عن الماضي والاكتمال والتدرج أو لماذا ليست العربية لغة جهية

عبد القادر الفاسي الفهري

 

أريد أن أقوم ببناء استدلال بسيط لأؤكد أن النظام الزمني العربي مبني على الماضي أساسا. وهذه النتيجة قد تبدو بسيطة, بل تافهة, ولكن الأمر ليس كذلك, وخصوصا إذا نظرنا إلى كثير من الأدبيات الغربية, التي عدت اللغة العربية لغة جهية. ومن الأخطاء الاصطلاحية التي أشاعها Wright أو Caspari, من بين آخرين, مصطلح imperfective للدلالة على صيغة المضارع. وهناك من يتحدث عن imperfect, وهو شيء مختلف, ولكنه غير صالح كذلك.

 

إذا نظرنا في كتاب Issues (انظر الفاسي 1991-1993), نجده يركز على معالجة إشكالين أساسيين يتعلقان بالزمن والجهة, وهيكلتهما. هذان الإشكالان هما من جهة إشكال الإحالة الزمنية Tense reférence, ومن جهة أخرى إشكال الزمن كعنصر علاقي, معارضة مع الجهة Aspect. فمسألة الإحالة الزمنية تثير إشكالات كثيرة ومعقدة, أساسها معرفة متى يمكن تحليل الأزمان على أساس أنها ضمائر pronoms, أو عوائد anaphores, أو عبارات محيلة référentiel expressions, بحسب طرق إغلاق أو إشباع  دلالاتها و/أو إحالاتها. ويمكن أن يدرج ضمن هذا الباب ما يتعلق بالزمن النسبي relative tense, أو الزمن الإحالي، أو الإشاري deictic، أو ما يتعلق بالتأويل الزمني فيما دعي بـ Sequence of tense phenomena (SOT), أي ظاهرة توالي الأزمان, أو تأويل الزمن في حيز الوجه أو الموجه modal, أو ما دعي بالزمن الحكائي narrative tense, الخ. فهذه الإشكالات وغيرها تتعلق بما يمكن من إرساء أو ربط الزمن tense anchoring, سياقيا أو مقاميا, وتحديد إحالته(1). ولا بد أن يكون هناك علاقة بين الزمن الصرفي (الوارد في الفعل), باعتباره معلومة معجمية, وبين ما يؤول إليه في السياق أو المقام. وعلى كل, يمكن إقامة تواز بين بنية الزمن وبنية الحد déterminer, بالنظر إلى الأبعاد المعجمية والعلاقية/الحملية والإحالية. وقد بينا في Issues أن النظام الزمني العربي (في الفعل) مبني أساسا على زمن موسوم واحد هو الماضي, يعبر عن علاقة زمنية محددة هي القبلية anteriority. وأما الزمن غير الموسوم, فيأتي في صيغة المضارع, وهو غير قبلي. وقد افترضنا هناك (بناءا على التصورات السائدة آنذاك) أن الجهة غير علاقية, وإن كان هذا التصور يمكن إعادة النظر فيه بالنظر إلى الجوانب العلاقية للجهة(2). والجهة, كما بينا إما معجمية, ترتبط بجهة الأوضاع situation aspect, وإما نحوية grammatical aspect (أسميناها أيضا بجهة البناء), وهذا بقطع النظر عن تأليفية جهة الوضع compositionality داخل التركيب. فالفصل بين جهة الوضع وجهة البناء هو فصل بين المعجمي, من جهة, والوظيفي, من جهة أخرى. وسيتبين من هذه الورقة أن المتدرج progressive, الذي يمثل ضربا من التمام imperfectivity, وكذلك المكتمل perfect, وغيرهما من المفاهيم التي ضمنت ضمن الأنظمة الجهية, لا يوجد لها مقابل مباشر في النظام الزمني العربي(3). وما سنقترحه امتداد لما ورد في Issues, وإن كان يطور ذلك الإطار في عدة جوانب.

 

1 – الحاضر والتدرج:

 

أريد أن أقوم ببناء استدلال بسيط لأؤكد أن النظام الزمني العربي مبني على الماضي أساسا. وهذه النتيجة قد تبدو بسيطة, بل تافهة, ولكن الأمر ليس كذلك, وخصوصا إذا نظرنا إلى كثير من الأدبيات الغربية, التي عدت اللغة العربية لغة جهية. ومن الأخطاء الاصطلاحية التي أشاعها Wright أو Caspari, من بين آخرين, مصطلح imperfective للدلالة على صيغة المضارع. وهناك من يتحدث عن imperfect, وهو شيء مختلف, ولكنه غير صالح كذلك.

 

وفي Issues محاولة لتحديد محتوى صيغة المضارع, معارضة مع صيغة الماضي, أو اسم الفاعل, واعتمادا على منظورية الفعل الرابطة "كان". وإذا نظرنا إلى عموم اللغات, والكيفية التي تعبر بها عن الحاضر, نجدها تنقسم إلى قسمين: (أ) قسم يوظف صيغتين صرفيتين للدلالة على الحاضر, بحسب جهة الوضع (هل هي حالة state, أم غير حالة), وقسم لا يقوم بهذا الشطر, بل يعبر بصيغة واحدة عن الحالة والتدرج. ويتضح هذا التصنيف بالنظر إلى الأمثلة (1) – (3):

 

(1)أ ـ John knows the answer

 

  ب ـ John is eating the apple

 

(2)أ ـ الرجل يعرف الجواب

 

  ب ـ الرجل يأكل التفاحة

 

(3)أ ـ Jean connaît la réponse

 

  ب ـ Jean mange la pomme

 

فإذا قارنا العربية بالإنجليزية نجد الثانية, خلافا للأولى, تفرق بين الحالة وغير الحالة. فالأفعال التي تدل على الحالات, كما في (1 أ), يمكن أن تدل على الحاضر بصيغة الفعل البسيطة. لكن إذا أردنا الحاضر من فعل غير حالة, يجب استعمال صيغة التدرج المركبة فنقول: John is eating the appel, ولا يمكن أن نقول John eats the apple. والعربية لا تقوم بهذا الشطر, بل تستعمل صيغة المضارع/الحاضر البسيطة في الحالتين. ونجد الفرنسية تماثل العربية فيما يخص الدلالة على الحاضر. فليس هناك شطر إلى ما هو حالة وما ليس حالة.

 

هذا الشطر أساسي في التصنيف, ونجد ما يلازمه بالنسبة لمنظورية الفعل الرابطة. فالرابطة في اللغة العربية لا تظهر في الدلالة على مجرد الحالة الحاضرة, وإنما تظهر في مواقع أخرى فقط. والذي يدل على هذا أن جملة مثل (4 أ) مثلا, تدل على الحالة الحاضرة بدون رابطة, ولا يمكن أن تعوضها الجملة (4 ب)(4):

 

(4)أ ـ الرجل في الدار (الآن/*غدا/*أمس)

 

  ب ـ * الرجل يكون في الدار

 

فالجملة (4 ب) ليست لاحنة مطلقا, بل لها تأويل غير تأويل الحاضر, وهو تأويل اعتيادي  habituel  أو غيره, يسوغ ظهور الرابطة(5).

 

وهناك رائز آخر يثبت وجود هذا الشطر, وهو توظيف صيغة المتدرج, في اللغات التي تتوفر لها هذه الصيغة. فحينما نقول في الإنجليزية جملة مثل(5).

 

(5) John is knowing the answer??

 

فإن هذه الجملة, حينما تكون مقبولة, تعني أن جون بصدد معرفة الجواب, وليس أنه عرف الجواب. لكن حينما نقول في العربية جملة مثل (2 أ), فإنها لا تفيد هذا التدرج, ولا تعني أنه بصدد معرفة الجواب, وإنما أنه يعرف, بل عرف الجواب. إذن هناك حالة قارة, وهي التي تؤدي إلى تأويل الماضي.

 

وهناك ملاحظات أخرى بصدد الفعل الرابطة العربي تؤكد أنه لا يفيد الحاضر, كما هو واضح في (6) و(7):

 

(6) أكون ألعب

 

(7) أكون دخلت

 

فـ "أكون" لا تفيد الحاضر. وهذا يعني أن هذه الجمل لا يوجد فيها ما يقابل perfect أو présent perfect (أي المكتمل), عن طريق الفعل الرابطة الحاضر. فـ (6) و(7) لا تقابلهما (6 أ) و(7 أ) في الإنجليزية, بل إن ما يقابلهما هو (6 ب) و(7 ب)(6):

 

(6) أ ـ I am playing

 

(7) أ ـ I have entered

 

(6) ب ـ I will be playing

 

(7) ب ـ I will have entered

 

وإذا نظرنا إلى الفرنسية, لا يمكن أن نترجم (7ج) بـ (7 د)

 

(7) ج ـ أكون مستعدا

 

    د ـ Je suis prêt

 

فمعنى (7 ج) هو سأكون مستعدا. فرائز الفعل الرابطة يبين أن الحاضر الحالة لا يعبر عنه بصيغة المضارع, بخلاف ما هو عليه الشأن في الفرنسية أو الإنجليزية. وبناءا عليه, يمكن أن نصنف اللغات صنفين, بحسب ظهور الرابطة فيها في الحاضر البسيط, أو دخولها في تأويل المكتمل الحاضر. فالعربية تتسم بعدم منظورية الرابطة في هذا التأويل الحاضر البسيط. وأما الفرق بين الفرنسية والإنجليزية, فهو أن هذه الأخيرة يرتبط الحاضر البسيط فيها بالدلالة على الحالة. وإذا افترضنا أن التدرج هو أيضا حالة, وأن is eating, كما افترض البعض, هو ضرب من اسم فاعل مثل "آكل" في العربية, فهناك إذن حالة للدلالة على الحاضر, والإنجليزية تضطر إلى تحويل الحدث إلى حالة للدلالة على الحاضر(7). وهناك لغات لا تضطر إلى هذا التحويل, مثل الفرنسية والعربية. ومن هذا الجانب, يمكن اعتبار اللغة الإنجليزية موسومة marked, لأنها توظف صرفية خاصة لنقل الفعل إلى حالة للدلالة على الحاضر. ثم إن الطبيعة الموسومة للإنجليزية تتجلى في كونها تتوفر لها صرفة للتدرج (و/أو الحاضر), مما يجعل(5) تأخذ تأويل التدرج.

 

وإذا عدنا إلى العربية, فإن معنى التدرج لا يستخلص فيها من صرفة جهية/زمنية خاصة, بل فقط من جهة الوضع الممعجمة في جذر الفعل. فحينما نقول(8):

 

(8) كان الولد يأكل

 

فإن معنى التدرج يستفاد فقط من معنى الحاضر, شريطة أن تكون جهة وضع الفعل غير حالة (أو حدثا). وفي نفس الاتجاه, وكما حاولت أن أبين في Issues, فإن الزمن المركب زمن مزدوج, وليس زمنا وجهة, كما اقترح البعض, علاوة على أنه ليس هناك نظام جهي في اللغة العربية, خلافا لما يقال. فمن الغريب أن نتحدث عن لغة جهية, وهي لغة لا توجد فيها صرفة دالة على التدرج, ولا صرفة دالة على الاكتمال, كما بينت أعلاه.

 

2 – الماضي والاكتمال:

 

معلوم أن اللغة العربية لا تفرق بين أنواع الماضي الموجودة في لغات أخرى, على مستوى صرفة الفعل. فهناك مثلا الماضي البسيط simple past, في مقابل الماضي التدريجي past progressive أو imparfait. وهناك passé composé في مقابل passé simple. ونمثل لبعض هذه الفروق بالتراكيب التالية من الفرنسية:

 

(9)أ ـ J’ai su la réponse

 

 ب ـ Je sus la réponse

 

(10) Je savais la réponse

 

فالماضي في هذه الأمثلة يختلف بحسب كونه ذا امتداد أو ورود في الحاضر relevance, أو هو لحظي punctual, أو تدرجي progressive.

 

ولا تفرق العربية في الماضي بين هذه الدلالات. ومن هذا المنظور، يمكن اعتبار الماضي العربي عاما generic. وأحد الروائز التي تدل على أن الماضي (في العربية) زمن كونه لا يرتبط بالجهة. فالرائز هو أنه لا يفرق بين الحالة وغير الحالة. وهذا يصدق على الإنجليزية. وقد رأينا أن العربية والفرنسية ليس فيها تفريق حتى في صيغة المضارع/الحاضر, وإن كان التأويل مختلفا بحسب جهة الوضع. ننتظر إذن أن يبلور هذا الفرق في اللغات. وننتظر كذلك أن يسلك الماضي في اللغة العربية سلوكا مغايرا لسلوك المضارع, لأن هناك فرقا بين الماضي والمضارع. فالتأويل في صورة المضارع يخضع للجهة, لأنه زمن غير موسوم. وجهة الوضع هي التي تحدد التأويل الزمني. وأما الماضي, فلا تحدد فيه جهة الوضع التأويل الزمني. فالفرق في التأويل الموجود بين (11) و(12) ليس له ما يوازيه في صيغة الماضي:

 

(11) أ ـ أعرف الجواب

 

   ب* ـ أعرف الجواب غدا

 

(12) أ ـ آكل الدجاجة

 

   ب ـ آكل الدجاجة غدا

 

وهذا الفرق لا يتعلق في الحقيقة بصيغة فعل المضارع وحدها, بل نجده أيضا مع صيغة اسم الفاعل, مما يعني أن المشكل ليس مشكل صرفة زمنية في الفعل المضارع, وإنما هو مشكل زمن غير موسوم توجهه الجهة(8). وهذا ليس صحيحا بالنسبة للماضي. فالماضي أساسا صيغة لا يمكن أن ترد مع بعض الظروف كظرف المستقبل مثلا. فلا يمكن أن نقول (13 أ), بل نقول فقط (13 ب), مع فعل للحالة مثلا:

 

(13 أ ـ * عرفت الجواب غدا

 

   ب ـ عرفت الجواب أمس

 

ورائز الظرف الزمني نفسه ينطبق على الأفعال الدالة على الأحداث (أو غير الحالات):

 

(14) أ ـ * أكلت تفاحة غدا

 

    ب ـ أكلت تفاحة أمس/الآن

 

وهذا التفريق في التأويل بين صيغة الماضي وصيغة غير الماضي نجده حاضرا في الإنجليزية في الماضي البسيط simple past. ومن هنا التعارضات التالية:

 

(15) أ ـ I knew the answer yersterday/*tomorrow

 

    ب ـ I ate a chicken yeersterday/*tomorrow

 

ويختلف الماضي العربي عن الماضي البسيط الإنجليزي في كونه يقبل التوارد مع ظرف آني/حيني (يدل على الحاضر), كما في الأمثلة التالية:

 

(16) أ ـ عرفت الجواب الآن

 

    ب ـ أكلت ست دجاجات الآن

 

مما يعني أن الماضي قد يمتد إلى الحاضر, أو يكون له ورود في الحاضر, مسوغا بذلك إمكان نعت الحدث بظرف حاضر. وهذا الاستعمال لا يقبل في الإنجليزية:

 

(17) أ ـ* I knew the answer now

 

   ب ـ*I ate six chicken now

 

فالظرف الحاضر لا يمكن أن يرد مع الماضي البسيط في الإنجليزية, مما يدل على أن الزمن انقطع في الماضي.

 

ويمكن تريب الفروق حينما ندخل في الاعتبار الحاضر المكتمل présent perfect في الإنجليزية، أو passé composé (الماضي المؤلف) في الفرنسية. لنقارن بين:

 

(18) John has eaten six chicken* yesterday, until now

 

(19) Jean a mangé six poulets hier, jusqu'à maintenant

 

فالتعارض بين الجملتين يبين أن هذين الماضيين يقبلان امتداد الحدث في الحاضر, بل إن الإنجليزية لا تقبل إلا هذا التأويل, خلافا للفرنسية التي لها تأويل الماضي (البسيط). وعليه, فإن الإنجليزية تفرز الموقعة الزمنية عن طريق الظرف, فتفرق بين الماضي البسيط (أو موقعته "قبليا") والحاضر المكتمل (أو موقعته "حينيا" أو "أثنائيا").

 

ويبدو أن الماضي العربي البسيط يلتبس الماضي المؤلف في الفرنسية. ولذلك يمكن نعته بالظرف الآني (انظر (16)), أو بالظرف القبلي (انظر (13)). وحتى نرصد هذا الالتباس, لنفترض, قياسا على ما يجري في الفرنسية, أن الفعل العربي الذي يكون على صيغة الماضي إما أن يكون تركيبه بسيطا, بمعنى أنه لا يتضمن إلا الفعل المصرف, وعليه لا يقبل إلا النعت بظرف ماض/قبلي, وإما أنه مركب (أو مؤلف), على طريقة الماضي المؤلف الفرنسي، مع فعل رابطة فارغ, يحتمل تأويل الحاضر, وهو الذي يصوغ ورود ظرف آني/أثنائي. فلو صح هذا التحليل, يكون الفعل الماضي العربي (بفعل عدم منظورية الرابطة في الحاضر) ملتبسا بين قراءة اكتمالية (ترتبط بالحاضر), وقراءة غير اكتمالية هي الماضي البسيط. إلا أن الفرق الذي يمكن تلمسه بين الاكتمال والماضي ليس محكوما بالجهة, وإنما هو محكوم بخصائص الفعل المساعد (ومنظوريته). والفرق بين الإنجليزية والفرنسية في تأويل صيغ الاكتمال (بين الالتباس وعدمه) يعود إلى كون الإنجليزية تعتبر المكتمل الحاضر حاضرا, بينما الأمر ليس كذلك في الفرنسية, بل يستخلص زمنها إما من الفعل المساعد, أو من الفعل المدمج. وعلى كل, يظل الفرق بين اللغتين السالفتين والعربية في تأويل صيغة الحاضر, لا في الماضي.

 

ومما يؤكد هذا التحليل أن اللغات الثلاث لا تختلف حينما يتعلق الأمر بتأويل "ماضي الماضي" past of the past, أي المركب الفعلي الزمني الذي يفرز ماضيين بارزين, واحد يظهر على الفعل الرابطة, وآخر على الفعل الرئيسي. وذلك كما في المثال التالي:

 

(20) كان الرجل (قد) أكل ست دجاجات (لما دخلت عليه/البارحة)

 

ولا تختلف في تأويل ما يسمى بـ pluperfect "المكتمل الفائق" أو past perfect "الماضي المكتمل", الوارد في الجمل التالية:

 

(21) John had arrived on Tuesday

 

(22) Jean était arrivé mardi

 

فهذه الجمل يمكن أن نقول إنها ملتبسة بين قرائتين:

 

(أ) قراءة ماضي الماضي, أي أن الوصول (أو الحدث) وقع قبل يوم الثلاثاء, بحيث يكون had هو ما ينعته الظرف, لا arrived. والشيء نفسه ينطبق في (22), أو في (20) أعلاه.

 

(ب) قراءة الماضي المكتمل, بمعنى أن الوصول وقع يوم الثلاثاء, وهذا الوصول له ورود في الماضي. ففي (20) مثلا, يكون أكل الدجاجات قد تم في الماضي, والدخول كذلك, ولكن الأكل "حاضر" وقت الدخول, وليس الأكل ماضيا منقطعا غير وارد بالنسبة للدخول, وإن كان أكل الدجاج قد اكتمل. إذن الالتباس حاصل في العربية والفرنسية والإنجليزية على السواء بالنسبة للماضي, خلافا لما يحدث مع الحاضر. ويمكن افتراض أن هذا الالتباس مرده أولا إلى إمكان ربط الظرف الزمني بالفعل المساعد أو بالفعل الرئيسي.

 

وأما الحاضر, فيعطي صورة غير موحدة بين هذه اللغات، كما بينا, لكون الحاضر ليس زمنا موسوما أولا، وهو منشطر بين الحالة وغير الحالة في الإنجليزية، خلافا للعربية والفرنسية, وهو منشطر بالنسبة للحاضر المكتمل بين اللغات التي يبرز فيها الفعل الرابطة في الحاضر (الإنجليزية والفرنسية) واللغات التي لا يبرز (العربية), وهو مضطر إلى المرور بصيغة تحوله إلى حالة (تدرجية) في بعض اللغات (مثل الإنجليزية). ولذلك فإن (23) تدل على الحاضر, بينما (24) لا تدل عليه، طبقا لما سبق وأن شرحناه:

 

(23) John knows the answer

 

(24) John eats an apple

 

ولأن منظورية الرابطة في العربية محكومة بقيود جهية (نحوية) وزمنية وموجهية, فإن (7) أعلاه, مثلا, لا يمكن أن تكون مقابلا لـ présent perfect, أي الحاضر المكتمل, وإنما الحاضر المكتمل يستخلص من الماضي البسيط.

 

3 – مفارقة اللاتمام Imperfective paradox

 

استعملنا مفارقة اللاتمام كرائز للتفريق بين العربية وبين الإنجليزية. وقلنا إن العربية ليست فيها صيغة للتدرج. فإذا قارنا (25) أ ـ ب (25 ب):

 

(25) أ ـ الرجل كان يعرف الجواب (لما عن لي)

 

نجد أن هناك فرقا في التأويل. ف (25 أ ـ تعنى أنه لم يصل إلى القمة, في حين أن (25 ب) لا تعني أنه لم يعرف الجواب, ولا تفيد أنه كان بصدد معرفة الجواب, بل إنه يعرفه عندما عن لي. إذن قراءة التدرج أو عدم التمام imperfectivity تستخلص فقط من الصيغ الزمنية (الماضي أو الحاضر, أو اللاماضي). وهذا يطرح إشكال العلاقة بين معنى اللاتمام والحاضر من جهة, وبين معنى الاكتمال والماضي من جهة أخرى. أو بالأحرى, كيف يمكن استخلاص معنيين في نفس الوقت من نفس الصيغة؟ هل الأمر يتعلق بتأويل مزدوج زمني/جهي, على أساس أن الاكتمال والتمام مفهومان جهيان, والماضي والحاضر مفهومان زمنيان, أم يتعلق بنظام يلتبس بين الزمن والجهة بحسب السياق؟ أم هناك مخرج آخر غير هذا؟

 

ومما لا شك فيه أن الأجوبة على هذه التساؤلات لا يمكن أن تكون إلا ذات أبعاد نظرية وتجريبية, تأخذ بعين النظر كيف توظف اللغات وسائل صرفية محدودة جدا للوصول إلى دلالة زمنية متنوعة ومتعددة. لقد أوضحنا أن الروائز التي وظفناها تسير في اتجاه إقامة زمن ماض, لا يتأثر بجهة الوضع, وجوهره علاقة القبلية. وأما الحاضر والمستقبل, فهما اللاماضي, ولا يقومان كأزمنة إلا في تفاعل بين جهات الوضع وغياب الماضي. ويبقى أن نربط التدرج/اللاتمام بالحاضر, والاكتمال بالماضي, مع العلم أننا لم نعثر قط على رائز نحوي يبين أن هذين المفهومين (الاكتمال والتمام) لهما صورة نحوية تتم معجمتها بشكل من الأشكال في صيغة الفعل العربي.

 

كانت هذه إذن بعض الأفكار التي تبين أن النظام الزمني العربي أساسه الماضي. وإذا افترضنا أن الماضي يفيد "قبل", وهو ضرب من الحروف. لكن الصورة التي تبدو لي أساسية بالنسبة للنظام العربي هو أنه كلما دققنا فيه, يتضح لنا أنه نظام زمني أساسا, وليس نظاما جهيا. ومن غريب الأشياء أن الصورة المنتشرة في الأدبيات الغربية التقليدية وبعض الأعمال التوليدية أن اللغة العربية لغة جهية, وليست لغة زمنية. وحينما نتفحص خصائص هذه اللغة نجد أن كل الروائز تدل على العكس. إنها لغة يمكن أن تحلل في إطار التصور الذي يجعل من التدرج أثرا للحاضر (الأثنائي), ويجعل من الاكتمال أثرا لأثنائية الماضي. ولذلك أمكن أن نستعمل صيغة الماضي ملتبسة بين الماضي الفعلي والمكتمل. وكما بينت, فإن هناك فرقا بين المكتمل (إذا وجد في الصيغة التي حددناها) في العربية, والمكتمل في الإنجليزية. فهذا الفرق لا يعود إلى أن هناك أنواعا مختلفة من المكتملات, وإنما يعود فقط إلى خصائص النظام الزمني في اللغتين وتحقيقاته.

 

4 – الزمن بين النحو والمعجم والتأويل:

 

هناك إشكالات إضافية أو عبرية (transversal) كثيرة تطرح بالنسبة للتحليل الذي حاولنا الدفاع عنه, ضمنها تحديد الجانب التصوري في الزمن وعلاقة المعجمة بالنحو.

 

لقد قلنا إن صيغة الزمن الفعلي في العربية مبنية على نظام قبلي anterior, وليس هناك ما هو بعدي posterior أو أثنائي simultaneous, مع أن هذه المعاني واردة  في أنظمة أخرى, وخصوصا المعنى البعدي. فلو كان الزمن حرفا مثل سائر الحروف لأفاد "قبل" أو "بعد",أو "أثناء". ومما يصب في اتجاه حرفية الزمن أنه "متعد", بمعنى أن له موضوعين زمنيين يقوم بربط العلاقة بينهما (قد يكونان زمن الحدث event time وزمن الإحالة reference time أو الزمن المصرح به assertion time أو زمن التلفظ speech time). ولا نجد زمنا له موضوع واحد (أو زمن لازم)، أو زمن له ثلاثة مواضيع (على غرار الفعل المتعدي إلى مفعولين). إذن تصور الزمن على أنه حرف ("س قبل ص") يلغي هذه الإمكانات. وأما إمكان "س بعد ص" أو "س أثناء ص", فهو إشكال معجمي, فهذه "المفردات الزمنية" غير موجودة في العربية, أو قل إن الزمن "الغني" معجميا لا يحمل هذه العلائق.

 

وهناك ميزة أخرى لافتراض القبلية. فحينما نقول مثلا "لا فض فوك", على التمني, أو "بعتك" والبيع لم يتم بعد، فهذه كلها تأويلات لصيغة الماضي. ولكنها لا تفيد الإحالة على شيء تم بالفعل في الزمن الماضي, أي زمن سابق, عن زمن التلفظ. ونجد ما يماثل هذا في الإنجليزية أو الفرنسية:

 

(26) Had I known this, I would have behaved differently

 

لو عرفت هذا لتصرفت بصفة مغايرة

 

(27) Une minute de plus et Marseille gagnait

 

دقيقة إضافية وكانت مرسيليا ستنتصر

 

ففي الحالتين, لم تحصل المعرفة (في (26)), ولا حصل أن انتصر فريق مرسيليا (في (27)), ولكن هذا الاستعمال للماضي لا يأخذ دلالالته في المقاربة القبلية, في استقلال عن الإحالة المرتبطة بزمن التلفظ. ونجد كثيرا مما يماثل هذا في ما يدعى الزمن الحكائي, وكذلك في توالي الأزمنة SOT, الخ. ومعلوم أن كثيرا من هذه الأمثلة أولت, خطأ, على أساس أنها ظواهر تدعو إلى مقاربة جهية لصيغة الفعل العربي(9).

 

 

 

بعض المراجع:

 

حسان تمام, اللغة العربية, معناها ومبناها. القاهرة, الهيئة المصرية العامة للكتاب, 1973.

 

الفاسي الفهري عبد القادر، البناء الموازي, الدار البيضاء, دار توبقال للنشر, 1990.

 

Chomsky, Noam, 1995. The Minimalist Program. Mass : Cambridge : MIT Press.

 

Cohen, David, 1989, L’aspect verbal, Paris, PUF.

 

Comrie, Bernard, 1976, Aspect, Cambridge, CUP.

 

Comrie, Bernad, 1985, Tense, Cambridge, CUP

 

Demirdache, Hamida & Myriam Uribe-Etxebarria, 1998, The Primitives of Temporal relations. Ms. Univ. of British Columbia & Univ. of the Basque Country.

 

Fassi Fehri, Abdelkader, 1991-1993, Issues in the Structure of Arabic Lauses and words. Dordrecht : Kluwer Academic Publishers.

 

Klein, Wolfgang, 1995. A Time-relational analysis of Russian Aspect. Language, 71.669-695.

 

Moens, Marc & Mark Steedman, 1988. Temporal Ontology and Temporal reference. Computational linguistics. 14. 15-28.

 

Salkie, Raphael, 1989. Perfect and pluperfect : what is the relationship ? Journal of linguistics. 25. 1-34.

 

Stowell, Tim, 1998. What is the meaning of the présent and past tenses ? ms. UCLA. California.

 

Wright (Caspari), William. 1858/1974. A Grammar of the Arabic Language. Cambridge : CUP.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

(1) انظر الفاسي (1991) والإحالات المذكورة هناك. ولن نفرق هنا بين الزمن كلفظ مقابل لـ time, والزمن المقابل لـ tense. وهذا الالتباس نفسه يوجد في لفظ temps الفرنسي.

 

(2) انظر كلين (1995) في هذا الصدد.

 

(3) عن هذه المفاهيم, انظر كمري (1976) و(1985) Comrie, من بين آخرين.

 

(4) النجم أمام العبارة يبين أن استعمالها لاحن.

 

(5) انظر الفاسي, ن.م، للتفصيل.

 

(6) أترجم perfect بـ المكتمل وperfective بـ التام. للتفريق بينهما, انظر: مثلا, كمري (1976) و(1985).

 

(7) انظر سلكي (1989) Salkie بصدد هذا التحليل.

 

(8) أغلب الظن أن هذا الزمن تركيبي أكثر منه صرفي, ويرد مع بنية الفعل المضارع واسم الفاعل بنفس الكيفية.

 

(9) نجد هذا الخلط واضحا في أعمال كوهين. انظر مثلا كوهين (1989) Cohen.

 

المصدر: https://www.aljabriabed.net/n24_05alfssifihri1.htm

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك