فكر الهجنة والوعي بالآخر أو السّرديّات العنصريّة والمثقّف المقاوم

عمر بن بوجليدة

 

(1)

“… إنّه لذو أهميّة خاصّة بالنّسبة لي بوصفي عربيا وغربيا أن ينجلي أنّ فكرة التّعدديّة الثّقافيّة أو الهجنة – الّتي تشكّل الأساس الحقيقي للهويّة اليوم – لا تؤدّي بالضّرورة دائما إلى السّيطرة والعداوة، بل تؤدّي إلى المشاركة وتجاوز الحدود إلى التّواريخ المشتركة المتقاطعة”.

إ . سعيد. “الثّقافة والإمبرياليّة” ص10.

“… استهدفت تحدّي أولئك الّذين يتوهّمون أنّ الأوروبيين هم وحدهم الّذين صنعوا التّاريخ … “.

إريك وولف.

اِستهلال:                                                           

إنّا لنعلم أنّ الصّراع حول الأفكار والتّصوّرات إنّما هو ضرب من ضروب الصّراع المعقّد والشيّق حدّ الإدهاش، بأيّما طريقة قرئ، فهو يتجلى احتكار للسّرد ونظام التّمثيل تمارسه النّظريات الكلّويّة للتّاريخ الإنسانيّ دون هوادة إذ هو في ارتباط حميم  بعوالم سياسات القوّة والسّلطة. إلّا أنّه وكما أنّ البشر يصنعون تاريخهم الخاصّ فإنّهم يصنعون هويّاتهم.

عناية بالحقائق من حيث هي متعدّدة والّتي نظنّ أنّها تتوافر على تأكيد مفاده تباين الوجوه المختلفة  للحقيقة الواحدة، فرارا إلى معنى مزعوم لا ينكشف أبدا، وعنوان ثراء بلا قاع. وهو ما مثّل خطوة جريئة بلورت الإطار النّظري الحاضن لـ”الآخر”، فمن المدرك أنّ القبول بالآخر، بما هو عليه، ومهما بدا ممعنا في الاختلاف والتّغاير عن الأنا، نشأ وسرى على أرضيّة فلسفيّة تجلّ تعدّد الحقائق، أو لنقل تعدّد وجوه الحقيقة الواحدة بتعدّد الزّوايا المنظوريّة المعتمدة لرؤيتها. لكأنّها استيلاد متكرّر لممكنات تأبى على النّضوب وليس يخفى ما يقدّمه هذا الضّرب من التّفكير على نحو قويّ ومؤثّر من نقد للانعزاليّة وسياسات الهويّة النّقيّة /الخالصة، ومن فهم للتّجربة الإنسانيّة بكلّ تنوّعها وإلّا فسيبقى المرء ملتزما بالإقصاءات لا يفارقها.

إلّا أنّ ما يلفت النّظر في هذا السّياق الدّقيق أنّ الامتداد الكوني الخارق للإمبرياليّة التّقليديّة الأوروبيّة – الّتي لم تعد تحظى بسلطتها- ما يزال يلقي بظلّ مديد على التّراثات والثّقافات فـ”نحن” أعطينا “هم” مستلزمات التّقدم والتّحديث إلّا أنّـ”هم”  عاجزون عن الاستقلال، وبمبالغة فاحشة تخيّلوا أنّ الوصاية معطى بديهي.

فما هو أساس تلك السّلطة الإمبرياليّة الّتي ولّدت دولا طغيانيّة، وما هو الموقف الذّهني من المستعمر؟  كيف له أن يشعر بأنّ الكون والزّمان بأكمله كان له، والحال أنّ الإمبراطوريّة جعلت العالم موحّدا،  وكيف يستقيم الجمع داخل دائرة الوعي  بين هذه النّزعة الاستعماريّة من جهة والإيمان أنّ الإنسانيّة كلّ مدهش. والاستعاضة عنهما بنزعة إنسانويّة أشدّ كونيّة؟

1-“الآخر”، الهجنة، أو سعيد بين عالمين:                             

   ونحن إذا أجدنا النّظر في ما يعنيه البحث في “الآخر” من حيث هو اهتمام فلسفي، نجد أنّ المقصد إنّما هو التّوضيح أنّ “الآخر” هو دائما نسبي لآخر مّا .[1]

هذا الشّكل الجديد من التّفكير الّذي يقطع مع منطق التّطابق الكلاسيكيّ وينقذ الفلسفة من تجربة الانغلاق الّذي انتهت إليه، يحاول إنجاز حوار مع الفلسفة الكلاسيكيّة، فما يؤاخذ عليها إنّما هو إقصاء “الآخر” والاستحواذ عليه أنطولوجيا وسياسيا، وينقل “دلوز” هذه الصّورة إلى السّياسيّ والتّاريخ “كان تاريخ الفلسفة دائما في خدمة السّلطة، في الفلسفة وحتّى في الفكر “[2] فلا يخفى أنّه إذا عرض على الفلسفة أن تفكّر في “المحسوس” فإنّها ستؤكّد تعدّده وتنوّعه، إلّا أّنها تلغي تنوّعه وتعدّده في وحدة معنى، يفترض أنّها ثابتة، وإذا أجبرت على النّظر في “الاجتماعي” المتعدّد، فستقرّر أنّه غير منسجم وستعمل على توحيده ونظمه في وحدة الدّولة. فكان أن صار منطق الفلسفة منطق تطابق وانحسر الفكر وأدّى هذا الحصر إلى طمس الاختلاف وأبان عن تطابق في الوعي أو الذّات أو الكوجيتو، وفي هذا الإطار يضغط المهمّش على الوحدة السّعيدة للدّولة.

وقد لزم عن ذلك، أنّ اعتبر “فكر الاختلاف”، فلسفة التّاريخ، فلسفة للدّولة والوحدة، وتبريرا للتوتاليتاريّة، وإقصاء للمنبوذ، وإقرارا للمتجانس. ورغم هذه الكشوف الباهرة، كان “فكر الاختلاف” في أوانه غريبا، فلم يتم الانتباه إلي حقّ، “الآخر”، – “المقموعين” / “المرؤوسين” -، أن يكون غيرنا ولم يقع الإنصات إلى “المضطهدين”، أو إن شئت فقل “الملونين” والانتهال منه،  بل أحيل على الصّمت وأقصي في الهامش. وإن كلّ ذلك لمما يوضّح أنّ الاهتمام بفكرة “الآخر”، إنّما يستوجب مراجعة للتّاريخ وتأمل ما اكتظّ به من إقصاء، وتهميش واستبعاد، ومن هنا نلاحظ ذلك الخطاب الّذي طفا على السّطح والّذي تعلّق بالمهمّشين والأقلّيات … “الّذين حرموا حقّ البوح بقصصهم. في المعركة ضدّ السّرديات المعروفة الّتي تصادق عليها المعرفة الرّسميّة (…) لا أعتقد أنّ في إمكان المرء أن يقترح بديلا مضادّا للتّقاليد السّائدة والسّرديّة الرّسميّة المعروفة من دون فهم حادّ فعلا لماهيّة تلك السّرديّة أصلا ولا أعتقد أنّ في إمكانك البدء بتلاوة سرديتك الخاصّة بك”. [3]

وقصد الإفصاح عن مبتغانا، فإنّه أصبح من الواجب علينا أن نوّضح كيف أنّ “ادوارد سعيد”[4] جعل من هذا الإرث، غرضا فلسفيا تامّ الوجاهة، وقد استبان أنّه إنّما يؤشّر على أهميّته، بأن كان اللّجوء في مذكّراته إلى استحضار أقدم اعتراف لما كان يربكه في طفولته  فهو الأخلق بأن يمنح الصّدارة: اسمه المهجّن، الّذي يجمع تناقض عالمين مختلفين “كنت تلميذا شاذّا ومزعجا طوال سنواتي الأولى، فلسطينيا في مدرسة في مصر مع اسم أوّل انجليزي وجواز سفر أمريكي دون أيّة هويّة محقّقة مهما تكن وممّا زاد الطّينة بلّة أنّ العربيّة لغتي الأصليّة والإنجليزيّة لغتي المدرسيّة كانتا مختلطتين على نحو يتعذّر فصمه. فلم أعرف أبدا أيّهما كانت لغتي الأولى ولم أكن أشعر أنّني مرتاح تماما في أيّ منهما. على الرّغم من أنّني أحلم بكليهما وفي كلّ مرّة انطق بها بجملة إنجليزيّة أجد نفسي أردّدها بالعربيّة والعكس بالعكس”.[5]

وإمعانا في التّحديد والضّبط يستطرد من تهجين الاسم بمفرده إلى أقصى عمليّة تهجين لغوي تعرض لها منذ نشأته، ويدفعه حسّه النّقدي إلى الإحالة على تجلّيات هذا التّهجين، الّذي وكأنّه يقوم منه مقام نفسه.  ففي مقال تحت عنوان “بين عالمين”[6] لخص “سعيد” موقعه، وهكذا فإنّه علينا أن نستبصر وجه الحضور الكثيف لرمزيّة “كونراد” الّذي هجر موطنه، وقد استخدمه “سعيد” كمثال لمن تبدو حياته وعمله تجسيدا لمصير المتجوّل الّذي يغدو كائنا بارعا بلغة أخرى مكتسبة، لكنّه لا يقوى مطلقا على زعزعة إحساسه بالاغتراب في موطنه الجديد”[7]: إنّه التّماهي  ولا يجد “سعيد” حرجا في الإقرار بأنّ هويّته ووطنه ظلّا مختبئين  وراء لغة المنفى ” ويا لها من تجربة فظيعة، إنّه الشّرخ المفروض الّذي لا الّئام له بين كائن بشري ومكانه الأصلي، بين الذات وموطنها الحقيقي، فلا يمكن البتّة التّغلّب على ما يولّده من شجن أساسي”[8]، رغم أنه من شأن المنفى  أن يحرر من عوائق الثّقافة القوميّة، لقد أصبح المنفى بهكذا معنى موقفا أصيلا، على أنه يجدر بنا أن ننبه إلى أن “سعيد” رأى في منفاه ظاهرة فريدة لا مثيل لها، ولمثل هذا الاقتضاء أيقن أن منفاه جماعيا شموليا فـ” الثّقافة الغربيّة الحديثة هي في جزء كبير منها نتاج المنفيين والمهاجرين واللاجئين”[9]، إنه منفى بين عالمين متباينين، حضارة وثقافة وتاريخ، وهكذا جعل من المنفى أسلوبا في التّفكير وموضعا للكيان.   .

وما يلفت النّظر هنا هوأنّ هذا المتعدد المنفرد عاش هويّة منفى مركب أومنفى داخل المنفى،”إذ خلفيتي شاذّة وغريبة ويلازمني الشّعور بذلك، ومع أنّنا فلسطينيون فنحن أنجليكانيو المذهب، نحن أقليّة في أقليّة مسيحيّة ضمن أغلبيّة مسلمة “[10] فهومنفي عن أخصّ ما بحوزتنا، انه نتاج لأزواج متدافعة متضاربة، متواشجة ومتصارعة، من عوالم الثّقافة ” خلفيتي عبارة عن سلسلة من الاغتراب والنّفي لا شفاء منها أبدا وإحساسي بأنّي معلّق بين ثقافات متعدّدة كان ومازال قويّا جدّا، أستطيع القول إنّه الّتيار الأقوى في حياتي والحقيقة أنّني دائما داخل الأشياء وخارجها، لكنّي لست أبدا – من- شيء لمدّة طويلة ” [11]، إنّها تجربة الانتماء القلق الّذي يمازجه الرّفض، تجربة تكتسب بها الإنسانيّة خصوبة مصدرها القلق الخلاّق، ذلك الّذي بموجبه يكون عدم الانتماء رفضا لما كان حجبا للإنسان في حقيقته “وما ينبغي تذكّره دائما هو أنّ سرديات التّحرر والتّنوير في أقوى أشكالها (…) قصص بشر تمّ إقصاؤهم وعزلهم”[12] . فالمنفى سرديّة تصر على أن تكون نحوا من الوجود الموجب على صعوبته.”فشخصيّة المنفي غايّة في الأهميّة لأنّك تصل إلى نقطة حيث تدرك أن المنفى لا رجعة عنه، إذ نظرت إليه من هذه النّاحية فإنّه يصبح صورة قويّة جدّا لكنّك إذا اعتبرت أن بوسع المنفي العودة إلى وطنه، ليجد لنفسه بيتا، هذا ليس ما أتحدّث عنه، أمّا إذا اعتبرت المنفى حالة دائمة بالمعنى الحرفي والفكري للكلمة على حدّ سواء فستجد ذلك واعدا أكثر وإن كان صعبا لأنّك في هذه الحالة تتحدّث عن حركة، عن التّشرد بالمعنى الّذي استخدمه “لوكاش” في – نظريّة الرّواية – أي “التّشرد المبهم” الّذي قد تتأتّى منه مهمّة فكريّة” [13]، إنّها إقامة ماهيتها التّنقل المتّصل بين عالمين “حيث ارتقت بي الذّكرى بعيدا فإنّني أحسّني منتسبا إلى عالمين دون أن أكون تماما منتميا إلى أي منهما “[14]

إنّه جهد مضني يروم معرفة الذّات بواسطة الذّات، تنقيبا في ثنايا الذاكرة وأعطافها، بحب قاس ومرارة تحفر في الرّوح أخاديد عميقة، مرارة لا تجد مثيلا لها إلا في معاناة وجوديّة . وليس أدلّ على ذلك، مما كان قد رواه “سعيد” ذات مرة، من أنّه منفي عن وطنه وفي لغته، إنّها غربة مفروضة على الذّات وهو ما ليس يقدر أن ينفك عنه، فالمنفي مجتثّ من جذوره وماضيه وتراثه وبالتّالي مقتلع من هويّته، إنّ المنفي يظلّ مهمّشا، إلاّ أنّ المفارقة هي أنّ الثّقافة الغربيّة الحديثة إنّما هي نتاج لفكر المنفيين والمهاجرين والمبعدين[15].

فالنّفي في الأصل هو الطّرد والإقصاء، وذلك هو الدّين الّذي يدين به “سعيد” إلى ميراث فكري عظيم، ينحدر من “ماركوز” إلى “بكيت” ليبلغ تمامه مع “كونراد”، “عندما وقعت على كونراد لأوّل مرّة أيّام حداثتي، شعرت نوعا مّا بأنّني أقرأ لا قصّة حياتي، بل قصّة جمعت من شذرات حياتي وألّفت بطريقة أخّاذة آسرة خلاّبة، فتعلّقت به منذ ذلك الحين” [16]

وللإبانة على ذلك اختار “سعيد” أن يؤكّد على نحو جميل ولافت، أنّه إنّما هو التّحول إلى إنسان غريب يعيش في وطن غير وطنه، ومن هنا الإحساس بالحنين، وبأنّه مجتثّ، ذلك أنّ المنفى هو واحد من أسوأ المصائر الّتي ينتهي إليها الإنسان، إنّه العقاب في شدّته، إنّه نبذ وإقصاء أبدي، دائم. وليس ببعيد أن يكون  حنين “سعيد” إلى أمه حنينا إلى الوطن، ذلك أن قدره قد قدر عليه أن تكون أمه منفاه، فتعمق إحساسه بالمنفى وأصبح يجد نفسه خارج المكان. فقدر “سعيد” هو قدر “جبرا” و”درويش” وكنفاني”، فتلك أمّة كانت برمّتها في المنفى.

لقد انتظم لنا الآن أنّها حياة تنهض على مساومة صعبة بين أسلوبين متناقضين من الوجود. ويتحصّل ممّا أسلفنا أنّ مثقّف ما بين الحضارات يحسّ دائما بتخلخل المكان والقلق الأبديّ، لا سيّما إذا ما تعلّق ذلك بعمليات التّهجين الثّقافي الّتي تقتضي انخلاع الشّخص من دوائره الحميمة واستزراعه في بيئة غير بيئته. وحتّى يكون الأمر مستبينا نفترض أنّ “سعيد” إنّما كان قد تمثّل جيّدا حكمة اللاّجئ الجذري “ادرنو”، حين أشار إلى أنّ الكتابة إنّما تغدو مكانا للعيش لذلك الّذي لم يعد يملك وطنا[17]، ذلك أنّه تقرّر له، فقرر أنّه في حالة من الانخلاع دائمة.

إنّ هذا الشعور بالخارجيّة يسّر لـ”سعيد” أن يلاحظ ما لاحظ وبوّأه أن يكتب ما كتب، وأن يستبين ما إنبهم في الأشياء. ذلك أنّ كتابات “سعيد” الّتي انخرطت في تدمير الفاصل الأكاديمي بين أجناس الخطاب، إنّما تحاول تدبّر مضامين ورهانات وآفاق ما أبدعته الذّات وبخاصّة ما فرضته القوّة الاستعماريّة من كيفيات استخدمت في مستواها الثّقافة الإمبرياليّة لحافا أيديولوجيا.

عند هذه العتبة من التّحليل ينكشف أنّ إحساس – أولئك الّذين اضطرّوا في كلّ مرّة أن يثبتوا أنّهم وجدوا من قبل – بالحيف والظّلم والطّغيان، ورغم إساءة التّمثيل والإنكار، لا يثني “سعيد” عن عزمه بل يدفعه إلى المراهنة على ما نهض له في بادئ أمره، فـ” سعيد” إنّما يريد أن يقف عند عقليّة من كان وراء هذا الإنشاء والضّمنيات الّتي كانت تحكم أساليب وآليات وطرائق تفكيره، فيمارس “سعيد” قراءاته في ارتباط بنصوص، يمنع عنها تعاطي الاكتمال والنّهاية، فهو مجسد للوعي الضّدي، إذ يخوض في المسكوت عنه والمحلوم به، فهمه النّقدي متعلّق باحتمال الغيريّة احتمالا موجبا، حالتّئذ ينطرح أفق للتّساؤل جديد، ينبري متظنّنا: هل الآخر بشر أدنى من الأنا أم بشكل مّا مساوون لها لكنّهم مختلفون عنها؟                        .

هكذا جعل “سعيد” مدار اهتمامه هؤلاء، الّذين ينظر إليهم من جهة ما هم كتل بشريّة لا تستحقّ صفة الآدميّة والسّيادة فهم الّذين لا وجود لهم ولا يمكن وصفهم. عندئذ نستبين كيف أنّه استطاع التّأكيد على أنّ” الآخر”، “الّذي يتمّ تعريفه نظريا على أنّه أدنى منزلة على نحو جوهري – إن نعت بالبدائي أو بالمتخلّف أو بمجرّد الآخر – ” [18]، إنّما هو المعادل الفعلي للمنفي، الغريب، والمهمّش … فـ”مشروع إدوارد سعيد إذن هو عناية بالمعرفة والسّلطة والطّغيان الّذي يمارسه الانشاء، ولعلاقات القوّة الّتي يجسدها بالطّريقة نفسها الّتي يمثّل بها “ميشال فوكو” اكتناه لهذه الأسئلة بالإشارة إلى شرائح أو حيزات معينة من المجتمع الغربيّ”[19]

لقد بان ممّا فات أنّه نظر إلى” الآخر” على أنّه موضوع قابل للمعرفة والدّراسة  تجسيدا لإرادة السّلطة، فـ”الاستشراق خطاب منظّم، وبناء عليه فإنّه معرفة مكتوبة، لكنّ كونه في العالم وعن العالم مباشرة فهو أكثر من مجرّد معرفة، إنّه سلطة، فالاستشراق بالنّسبة إلى الشّرقيّ هو المعرفة المؤثّرة والفعّالة الّتي أوصلته نصيّا إلى الغرب والّذي احتلّه الغرب واستنزف موارده واضطهده إنسانيا بمساعدتها ” [20]  إنّ “الآخر” هاهنا يتجلّى مرآة تنعكس عليها “الصّورة” الّتي شكّلت “العقل” الّذي ينجز تمركزه انطلاقا من ممارسة الإقصاء، فهذا “الآخر”[21] الّذي همّش طويلا، ونبذ بعيدا، ينتقل من “الموضوع المدروس” إلى فضاء يصبح فيه “ذاتا” فهو لم يعد ليقبل أن يكون موضوعا، فـ”الآخر” اختراع تريده “ذات” مّا، ومن ثمّة، هي تستعمله لـ”تعريف نفسها” بوصفها ما ليس هي، فينحطّ لحظتئذ من كائن فعلي إلى “صورة”  لا تملك أي دور وجودي، بل دورا أداتيا، لشيء – مقابل- يساعد الذّات على تمييز هويّتها فقط.[22]

بيد أنّه علينا أن ننتبه إلى أنّ “الآخر” ما يزال في عصر النّهضة غريبا وبعيدا لا يرقى إلى أن يكون موضع الغيريّة وعنوانا للاختلاف ومصدرا لحركة موجبة، وبالتّالي يغيب مفهوم “الآخر” بإطلاق من “التّأملات الميتافيزيقيّة”[23]، فقد أسّس “ديكارت لإسكات “الآخر” واستبعاده وجلّلت الذّات، فـ”ديكارت” لم يثبت  من خلال الكوجيتو سوى طبيعة “الأنا المفكّرة” فحكم بالتّالي على “الذّات” بالتّقوقع على ذاتها، وكان نفي “الآخر” من ساحة أي معرفة ممكنة. كذلك الأمر في “نقد العقل المحض”[24] لـ” كانط “، ذلك أنّ ميتافيزيقا الذّات الّتي تأسّس عليها مشروع الحداثة قد كانت في أوّل أمرها غير مهيأة للتّفكير في “الآخر” فغايتها كانت السّيادة والسّيطرة وتحويل كلّ الموجودات إلى مواضيع للمعرفة، ذلك أنّ الانتقال من الإنيّة إلى الغيريّة من أعسر الإعضالات الفلسفيّة. إلاّ أنّ مفهوم “الآخر” لم يكن ليصبح ضروريا إلّا عندما بدأت الذّات المتعاليّة تنقلب إلى مبدأ للتّاريخ الكوني، ولكن لابدّ عندئذ من التّصادم مع “الآخر” على نحو كلّي.[25]

إنّ أبحاث “سعيد” لم تأل جهدا من أجل إثبات أنّه وبعد خواء “الآخر” أصبح “الآخر” مركز عناية، ففكر التّنوير بدلا من الإحجام عنه، تهيبا منه، يعترف بالآخر واليوتوبيا الّتي كانت تسم فلسفة التّنوير من أهمّ الأشكال الّتي تبلورت بها الغيريّة في الأزمنة الحديثة. فقد شكّل التّساؤل عن “الذّات” انعطافة، نحو الاهتمام: من الآخر، الّذي هو نحن؟

لقد تأكّد للوعي لحظة تأسيس حداثته أنّه “لا يكون في ذاته ولذاته إلاّ عندما يكون وعيا في ذاته ولذاته لوعي آخر بالذّات”[26]. فـ” الغرب” إذن وإن ألقى بالا لـ”الآخر”، فلكي يتحدّث عن الصّيغ الّتي يمكن بمقتضاها إقحام الغير في هذا المشروع الأوروبي الخاصّ. إنّ فكر التّنوير يعترف بـ”الآخر” ليتمكّن من نفيه، إنّه اعتراف مكيد بـ”الآخر” مناطه، نفيه تماما، ذلك أنّ “الآخر” هو من يرى ما أرى، العالم لم يوجد إلّا لي، كذات، وينبغي أن أكون من خلال ذلك محورا للعالم.

******

[Platon,Sophiste,traduction et note par E.Chambry, Ed Granier Flammarion ;Paris1969    [1

فـ” الآخر” إنّما هو جنس من الأجناس، وما هو ذاته هو آخر بالنّسبة إلى غيره، ثمّ ماذا لوقلنا “إنّ اللاّوجود هو آخر بالنّسبة للوجود”، ألا يترتّب عن ذلك أنّ اللّاوجود نفسه يوجد؟ وإنّه داخل هذا الأفق بالتّحديد ستنشأ دعوة قويّة حاولت إثبات حقّ “الآخر” في التّمايز والاختلاف والاحتفاظ بكلّ ما جعله آخر.                               .

[2] محمّد الشّبخ: المثقّف والسّلطة دراسة في الفكر الفلسفيّ المعاصر، دار الطّليعة، بيروت، الطبعة أولى، ص73.

[3] إدوارد سعيد: السّلطة والسّياسة والثّقافة، تقديم غاوري فسواناثان، ترجمة: نائلة قلقيلي حجازي، دار الآداب، بيروت، ط1 / 2008، ص 288.

إدوارد سعيد، الثّقافة والامبرياليّة، ترجمة: كمال أبوديب، دار الآداب، بيروت، الطبعة الثّالثة، 2004.

[4] انظر ايضا، إدوارد سعيد، الاستشراق،، المعرفة، السّلطة، الإنشاء. ترجمة: كمال أبوديب، مؤسّسة الأبحاث العربيّة، بيروت، الطّبعة الثّالثة، 1991.

[5] إدوارد سعيد، تأمّلات حول المنفى 1، ترجمة: ثائر ديب، دار الآداب، بيروت، الطّبعة الأولى بالعربيّة، 2004 ص 271.

[6] انظر، إدوارد سعيد، المصدر، هو هو، ص 267.

[7] انظر، إدوارد سعيد، المصدر، هو هو، ص 276.

[8] انظر، إدوارد سعيد، المصدر هو هو، ص 117 .

[9] انظر إدوارد سعيد، المصدر هو هو، ص 117 .

[10] إدوارد سعيد، السّلطة والسّياسة والثّقافة، تقديم غاوري فسواناتان، ترجمة نائلة قلقيلي حجازي، دار الآداب،  بيروت  ط 1، 2008، ص 94.

[11] إدوارد سعيد، السّلطة والسّياسة والثّقافة، (المصدر هو هو) ص 94.

[12] إدوارد سعيد، الثّقافة والامبرياليّة، مصدر سبق ذكره، ص 70.

[13] إدوارد سعيد، السّلطة والسّياسة والثّقافة، مصدر سبق ذكره، 2008 ص 80.

[14] إدوارد سعيد، تأمّلات حول المنفى، مصدر سبق ذكره ، ص 267.

[15] ” أن تهاجر هوأن تسرد أن تتلافى العثرات أن تنعطف، أن تهاجر هو أن تلج الحركة، لا تلك الّتي تبعد عن مكان لقرب من آخر فحسب، بل تلك الّتي تحدّث في العقل والجسد داخل الرّمزي والخيالي، تحرّك أطياف الماضي لأوقات طويلة أحيانا، لأنّ ذلك الّذي بترت صلته بذلك الماضي أكثر تفكيرا فيه من ذلك الّذي ولد وعاش ومات في نفس المحيط المألوف المعهود”.

Seloua Luste Boulbina , la décolonisation des savoirs et ses théories voyageuses ,      Rue Descartes 2013/2- n78- p 19-33.

[16] إدوارد سعيد، السّلطة والسّياسة والثّقافة، مصدر سبق ذكره  ص 99.

[17] إدوارد سعيد، تأمّلات حول المنفى 1، مصدر سبق ذكره، ص 382.

“… ولعلّ ما يفسّر التّقارب بين “سعيد” و”فانون” إنما هوالوضع الّذي يشغلانه ضمن الجغرافيّة الكولونياليّة . وأمّا ما يفسر التّقارب بين “سعيد” و”أدرنو” فإنّما هوالمنفى الّذي عرفه كل منهما لأسباب سياسيّة .  يتشارك “سعيد” مع “فانون” و”أدرنو” تجربة الغير قابل للسكن” .

Seloua Luste Boulbina , la décolonisation des savoirs et ses théories voyageuses ,   Rue Descartes 2013/2- n78- p 19-33.

[18] إدوارد سعيد، السّلطة والسّياسة والثّقافة – في ظلال الغرب، مصدر سبق ذكره، ص 66.

[19] إدوارد سعيد، الاستشراق، المعرفة، السّلطة، الانشاء، مصدر سبق ذكره، ص 02.

[20] إدوارد سعيد، السّلطة والسّياسة والثّقافة، مصدر سبق ذكره، ص 51.

” يبدو لي أنّ من المفيد استذكار ما قاله ماركس بخصوص لويس نابليون – في الكراس الشهير حول انقلاب عام 1851 الّذي قام به الأخير / الثّامن عشر من برومير لويس بونابرت / حيث قال ماركس بسخريّة لاذعة في حديث عن ادّعاء لويس تمثيل الفلاحين الصغار المتخلّفين ” إنّهم لا يستطيعون تمثيل أنفسهم”.

المصدر هو هوص 58 / 59.

[21] فـ”أنت تعتقد لأنّهم يريدونك أن تعتقد (…) انظر إلى حياة –سنغور- تلقى تعليما وكأنه فرنسي، ثم أرسلوه إلى باريس، فقط عند وصوله إلى باريس أدرك أن بشرته سوداء، فكان فرنسيا أسود الوجه، لكنه لم يعد نفسه سنغاليا إلا لاحقا”

را، إدوارد سعيد، السّلطة والسّياسة والثّقافة، مصدر سبق ذكره، ص218.

[22] فتحي المسكيني: “الهويّة خارج المكان أو النّزعة الإنسانيّة في فكر إدوارد سعيد” في المجلّة العربيّة للثقافة السّنة 23 العدد 45 مارس 2004ص 284.

[23]ديكارت، التّأملات الميتافيزيقيّة، ترجمة كمال الحاج، منشورات عويدات، بيروت ط1، 1961 .

Descartes René , Méditations métaphysique , Paris , Garnier –Flammarion 1979 .

[24] كانط، نقد العقل المحض،  ترجمة موسى وهبة، مركز الإنماء القومي بيروت 1990 .

Kant .E. Critique de la raison pure , Paris , Gallimard , 1980

[25] المصدر ، هو هو، ص 284.

[Hegel , La phénoménologie de l’esprit, trad. J. Hyppolite, Paris Aubier-Montaigne 1941/t    [26

المصدر: https://www.alawan.org/2020/08/06/%d9%81%d9%83%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d9%87%d8%ac%d9%86%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%b9%d9%8a-%d8%a8%d8%a7%d9%84%d8%a2%d8%ae%d8%b1-%d8%ac1/

(2)

-في التّداخل بين الثّقافة والامبرياليّة ومطلب المقاومة والتّحرر:

  يشيح “سعيد” بوجهه عن ازدواجيّة المثقفين في المركز، “ويسلخ  بإيحاء مدهش عن عمالقة الفكر الغربي الإهاب المفتعل الّذي تلفعوا به ويكشف منظورهم الحاقد، المتعالي، اللاإنساني، المشبع بروح العنصريّة والتّفوقيّة “[1]  ليولي اهتمامه لنمط من الخطاب المهاجر، المضاد، والّذي يساهم من موقعه في زحزحة سرديات الغرب ومروياته عن “الآخر” فها هو ذا يوضح أن “اللافت في هذه الإنشاءات هو الصور المجازيّة الّتي يواجهها المرء باستمرار في أوصافها لـ “الشرق السّري”، إضافة إلى التّنميطات الّتي تخلقها لـ “العقل” الإفريقي أو الهندي … والمفاهيم الّتي تدور حول إيصال الحضارة إلى شعوب بدائيّة أو بربريّة والأفكار المألوفة إلى درجة الإزعاج حول اقتضاء الجلد بالسّياط أو الموت أو العقوبة المسرفة حين يسيئون “هم” السّلوك أو يتمردون، لأنـ”هم” في الأغلب يفهمون أفضل فهم لغة القوة والعنف، فـ “هم” ليسوا مثلـ”نا”، وهم لهذا السّبب يستحقون أن يحكموا ” [2] .

ولما استتب لـ”سعيد” التّحليل وظفر بالمعنى الأدق، طفق سريعا يلملم عناوين التّداخل بين الثّقافة والامبرياليّة، “فمعظم محترفي العلوم الإنسانيّة عاجزين عن أن يعقدوا الصلة بين الفظاظة المديدة الأثيمة لممارسات مثل الرّق والاضطهاد الاستعماري والعنصري والإخضاع الامبريالي من جهة، وبين الشعر والرّوايّة والفلسفة الّتي ينتجها المجتمع الّذي يقوم بمثل هذه الممارسات من جهة أخرى”[3] فقد استطاع أن يستشف خيطا ناظما لعلاقة تواطؤ مفترضة “المدهش في أولئك الكتّاب هو مخزون المعرفة والصور والأفكار الّتي يرسمون عليها والطريقة الّتي حاول كلّ منهم السّيطرة فيها على الشرق من خلال أدوات كاللوحة أو المختارات الأدبيّة … يتم تشغيل هذه الأدوات بدورها وفي الوقت ذاته من قبل مؤسسات دينيّة وتعليميّة ودبلوماسيّة مختلفة في الشرق ومن أجله “[4]، وينتبه إلى ما دفع الايطالي “فيردي” في” أوبرا عائدة ” إلى ماضي مصر الفرعونيّة تقفيا لأثار الغريب والعجيب، وبالتّالي يكون “فيردي” منسجما تماما مع الطروحات الثّقافويّة المهيمنة إبانئذ “إن مغناة فيردي المصريّة الشهيرة والّتي تظهر من جهة ما هي معجبة بصريّة وموسيقيّة ومسرحيّة لتؤدي الكثير من الأشياء العظيمة من أجل الثّقافة الأوربيّة ومنها تأكيد المشرق وتثبيته مكانا غرائبيا وقصيا وأثريا، بوسع الأروبيين أن يقيموا فيه استعراضات معينة للقوة “[5]

لقد تحول الاستشراق إلى نصوص تؤمّن تقليدا إمبرياليا وتبلور رؤيّة للعالم إمبرياليّة[6]، إنه أسلوب وإنشاء استطاعت وفقه الثّقافة الغربيّة تدبر الشرق، ومنعه من أن يجسد ذاته الّتي تخصه وترجمة غيريته في ضرب موجب من الانتماء إلى نفسه، إنها صورة مشرقنة عن الشرق، ذلك أن تلك الممارسة إنما كان هدفها الإلغاء. فـ “كونراد” مثلا “يكتب كرجل انحفرت فيه وجهة النّظر الغربيّة عن العالم غير الغربي حتى أعمته عن رؤيّة تواريخ أخرى وثقافات أخرى وتطلعات أخرى، إن كل ما يستطيع “كونراد” أن يراه هو عالم خاضع كليا للغرب الأطلسي، عالم لا تؤدي فيه أيّة معارضة للغرب إلا إلى تأكيد قوة هذا الغرب الخبيثة الماكرة “[7]

هاهنا يتجلى أن هاجس “سعيد”- من الإستشراق كأسلوب غريب للسيطرة وكقاعدة للمحاكمة والتّأديب، إلى “الثّقافة والامبرياليّة” – إنما هو تعرية ذلك التّآزر الخفي بين قوة المثقف ومؤسسات القوة وليكشف أنّها إنما هي علامات تنبئ عن أزمة براديغم الذات ومطب من مطبات الحداثة . فما يهم “سعيد” إنما هو الكشف عن الكيفيات الّتي حدثت بها العمليّة الامبرياليّة والتّرابط المدهش والمباشر بين الثّقافة والامبرياليّة والّذي يظهر بجلاء في إبداعات ثقافيّة وروائيّة وموسيقيّة، ويجلو “سعيد” على طول مساحة روائيّة – كان فيها مذهلا – تمتد من “جوزيف كونراد” إلى “كامو” مرورا بـ”كبلنغ” و”أوستن” و”فورستر” وحتى “إليوت”، العلاقة بين الرّواية والامبرياليّة[8]، حيث غدت الثّقافة الحامل الفعلي لمشروع امبريالي من جهة ما هو التّفكير في، والسّيطرة على أرض لا يملكها المرء، أرض نائيّة، يعيش عليها ويملكها آخرون . فـ”نحن الغربيين سنقرر من هو المواطن الأصلاني الجيّد ومن هو السّيّئ لأن الأصلانيين جميعهم لا يملكون وجودا كافيا إلا بفضل اعترافنا بهم، فنحن خلقناهم ونحن علّمناهم أن ينطقوا ويفكروا وحين يتمردون فإنهم يؤكدون سلامة رأينا بأنهم أطفال أغبياء استغفلهم بعض أسيادهم الغربيين ” [9]

لقد برع “سعيد” بحميميّة مذهلة في أن يجعل من العالم مسرحا لتأويلاته، بحثا عن الإنسان في شرطه الكلي – والفوارق بين المستويين ليست وافرة- برهان ذلك القراءة الطباقيّة الّتي تسعى إلى إفساح المجال لجميع الأصوات الّتي تنطوي عليها الظواهر والمنتجات الثّقافيّة الإنسانيّة بما فيها النّصوص الأدبيّة، حتى تفصح عن الرّؤى في تنوعها واختلافها، “حين نعود بالنّظر إلى سجلّ المحفوظات الامبريالي نأخذ بقراءته من جديد لا واحديا بل طباقيا بوعي متآين للتاريخ الحواضري الّذي يتمّ سرده ولتلك التّواريخ الأخرى الّتي يعمل ضدها – ومعها، أيضا، – الإنشاء المسيطر . في النّقطة الطباقيّة للموسيقى العريقة الغربيّة تتبارى وتتصادم موضوعات متنوعة إحداها مع الأخرى دون أن يكون لأي منها دور امتيازي إلا بصورة مشروطة مؤقتة ومع ذلك يكون في التّعدد النّغمي النّاتج تلاؤم ونظام”[10] واضح مما تقدم أن “سعيد” يبين على نحو ألمعي أن التّفسيرات السّائدة للثقافة والتّاريخ والفن إنما هي تفسيرات ذات بعد واحد، عدت دائما في ارتباط بالمركز، شريكة الامبرياليّة في مسعاها لتدمير” الآخر”. “القراءة الطباقيّة ينبغي أن تدخل في حسابها كلتا العمليتين، العمليّة الامبرياليّة وعمليّة المقاومة لها[11]، ويمكن أن يتم ذلك بتوسيع قراءتنا للنصوص لتشمل ما تم ذات يوم إقصاؤه بالقوة، وهو في رواية – الغريب مثلا – التّاريخ السّابق بأسره لاستعمار فرنسا وتدميرها للدولة الجزائريّة ثم الظهور اللاحق لجزائر مستقلة – اتخذ منها كامو موقف المعارض – ” [12]

فمن ذا الّذي ينكر إسهام أعمال “سعيد” في تشكيل مناخ فكري وتصوري أثر أيما تأثير في إعادة النّظر في قضايا التّراث والهويّة، فضمن تجربة الحوار يتأسس بيني وبين” الآخر” حقل مشترك، ذلك أن واقع النّقاش يستدعي مقاصدي ومقاصد المخاطب، فيندرجان في عمليّة لم يكن أحد منا ليبدعها، “نستطيع أن نقرأ ونؤوّل الرّوايات الانجليزيّة مثلا الّتي يتشكل تعالقها (المقموع عادة إلى درجة غالبة) مع، لنقل جزر الهند الغربيّة أو الهند، بل لعلّه أيضا يتحتّم ويتقرّر بالتّاريخ المحدّد للاستعمار والمقاومة وأخيرا القوميّة الأصلانيّة، عندئذ تنبثق سرديات بديلة أو جديدة، وتصبح ذواتا ممأسسة أو مستقرة إنشائيا ” [13] ففي إطار الحوار، أتحرر من ذاتي، لتتحقق طقوس الاعتراف المتبادل بين الأنا والآخر، اعتراف متبادل بين الذوات، فالاختلاف لا يحول دون التّفاهم، بل يخلق فضاءات تواصل وأرضيّة لقاء مشترك، يجعل منها إشكالا يدفع إلى  استئناف التّفكير. فـ “سعيد” مثلا يريد أن يدرس نقديا دلالات تاريخ الصهيونيّة، ليكشف ارتباطها بالمشروع الاستعماري الثّقافي لأوروبا، إلا أن ذلك لا يمكن أن يكون مدخلا لمعاداة السّاميّة[14].

لقد ندد “سعيد” مع مثقفين أمثال “درويش” بشدة فريدة، بالأطروحات المراجعة لحقيقة المحرقة النّازيّة، ووضح بتبصّر موحش أن معرفة “الآخر” لا تعني التّطبيع معه، وهوما ورد في رده على أولئك المثقفين العرب المفتونين بطروحات “غارودي” معتبرا أن هذا الاحتفاء بـ”غارودي” وتشجيع الطروحات القائلة بأن محرقة اليهود، إنما هي دعايّة صهيونيّة، تدفعنا حتما إلى التّساؤل عما يدفع الآخرين إلى الإحساس بمآسينا[15]، في حين نستهين بمآسيهم، وهو الإحساس بالمسؤوليّة الأخلاقيّة والّذي من شأنه أن يضفي شرعيّة أخلاقيّة وقانونيّة على مطالبنا[16].

وما يمكن استجلاءه، أن هذا التّأمل اللاذع والّذي ينسلك عمله في أفقه قد يجد نفسه بضرب من انقلاب الأوضاع في مواجهة اعتراضات ومزالق على قدر من الخطورة والحساسيّة: وليس أقل الأمارات على ذلك، الصراع بين مسلمة مفادها التّطلع إلى أفق إنساني وموقف كوني وفعل تحرري، في عصر الإمبراطوريّة من جهة ما هي ـ كيفيّة من كيفيات الوجود ـ قاسم مشترك والامبرياليّة إيديولوجيا.

وإنه من أجل أن نتبين أن صلتنا بالكوني قد أصابها منذ البدء خلل، ينبغي أن نوضح أن الأمر إنما يتعلق بتخليص وتحرير الذات من شوائب الهويات الماهويّة فـ “نحن ما نزال ورثة ذلك الأسلوب الّذي يتحدد المرء تبعا له بالأمة : الأمة الّتي تستقي هي بدورها، سلطتها من تراث يفترض إنه مستمر دونما انقطاع”[17]، وهوما يستلزم تفكيك ميتافيزيقا الهويّة، لأن “عهد الإخلاص للهويات القوميّة الأساسيّة والاهتمام بها انتهى”[18]  ذلك أن تعدد وتنوع الانتماءات في حياة “سعيد”، سبب قلقا زعزع علاقته بذاته، قلقا محرضا على الإبداع والتّسامح والانفتاح[19]، ولا يفوت “سعيد” أن يقرن قرنا حميما بين توجيهين، أحدهما إلى”الغرب” ومفاده : إنّ العالم إمبراطوريّة وليس أمة خاصة بالغربيين، وثانيهما إلى “الشرق” وجوهره: إنّ الهويّة مشروع تتخلله التّعدديّة أي نمط من الهجنة “إن جميع الثّقافات منشبكة إحداها في الأخريات، ليست بينها ثقافة منفردة ونقيّة محض، بل كلها مهجنّة، مولّدة، متخالطة، متمايزة إلى درجة فائقة، وغير واحديّة”[20]، إذ أدرك “سعيد” كيف يلاءم بين التّعدد والوحدة، ذلك أنه تعلم أبدا احترام حقوق “الآخر”، فقد أفاد من تأكيد الدراسات الأنثروبولوجيّة على مفهوم نسبيّة الثّقافة بوصفه المسرب للقبول بفكرة التّنوع. “بيد أن الانشغال العقائدي بالهويّة متشابك متعالق بمصالح وبرامج وأهداف لفئات عديدة، ليست كلها أقليات مضطهدة”[21] ومن ثمة كان التّأكيد لديه على أن الهويّة حاملة لدلالّتين متقابلتين: فهي من ناحية تحيل على التّطابق والوحدة والثّبات، ومن ناحيّة أخرى تحيل على الاختلاف والتّمايز والمغايرة، وهو شكل لاهووي في التّعامل مع الهويّة كسيرورة، وهي بهذا المعنى منفتحة وبالتّالي فمفهوم الهويّة مفهوم تاريخي. و”المعركة القائمة تدور بين دعاة الهويّة الواحديّة وأولئك الّذين يرون الكلّ كلا متشابها متشابكا معقدا لكنه ليس موحدا تقليصيا وتنطوي هذه الضّديّة على منظورين متباينين أحدهما خطي وإضوائي التّهامي والآخر طباقي وكثيرا ما يكون لا مستقرا قلقا رحّلا “[22]

ويذهب “سعيد” في التّوضيح أنه كثيرا ما نحدد هويتنا من خلال طبيعة علاقات القوة والخلافات، وأن مبدأ احترام حق الاختلاف لا يشمل كل سرديّة عنصريّة، تنهض على استبعاد “الآخر” كما يتجلى في الصهيونيّة[23]، ولا يعني التّصالح مع واقع الهيمنة، لذلك علينا دائما أن نعيد النّظر في معنى” الآخر” لحظة الحديث عن احترام حق الاختلاف.

من أجل ذلك يعود التّفلسف في كل مرة إلى المساهمة في استرداد معنى للكوني أصيل، وتلك هي فرصتنا الوحيدة، والرّهان هو هذا: كيف يمكننا أن نتدرب على مجاوزة التّصادم بين المشروع الإمبريالي والمشروع القومي[24]، أي بين نموذج الدولة – الأمة الّذي أنتج ظاهرة الاستعمار والحس الهووي، إرتعابا،  إلى استحداث كلي مشترك

وإنه في هذا المستوى بالذات يتأتى لنا إمكان تأكيد مفاده أن إقحام التّفكير في الكوني في كل مرة، يصطدم بصراع حاد بين طموحات المثقف الامبريالي وطروحات المثقف الإمبراطوري، فـ”نحن كونيون في قيمنا الثّقافيّة، أو ندّعي أننا كذلك، لكننا في الحقيقة نمارس المركزيّة الثّقافيّة إلى حدّ العيب “[25] إنه ما يستوجب اشتغالا على الذات دؤوب، فوجود الإنسان في العالم لا يكون إلا مع الآخرين، وفق ألوان من السّرد، متنوعة، تفصح عن أصوات إنسانيّة، غير أن هذه المعيّة لا تخلو من مفارقة: ففي الوقت الّذي ينظر فيه إلى عصرنا على أنه الإعلان الفعلي عن ولادة الفرد في نطاق مجتمعات موسومة بالتّنوع، تعترف بحريّة الأفراد وتأصيل هوياتهم، يكشف الواقع عن صورة مغايرة لهذه المجتمعات الّتي أضحت أحاديّة، تفرض فيها، أنماط تفكير وإحساس وسلوك، ولأن “سعيد” اختار وضعيّة المثقف المقاوم أصبح مزعجا وخارجا عن الطريقة الّتي سلكها “الغرب” لترتيب العالم، إنها  وضعيّة المثقف ما بعد امبريالي وما بعد قومي[26].

إن الانتباه الفاحص يثبت أن الحدث الإنساني والفعل الحواري لا ينكشفان إلا في فضاء التّفاعل بين ذوات يؤلف بينها اختلافها، بيد أن هذا التّصور ليس يتوضح على حقيقته، إلا إذا أبصرنا به في ضوء اختلاف الثّقافات[27]، مؤشر تبادل وباعثا على التّفاهم والتّعايش، هكذا يكون الرّهان شديدا، على أن الهويّة[28] لاهي امبرياليّة ولاهي قوميّة بل ضرب من الهجنة، الغجريّة ، المشوبة، والغير نقيّة : إنها لحظة استشرافيّة إليها ينتسب كلّ منتم إلى  العالم ما بعد الحديث، إنها هويّة بلا مركز، هويّة لا تكون إلا فعلا في الوجود مستمرّا، وفعلا مقاوما.

خاتمة:                            

هكذا إذن يمكننا أن نستدل على التّقاطع الحاصل بين منطق الهويّة ومطلب الكلي من خلال البحث عن هويّة مهجنة، ففكر الهجنة إنما هو ضرب من ضروب المجاوزة للانغلاق الّذي ينهض عليه الفكر الهووي، نتاجا لحركات تثاقف إنساني ونمط من الفضاء الحر، عنوانه التّأسيس لهويّة عالميّة تقوم على التّنوع.

إلا أنه حقيق علينا أن نوضح أن الدعوة إلى الكونيّة لم تكن منتهى ينتهي إلى حكمه المختلفون، فلئن كانت مغريّة فإن أمارات حضورها إنما كانت على الدوام السّيطرة والهيمنة والاستحواذ. وها هو ذا “سعيد” يجد في ذلك منطلقا متينا ارتأى فيه تهديدا مريعا بالاغتراب الثّقافي، ذلك أن المطلوب إنما هو تنبيه الجميع للأسباب العميقة الّتي أدت إلى العلاقة المضطربة والمشوشة بين المهيمن والمنضوي وبين المتون والحواشي[29]، وأيضا إلى المركزيّة الثّقافيّة المسببة للعمى والغرور.

كما أشار إلى عدم الوقوع في النّزوع المضاد، نحو تمجيد مثاليّة الأجنبي، بشكل ساذج وعاطفي تحقيرا للهويّة، فالبعض يحتقرون بشكل محزن إرثهم. إلا أن الكراهيّة ونسيان الجذور لا تثمر شيئا، ذلك أن المقاومة ليست دفاعا عن قوميّة بعينها[30]، وإنما هي نقد كوني لرؤيّة للعالم من خلال تحريك الهوامش، وبالتّالي أهميّة الحفاوة بجميع أطراف اللقاء الإنساني.

******

 [1] إدوارد سعيد، الثّقافة والامبرياليّة، مصدر سبق ذكره، ص 14.

[2] إدوارد سعيد، الثّقافة والامبرياليّة ، المصدر هوهو، ص 57.

[3] إدوارد سعيد، الثّقافة والامبرياليّة،  المصدر هوهو، ص 59.

[4] إدوارد سعيد، السّلطة والسّياسة والثّقافة، مصدر سبق ذكره،  ص 62.

[5] إدوارد سعيد، الثّقافة والامبرياليّة،  مصدر سبق ذكره، ص177.

[6] في سؤال له عن أقرب كتبه لـ الثّقافة والامبرياليّة، يقول “سعيد” – ” أعتقد أنه “الاستشراق” لأني أعد الكتاب الحالي – الثّقافة والامبرياليّة- جزءا ثانيا لـ “الاستشراق” بدأت كتابته فور صدور الاستشراق وبعدما ظهرت ردود الفعل الأوليّة عليه على شكل مراجعات، اعتقدت آنذاك أني أريد كتابة عمل يتطرق إلى بعض القضايا المطروحة في “الاستشراق” .

را، إدوارد سعيد، السّلطة والسّياسة والثّقافة، مصدر سبق ذكره، 207.

“والامبرياليّة تعني التّفكير بـ واستبطان والسّيطرة على أرض لا يملكها المرء، أرض نائيّة، يعيش عليها ويملكها آخرون ولأسباب شتى فإنها – الامبراطوريّة – تجذب بعض البشر وكثيرا ما تعني بؤسا لا يوصف لآخرين “.

را، ادوارد سعيد، الثّقافة والامبرياليّة،مصدر سبق ذكره، ص 78.

[7] ادوارد سعيد، الثّقافة والامبرياليّة، المصدر هوهو، ص 63.

صدرت رواية “الطيب صالح”، “موسم الهجرة إلى الشمال”، في نهايّة السّتينات، وهي عبارة عن ردّة فعل واعيّة على روايّة “كونراد”، “قلب الظلام” وردّ عليها . ليست قصة رجل أبيض يأتي إلى إفريقيا بل قصة رجل أسود يذهب إلى أروبا . والنّتيجة هي ردّة فعل على “كونراد” على مستوى ما، بالطبع بكلمات أخرى، إنها قصة ما بعد كولونياليّة عمّا يحدث عندما يذهب رجل أسود إلى لندن ويحدث فوضى بين مجموعة بأكملها من النّساء الإنكليزيات، إنها خرافة ذات مغزى جنسي نوعا ما، لكنك إذا نظرت إليها بشكل أعمق فستجد أنها لا تحتوي فقط على تاريخ دحر الاستعمار وردّة الفعل على الإمبرياليّة الغربيّة، بل وتعمّق – في رأيي – المأساة أيضا من خلال كشفها عن ردّة فعل ذلك الرّجل الانتقاميّة . الّتي تمثل بالنّسبة إلى قراء كثيرين في العالم الثّالث وفي العالمين العربي والإفريقي انتقاما عادلا، لكن “صالح” يكتبها بطريقة منعشة لأنه – أي الانتقام – بلا جدوى ومثير للشفقة ومأساوي في النّهايّة، لأنه يعزز دائرة العزلة كنقص في سياسة الهويّة.

را، إدوارد سعيد، السّلطة والسّياسة والثّقافة، مصدر سبق ذكره، ص 124.

[8] الرّوايّة الانجليزيّة الأولى ذات الشأن هي – روبنسون كروزو- ولا يمكن فهم – روبنسون كروزو- من دون فهم مطالب الإمبرياليّة . غادر انجلترا، غرقت سفينته، وجد نفسه على جزيرة، وبعد مرور أيام فقط، وحوالي مئتي صفحة في الكتاب يصبح سيّد كل ما تطأه قدمه، ثم يكتشف أن ما فعلته هذه الجزيرة بالنّسبة إليه، هوأنها سمحت له بخلق عالمه الخاص . بكلمات أخرى، الإمبرياليّة على هذا المستوى مرتبطة بنوع محدّد من الإبداع . في ما بعد، في نهايّة القرن التّاسع عشر قال جون سيلي إن جوهر انجلترا، جوهر الثّقافة الانجليزيّة والهويّة الانجليزيّة، هو التّوسع.

را، إدوارد سعيد، السّلطة والسّياسة والثّقافة، مصدر سبق ذكره، ص 266.

[9] إدوارد سعيد، الثّقافة والامبرياليّة، مصدر سبق ذكره، ص 63.

“ولذلك فإنه ليس من المفارقة الضّديّة في شيء أن “كونراد” كان في وقت واحد مناهضا للامبرياليّة وامبرياليا : تقدميا حين كان الأمر يتعلق بصياغة فساد السّيطرة على ما وراء البحار – ذلك الفساد المؤكد لنفسه المخادع لذاته – صياغة بالغة الشجاعة ومتشائمة . ورجعيا بعمق حين تعلق الأمر بالتّسليم بأن إفريقيا وأمريكا الجنوبيّة كان لهما في أيّ زمن تاريخ وثقافة مستقلان قام الامبرياليون بخلخلتهما بعنف غير أنهم في نهايّة المطاف انهزموا أمامها”.

را، إدوارد سعيد، الثّقافة والامبرياليّة، المصدر هوهو، ص 63.

 [10] إدوارد سعيد، الثّقافة والامبرياليّة، المصدر هوهو، ص 20.

[11] “في – الثّقافة والإمبرياليّة -، اهتممت ليس فقط بالحديث عن ظهور الإمبرياليّة بل وعن مقاومتها وعن حقيقة أنه من الممكن دحرها، وأنّ ذلك حدث فعلا نتيجة للمقاومة والقوميّة وانتهاء الاستعمار “.

را، إدوارد سعيد، السّلطة والسّياسة والثّقافة، (مصدر سبق ذكره)، ص 294.

[12] إدوارد سعيد، الثّقافة والامبرياليّة، مصدر سبق ذكره، ص 21.

[13] إدوارد سعيد، الثّقافة والامبرياليّة، المصدر هوهو، ص 20.

[14] بالنّسبة لـ، “سعيد” فكرة الدولتين المنفصلتين المتفاوتتين ما هي إلا صورة زائفة للعدالة ولما كان يظن أن ليبراليّة وتجربة اجتماعيّة عظيمة، وبالتّالي يشير إلى إمكان إقامة دولة ديمقراطيّة يهوديّة – فلسطينيّة  بدلا من فكرة التّقسيم .

انظر ادوارد سعيد، السّلطة والسّياسة والثّقافة، مصدر سبق ذكره، ص 96.

 لا اتساق في هذا الصراع: ثمة طرف مذنب وثمة ضحيّة: الفلسطينيون هم الضّحيّة

[15] را، إدوارد سعيد، السّلطة والسّياسة والثّقافة، مصدر سبق ذكره، ص 484.

” أذكر أني شاركت عام 1988 في مؤتمر نظم تحت رعايّة المجلة اليهوديّة “تيكون” وشارك فيه أيضا الفيلسوف اليهودي “مايكل والتّزر” وهومن خصومي اللدودين، إنه رجل من اليسار كما يفترض، لكنه صهيوني متزمت إلى أقصى الحدود،، قال لي حينها : ” كفاك حديثا عن الماضي” فهم يقولون إني أركز أكثر من اللازم على الظلم الّذي تعرض له الفلسطينيون، وكان 99 بالمئة من الجمهور يومها من اليهود، عندما قال ذلك، فتحت فمي لكنّي لم أقل شيئا، لأن امرأة من الجمهور – لن أنسى ذلك أبدا مدى الحياة – : وقفت وبدأت تهاجم “والتّزر” بشراسة : قالتّ ” كيف تجرؤ على قول ذلك لفلسطيني ؟ كيف تجرؤ على قول ذلك لأي كان ؟ فنحن أكثر من يطالب العالم بتذكّر ماضينا وأنت تقول لفلسطيني أن ينسى ماضيه ؟ كيف تجرؤ على ذلك ؟  كان أمرا استثنائيا ولم ينبس بعدها ببنت شفة ”

[16] را، إدوارد سعيد، السّلطة والسّياسة والثّقافة، مصدر سبق ذكره،  ص 458.

[17] إدوارد سعيد، الثّقافة والإمبرياليّة، مصدر سبق ذكره، ص 23.

[18] إدوارد سعيد، السّلطة والسّياسة والثّقافة، مصدر سبق ذكره، ص 128.

“لست لاجئا – فلمصطلح لاجئ معنى محدد جدا بالنّسبة إليّ : أي سوء الوضع الصحي، البؤس الاجتماعي، الخسارة والطرد من الوطن – لا ينطبق ذلك عليّ، لكني أشعر أنّ لا مكان لديّ : أنا معزول عن أصولي : أعيش في المنفى : أنا منفـــــــــــي .وعدم القدرة على العودة شعور قوي يساورني : أستطيع وصف حياتي كسلسلة من الرّحيل والعودة : لكن الرّحيل يكون قلقّا على الدوام والعودة غير مؤكدة على الدوام : يمكن القول إنّي اخترعت نفسي : والنّاس يصنعون تاريخهم بأنفسهم.

[19] را،  إدوارد سعيد، السّلطة والسّياسة والثّقافة، مصدر سبق ذكره، ص494.

[20] إدوارد سعيد، الثّقافة والإمبرياليّة، مصدر سبق ذكره، ص 25.

ولقد وضح “فرويد” إلى أن هويّة اليهود مركبة وليست نقيّة خالصة، بل ذهب إلى أن موسى وهومن هو، لم يكن يهوديا، بل إنما كان مصريا، أي من أولئك الّذين ما لبثوا أن أصبحوا اليهود الّذين قام موسى فيما بعد على ما يبدوبإيجادهم بوصفهم شعبه هو”.

را، إدوارد سعيد، فرويد وغير الأروبيين، دار الآداب، بيروت، 2004،  ص 51.

 [21] إدوارد سعيد، الثّقافة والإمبرياليّة،المصدر هوهو، ص 25.

[22] إدوارد سعيد، الثّقافة والإمبرياليّة،  مصدر سبق ذكره، ص 24.

[23] ولطالما كان للصهيونيّة ضحايا، إقامة دولة إسرائيل كانت عبارة عن كارثة، إنه صراع مآس، من جهة جاءت إلى فلسطـين بقايا الشعب اليهودي الّذي تعرض في أروبا إلى مذابح على أيدي المعادين الغربيين للساميّة، وكان جزء منهم قد جاء قبل الحرب العالميّة الثّانيّة، لكن وضع النّاجين ودولتهم وإقامة دولتهم، كانت على دمار مجتمعنا (…) إنه صراع بين أناس جاؤوا كضحايا، وأنتجوا بدورهم ضحيّة أخرى، أنتجونا نحن، تحن ضحايا الضّحايا .

را، إدوارد سعيد، السّلطة والسّياسة والثّقافة، مصدر سبق ذكره، ص 276.

[24] يقول سعيد ” … بوسعك أن تصالح التّواريخ – دون أن تختزلها – لهذا السّبب، المنهج الطباقي، على سبيل  المثال مثير جدا للاهتمام، بإمكانك أن تصالح تاريخ المستعمرين وتاريخ المستعمرين دون أن تحاول أن تكون حياديا، لأن هناك دائما مسألة العدالة . ما فعله المستعمرون كان ظلما بكل بساطة، وأنا بالتّأكيد لا أريد أن أفقد قوة ذلك، لكن من جهة أخرى، لا يعني ذلك أن من حق المستعمرين أن ينزلوا ظلما جديدا بضحايا جدد .”

را، إدوارد سعيد، السّلطة والسّياسة والثّقافة، مصدر سبق ذكره، ص 228.

[25] إدوارد سعيد، السّلطة والسّياسة والثّقافة، المصدر هوهو،  ص 47.

[26] البديل الآخر هوأن لا نستبدل قاعدة بأخرى، أي ألا ننحاز إلى السّود حيث كنا منحازين إلى البيض … بل أن نقول : دعونا نحاول فهم هيكليّة القاعدة والأهداف الّتي تخدمها (…) يبدولي أن تاريخ الإمبرياليّة وتاريخ الكولونياليّة هوتاريخ القمع الّذي عاشه السّود، الفلسطينيون (…) أي أنه تاريخ الفصل والتّمييز العنصري، أسوأ الأمور أخلاقيا وسياسيا هوالسّماح للانفصاليّة بالاستمرار، دون فهم نقيض الفصل وهوالتّرابط.

را، إدوارد سعيد، السّلطة والسّياسة والثّقافة، مصدر سبق ذكره، ص 286.

يجب علينا أن نحتفل بهامشيّة المتجوّل المنفي، هناك نوع من الوجود الخاص بالمنفي الّذي يفترض تخطّي العقبات وعبور الحدود والتّأقلم مع الثّقافات المختلفة، ليس من أجل الانتماء إليها بقدر ما هومن أجل فهم نقاط ارتكاز تجربتها والتّواءاتها. “جنيه” هونقيض “كامو” في الجزائر، فـ “جنيه” كان الرّجل الّذي استطاع أن يكون أكبر من هويته الفرنسيّة، استطاع أن يتماثل في (السّواتر) مع الجزائريين ومع الفلسطينيين في (الأسير العاشق)، كتابه الأخير والّذي يعدّه بعضهم كتابه الأهم. كان ذلك نفيّا مدهشّا للذات وعودة إلى وطن شخص آخر .

[27] را، إدوارد سعيد، السّلطة والسّياسة والثّقافة، مصدر سبق ذكره، ص 364 .

 “… مبدأ الهويّة وهومبدأ سكوني أساسا يشكل لباب الفكر الثّقافي خلال العهد الامبريالي، إن الفكرة الوحيدة الّتي لم يكد يمسها التّغير إطلاقا عبر التّبادلات الّتي بدأت بانتظام (…) بين الأروبيين و”آخريهم” هي أن ثمة شيئا “جوهرانيا” هو”نحن” وشيئا هو”هم” وكل منهما مستقر تماما، جلي مبيّن لذاته وشاهدّ على ذاته بشكل حصين منيع “.

[28] إدوارد سعيد، الثّقافة والإمبرياليّة، مصدر سبق ذكره، ص 23.

“فإذا كان من المناسب أن نلتفت إلى الفصول الأولى المعنيّة بالعنف في – معذبوالأرض- إلا أنّ من الضّروري ملاحظة أنه في الفصول التّاليّة يتّخذ موقفا نقديا حادا حيال ما يدعوه شراك الوعي القومي، وإنه قد تعمّد بوضوح هذه المفارقة، والسّبب في ذلك هوأنه في الوقت الّذي تمثل القوميّة فيه حافزا ضروريا للثورة ضد المستعمر، فإن على الوعي القومي ما إن يتمّ انسحاب المستعمر، أن يتحوّل مباشرة إلى ما يدعوه –فانون- بـ الوعي الاجتماعي “.

[29] را، إدوارد سعيد، تأملات حول المنفى 1، مصدر سبق ذكره ص 217.

 “من المهم أن نلاحظ أن قدرا كبيرا من المقاومة الثّقافيّة الباكرة للإمبرياليّة والّتي قامت عليها القوميّة وحركات الاستقلال قد كان صحيا وضروريا وإنني لأراه في جوهره بمثابة محاولة من طرف الشعب المقهور الرّازح تحت نير العبوديّة والكولونياليّة والضّياع الرّوحي “.

[30] را، إدوارد سعيد، تأملات حول المنفى 1، المصدر هوهو، ص 217.

المصدر: https://www.alawan.org/2020/08/15/%d9%81%d9%83%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d9%87%d8%ac%d9%86%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%b9%d9%8a-%d8%a8%d8%a7%d9%84%d8%a2%d8%ae%d8%b1-%d8%a3%d9%88-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%b1%d8%af%d9%8a%d9%91%d8%a7%d8%aa/

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك