حوار الثقافات .. عالَم مشروط وُلوجُه

مصطفى المغراوي

 

من البدائل الحتمية عن وسائل العنف والقوة، حوار الثقافات الذي يُعتبر مشروع حياة البشرية، والدافع الحقيقي للشعوب إلى التعامل بالأسلوب الإنساني الرفيع القائم على أساس التعارف لا التنازع.

ذلك أن الحوار الثقافي ضرورة استراتيجية عالمية ملحة، في مرحلة أصبحت فيها الثقافة نموذجا تحليليا للعلاقات الدولية، ومفتاحا لإدارتها وضابط توازناتها. إضافة إلى بناء الخيارات المجتمعية والاديولوجية التي تكون خصوصيات الأمم والبلدان، مما يؤهلها إما لأداء الدور الايجابي في ترسيخ قيم التواصل والانفتاح، أو الدور السلبي بتجذير نوازع الخصوصية الضيقة والانغلاق على الهويات الإقصائية.

إن الحوار لا يمكن أن يكون فاعلا إلا إذا استند إلى فهم دقيق وموضوعي لواقع التنوع الثقافي، باعتباره الأرضية الموضوعية لتعدد النماذج الحضارية والمجتمعية، بدلا من الأحادية الثقافية التي تتسرب متسللة عبر قنوات عديدة يتصل أغلبها بالتشريعات والاتفاقات الدولية. وبعضها يتعلق بنظام سير المؤسسات العالمية الكبرى التي تتحكم فيها قوى مسيطرة محدودة مستفيدة من اختلالات العولمة التي تكرس وحدة الاقتصاد العالمي، بما تؤدي إليه من انسجام وتكامل وظيفي بين البلدان والأمم، في الوقت الذي تعمَّق فيه الفوارق الثقافية والقومية بينها، ومستفيدة كذلك من الاضطرابات المتفاقمة في القدرات والموازين بين الشمال الصناعي المتقدم، والجنوب الفقير المتعثر في مناح جوهرية، يتصل معظمها بمصادر المعرفة والثروة والاتصال وغيرها.

وفي هذا الإطار ينبغي الإشارة إلى وجود الوعي الفارق بين التثاقف وبين العنف الثقافي من جانب واحد. فالأول، يعني إصغاء الثقافات بعضها إلى بعض ومن ثمة الاعتراف المتبادل بينها، ومنه الاعتراف بحق الاختلاف الذي يتولد عنه الحوار والتفاهم.

أما الثاني، فلا ينطوي إلا على الإنكار والإقصاء لثقافة الغير، ثم الاستعلاء والمركزية الذاتية في رؤية ثقافية، وهذا يلازم الإكراه والعدوان، لذا كان لزاما توسيع منادح النظر، وإزاحة السدود أمام العقل لكشف آماد أبعد من الفهم والإدراك، لردم الهوة السحيقة بين الثقافات الكونية والتقريب بينها.

وهكذا يجب أن تُحفَظ المراتب في التعليل، لا أن يُلقى بها جزافا بحيث تقع كما يُتفَق لها أن تقع بين السببية أو المسببية.

وإذا أردنا الحديث عن العرب في موضوع حوار الثقافات (مثلا): يمكننا القول بأنهم يمتلكون خبرة واسعة ودراية قَلَّ نظيرها، فالإسلام في ثقافته كان ولا يزال مدرسة في الانفتاح، لأن الحضارة العربية شارك في صنعها الهنود والفرس واليونان والمسيحيون.. إذ نجدها قد تشكلت على قاعدة توليف حضاري معقدة لكن مبدعة، حيث صهرت تلك الحضارات إلى حد التماهي صهرا يصعب معه وصف عملية التأثير والتأثر وتحديد المؤثر والمتأثر.

لكن الآن نجد أن الحوار الثقافي بين مجتمعات الإسلام والغرب يعاني من ضعف كبير، ناتج عن عدم إدراك الجدليات الثقافية الحاكمة لمجتمعات العالم المعاصر، وكذا عن عدم إدراك علاقات التمايز داخل كل مجال ثقافي - اجتماعي، وهي فرضية تنطوي على ادعاء لا تاريخي يتساوق مع وهم إيديولوجي وقراءة انتقائية غير موضوعية.

إن الحوار لكي يؤدي وظيفته بالشكل المطلوب، فذلك يقتضي تضافر مجموعة من الشروط اللازم توفرها والعمل على توظيفها، لضبط المعايير القيمية الجامعة لما أصبح يُطلق عليه بالحضارة الإنسانية الكونية.

وهذه الشروط يمكن إجمالها في الندية والتكافؤ اللذين يدفعان أطراف الحوار إلى الاقتناع بحق الآخر، مع الالتزام برفض الأحكام المسبقة واستبعاد الأفكار السطحية لما تنتجه المخيلة البشرية من صور محرَّفة ومغلوطة عن الغير. إضافة إلى رفض مقولة التفوق الثقافي العنصرية، التي يعتبرها الكل بمثابة الحاجز المنيع الحقيقي الحائل دون تحقيق الحوار المنشود.

هذا دون أن ننسى إخضاع الثقافات لإيديولوجية طاغية، مما يفسح المجال لتضخم ثقافة على حساب أخرى، ثم إعطاء الآخر حقا مساويا في النقاش والحوار على مرجعية قائمة على الحجة والبرهان، دون تغليب منطق السطوة والعنف وغيرهما، وكلها عوامل لو تم تصحيحها والتركيز عليها ستسمح بالتعايش بين مختلف التنوعات الثقافية، بمنأى عن أي انتهاك لكرامة الإنسان أو النيل من حقوقه في إطار احترام مطلق لخصوصيات كل أمة من الأمم.

فكل الأنساق الثقافية مهما تعددت مشاربها وأوغلت في الخصوصية والتميز، فإنها حتما تنضح بالقيم الكونية التي يجب أن يتقاسم نورها كل سكان المعمور، للاستفادة إيجابيا من الإمكانات الواسعة المتاحة، في سبيل توطيد التواصل بين الفضاءات الثقافية المتنوعة، لتصبح الثقافة العالمية الحقيقية هي ثقافات كل المجتمعات دون استثناء.

المصدر: https://middle-east-online.com/%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك