التسامح الديني: من التطرف إلى حرية الاعتقاد عند جون لوك

حمادي أنوار

 

إن الإنسان، بما هو إنسان، يملك العديد من السمات التي تحيط به، وتميزه عن غيره من الكائنات الحية الأخرى، وفي هذا الصدد، بالذات، تبرز الحرية، المسؤولية، والاستقلالية، باعتبارها أهم ما طُبع عليه الإنسان وتطبع به. فلا مجال لإخضاعه وإكراهه، فأن تسلب شخصاً حريته؛ فكأنك تطلب منه أن يتخلى عن إنسانيته، وأن يكف عن أن يكون إنساناً، فما أعوص وأذكى على المرء أن يخضع لسلطة فرد آخر رغماً عنه، ودون رضاه. إن الاتفاق والتوافق والإجماع هي شعارات الحياة الآمنة والسلمية، أما الإكراه والغصب والقسر، فتنخر العلاقات الاجتماعية، وتهدُ بنيانها، وتكون أرضاً خصبة لمشاعر البغض والضغينة والكره.

فأهم ما يميز - بل ما يجب أن يميز - الحياة داخل الجماعة وفي إطار المجتمع، هو التوافق والتنازل الجزئي عن بعض الحريات والحقوق؛ لكن في إطار معين، لا يزيغ عن الحدود التي تجعل الإنسان يفقد إنسانيته، ولا يخرج عن قواعد وقوانين حياة المجتمع والمدنية، التي تنأى به (أي الإنسان) عن حالة الطبيعة، وهي الحالة التي كان يسود فيها القرار الفردي، غير المسؤول في معظمه، لأنه غالباً ما كان يصدر عن مصالح الفرد الذاتية، ويتأثر بغرائزه وشهواته، عكس حياة المجتمع القائمة على التعاقد، وتفويض سلطة التصرف إلى جهة معينة تحكم وفق ما تقتضيه الأغلبية، «لأن ما يحرك جماعة ما إن هو إلا موافقة أفرادها، ولما كانت الجماعة تؤلف هيئة واحدة اقتضى أن تتحرك في اتجاه واحد، فلزم أن تتحرك تلك الهيئة في الاتجاه الذي تدفعها فيه القوة الغالبة، وهي موافقة الأكثرية. [...] فيتوجب على كل امرئ، إذن، أن يتقيد بقرار الأكثرية»([1])

وكلُ خروج عما تسنه الأغلبية من قوانين، وتُجمع عليه من قواعد، يفقد العقد الأصلي - وهو الأساس الذي بني عليه المجتمع - معناه وقوته، فلا معنى لأي عقد في مجتمع يسلك أفراده بحرية مطلقة ودون قيود. إن أساس الانتقال من حياة الطبيعة إلى المجتمع هو تطليق تلك النزعات والنزوات الطبيعية في الإنسان، لأنها لا تكف عن جرّه إلى مهاوي الغريزة والشهوة.

على الرغم من القوانين والقواعد التي تفرضها حياة المجتمع على الأفراد، وكذا التنازلات التي عليهم تقديمها، إضافة إلى طاعتهم وتبعيتهم لمتطلبات الجماعة والمجتمع، فإن هذا لا يعني، أبداً، أن يكون الفرد خاضعاً وتابعاً بالمطلق؛ فتمت أمور عديدة على الإنسان أن يكون فيها مستقلا وحراً، يتخذ قراراته حسب قناعاته الشخصية، وليس تبعاً لما تمليه عليه جهة من الجهات، ودون أن تمارس عليه الوصاية من أي طرف أو سلطة. وهنا نخص بالذكر الجانب المتعلق بالدين والاعتقاد والإيمان، وكل ما هو روحي في الإنسان. ومن هذا المنطلق، بالذات، أسس جون لوك لمفهوم التسامح الديني، الذي اعتبره ضرورة حيوية لا تقوم للمجتمعات المدنية قائمة بدونها. «ولهذا ينبغي أن تكون حرية العقيدة مكفولة لكل إنسان، ولا يحدها أبداً إلا الإضرار بالآخرين.»([2])

الدين والتسامح الديني:

«ولدت كلمة تسامح في القرن السادس عشر من الحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت، فقد انتهى الأمر بأن تساهل الكاثوليك مع البروتستانت، وبالعكس، ثم صار التسامح يرتجى تجاه جميع الديانات وكل المعتقدات.»([3]). فبعد مرحلة الدين الرسمي، الواحد والوحيد، للدولة، مع اضطهاد جميع الملل الأخرى التي تخالف هذا الدين، ثم بعد المرحلة الأخرى منذ منتصف القرن الخامس عشر؛ حيث بدأت أولى إرهاصات وبوادر التسامح تطفو على السطح، وبالذات التسامح الديني، الذي علت كثير من الأصوات داعية إليه. ونخص بالذكر حركة الإصلاح الديني على يد مارتن لوثر (1546-1483) وأتباعه؛ فهو الذي وجه سهام نقده وإصلاحه صوب البابا والكنيسة الكاثوليكية، داعياً إلى ضرورة التصدي للملاحدة بطريقة سلمية عن طريق الإقناع بالكتابة والحوار، وليس بالقوة والعنف. مؤكداً، أيضاً، على أن تعدد المذاهب والفرق الدينية داخل المسيحية، مسألة طبيعية وعادية جداً، بل إنه أحد المؤشرات القوية على حرية الاعتقاد، ووضع حدود بين ما هو ديني-روحي، وما هو دنيوي، فأمور الدين بعيدة عن أمور الدنيا. كما اعتبر أن المتدين بدين مخالف يصدر، هو الآخر، عن ضميره الخالص، وقناعته الخاصة، وهذا هو الأهم، أما صدق أو كذب ما يدين به، فذلك أمر يجب تركه للحظة الحسم في اليوم الآخر. لهذا، فإن لوثر كان يدعو إلى وقف كل إجراءات التفتيش، وحملات الاضطهاد، التي كانت تشن ضد الهراطقة والملاحدة.

تتعدد أنواع التسامح بتعدد المجالات التي تعنى به؛ فهناك التسامح الديني، السياسي، الاجتماعي، والأخلاقي...إلخ. كما يختلف، كذلك، باختلاف المذاهب والفلسفات؛ فالكاثوليك، مثلاً، يعتبرون أن التسامح لا يكون إلا في الأمور التي تنطوي على الشر أو بعضا منه، لأن كل ما هو خير وصالح يكون محط إجماع واتفاق واستحسان الكل، أما الحاجة إلى التسامح، فتظهر عندما يسود الشر والظلم والبغضاء. وهناك تصور آخر يتأسس على اعتبار الأديان تتمتع بنفس القيمة، ومتساوية من حيث الأحقية، فلا مجال للتمييز بين دين ودين آخر، أو المفاضلة بينهما. وأصحاب هذا الاتجاه «يؤكدون التسامح الديني؛ لأن كل دين حسن وحق؛ فكل دين حسن من حيث إنه يرضي نزعات أتباعه، ولا يوجد في نظرهم دين واحد يحتوي على كل الحق، وحتى لو وجد فليس من الممكن تمييزه بيقين قاطع.»([4])

إذا كان القائلون بتساوي الأديان، يعتبرون أن جميع الأديان تقع في نفس الدرجة؛ فإن هناك تياراً آخر يقول بنسبية الأديان، فأي دين، حسب تصورهم، ليس حقاً بالمطلق، كما أنه ليس باطلاً مطلقاً؛ بل إن «كل دين يكشف عن جانب من جوانب الحق، ولهذا كانت الأديان كلها ضرورية من أجل تحصيل الحق بأكمله.»([5]) فما قد يشكل نقصاً في دين من الأديان، ربما نعثر عليه في دين آخر؛ فالواحد يكمل الآخر، ومن تمت وجب التعايش والتسامح بين جميع الأديان، دون التسارع نحو إثبات أحقية وأولوية أي دين على حساب الآخر.

يعرف لالاند التسامح على أنه: «طريقة تصرف شخص يتحمل، بلا اعتراض، أذى مألوفاً يمس حقوقه الدقيقة، بينما في إمكانه رد الأذية.»([6] أي أن التسامح يفيد شيئاً من التقبل –تقبل بمعاناة ومكابرة- الذي قد يكون بالغصب؛ فالشخص المتسامح غالباً ما يجبر نفسه على تحمل الكثير من الاختلافات التي لا يطيقها بسهولة. «وقد كان اشتقاق اللفظ اللاتيني يسمح بهذا المعنى ويؤكده. فالكلمة الفرنسية tolérance كما نعلم، آتية من الفعل tolerare الذي يعني التحمل supporter. التسامح تحمُّل لما يخالفنا في الآخر وقد يضايقنا وينال من حريتنا.»([7]) قد لا يجد المرء أمام الشر والظلم أية حيلة، فلن يسعه إلا أن يغض الطرف، فيكابر نفسه ويكرهها على التحمل؛ لأن الحياة مع الغير (الآخر) كلها صراعات وعنف، ولا مجال لتفادي ذلك واتقائه إلا التعايش معه.

على الرغم من هذا التصور النابع من الأصل اللغوي والاشتقاقي لكلمة Tolérance، إلا أن ذلك لا يعني أن التسامح يفيد التخلي عن القناعات الشخصية والتفريط فيها وكتمها، لصالح جهة ما؛ بل يفيد عدم اللجوء إلى القوة والعنف وسفك الدماء... لفرض نمط معين من الأفكار والمعتقدات، مهما بدت لنا صحتها. «ولكن في بعض الأحيان نجد أن عدداً من المفكرين [...] يشكلون عن التسامح فكرة سلبية، فهو في رأيهم لا يعني الحرية، وإنما مسامحة الآخرين على اختلافهم الديني بشكل فوقي: أي الصفح عنهم وعدم معاقبتهم، لأنهم يختلفون عنا في الدين أو المذهب، إنه يعني التساهل معهم ولكن بشكل أبوي استعلائي وأحيانا احتقاري، بل ويعني أحيانا اللامبالاة بهم وبعقائدهم التي تعد دونية أو شاذة عن رأي الأغلبية.»([8])

لقد شكل مفهوم التسامح ثورة حقيقية على جميع الأصعدة، فبالإضافة إلى التغييرات والتطورات الجذرية التي أحدثها في مجال السياسة والأخلاق، وما تلا ذلك من ثورات في أوربا، ثم القفزة النوعية التي شهدها مجال الدين، الذي بات الكثير من دارسيه في منأى عن كل التحيزات والتعصبات الذاتية، التي تفقد البحث في الشأن الديني قيمته ومصداقيته العلمية، إضافة إلى كل ذلك، فقد شكل التسامح أحد أبرز الأعمدة التي ارتكز عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو الذي استلهم آراء الكثير من المفكرين والفلاسفة الذين نادوا بالتسامح وحرية المعتقد والضمير. «إن التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا. ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد. وأنه الوئام في سياق الاختلاف، وهو ليس واجبا أخلاقيا فحسب، وإنما هو واجب سياسي وقانوني أيضا، والتسامح، هو الفضيلة التي تيسر قيام السلام، ويسهم في إحلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب.»([9])

التسامح الديني عند جون لوك: الدين من الوحدة إلى التعدد

بمجرد الحديث عن أهم وأشهر التصورات التي ركزت على مفهوم التسامح في سياقه الغربي، يتبادر إلى الذهن اسم لامع وقوي، وذو مكانة علمية وفلسفية، إنه الفيلسوف والعالم الإنجليزي جون لوك (1632- 1704). «وكان جوهر فكرته أن مهمة الحكومة المدنية تختلف اختلافاً بيناً عن مهمة الدين، وأن الدولة ما هي إلا هيئة تكونت لغرض واحد هو إنماء مصالح أفرادها المدنية، وهذه المصالح المدنية هي الحياة والحرية والصحة وامتلاك المتاع. أما العناية بعالم الروح، فلا تدخل في اختصاص الحكام، وإنما شأن الحكام في ذلك كشأن كافة الناس، إذ إن الحاكم لا يملك سوى القوة المنظورة. أما الدين الحقيقي، فإنه لا يلجأ إلى غير إقناع العقل إقناعاً « داخلياً»، وقد أطلق العقل بحيث لا تستطيع القوة الخارجية إجباره على الإيمان، ولهذا كان من السخف أن تعمد الدولة إلى إصدار قوانين لفرض دين من الأديان، فإن القانون يفقد نفوذه بغير عقاب، والعقاب ها هنا يعتبر سفاهة لعجزه عن الإقناع.»([10])

يرفض جون لوك الاضطهاد والتعذيب اللذين يمارسهما بعض المتشددين والمتطرفين بدعوى الدين، متسائلاً هل هؤلاء متشددون، أيضاً، حتى مع أقرب الناس إليهم ممن يدين بدين غير دينهم، ويحيا حياة الفساد والرذيلة؟ فلو كان تشددهم هذا، دفاعاً عن الدين وذوداً عنه، فكيف تفسَّر حياة الخبث والغش والرذائل التي يحيونها؟ في هذا الصدد يقول جون لوك: «سأصدق أن الأمر هكذا، إذ أنا شاهدت هؤلاء المتعصبين الغيورين يعاقبون بنفس الطريقة أصدقاءهم ومعارفهم الذين يخطئون صراحة في حق تعاليم الإنجيل، وإذا رأيتهم يتعقبون بالحديد والنار إخوانهم الفاسدين بالرذائل، الهالكين قطعاً إن لم يصلحوا أنفسهم، وإذا أبصرتهم يشهدون على محبتهم ورغبتهم في تنجية النفوس بمعاناة كل ألوان القسوة والعذاب.»([11])

يعارض جون لوك، بقوة، هذا الموقف المتزمت لما يحمله من تناقض وتهافت، ولكونه قائما على مبررات واهية، تتنافى تماماً مع تعاليم الإنجيل، إذ لا مبرر للصراعات والحروب الطائفية التي تنشب بين أتباع المذاهب الدينية، وأنصار الملل والنحل المختلفة؛ فلكل فرد الحرية في اختيار دينه، وعلى الآخرين احترام هذا الاختلاف، وإبداء روح التقبل والتسامح مع مخالفينا، حتى تأتي لحظة الحسم والفيصل –اليوم الآخر- حينها سيتبين من كان على حق ومن كان على باطل.

«لماذا كل هذه الحمية في سبيل الله، في سبيل الكنيسة، في سبيل نجاة النفوس، هذه الغيرة الحادة التي تمضي إلى حد إحراق الناس أحياءً؟ لماذا لا تقوم هذه الحمية بمعاقبة هذه الفواحش وهذه الرذائل التي هي، بإقرار الجميع، مضادة تماما للإيمان المسيحي؟»([12]) لعل هذه الغيرة التي يبديها أولئك المتعصبون، ما هي إلا أحد ميكانزمات الدفاع، التي يركنون إليها لتزييف ما تختزنه بواطنهم من خبث وحقد وعدوانية وتزمت، إزاء كل مختلف ومخالف لهم. فوَهْمُهم، الزائف والمُزيّف، بأنهم مالكو الحقيقة، وأن مواقفهم ومعتقداتهم، هي الأولى والأجدر بأن تُتخذ قاعدة عامة وكونية؛ تتحكم في جميع الناس، وتفرض عليهم قوالب جاهزة، وأطر مسيِّجة، لا يحق لهم الزيغ عنها. إن «الذين يضطهدون الآخرين باسم المسيح يتنكرون لتعاليم المسيح، ولا ينشدون إلا المظهر الخارجي، لا السلام ولا القداسة. ومن ذا الذي يعتقد أنه في التعذيب والقتل يسعى المتعصب إلى نجاة روح ضحيته؟ ثم إن الإيمان لا يمكن أن يُفْرَض بالقوة القاهرة، كما لا يمكن إرغام العقل على اعتقاد شيء لا يعتقده بنفسه.»([13])

إن الذي يتعصب ويتشدد مع مخالفيه في الدين، ظناًّ منه أنه يسعى إلى ملكوت الله، وإحقاق ما أحقه، وإبطال ما أبطله، وفي الوقت نفسه يكون ليناً ومتسامحاً مع أقربائه، ومع نفسه، في ارتكاب الخطايا والرذائل؛ إنه حسب تعبير لوك: «ينشد ملكوتاً آخر، لا ملكوت الله.»([14]) كما أنه يؤاخذ أولئك الذين يسارعون إلى هلاك وتعذيب النفوس التي تدين بدين مخالف قبل أن تهتدي، معتبراً أن هذا الموقف في منأى عن تعاليم الديانة المسيحية، التي تنادي بالمحبة والاحسان. إن اللجوء إلى القوة لإجبار الناس على الإقبال على ديانة ما، والتشبع بمبادئها، وتشييعها، لن يجدي نفعاً مهما بلغت حدة وضراوة أساليب الضغط والترهيب؛ فلو شاء الله أن يهدي الناس إلى دينه بالعنف والقوة، لسخر لذلك جنود السماء عوض جنود الأرض، فهم أخير وأفضل، بل وأنجع. «وإذا ظن أحد أن الناس يجب أن يرغَموا بالسيف والنار على اعتناق بعض العقائد، وأن يحملوا بالقوة على ممارسة عبادة خارجية ما، دون أن يتعلق الأمر بأخلاقهم، وإذا يدل أحد عقائد الهراطقة وأجبرهم على الإقرار بعقيدة لا يؤمنون بها، ويمكنهم من أن يفعلوا ما لم يسمح به الإنجيل للمسيحيين بأن يفعلوه، وما لا يسمح به مؤمن لنفسه، فليس من شك في أن هذا الرجل يريد أن يجمع جماعة عديدة من الناس الذين يعتقدون ما يعتقده هو.»([15])

الدين والحكومة المدنية: من الدين بالقوة إلى قوة الدين

درءاً للتطرف والتعصب، وفرض الأفكار والمعتقدات بالقوة، وانتهاك حريات وحقوق ذوي الديانات الأخرى، يقترح جون لوك حلاًّ قد يكون هو الفيصل لو تم تطبيقه، وتنزيله على أرض الواقع، وبإمكانه أن يشكل دعامة أساسية للدين، وقوة كبيرة تخلصه من كل الشوائب التي من الممكن أن تعلق به، وهو أنه «ينبغي التمييز بين أمور المدينة وأمور الدين، وأن توضع حدود دقيقة عادلة بين الكنيسة والدولة، وإلا فلن يكون ممكناً إيراد أي حل للمنازعات التي تقوم بين أولئك الحريصين حقاً، وبين من يتظاهرون بأنهم حريصون إما على نجاة النفوس، وإما على نجاة الدولة.»([16]). فمجال السياسة، الذي لا يعطي أي اعتبار لما هو روحي وروحاني لدى الفرد، ويعمل، فقط، على تحقيق المصالح وبلوغ الأهداف التي من شأنها ضمان استمرار الجهاز الحاكم؛ ينبغي أن يُفصل عن المؤسسة أو الجهة التي تُعنى بما هو ديني. ولعل أخطر ما يمكن أن يهدد المجتمعات، هو استغلال المؤسسات الدينية، لتحقيق أهداف سياسية، لما لذلك من أثر وخيم على مشاعر الأفراد وتوجهاتهم وقيمهم، التي سرعان ما ستفقد معناها، وستتجرد من النبل والخير الذي طالما اتسمت به؛ فآنية ولحظية المصالح السياسية تتنافى والغايات التي جاء من أجلها الدين.

إن التسامح الذي أسس له جون لوك في كتابه المهم «رسالة في التسامح» هو أقرب إلى مجال السياسة، وتنظيم شؤون الدولة، ودواليب الحكم، منه إلى مجال الأخلاق. فمن خلاله وضع حدوداً لكل من الكنيسة والدولة في ما يتعلق بتدبير الشأن الديني؛ وذلك بتقزيمه لهامش تدخلهما في هذا الأمر، لأنه يخص الفرد في علاقته بربه. ولهذا، نجده قد قلص من سلطة الحاكم، وقيده بثلة من الواجبات، التي اعتبرها ضرورية وعلى قدر كبير من الأهمية.

يقول جون لوك: «لقد أثبتنا أن رعاية النفوس ليست من اختصاص الحاكم، مادامت سلطته تقتصر على وضع القوانين والإجبار على تنفيذها عن طريق العقوبات»)[17] فالدور الذي ينبغي للحاكم القيام به يتجلى في الحفاظ على أمن الأمة وسلامها، والسهر على وضع القوانين التي من شأنها ضمان الاستقرار والسلم والتعايش بين الأفراد، وكذا العمل على تطبيقها، والتصدي لكل من سولت له نفسه انتهاكها، هذا دون أن يعطي –أي الحاكم- لنفسه الحق في التدخل في ما هو روحي وديني؛ أي الجانب العقائدي للفرد. «ويفصل لوك بين الكنيسة والدولة فصلاً حاداًّ، لأن الكنيسة «جماعة من الناس التقوا بإرادتهم واتفاقهم من أجل العبادة العلنية لله على النحو الذي يرون فيه رضاه، ومن أجل نجاة أرواحهم». أما الدولة، فلا شأن لها بهذا كله، وكل شأنها هو الصالح العام، والمحافظة على حياة المواطنين وحريتهم وممتلكاتهم؛ وليست للدولة أية سلطة في أمور الروح. «وما هو قانوني في الدولة لا يمكن الكنيسة أن تجعله محرّماً وممنوعاً».»([18])

فتداخل المصالح بين الدولة والمؤسسة الدينية، قد يجعل هذه الأخيرة تتخلى عن مبادئها، وعن الأهداف النبيلة التي تأسست من أجلها، كما قد يتيح للدولة وللجهاز الحاكم، تقلد مجموعة من المهام التي ليست من اختصاصهما، مما سيفسح المجال للارتجالية والتخبط في تدبير شؤون الأفراد فيعم الظلم والحيف والاعتداء على حقوق الغير.

«يرى جون لوك أنه لو سمحت الدولة بعدة مذاهب لانتفت الحروب المذهبية من المجتمع. وبالتالي، فالتعددية أفضل من الواحدية أو الأحادية. فكرة جون لوك تقول ما معناه: بما أن معظم المجتمعات البشرية مؤلفة من عدة أديان أو مذاهب فمن الأفضل أن نتبع سياسة التعددية والتسامح لكي نتحاشى الحروب الطائفية والقلاقل. خاصة أنه يستحيل جمع البشر كلهم على عقيدة واحدة أو مذهب واحد.»([19])

إن لكل إنسان الحق في تعلم ما يشاء، واعتناق ما يراه أنسب إليه، والاعتقاد بما يحسبه أحق بأن يُعتَقد به؛ دو إكراه أو قسر. و«لا يحق لأي امرئ التدخل في تفسير الدين، وإن من حق أي إنسان أن يعتنق الدين الذي يرضاه»([20]) وذلك بغض النظر عن صحة أو كذب، حق أو بطلان الدين أو الملة أو النحلة التي اختارها دون غيرها. فكما أن الحاكم لا يمكنه أن يتدخل في شؤون الفرد الذي لم يحسن اختيار الأطعمة الجيدة، أو الملابس المريحة، أو الأثاث المنزلي الفاخر؛ مما تسبب له في بعض المشاكل والمعاناة، فليس هناك أي معنى، بل لا طائل، من أن يقحم أنفه في اختيار هذا الفرد لدين من الأديان. فما دام من غير المعقول أن يسن الحاكم قوانين تنظم الحياة الغذائية للأفراد، وتوجه اختياراتهم الحيوية، وتحثهم على بعض التدابير الاحترازية من الأمراض...إلخ، كذلك سيكون من العبث سَنّه لقوانين تهم الجانب الروحي والعقائدي، «إن القوانين تسعى، قدر المستطاع إلى تأمين أموال الأفراد وصحتهم من كل اعتداء ومن كل اختلاس يقع من الغير لكنها لا تستطيع أن تكون ضمانا لهم ضد إهمالهم لأنفسهم وسوء سلوكهم مع أنفسهم، إذ لا يمكن إرغام أحد على أن يكون صحيح الجسم، ولا على أن يصير ثريا، على الرغم من ذاته. إن الله لن ينجي الناس ضد إراداتهم.»([21])

فسبل النجاة والخلاص واضحة وضوح سبل الظلم والضلال، كما أن الحلال بيّن والحرام بيّن؛ وللإنسان أن يختار بين الاثنين، دون أن يملي عليه أحد أي شيء، أو أن يكون تحت وصاية أية جهة. إذ المسألة تتعلق بمدى اقتناعه باختياره، ومدى قوة ومتانة الحجج التي ركن إليها في هذا الاختيار. «وكل المحاولات لفرض الايمان بالقوة لن تؤدي إلا إلى نشر النفاق والاستخفاف بالله. إن الإقناع بالحسنى هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يحرك العقل.»([22])

التسامح الديني: سلطة الخلق أم سلطة الخالق؟

إن التقدم الذي عرفه موقف لوك من التسامح، وانتقاله من مناهضته لذوي الديانات المختلفة، والحث على ضرورة التصدي لهم، إلى بداية بروز شيء من التعاطف، وبزوغ بصيص من التسامح، الذي كان جزئياً، ثم تطور شيئاً فشيئاً. نقول إن هذا التقدم جعل جون لوك –إضافة إلى الواجبات التي أوكلها إلى الحاكم- يحد من سلطته بعض الشيء، ويعين المجالات التي ينبغي أن تشملها دون غيرها. فقد «رأى لوك أن التسامح هو العلاقة الرئيسة المميزة للكنيسة الصادقة، لأن العقيدة الدينية هي في المقام الأول علاقة بين كل فرد من الناس وبين الله. والدين الصحيح ينظم حياة الناس وفقاً للفضيلة والتقوى؛ والدين الخالي من المحبة والاحسان هو دين زائف.»([23])

فأساس قيام الدولة هو ضمان مجموعة من «الخيرات المدنية» لجماعة من الناس، الذين وضعوا ثقتهم في هذا الجهاز، ليخلصهم من ويلات حالة الطبيعة التي تحتكم لقانون الغاب. تشمل هذه «الخيرات المدنية» الكثير من الحقوق والحريات، والممتلكات التي لا غنى للأفراد عنها. ومن ضرورتها، بالذات، تنبع أهمية وحيوية الأدوار المنوطة بالحاكم المدني، الذي يجب أن يعمل على توفير ذلك كله، لجميع الأفراد، وبالتساوي، وذلك بواسطة القوانين والقواعد التي يقوم عليها جهاز الدولة، كما لا يجوز لأي فرد من الأفراد أن يغتصب حق فرد آخر، أو أن يرغمه على فعل ما، منتهكاً بذلك قوانين الدولة. وكل سلوك يفرض على الحاكم أن يتصرف بحزم وصرامة لقمع ذلك، ومعاقبة أصحاب هذه السلوكيات. «والعقاب هو حرمانه من كل أو بعض هذه الخيرات التي من حقه، بل من واجبه أن يتمتع بها لو لم يفعل ذلك، لكن لأن أحداً لا يرضى بإرادته عن حرمانه من جزء من خيراته، ولا بالأحرى من حريته أو حياته، فإن الحاكم، من أجل معاقبة من ينتهكون حق الغير، مسلح بقوة مصنوعة من القوة المجتمعية لكل الأفراد.»([24])

يقصر جون لوك سلطة الحاكم، فقط، في هذه «الخيرات المدنية»، وسلطة أو قوة هذه السلطة تنبع من مدى محافظتها عليها، وتنميتها، وتوسيع مجالها بين سائر الأفراد، دون أن تمتد هذه السلطة إلى ما يتعلق بنجاة وخلاص النفوس، لأن ذلك ضرب من العبث والتخبط في إدراك ماهية سلطة الحاكم، «لأنه لا الحاكم، ولا أي إنسان آخر، مكلف برعاية النفوس، فالله لم يكلفه بذلك، لأنه لا يتضح أبداً أن الله قد منح مثل هذه السلطة لأحد على آخر، حيث يرغم الآخرين على اعتناق دينه.»([25])

إن الله قد خلق الناس سواسية في كل شيء، وأتاح لهم أن يتفقوا ويجمعوا على واحد منهم، يفوضون له أمرهم، ويجعلونه والياً عليهم، وحاكماً لهم، بما يتفق ويتماشى مع الشرع ؛ شرع المجتمع وتقاليده وقواعده وقوانينه، ثم شرع الله. دون أن يعني ذلك ممارسة للوصاية عليهم في شأن دينهم، وعلاقتهم بربهم؛ فتنازلهم عن جزء من حريتهم وتفويضه لحاكم ما، لا يشمل – أي هذا التنازل- الشق العقائدي من حقوقهم وحرياتهم، «لأنه لا إنسان قد تخلى عن رعاية نجاته الأبدية الخاصة به، حيث يعتنق بالإكراه عبادة أو إيماناً يفرضه إنسان آخر، سواء أكان هذا أميراً أم فرداً؛ إذ لا يمكن أحداً، حتى لو أراد، أن يؤمن بما يمليه عليه غيره، إن الإيمان هو الذي يعطي القوة والتأثير الفعال للدين الحق الذي يجلب النجاة، لأنه مهما يكن ما تقره، ومهما تكن العبادة الظاهرية التي تمتثل لها، فإنك إن لم تكن مقتنعاً تماماً في باطن قلبك بأن هذا حق ويرضي الله، فإن هذا يكون عقبة أمام النجاة، وليس مفيداً في تحملها»([26])

فبقدر ما يحتل الدين من مكانة لدى الإنسان، وهو الكائن المتدين، بقدر ما هو أحوج وأدعى إلى أن يكون حراًّ ومخيّراً في اعتناق الدين الذي يراه الدين الحق، فهذا الجانب الروحي، بالذات، هو ما لا يمكن، بل لا يحق ولا يجوز، أن تشمله التنازلات، أو تطاله الانتهاكات؛ فالدين مرتبط أساساً بالإيمان والتصديق والتسليم، فأن يؤمن أي شخص بدين ما، فمعناه أنه جعل خلاصه ونجاته رهينين بهذا الدين كقوة تفوق جميع القوى الممكنة، ولو بالفرض، قوة لا قوة أخرى تعلو فوقها، أو تضاهيها. وهذا ما يجعل الايمان صادقاً ومخلصاً وخالياً من أية محاباة أو رياء، لأية جهة من الجهات. عكس الإيمان الظاهري الناتج عن فرض دين ما بالقوة والتعسف؛ إنه إيمان مرتبط بتحقيق المصالح الخاصة، والتملق لجهات معينة؛ إيمان مبني على النفاق والمظاهر الخادعة، البعيدة كل البعد عن الصدق والإحسان لله، كأساس من أسس الإيمان والدين؛ لأن من يُفرض عليهم دين ما بالقوة، نجد لديهم الكثير من الشوق والحنين لدينهم الأول، الدين الذي اعتنقوه عن حب واقتناع، في مقابل كره واشمئزاز خفيين من الدين المفروض عليهم. وهذا ما يفسر العديد من السلوكيات المنحرفة والفاسدة، التي تصدر عن جماعات من الأفراد يدينون بدين يعارض تماماً كل تلك التصرفات.

 نظراً لكون ممارسة السلطة تقوم على القوة والعنف، فإن هذا جعل لوك يستثني أمور الدين من اختصاصات الحاكم، لأن شؤون الدين والعقيدة لا تطيق القسر والإكراه. بل، على العكس من ذلك، فهي «تقوم على الإيمان الباطن في النفس، الذي بدونه لا قيمة لشيء عند الله، وإن من طبيعة العقل الإنساني أنه لا يمكن إكراهه بواسطة أية قوة خارجية.»([27]إذ يمكن سجن الإنسان ومعاقبة بدنه، وسلبه حريته بالقوة، لكن التحكم في عقله وقلبه وإيمانه، ضرب من الخيال الجامح. فمهما بدا ظاهر الأمر أنه يتناسب مع ما نفرضه بالقوة، فإن مكنوناته تعبر عن العكس تماماً، فما أعوص الاطلاع على البواطن وكشف مكنوناتها، وما أحوج الشعوب إلى إحكام دينهم إلى قوة خالق عادل ونزيه، عوض حاكم ظالم ومستبد.

الدين بين الخلاف وقبول الاختلاف:

إن الميزة الرئيسة التي اتسمت بها رسالة لوك - رسالة في التسامح - هي تأكيده على مجموعة من الحقوق، التي ينبغي ضمانها لذوي الديانات المختلفة، وعدم اعتبار الاختلاف داعياً إلى هتك حرياتهم، ونهب حقوقهم. فليس لشخص أو مؤسسة أن يضرا بممتلكاتهم التي لا تدخل في إطار ما هو غير مدني، بدعوى أنهم يؤمنون بدين مخالف، أو يمارسون طقوساً وشعائر غير طقوس وشعائر كافة الخلق. إن حقوق الفرد المدنية والإنسانية، هي حقوق مقدسة لا ينبغي أن تطالها الأيدي من لدن أية سلطة؛ فهي غير معنية بالأمور الدينية والعقائدية، لذلك فإن لوك يلح على ضرورة توخي الحذر والاحتراز من ارتكاب أي فعل، أو إبداء أي تصرف عنيف ومتشدد اتجاه هذا المختلف، وكذا على ضرورة الإحسان إليه والتسامح معه، بل ومحبته؛ عملاً بمبادئ الديانة المسيحية، وتماشياً مع متطلبات العقل وعرف المجتمع. «وإذا انحرف أحد عن سواء السبيل، فإنه هو الذي يضل، ولن يصيبك أي ضرر من ضلاله هو، ومن أجل هذا لا يجوز لك أن تعاقبه بقسوة ولا أن تحرمه من خيرات هذه الحياة بسبب أنك تعتقد أنه سيعاني في الحياة الآخرة.»([28])

فحتى لو كان التشدد مع المختلف في الدين وعدم التسامح معه، ناتجا عن رغبة في إنقاذه وهدايته إلى سواء السبيل، على اعتبار أن هذا التشدد نابع من اعتبار الدين الذي يدين به هو دين باطل، ويجب هدايته إلى دين الحق. فليس من حق صاحب هذا التصور أن يفرض عقيدة أو ملة أو نحلة ما، بالقوة والغصب، دون اقتناع المعني بالأمر، مهما كانت قوة وصلابة موقف الدين المدعو إلى اعتناقه؛ فعدم اقتناع الفرد به، يعد سبباً كافياً لإسقاط الشرعية والأحقية عنه، في نظره هو، وبالتالي لا معنى للعنف والغلو في التعامل معه.

يرى جون لوك أن هذا التسامح الذي ينبغي أن يكون أساساً للعلاقة بين الأفراد ذوي الديانات المختلفة، يجب إعماله ومراعاته، أيضاً، حتى بين الكنائس؛ حيث «إنه لا سلطان لواحدة منها على الأخرى حتى لو كان الحاكم المدني يتبع واحدة منها»([29]). فرئيس أو حاكم البلاد ليس معنياً، مطلقاً، بالشؤون الدينية والعقائدية لشعبه. فله أن يتقلد ما يشاء من الديانات، شريطة ألا يفرضها على أفراد شعبه. كما أن مناصرته لكنيسة ما لا ينبغي اعتباره امتيازاً لها، كما أن معارضته لما تدعو إليه لا يعني إضعافها والحط من قيمتها وسلطتها؛ إنها «باكتسابها أعضاء جدد لا تملك أي سلطة على من ليسوا من أعضائها، ولهذا فإن السلام، والعدالة والصداقة أمور ينبغي أن تراعيها الكنائس المختلفة بعضها مع بعض، مثلما يراعيها الأفراد، دون أية مطالبة بهيمنة لواحدة على الأخرى.»([30])

يستبعد جون لوك أن تكون لأي فرد، ولأية كنيسة أو مؤسسة، كيفما كانت، سلطة تخول له سلب الأفراد حقوقهم المدنية، الدنيوية، والإنسانية، بدعوى الدين. فكل ادعاء بامتلاك هذه السلطة، ما هو إلا تحريض ودعوة إلى القتل، والعنف، والحرب، والبغضاء...إلخ، ونفي لجميع أواصر القرابة، والمحبة، والإخاء، والتسامح بين الأفراد والكنائس والدول. ولذلك، فإنه «لن يستقر سلام وأمان، وبالأحرى أية صداقة بين الناس ولا سبيل إلى المحافظة عليها، إذا ساد الرأي القائل بأن السيادة مؤسسة على اللطف الإلهي، وأن الدين ينبغي أن ينشر بقوة السلاح.»([31]) فلو أراد الله، فعلاً، ان ينشر دينه بالقوة والسلاح، لسخر، في سبيل ذلك، جنود السماء بدلا من جنود الأرض.

على سبيل الختم:

على الرغم من المؤاخذات التي سُجلت على موقف جون لوك من التسامح الديني مع ذوي الديانات المختلف؛ حيث أوخذ عليه كونه ظل تسامحاً ناقصاً، لم يشمل جميع المخالفين والمختلفين، فاستثنى من رحمة التسامح كلا من الملاحدة والكاثوليك، استثنى الملاحدة بدعوى أن عدم إيمانهم بأي خالق، وبأية قوة تفوقهم وتحوطهم وتتجاوزهم، يجعلهم يتمردون على القوانين والأخلاق والقواعد التي يحتكم إليها أفراد المجتمع الآخرون؛ فتنتفي لديهم أهم الصفات والخصال التي تعتبر أساس الاجتماع البشري، من قبيل: الأمانة، الثقة، الالتزام بالعقود، والوفاء بالعهود...إلخ، ومن تمت من الصعب ائتمانهم على أي شيء أو اعتبارهم محل ثقة، وهذا ما من شأنه أن يهدد أمن واستقرار الشعوب.

أما الكاثوليك، فقد أقصاهم بدعوى أنهم، رغم إقامتهم في أي بلد من البلدان، فإنهم يبدون الولاء والتبعية لسلطة خارجية، دون سلطة حاكم البلاد؛ هذه السلطة هي «البابا» في روما. هذا ما يعتبره جون لوك خيانة للوطن، وتهديداً لاستقلال البلاد شعباً وحكومة.

نقول، رغم كل هذه المؤاخذات، فإن «التسامح الديني» عند جون لوك قد كان، ولا يزال، لحظة فاصلة وحاسمة في تاريخ البشرية، خاصة الغربين، الأوربي والأمريكي، لتمتد تأثيراته إلى باقي دول العالم. فإضافة إلى كونه قد شكل أحد المرجعيات المهمة التي اعتُمِد عليها في قيام العديد من الثورات الشعبية، كالثورة الفرنسية مثلاً، فإنه كان امتداداً للإصلاحات التي شيدها بعض المصلحين الأوائل (مارتن لوثر 1483م - 1546م، أولريخ زونجلي 1484م -1531م، جون كالفن 1509م -1564م)، وكان خير من حمل مشعل الإصلاح الديني، فخفف، نوعا ما، من حدة التطرف الديني والتشدد مع أصحاب المعتقدات الأخرى، وأبرز حميمية وخصوصية العلاقة بين الفرد وربه، مجرِّماً كل تدخل خارجي فيها.

لقد شكل تصور جون لوك ورسالته في التسامح، أيضاً، إحدى اللبنات الأساسية في بناء صرح حقوق الإنسان، بمعناها العالمي والكوني؛ إذ لا مجال للحديث عن حقوق كونية للبشرية جمعاء دون التركيز على الحق والحرية في الاعتقاد، وهذا كان أبرز ما نادى به جون لوك ودعا إلى التشبث به.

إن التسامح الديني وحرية الاعتقاد قد أضحيا ضرورتين ملحتين في جميع بقاع العالم، وما يشهده العالم العربي اليوم، من تحولات وتغيرات على شتى الأصعدة: ثورات شعبية، انتقال ديمقراطي، ظهور أنظمة جديدة في الحكم، تحولات قيمية، اجتماعية، اقتصادية، لغوية، وثقافية...إلخ، ما هي إلا تعبير عن الرغبة والحاجة إلى التمتع بكافة الحقوق، التي يتمتع بها كل إنسان من منطلق كونه إنسان. أما ما يشهده من حركات جهادية، وتطرفية دينية، فهو مدعاة إلى التساؤل حول مكانة الدين عند هذه الشعوب: هل هناك فعلاً فهم صحيح للدين والتدين؟ وكيف أصبحت ممارسة التدين تنأى بعيداً عن الدين وما يدعو إليه؟ بل كيف أصبح التدين نفياً للدين؟

هنا تبرز الحاجة الملحة لمواقف وتصورات فلسفية، فكرية، وعلمية، أكثر مرونة وليونة، بل وأكثر تسامحاً، من قبيل موقف جون لوك من التسامح الديني، علّه يكون الحل الأمثل لمشاكلنا في العالم العربي والإسلامي، التي هي بالأساس مشاكل حقوق وحريات وواجبات.


[1] جون لوك، ''في الحكم المدني''، ترجمة: ماجد فخري، اللجنة الدولية لترجمة الروائع، بيروت 1959، ص 195

[2] بدوي، عبد الرحمن، «موسوعة الفلسفة» الجزء الثاني، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، بيروت 1984، ص 380

[3] لالاند، أندريه، «موسوعة لالاند الفلسفية»، تعريب: خليل أحمد خليل، مشورات عويدات، بيروت-باريس، الطبعة الثانية 2001، ص 1460

[4] لوك، جون، «رسالة في التسامح»، ترجمة: عبد الرحمن بدوي، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى 1988، ص 8

[5] نفسه، ص 8

[6] لالاند، أندريه، نفس المرجع السابق، ونفس الصفحة.

[7] بنعبد العالي، عبد السلام، «التسامح والحرية»، مجلة يتفكرون، العدد الأول، 2013، ص 6

[8] صالح، هاشم، «التسامح والحرية الدينية في الفكر الأوربي»، نفس المرجع السابق، ص 9

[9] جديدي، محمد، «حدود التسامح»، نفس المرجع السابق، ص 33

[10] بيوري، جون، «حرية الفكر»، ترجمة محمد عبد العزيز إسحاق، المركز القومي للترجمة، ط1، القاهرة 2010، ص 83

[11] لوك، جون، «رسالة في التسامح»، ص 50

[12] نفسه، ص 50

[13] بدوي، عبد الرحمن، مرجع سابق، ص 380

[14] لوك، جون، «رسالة في التسامح»، ص 50

[15] نفسه، ص 51

[16] نفسه، ص 52

[17]

[18] بدوي، عبد الرحمن، مرجع سابق، ص 380

[19] صالح، هاشم، «التسامح والحرية الدينية في الفكر الأوربي»، مجلة يتفكرون، مرجع سابق، ص 13

[20] صن، أمارتيا، «التنمية حرية»، ترجمة: شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة، العدد 303، ماي 2004، ص 282

[21] لوك، جون، «رسالة في التسامح»، ص 62

[22] بدوي، عبد الرحمن، مرجع سابق، ص 380

[23] بدوي، عبد الرحمن، مرجع سابق، ص 380

[24] لوك، جون، «رسالة في التسامح»، ص 52

[25] نفسه، ص 52

[26] نفسه، ص ص 52-53

[27] نفسه، ص 53

[28] نفسه، ص 57

[29] نفسه، ص 58

[30] نفسه، ص 58

[31] نفسه، ص 60

المصدر: https://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B3%D8%A7%D9%85%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86%D9%8A-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B7%D8%B1%D9%81-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B9%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%AF-%D8%B9%D9%86%D8%AF-%D8%AC%D9%88%D9%86-%D9%84%D9%88%D9%83-2583

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك