجديد العقل العربي-الإسلامي وإعلان ثورته باسم الحداثة، كضرورة، وأفق. إن نقض معرفة الاستشراق، لا تبدأ إلا بثورة في المنهج، أو الالتزام برهانات المعرفة المعاصرة، وكما يقول سالم يفوت: "وليس الجواب على الاستشراق، هو الاستشراق المعكوس أو المضاد، بل النقد المعرفي الموضوعي والاحتكام إلى سلطة المعرفة، بدل تكريس معرفة-سلطة"[11]. ورغم صعوبة الفصل بين المعرفة والسلطة على المستوى الرمزي، فإن مطلب الفكر العربي-الإسلامي الراهن ليس سوى الحداثة المعرفية المتواصلة مع العالم. ومن هنا مشروعية لنقد الإبستمولوجي والممارسة التفكيكية للاستشراق لكن ليس خارج المعطى التاريخي والمادي. وما مشروع الإسلاميات عند محمد أركون إلا محاولة لنقض استراتيجية الهيمنة (Stratégie de domination) كما يقول، وتجاوز الفهم الاستشراقي والإسلامي الخطي (linéaire) للتاريخ، وأوهام النزعة المنطقية-المركزية (Logocentrisme) الخاصة بالفكر الإسلامي الكلاسيكي. فالمسألة إذن قضية عقل حداثي وما يلزمه من فهم جديد للتاريخ والإنسان والمعرفة والدين. وتبقى  محاولة محمد أركون مدخلا طموحا لتحقيق هذا الرهان المعرفي والمنهجي، دون نسيان أطروحات تسير في موكبه، وتتجلى في إسهامات د.حسن قبيسي وخصوصا أطروحتيه، رودنسون ونبي الإسلام والمتن والهامس: تمارين على الكتابة الإناسية، إضافة إلى كتاب د.علي الربيعو، ملحمة الخلق والأسطورة دون نسيان نقده اللاذع للخطاب الماركسي من موقع مستجدات الحداثة. ويبقى هاشم صالح واحدا من المفكرين المرتبطين، شكلا ومضمونا، بمشروع محمد أركون الفلسفي والاستشراقي الجديد والذي يسميه إسلاميات تطبيقية. لكن ما يجب التأكيد عليه هو أن الرهان على الأنثروبولوجيا المعاصرة، يجب أن يخضع للنقد، حتى لا يتم السقوط في التبرير وعوائق معرفية جديدة، أو إقرار الرفض للعقل المنطقي دون التزام بشروط النقد أو التعليل التاريخي. فالتكامل المعرفي ضرورة، حتى لا يتمركز التفكير حول نزعة أنثروبولوجية تشرعن تخلف الذات وقوة الآخر. والعقل الإسلامي ذاته يترجم تفاعلات تاريخية وأنثربولوجية. والانتقال من الثيولوجيا إلى الأنثروبولوجيا كرهان فلسفي فيورباخي عميق، يؤكد عليه كل من محمد أركون وحسن حنفي وغيرهما المتنورين، لن يكون إلا انتقالا تاريخيا. وأهمية الأنثروبولوجيا في حقل الدراسات التراثية ونقد الاستشراق تكمن بالدرجة الأولى في فتح التراث والإسلام على الرهانات الحداثية المعاصرة، وتقويض عقدة الاستشراق المتمثلة في التركيز على التمايزات الأنثروبولوجية الوحشية. وسلاح الأنثروبولوجيا شامل، قد ننتقد من خلاله حتى الغرب نفسه وتوجهاته اتجاه الشرق، وتفاعلات خطابه الرمزي. فإقحام البعد الأنثروبولوجي في الدراسات الاستشراقية أو الإسلامية، يمثل أولا: محاولة لخلخلة الإسلام التاريخي الكلاسيكي؛ ثانيا: مدخل التجديد للعقل الإسلامي وتثويره، وبالتالي نقل موضوع الدين من الفقهيات إلى علم الأديان المقارن وعلم الأسطورة والأنثروبولوجيا الدينية والسياسية. ويمكن بالتالي أن يصبح الدين بعدا أنثروبولوجيا علميا، في صلب رهانات الحداثة. وفي هذا السياق لا مجال للتخلي عن أطروحات العقل الحداثي المعاصر، من أجل تجاوز  التراثوية وهيمنة الاستشراق المتخلف عن حداثة عصره، والمرتبط بالتاريخية والوضعية. وهدف الأنثروبولوجيا ليس تكريس الغرائبية (L’éxotisme) بل التواصل النقدي مع التاريخ والإنسان وما يفرزان من رهانات رمزية وعقائدية وإيديولوجية. ومن هنا استحالة التخلي عن مفاهيم من قبيل العقل، الصيرورة، التنوير، التقدم، التغيير، والتي يجب إعادة النظر في أبعادها خارج المركزيات الاستشراقية. ولا بد من التأكيد على أن التعامل بشكل نقدي مع إنجازات الحداثة المعاصرة، ضرورة لا مناص منها، حتى لا نسقط في النموذجية وتتحول الممارسة المعرفية إلى تبسيطية. ومن هنا أهمية نقد الأبعاد الإيديولوجية للعقل الغربي. والتعامل الإجرائـي مع المناهج والمفاهيم، خصوصا في إطار مقاربات العقل الإسلامي وقضاياه الشائكة. فتحذجذير القول الفلسفي، في جميع الرهانات المعرفية، يتطلب إذن التعامل النقدي مع إنجازات الآخر، دون نسيان أن الاستشراق ذاته يوظف باستمرار مكتسبات عالمه الغربي، وهذا ما يفرض على الفكر العربي والإسلامي مواكبة كل التحولات المعرفية. وبالتالي العدول عن أطروحات تبسيطية من قبيل نهاية الاستشراق، سقوط الاستشراق، وسموم الاستشراق. فما هو جدير بالاهتمام هو البحث عن بديل معرفي، وليس التهويل من الفكر الاستشراقي، دون فهم أبعاده المعرفية والإيديولوجية. أليس فكر طه حسين وعلي عبد الرازق ولويس عوض وأنور عبد الملك ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون ما زال يتهم، بشكل لا عقلاني، بالاستشراق؟ إن طوبى نهاية الاستشراق، لا تخدم سوى هيمنة الآخر، خصوصا وأن اتهام الاستشراق يرادف في الغالب غياب طرح معرفي علمي رصين. وقد لا يجد رافض الاستشراق، من منطلق عفوي، سوى تكثيف مركزية استشراقية شرقية أو إسلامية دون المستوى العلمي الذي يتميز به العقل الاستشراقي الهيمني. إن رفض الآخر، والعزوف عن ضرورة تجديد التراث ونقده يمثلان معالم توجهات لا عقلانية، تريد تكريس مفهوم الخصوصية الضيقة، الذي غالبا ما يكثف النفور من كل أسس الحداثة المعاصرة. وهذا التوجه يساهم في إعادة إنتاج المجتمع التقليدي على المستوى الثقافي، والنتيجة دائما هي تبرير الاستشراق وإعلان سقوط العقل والروح الكونية. إن بناء نظرية علمية حول الاستشراق وممارسة تنوير فلسفي عميق يشكلان أساس اجتهادات محمد أركون، مثلا، والتي تصب في عملية تشكيل عقل عربي-إسلامي نقدي لا ينظر للاستشراق بازدراء، بل من موقع النقد والصراع المعرفي، خصوصا وأن الفكر الاستشراقي ليس مجرد خطاب أو مفاهيم أو لغة، بل كذلك يشكل مؤسسة إيديولوجية وسياسية لها أصولها وامتداداتها، وهذا ما يفرض على النقد للاستشراق أن يكون إبستمولوجيا وتاريخيا وسوسيولوجيا في أفق تأسيس وعي شامل بالمسألة الاستشراقية، وقضايا التراث والحداثة معا. وإذا كان المستشرق الغربي مارس تحديا على الفكر العربي والإسلامي من خلال سلطة منهجه التاريخي والفيلولوجي، فإن طبيعة المنهجين لم تنفلت من التمركز الأوروبي ومرجعية النموذج المعرفي والحضاري الواحد. وهذا الجانب هو الذي هو الذي يدفع الفكر العربي إلى ممارسة نقد منهجي لآليات الاستشراق ومواقف الآخر من الحضارات المغايرة. ولعل الوعي الفلسفي بهذا الإشكال بدأ يفرض تأثيره على الخطاب العربي الراهن المراهن على العقلانية النقدية. وفي هذا السياق يقول محمد عابد الجابري: "وهكذا فالمستشرق صاحب المنهج التاريخي يفكر شموليا في الفلسفة الإسلامية لا بوصفها جزءا من كيان ثقافي عام هو الثقافة العربية-الإسلامية، بل بوصفها امتدادا منحرفا أو مشوها للفلسفة اليونانية"[12]. فالنقد الإبستمولوجي لخطاب الاستشراق مسألة جوهرية، لكن دون التنازل عن الرؤية التاريخية، حتى لا يبقى الاستشراق مجرد نصوص وبناءات لغوية وصروح من الدلالات والمعاني. ومن هنا ضرورة النفاذ لماهية الاستشراق كخطاب متداخل، بشكل تاريخي مع السياسة والاقتصاد والإيديولوجي وحتى المخيال الاجتماعي الغربي. فالعقل الاستشراقي هو محصلة تاريخ معقد ما زال يتفاعل ويتبنين من خلال مؤسسات مادية لها صورة هيمنة داخل الغرب وخارجه. من الإيجابي إذن اعتماد إنجازات الفكر الحداثي المعاصر، من أجل ممارسة نقد منهجي للاستشراق بعيدا عن ربط مفهوم المنهج المعاصر بالتغريب أو ثنائية أصيل/وافد. فقوة الغرب قوة منهجية، ولا خلاص منها إلا باستيعاب وحوار واستلهام وممارسة نقدية. كما أكدنا، فربط التفكيك المنهجي بالنقد التاريخي، من خلال مشروع ثقافي متكامل، قد يخول للفكر في الوطن العربي أن ينتج الثقافة البديلة، دون رفع شعارات طوباوية مثل نهاية الاستشراق. ولنحول مفهوم النهاية والسقوط إلى بداية الكلام عن فكر عقلاني جديد قادر على خلخلة خطاب المستشرقين. وتبسيط مسألة المنهج، أو التعامل مع الاستشراق، كلغة، يزيد من شرعنة الغياب النقدي والتفكيكي. وما زال الرهان طبعا على مدرسة الحوليات في شخوص،مارك بلوخ ولوسيان فيبر وفرناند بروديل، يمثل توجه الفكر العربي الراهن الطامح لتجديد العقل العربي والإسلامي، كما يتوضح ذلك من إنجازات محمد أركون ومحمد عابد الجابري. إنها الرغبة في بلورة فكر مدرسة التاريخ الشامل، وهو الأمر الذي تحول إلى بيانات فلسفية ومنهجية، عند بعض المفكرين المتميزين أمثال محمد أركون. وبالفعل فمدرسة التاريخ الشامل تعصمنا من فصل الإنسان والثقافة والعقل عن التاريخ، وتجاوز مقولة موت الإنسان والتاريخ-الحدثي والنظرة التجزيئية. وهو ما يفرض تداخل المعارف والأنساق والمناهج من أجل تكوين رؤية شاملة للعالم أو للظاهرة. وهذا يساعد على نقد الآخر والأنا على حد سواء، والكشف عن محدودية الاستشراق المعاصر المبسط للكثير من الأمور، الرائجة في عالم الشرق. إن ثورة الغرب الفكرية تزيد من مأزقة كل خطاب أصالوي محلي يريد نقض الاستشراق، باتهام مناهجه، من خارج أي إبداع أو روح منهجيين. وهذا الخطاب قد يتخلف حتى عن إنجازات الاستشراق الكلاسيكي. فمقاربة هذا الأخير للدين الإسلامي مثلا، لا يمكن نقدها وإبراز حدودها إلا من خلال الأنثروبولوجيا المعاصرة. وكما يقول العالم الكبير كليفورد غيرتس (C.Geertz): "لهذا فإن الدراسة الأنثروبولوجية للدين هي عملية من خطوتين: أولاهما تحليل لأنساق المعاني المجسدة في الرموز المشكلة للدين الصحيح والثاني ربط هذه الأنساق الاجتماعية-البنائية والنفسية"[13]. كما أن علم النفس التاريخي وسوسيولوجيا الدين، يمارس من خلالهما الغرب أشد التحديات على المفكر العربي المطالب بتحديث تفكيره. وإذا كان الاستشراق مارس تحديات على الثقافة العربية والإسلامية عبر سلطة المنهج، فإن التعامل مع الثورة المنهجية والإبستمولوجية الغربية يجب أن يخضع للمساءلة النقدية وليس للاستلهام العفوي والإسقاطي. فالمسألة تتطلب تقعيد النقد العقلاني للذات والآخر معا، أي نقد العقل واللاعقل في الغرب والمجتمع العربي على حد سواء. فبناء نظرية حول الهوية والخصوصية والظاهرة الدينية والتراث والتقليد واللغة يتطلب التعامل بحذر مع فكر الآخر حتى ولو كان ثوريا وحداثيا ويصدر عن رؤية نقدية للغرب نفسه. ومن هنا يجب القطع مع الاستشراق الذي ما زال يحط من لغات وثقافات المجتمع المتخلف، من خلال ثنائية لغة العقل الأوروبية، لغة العاطفة والحشو والدائرية (نموذج رينان وماسنيون). إن هذه الأطروحة إذا لم تحسم حداثيا، أي نقديا، ووفق منظور تاريخي، فلا يمكن القول بأن الفكر العربي قد قطع مع الاستشراق الهيمني وإن رفع لواء مستجدات الحداثة المعاصرة. وهذه المستجدات يجب اعتمادها نقديا لتقويض الترمز العقلي واللغوي الغربي، حتى يستقيم الانتماء المعرفي للمفكر العربي (داعية تفكيك الاستشراق) مع القول بالاختلاف والنقد والتجاوز لمسلمات الآخر الهيمني لا العقلاني. فإنجازات العقل الغربي المعاصر، يمكن أن تساهم في بلورة تصور مضاد للخصوصية الضيقة من جانب وللكونية العمياء من جانب آخر، وكلا المفهومين (الخصوصية الضيقة والكونية العمياء) يتفاعلان داخل العقل الاستشراقي الهيمني الذي يريد أن يجعل المجتمع العربي والإسلامي أنثروبولوجيا متعالية على التاريخ. فلا التعامل القداسوي مع فكر الآخر، ولا القول بالشعور المحايد (د.حسن حنفي) يمكن أن يساهمان  في تأسيس عقل عربي نقدي قادر على نقض أوهام المستشرق المتعصب كبرنارد لويس (B.Lewis) داعية  الصدام الحضاري أو قل تحطيم حضارة لأخرى. والابتعاد عن التبرير الإيديولوجي والتبشير المعرفي (خارج النقد) سيمكن من وضع لبنة أولى للعقل المنهجي البديل. ولا ننسى أن الاستشراق ذاته يطور مناهجه باستمرار ويتفاعل مع التحولات المعرفية الجارية. وهذه مسألة يجب وعيها دائما كلما مورسالنقد على الخطاب الاستشراقي. والسؤال الجوهري هو: كيف يمكن اعتماد نظريات كلودليفي ستراوس وجورج بالاندييه وبروديل وبيار كلاستر، بشكل يساهم في القطع مع مسلمات الاستشراق الهيمني ويكثف التواصل النقدي الإيجابي مع الذات والآخر؟ إن السعي الجاد لنقض أوهام الاستشراق لا يخرج إذن عن استيعاب عميق ونقدي لمستجدات الحداثة. كما أن إرادة تأسيس المنهج وكل مقاييسه في المجتمع العربي، تمثل الرد العنيف على كل التحديات التي يفرضها الآخر سواء في حقل الفلسفة أو العلوم أو الاستشراق. ومن اللامعقول إذن ربط محاولات الفكر العربي التنويري بالاستشراق كما يفعل البعض عندما يربط بين طه حسين ومرجليوت بخصوص أطروحته حول الشعر الجاهلي، وبين شبلي الشميل وإرنست رينان بخصوص فلسفة ابن رشد، وبين علي عبد الرازق والمآمرات الاستعمارية البرطانية بخصوص قضية الخلافة ونظرية الحكم في الإسلام، وبين أطروحات مفكرين كمحمد عابد الجابري وحسن حنفي وإدوارد سعيد وما سمي بالاستشراق المعكوس وآراء غوبينو وشبنجلر ولوي ماسنيون. ولعل هذا التوجه يزيد من دعم خطاب الآخر وتأجيل البداية الفعلية للعقلانية النقدية، في لحظة نلاحظ أن قوة الاستشراق تنبع من قوة العقل الغربي في النقد والفحص والسجال، وهي لا تعني إلا الترابط العضوي بين العقل والمناهج، ومن هنا جاءت الضرورة لبناء عقل عربي منهجي، بدأت أول الأمر مع أب العقلانية العربية: طه حسين. ومن هنا لا يمكن التخلف عن السؤال الإبستمولوجي حول فاعلية المناهج، بخصوص بناء فلسفة عربية معاصرة أو نقد العقل الغربي والتراث العربي-الإسلامي معا. كما أن الأسبقية المعرفية والمنهجية للاستشراق لا يجب أن تتحول إلى عقدة، بل إلى منطق للحوار الهادئ (لا الصدامي) مع الذات والآخر، خصوصا عندما يتعلق الأمر بقضايا ملتهبة ما زالت عالقة بالتراث ومحسوبة على مقاربات المستشرقين. فهذا الحوار لا مناص منه والذي يجب أن لا يتركز حول شعار الخصوصية العمياء والهوية المطلقة، دون نسيان أن الاستشراق يمارس خدعه ومكره ولو من داخل أطروحة الخصوصيات والأصالة، وهي من إنتاج ممارساته الفكرية والإيديولوجية. ولا ننسى بأن الخطاب الذي يمارس التهويل من الاستشراق، لا يكثف إلا عقدة الآخر ولا يوظف إلا أخطر منزلقات المستشرقين دون وعي، كما أن الخطاب الماركسي العربي الذي انتقد كل التوجهات التي مارست نقد الاستشراق، وصنفها في إطار ما يسميه بالتيار الاستشراقي المعكوس، لم يكثف إلا مركزية الغرب ولم يؤسس إلا لحوار ملغوم بين المفكرين العرب حول معضلة الاستشراق وقضية المنهج، فمن السهل اعتبار محاولات الفكر العربي الراهن مركزية استشراقية جديدة، دون أي حس علمي، لكن من الصعب تقديم تصور معرفي جديد لقضايا باتت حكرا على العقل الاستشراقي، وكما يقول المفكر إدوارد سعيد: "بيد أن الاستشراق رغم إخفاقاته، ومصطلحه المعاضل الذي يثير الشفقة، وعرقيته التي تكاد تحجب، وجهازه الفكري الرقيق رقة الورق، يزدهر بأشكال عدة. وبالفعل فإن ثمة ما يدعو إلى القلق في كون تأثيره قد انتشر إلى الشرق نفسه"[14] إن معضلة المنهج، تمثل هاجسا أساسيا في كل ممارسة معرفية تنشد التحرر المعرفي والمرجعي. إنه يشكل بعدا لا يمكن التقليل من أهميته الإشلية، أو النزوع نحو ما لا يوجد إلا عن

د الآخر، وأن الحوار مع العقل الغربي يمر من داخله ومن خلال إنجازاته (وهذا هو قدرنا الإبستمولوجي)، وأن كل تخلف عن نقد التراث وتفكيكه بأدوات عقلانية، سيقوي سلطة الاستشراق حتما. ولعل المتتبع للخطاب العربي الراهن، في إطار علاقته بالاستشراق يحس بذلك القلق الذي يتخلل ذاتية المفكرين وهم يردون على رينان وبرنارد لويس وهنري كوربان وهاملتون جوب، وغيرهم. وهذا القلق يجب أن يرقى للمستوى الإبستمولوجي من أجل إنتاج معرفة علمية خارج رد الفعل وعودة الاستشراق القوية في الشروط الراهنة تؤكد بالفعل قوة الآخر، وتراجع المفكر العربي عن مهامه التاريخية، وهي النقد والإبداع، وإذعانه العفوي لخطاب العولمة وسلطة البداهات. مما يفرض ضرورة التسلح بإمكانيات معرفية جديدة من أجل بناء عقل منهجي متعدد المناهج والمرجعيات ورافض للتلفيقية والتبسيط المعرفي، ويمتلك الثقة في الذات وقوة السؤال، وكل هذا من أجل خلخلة أشد لخطاب الآخر، دون السقوط في المركزيات العرقية والدينية والحضارية، أو الانزلاق للفهم الأدواتي للمناهج والتصنيم الدوغمائي لها، في أفق بناء نظرية عربية حول الآخر والذات، وكل معضلات الاستشراق وخفاياه. وستكون تلك هي إشراقة الفكر الفلسفي العربي وبداية سقوط أطروحة الاستشراق المركزية والتي هي: لا نسقية ولا منهجية الإنسان العربي والمسلم. آنذاك يمكن وضع الاستشراق وجها لوجه أمام أحكامه المسبقة عن الحضارات الشرقية عامة والإسلامي خاصة. وكما يقول المستشرق المتنور ماكسيم رودنسون: "النتائج النقدية التي خلص إليها مستشرقو العصر السابق عن "التاريخ المقدس" الإسلامي عن شكل تأليف القرآن في المقام الأول، الخ، المعتبرة في الماضي مكتسبات نهائية نسبيا للعلم (وهي كذلك في رأيي) كثيرا ما وضعت موضع شك"[15]. ويمكن القول بأن إشكالية المنهج الحداثي ما زالت ترفض من طرف دعاة العقل الخصوصي وهذا لا يقوي إلا سلطة الاستشراق من جهة، وتراكم عمليات الأسطرة للتراث من جهة أخرى، مما يعني أن مشروع العقل النقدي الجديد سيكون منطلقه المعرفي هو بداية التخلص من أحكام الاستشراق الجاهزة ومن سطوة التراثوية، لصالح رؤية منفتحة للمناهج خارج نزعة القداسة ووهم الأصالة المطلقة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ


[i] عبد الله العروي: مفهوم العقل (مقالة في المفارقات)، المركز الثقافي العربي، بيروت-البيضاء، ط1، 1996، ص12.

[2] محمد أركون: الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، دار الساقي، ترجمة هاشم صالح، ط1، 1990، ص166.

[3] محمد أركون: تاريخية الفكر العربي-الإسلامي، مركز الإنماء القومي، ترجمة هاشم صالح، ط1، 1986، ص276

[4] محمد أركون: (الإسلام والتاريخ والحداثة)، ترجمة هاشم صالح، مجلة الوحدة، عدد 52، يناير 1989، ص1.

[5] عبد الرحمان بدوي: (حوار أجراه معه حميش بنسالم)، مجلة الوحدة، عدد 17، السنة 2، فبراير 1986، ص160.

[6] محمد أركون: الإسلام، أوروبا والغرب، رهانات المعنى وإرادات الهيمنة، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، ط1، 1995، ص89.

[7] محمد أركون: (المنهجية المعاصرة، والفكر الإسلامي)، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 32، سنة 1984، ص25-26.

[8] محمد أركون: الإسلام، أوروبا، والغرب، نفس المرجع، ص100.

[9] محمد أركون: نفس المرجع السابق، ص76.

[10] أليكسي جورانفسكي: الإسلام والمسيحية، ترجمة د.خلق محمد الجراد، سلسلة عالم المعرفة، ط1، 1996، ص105.

[11] سالم يفوت: حفريات الاستشراق، في نقد العقل الاستشراقي، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط1، 1989، ص12.

[12] محمد عابد الجابري: التراث والحداثة، دراسات ومناقشات، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط1، 1991، ص28.

[13] كليفورد غيرتس: (لالدين بوصفه نسقا ثقافيا) ترجمة د.أحمد باقادر، مجلة كتابات معاصرة، عدد 28، المجلد7، سنة 1996، ص25.

[14] إدوارد سعيد: الاستشراق (المعرفة، السلطة، الإنشاء)، ترجمه إلى العربية كمال أبو ديب، ط.ع1، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1981، ص319.

[15] ماكسيم رودنسون: جاذبية الإسلام، ترجمة إليسا مرقص، ط1، دار التنوير، بيروت، 1982، ص85.

المصدر: http://www.aljabriabed.net/n40_02khmsi.(2).htm

 

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك