الإرهاب في عصر إرادة الشعوب
عمار بنحمودة
1- تجلّيات الإرهاب:
لقد كانت أحداث "مانهاتن" بمثابة نقلة نوعيّة في سجل الجماعات الإرهابيّة بسبب الصدمة التي خلفتها العمليّة ولحجم الدمار الذي أصاب برجي التجارة العالميّة في وقت تصوّرت فيه الولايات المتّحدة الأمريكيّة نفسها قد انفردت بقيادة العالم، وقضت على منافس خطير كان يهدّد أمنها واستقرارها بنظامه السياسيّ وقوّته العسكريّة، وهو الاتّحاد السوفييتي. وربّما وجدت الولايات المتّحدة نفسها بعد عقد من استراحة الحرب الباردة في مواجهة ساخنة مع عدوّ جديد لا يمتلك أسلحة متطوّرة ولا نظاما اقتصاديّا يعد بالاستيلاء على الثروات الرأسماليّة، وإنّما يمتلك أصحابه "عقيدة" تعادي الأنظمة الغربيّة وتتّخذ من العمليّات الإرهابيّة وسيلة للانتقام منه، وبثّ الرعب والخوف بين صفوف مواطنيه.
وصدقت بهذا المشهد نبوءة صدام الحضارات التي بشّر بها "صاموئيل هنتغتتون".[1] ولم تمض سنوات قليلة حتّى وجدت الولايات المتّحدة الأمريكيّة نفسها في مواجهة نظامين متّهمين بالإرهاب: النظام الأفغانيّ والنظام العراقيّ. وفي الوقت الذي كانت فيه الحرب الأفغانيّة مبرّرة بوجود "طالبان" ونشاط تنظيم القاعدة على الأراضي الأفغانيّة، فإنّ الحرب العراقيّة التي قامت على حجج واهية، مثل تهمة امتلاك الأسلحة النوويّة أو تعاون النظام العراقيّ مع القاعدة، قد ولّدت بسبب الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبتها الولايات المتحدة الأمريكيّة تنظيمات ذات مرجعيّة إسلاميّة بدأت بقتال الأمريكيين تحت شرعيّة المقاومة، ثمّ تحوّلت لاحقا إلى آلة طائفيّة لتصفية الخصوم والانتقام من الحكّام الشيعة ومن الرموز الدينيّة التي يقدسونها.
إنّ الخلاصة التي نخرج بها من الفكر الإرهابيّ الذي يوظّف التكفير ويشرعن العنف المقدّس من أجل نشر آرائه وإخافة أعدائه، هو أنّه استبداد لاهوتيّ مبرّر وفق منطق المحاكاة بشكلين من أشكال الاستبداد: الأوّل داخليّ مارسته الأنظمة الحاكمة على شعوبها، وقلّصت من مساحات الحريّة حتّى صارت وسيلتها في الحكم القمع ورفض الاختلاف في الرأي.[2] والثاني خارجيّ برّر الإرهاب بمنطق المقاومة وتحرير الوطن من العدوّ المحتلّ.[3] ولكن سرعان ما انقلب منطق مقاومة العدوّ الخارجيّ إلى منطق تصفية الأعداء الداخليين والخصوم الطائفيين، وهو أمر حوّل العراق وسوريّة إلى ساحات حرب شاملة تمارس فيها كلّ أشكال القتل، ويفتقد الناس داخل أسوارها إلى الأمن والاستقرار. وحوّلت "داعش" باعتبارها التنظيم الأكثر قوّة من بين التنظيمات الإرهابيّة تلك الأراضي إلى مستعمرة للعقاب الجماعي تقوم تعاليمها على فرض نسق دينيّ منغلق، لا يعترف بالاختلاف ويفرض على النساء سلوكا انضباطيّا وزيّا طائفيّا، ويحوّلهنّ إلى آلة جنسيّة لخدمة غرائز الرجال وبضاعة يتبادلونها للمتعة. وقد ذكر "فالح عبد الجبّار" بعض الانتهاكات التي تمّ فيها الاعتداء على النساء الإيزيديات بقوله: "ما هو مؤكّد أنّ معظم النساء والفتيات اللاتي وقعن في الأسر تعرضن للاغتصاب، وحتّى حالات النساء اللاتي أسلمن، لم يمنعهنّ اعتناق الإسلام من التعرّض للاغتصاب. والفتاة التي تتجاوز الثانية عشرة من عمرها تُغصب على الزواج من أحد عناصر "داعش". وذكرت حالات بيعت فيها الفتاة الواحدة إلى أشخاص عدّة في أقلّ من أسبوع. وفي إحدى الحالات اغتصبت فتاة عمرها 16 عاما -حاولت الهرب لأكثر من ثلاث مرات- من طرف عنصر داعش أمام زوجاته، وفتاة عمرها تسع سنوات تمّ الاعتداء الجنسيّ عليها من طرف عنصر من عناصر "داعش". وتمّ توثيق صور للاغتصاب الجماعي، إذ اعتدى ستّة أشخاص على فتاة إيزيديّة في وقت واحد. وهذا ما فسّر وجود حالات كثيرة من محاولات الانتحار من الإيزيديات."[4]
2- الإرهاب وإرادة الشعوب:
لقد كان من المفارقة أن ينتشر هذا الفكر في عصر إرادة الشعوب. فمع انتشار العمليّات الإرهابيّة في العراق. كان الشعب التونسيّ قد سنّ براديغما ثوريّا اختزل روح العصر، وبشّر بواقع سياسيّ جديد تسقط معه أنظمة الحزب الواحد والزعيم الخارق. وهتف الآلاف في الساحات العامّة: "الشعب يريد إسقاط النظام." وكان بذلك الطائر المحكيّ، وكانت بقيّة الشعوب تلبّي النداء كالصّدى: في مصر وليبيا واليمن وسوريّة وأخيرا في الجزائر ولبنان. فكأنّ تلك الشعوب قد ظفرت أخيرا بالحلّ السحريّ لمشاكلها السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وخرجت من كهوف الخوف وسجون الصمت.
لقد هتفت الشعوب العربيّة لإسقاط أنظمتها المتّهمة بالاستبداد والفساد والعجز عن إيجاد حلول للمشاكل المتراكمة وعلى رأسها الحقّ في الشغل والكرامة. ولكنّه بمجرّد سقوط تلك الأنظمة لاح في الأفق شبح الإرهاب يخيّم على الواقع ويحتلّ الساحات الحقيقيّة والافتراضيّة. عُمدة خطابه التبشير بمشاريع الدولة الإسلاميّة بديلا عن مشاريع الدولة الوطنيّة. فتحوّل الإرهابيّون في تونس مثلا من التنظير إلى تنفيذ مخطّطاتهم واغتيال الناشطين السياسيّين والأمنيين والعسكريين وطالت التهديدات الإعلاميين، ونفّذت عمليّات نوعيّة استهدفت السيّاح المدنيين الأبرياء. وطمع الإرهابيّون في احتلال جزء من الجمهوريّة التونسيّة -اقتداء بعمليّة الموصل في العراق- حين حاولوا السيطرة على منطقة "بن قردان" الحدوديّة مع ليبيا، ولكن تصدّت لهم قوات الأمن بمساعدة المواطنين. وبالمقابل، فقد انتشر الفكر المتطرّف عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ وفي الحلقات الدّعويّة، فأضحى لتونس النصيب الأوفر من عدد الإرهابيين المهاجرين نحو بؤر التوتّر في سورية. وتحوّلت ليبيا بدورها إلى معقل للجماعات الإرهابيّة بعد سقوط نظام العقيد "معمّر القذّافي" وضعف الدولة التي تولّت مقاليد الحكم بعده. وفي سوريّة والعراق مثّل تنظيم "داعش" ذروة النشاط الإرهابيّ في المنطقة على أنقاض التنظيمات الكثيرة التي انتشرت بعد الاحتلال الأمريكيّ للعراق وعسكرة الثورة في سوريّة، بينما تواصل الإرهاب في مصر يحصد أرواح الجنود ويهدّد استقرار الدولة.
لقد كانت مطالب الشعوب جليّة. ويمكن تلخيصها في مصطلح الحريّة الذي يمنح الأفراد حقّ التعبير عن الرأي، والكرامة التي تختزل في معاملة المواطنين معاملة تراعي حقوق الإنسان، وتتجنّب التعذيب والتنكيل لمجرّد رأي مخالف أو موقف معارض للسلطة، والشغل الذي يمثّل أساس الحياة ودونه يفقد الإنسان كل معنى للوجود. ولكنّ كان للإرهاب مقاصده الأخرى. وقد حوّل وجهة الثورة نحو شعارات هوويّة وصراعات إيديولوجيّة من أجل "تطبيق الشريعة" واختزلت تلك الجماعات إرادتها في شعار "الشعب يريد تحقيق شرع الله". وهنا بدا البون شاسعا بين مقاصد الأنسنة التي قامت عليها المطالب الشعبيّة. والمطالب اللاهوتيّة التي أسّس عليها الإرهابيّون منظومتهم. ولئن كانت مقاصد ثورة الشعوب إعادة مأسسة الدّولة وبناء مؤسسات يكون المواطن عمدتها وغايتها، وسنّ قوانين وتشريعات تمنع الظلم وتضمن التداول السلميّ على السلطة، وسنّ دساتير تقوم على الحريّات العامّة وحقوق الإنسان وتطبيق النظام الديمقراطيّ، فإنّ مقاصد الإرهابيين كانت فرض القوانين الشرعيّة التي يعتقدون في إطلاقيّتها وتنفيذ الحدود الدينيّة وفرض منطق الحاكميّة.[5] وقد بدا أنّ مسارات البناء الجديدة التي تقوم فيها الشعوب بتفكيك الاستبداد وتأسيس التجارب الديمقراطيّة تختلف اختلافا جوهريّا عن المسارات التي حلم الإرهابيّون بتحقيقها، والتي تختزل في تطبيق ما سموه "الشريعة الإسلاميّة" بكلّ ما تعنيه الكلمة من قوانين العنف والاستبداد والاسترقاق والسبي وقطع الرؤوس والرجم والاعتداء على المختلفين باسم الدّين وهضم حريّة النساء.
إنّ المسار الطبيعيّ للتاريخ في هذا العصر، هو المضيّ قدما نحو استعادة إرادة الشعوب على حساب إرادة القادة المستبدّين، وهو ما يجعل الإرهابيين يتبنّون تصوّرات لا تتلاءم وروح العصر الذي يعيشون فيه. ويشرّعون لممارسات انتفضت الشعوب من أجل القضاء عليها، ومنع أسباب تجدّدها. وفي الوقت الذي طمحت فيه الشعوب إلى القضاء على أسباب الهيمنة البشريّة والتسلّط، خرج من "قمقم التاريخ" أناس ينادون بالهيمنة تحت شعارات دينيّة. ولكنّ الشعب المريد الذي هبّ بالملايين ولاذ بالميادين للمناداة بحقوقه الشرعيّة، صار أفق انتظاره مشدودا إلى مدار الحريّة ما عاد يحلم بالعودة إلى الكهوف القديمة التي صودرت فيها حريّاته، وسلّطت عليه كلّ أشكال القهر والاستبداد باسم الطاعة العمياء لأولي الأمر وتحت شعار: الحزب الواحد والزعيم الخارق.
ولقد عجزت التنظيمات الإرهابيّة عن الاستفادة من تطوّر العلم والمعرفة وسياسة الشعوب. فقد ارتبط مشروعها باستعادة الأشكال القديمة للسلطة المجسّدة في شكل "الخلافة الإسلاميّة"، وما هي في الحقيقة سوى الأحكام الملكيّة التي تأثّر فيها المسلمون بحكم الفرس والرومان. وبدورها ظلّت التصوّرات الاقتصاديّة تدور في فلك الريع والغنيمة، وتنأى عن المقاربات الحديثة للاقتصاد. فلا تستفيد من تطوّر الأبحاث العلميّة ولا من نظريّات علماء الاقتصاد، بل تتجاهل العصر بكلّ مقوّماته وإنجازاته.
وارتبطت التنظيمات القانونيّة والاجتماعيّة أيضا بمنطق مازال أصحابه يؤمنون إيمانا واثقا بالفصل بين الجنسين وبالهيمنة الذكوريّة المشرعنة بمبرّرات دينيّة والحال أنّ الحرّية النسويّة كانت حاضرة في كلّ الثورات العربيّة. وبما أنّ الثورات لا يمكن أن تتحقٌّق ما لم تستكمل حلقتها الثقافيّة، فقد سار الإرهاب عكس عقارب السّاعة بعداء المنتمين إليه لكلّ أشكال الفنون وتصوّروا أنّهم يمكن أن يعيدوا الناس إلى عصور الظلمات وقد أنارت الفنون دربهم لتكون بدورها رمزا من رموز الثورة.
لقد كان المشروع الإرهابيّ مفلسا من كلّ أشكال الحريّة، في زمن صارت فيه أكثرَ العملات رواجا بين الشعوب. وقدّم مشروعه اللاهوتيّ المعنون بالخلافة الريعيّة في عصر حلمت فيه الشعوب بالديمقراطيّة. ولذلك، فقد تحطّمت المشاريع الإرهابيّة على صخور الإرادة الشعبيّة. وعلا صوتها على صوت اللّاهوت. فتجدّد النّداء من تونس إلى بيروت: الشعب يريد... وعادت الشعوب تملأ الساحات حلما بالحريّة ومقاومة الفساد. وإذا الشعب الذي أراد الحياة وأراد أن يستجيب له القدر قد وجد نفسه في مواجهة جماعات مازالت تؤمن بالعقائد القدريّة، وبأنّ الإنسان ملزم باتباع قانون السماء الذي احتكروا تأويله وأشبعوه استبدادا. فمعضلة الإنسان العربيّ اليوم مع الحكّام المستبدّين وحلوله بيد المناضلين المؤمنين بقيم الحداثة وليست بيد المتعصّبين والإرهابيين وإن صيغت كلّ شعاراتهم باسم الدّين.
خلاصة القول إنّ المسار الذي يؤمن به "الإرهابيون" يوازي المسار الذي تؤمن به الشعوب اليوم؛ فالمؤمنون بالإرهاب يسيرون في درب "إنسان الميثاق" الذي جبل على الطاعة، وظنّ أنّ الحلول السحريّة مقرّرة سلفا ومختزلة في مفهوم "الشريعة الإسلاميّة"، بينما تبشّر آفاق الحريّة "بالإنسان الفرد المواطن" الذي يتمتّع بحقوقه المدنيّة ويتخذ إلى ذلك سبيلا بالديمقراطيّة.[6]
[1] يقول صاموئيل هنتغتون: "وفي عالم ما بعد الحرب الباردة، فإنّ أكثر الاختلافات أهميّة بين الشعوب ليست إيديولوجيّة ولا سياسيّة أو اقتصاديّة. إنّها ثقافيّة أو تراثيّة. إنّ الشعوب والدول تحاول الآن، أن تجد الإجابة على أكثر الأسئلة أهميّة التي يمكن أن تواجهها البشريّة: من نحن؟" صاموئيل هنتغتون، صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي (تعريب مالك أبو شهيوة ومحمود محمد خلف)، ط1، ليبيا، الدار الجماهيريّة للنشر والتوزيع والإعلام، 1999، ص 73
[2] يقول سلمان العودة: "أساليب القمع والإسراف في الحلول الأمنيّة والمبالغة في السجن والتعذيب في بعض المجتمعات، كانت سببا في ظهور جماعات التكفير الغالية." سلمان العودة، أسئلة العنف، ط2، بيروت، جسور للترجمة والنشر، 2015، ص56
[3] يقول فوّاز جرجس: "أفاد التنظيم (يقصد داعش) إلى أقصى حدّ من الثغرة التي فتحها الغزو الذي قادته الولايات المتّحدة ضدّ العراق سنة 2003." فوّاز جرجس، داعش إلى أين؟ جهاديّو ما بعد القاعدة، (ترجمة محمّد شيّا)، طن، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2016، ص28
[4] فالح عبد الجبّار، دولة الخلافة التقدّم إلى الماضي ("داعش" والمجتمع المحلّي في العراق)، ط1، قطر، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017، ص ص 393، 394
[5] بيّن فوّاز جرجس تحويل وجهة الربيع العربيّ إلى خريف سلفيّ بدأ من خلال ردود أفعال زعماء التنظيمات السلفيّة، ومن ذلك سحب الانتفاضات إلى خط القاعدة. "لقد احتفلوا بسقوط الحكّام العرب وأملوا أن يسمح فراغ القوّة الناتج والصراع اللاحق على السلطة بدفع قضيّتهم الجهاديّة إلى أمام." انظر: فوّاز جرجس، مرجع مذكور، ص 188
[6] استعرنا المفارقة بين "الإنسان الميثاق" و"الإنسان الفرد المواطن" من محمّد أركون. انظر: محمّد أركون، الفكر الأصوليّ واستحالة التأصيل، نحو تاريخ آخر للفكر الإسلاميّ (ترجمة هاشم صالح)، ط1، بيروت، دار الساقي، 1999، ص 208