تاريخ العلويين: من حلب القرون الوسطى إلى الجمهورية التركية

أحمد نظير الأتاسي

 

ستيفان وينتر أستاذ مشارك في قسم التاريخ بجامعة الكيبيك في مدينة مونتريال (Université du Québec à Montréal). وله كتاب الشيعة في لبنان تحت الحكم العثماني (The Shiite of Lebanon under Ottoman Rule) والذي يشبه في مقاربته وموضوعه الكتاب الذي تحت أيدينا الآن.
الأستاذ وينتر مهتم بالتاريخ العثماني، ويعتبر نفسه مؤرخاً للفترة العثمانية في سوريا ولبنان وتركيا، ويعتمد في أبحاثه على الأرشيفات العثمانية العربية والتركية. ولا يريد أن يُنظَر إليه كمؤرخ لسوريا الحديثة أو للعلويين في سوريا، وينأى عن السياسة المعاصرة. قابلت الاستاذ وينتر في مؤتمر منذ عدة سنوات حين قدم محاضرة عن بعض أبحاثه التي ضمّنها لاحقاً في الكتاب المدروس. ويومها سألته إن كان سيكتب عن سوريا، وذكرت أن أبحاثه ستمكنه من أن يحصل على شهرة كبيرة إعلامية. لكنه لم يكن يرغب بمثل هذه الشهرة، وكلما سئل عن العلويين في سوريا اقتصر جوابه على الفترة العثمانية. وشخصياً أحترمه على وضوح موقفه رغم اعتقادي أن الكتابة فعل عام وعلى الإنسان أن يتحمل تبعاتها. لكن الانخراط في الشأن العام والقضايا المعاصرة يلزمه قدرة تحمل، ومعدة قوية كما يقولون. وأحس شخصياً بالامتنان الشديد للأستاذ وينتر على عمله الشاق الذي دام أكثر من ثلاث سنين وشمل أرشيفات في تركيا (اسطنبول وأنقرة) ولبنان (طرابلس) وسوريا (حلب) وفرنسا (باريس ونانت) وبريطانيا (لندن)، ومراجع بالتركية والعربية والفرنسية والألمانية بالإضافة إلى الإنكليزية.
 
 اعتمد الكاتب على أرشيفات عثمانية لم يستخدمها أحد من قبل، وجدها في سجلات المحكمة الشرعية في طرابلس (قصر نوفل)؛ بالإضافة إلى الأرشيفات العثمانية في اسطنبول وأرشيف رئاسة الوزراء والحرب العالمية والأوقاف في أنقرة. أما المصادر الفرنسية والإنكليزية فكانت من أرشيفات القنصليات في حلب واللاذقية وبيروت ومن كتابات عدد من الرحالة الغربيين إلى الساحل وجباله. كما نبه إلى أهمية الأدبيات المكتوبة باللغة التركية من كتب ومقالات ومخطوطات، والأدبيات العربية التي أنتجها علويون وخاصة كتاب خير الصنيعة في مختصر تاريخ غلاة الشيعة الذي جمعه المؤلف حسين ميهوب حرفوش (ت. 1959) من مخطوطات عائلته (صورة موجودة في المعهد الفرنسي في دمشق)، وإضافات إبراهيم حرفوش (ت. 1991في كتاب المستدرك في خير الصنيعة (صورة موجودة في المعهد الفرنسي في دمشق).
 
ونلخص الأفكار الأساسية للكتاب بما يلي: أولاً، إن استخدام الأرشيفات العثمانية من أجل تسليط الضوء على تاريخ العلويين الذين اعتقدنا لفترة طويلة أن التاريخ نسيهم بسبب هامشيتهم كأقلية مضطهدة يثب عكس هذا الاعتقاد. كما أن الكتاب يطرح مقاربة جديدة لتاريخ الأقليات في شرق المتوسط عامة والعلويين خاصة، وهي أن اعتبار الأقلية كجماعة متماسكة من المواطنين يتعرضون لاضطهاد الدولة الممنهج بسبب معتقدهم هو اعتبار خاطئ؛ فلا الجماعة المتماسكة موجودة، ولا المواطنة موجودة، ولا السياسة المنهجية موجودة. وهي إن وجدت، كما في الفترة الحميدية وفترة حرب السفربرلك وبداية الجمهورية التركية، فإن هذه السياسية لم تكن موجهة نحو الإضطهاد الديني (بالنسبة للعلويين) وإنما نحو الإخضاع للسلطة المركزية وضرائبها وجيشها ومدارسها وشرطتها وسياساتها. ثانياً، إن نشوء العلوية-النصيرية كمدرسة دينية وكمجموعات عشائرية كان تدريجياً وأن هذه النشوء لم يكن مرتبطاً منذ البداية بهوية أقلوية تعشق الانغلاق والمظلومية وإنما كانت الدعوة منفتحة انتشرت في عدد كبير من المدن والقرى من العراق مروراً بالجزيرة وحلب وإلى بقية المدن السورية. إنها جزء من دراما انتشار الإسلام في سوريا والعراق والأناضول، ابتداءً من المدن الكبرى وانتهاءً بالأطراف والجبال حيث اختلط الإسلام بأديان قديمة وفلسفات عرفانية ونزعات مناطقية حاولت الانفلات من قبضة الممالك الكبرى وأرثوذكسياتها الإسلامية مثل السنية والشيعية الاثني عشرية والإسماعيلية الفاطمية. ثالثاً، منذ فترة المماليك ومروراً بمراحل الدولة العثمانية ما قبل التنظيمات ثم ما بعدها إلى الحكم الحميدي 1876، لم تكن سوريا أكثر من تجمعات سكانية شبه مستقلة لا تعرف من الدولة المركزية إلا الوالي والقائممقام والمتسلم وجنودهم ومراسلاتهم مع اسطنبول، أما القاضي والمفتي والآغا وصاحب الالتزام فهؤلاء محليون يمثلون المدينة والناحية فقط. وحتى لو اتبعنا التقسيمات الإدارية من أجل تحديد منطقة معينة لدراسة تاريخها فإننا ننتهي إلى التركيز على المدينة مركز المحكمة الشرعية ودفاتر هذه المحكمة ومراسلاتها القليلة مع مركز الولاية واسطنبول. وليس هذا بسبب نقص في الأرشيفات العثمانية وإنما لطبيعة الحكم الملكي القديم الذي يهتم بالمركز ويمتص الضرائب والخضوع من الأطراف فقط. رابعاً، مثل كل الجماعات السورية، كانت الجماعة العلوية مذررة، مستقلة ومتحاربة أيضاً، ومنقسمة إلى عشائر وقرى وتخضع لسلطات أمراء حرب (مقدمين) ومشايخ وملتزمين (جامعي ضرائب) محليين. ما نكتشفه عن منطقة القرداحة قد لا ينطبق على منطقة صافيتا، أو مصياف أو جبل الأكراد، وكلها تختلف عن منطقة أنطاكيا. بالطبع هناك أنساق مشتركة مثل صعود بعض المدن، ونشوء الملكيات الزراعية الكبيرة، وصعود أمراء الحرب هنا وهناك، لكن هذا لا يعني التواصل بين المجتمعات البعيدة عن بعضها، ولا يعني وجود طائفة متماسكة وهوية واحدة، ولا يعني وجود سياسة واحدة أو حتى ممارسات مجتمعية واحدة. وما ينطبق على المجتمعات السنية وتعاملها مع المحيطين بها من العلويين في اللاذقية قد لا ينطبق على المجتمعات المماثلة في حمص أو طرطوس أو أنطاكيا.
 
في الفصل الأول يرسم الكاتب مسيرة العلوية-النصيرية من فكر نخبوي لفرقة شيعية إلى إنتماء هوياتي لطائفة دينية. هذه المسيرة المقترحة ليست الوحيدة ولا النهائية، وكما في أي بحث تاريخي يقترح المؤرخ الخط الذي يصل بين عدة نقاط علام تاريخية بحيث تتحول كل نقطة إلى سبب لما يتبعها ونتيجة لما يسبقها. الفرقة تأسست مع محمد بن نصير النميري (ت 883) الذي ادعى أنه باب الحسن العسكري (ت 874) الإمام الحادي عشر للشيعة الاثني عشرية. يقترح الكاتب أن موت الإمام وادعاء وجود إمام ثاني عشر مغيّب قد فتت الفرق الشيعية في العراق في القرن التاسع. ومع أننا نعتبر اليوم، بالتطابق مع الشيعة الإثني عشرية، أن الفكر النصيري كان جزءاً من الفكر الشيعي المغالي (غلاة الشيعة) إلا أن الكاتب يحاجج بأن ظهور الإثني عشرية كمذهب لأغلبية الشيعة حدث أثناء الحكم البويهي للعراق بين منتصف العاشر ومنتصف الحادي عشر. وهذا يعني أن العلوية-النصيرية كغيرها من الأفكار الشيعية كانت تتنافس على المريدين وتحاول التحوّل إلى مذهب الأغلبية (الأرثوذوكسية). ويعتقد الكاتب أن الفرق الذي تبلور تحت حكم البويهيين بين الإثني عشرية وما سمي لاحقاً فرق الغلاة يتمحور حول ألوهية علي وثلاثية التفسير الباطني (المعنى) والاسم (أو الحجاب) والباب. أما الحلول والتناسخ فقد يكونان من مكونات التشيع المنتشرة في ذلك الوقت. خروج العلوية-النصيرية كدعوة (كل الفرق الشيعية كانت دعوات) من العراق كان مع حسين بن حمدان الخصيبي (ت 957، حلب الحمدانية) الذي اتجه إلى حلب الحمدانية آملاً أن يستميلهم إلى جانبه كما فعل الكثيرون. يزعم الكاتب أن الدعوة كانت نخبوية أي لم تتجه إلى عامة الشعب لأنها فلسفية صوفية. ومن حلب انتشرت الدعوة في جميع المدن السورية الكبرى من حران إلى صور ومن عانة إلى طرابلس. أما دخول الدعوة العلوية-النصيرية إلى جبال الساحل السوري فقد كان، حسب الكاتب، بطيئاً واستمر من العاشر إلى الثالث عشر.
 
عودة أنطاكيا وشمال غرب سوريا إلى الحكم البيزنطي بين عامي  969 و1084 م أعطى الدعوة حرية الحركة بعيداً عن الصراعات السياسية والدينية في سوريا القرن العاشر (ما يسمى بالقرن الشيعي). اتجهت الدعوة إلى أنطاكيا حسب الكاتب ثم إلى اللاذقية مع الداعية أبو سعيد ميمون الطبراني (ت 1034 م)، وهناك ادعاءات بأن بعض الأسر الأميرية التي سيطرت على بعض قلاع الجبال سمحت للدعوة بالانتشار أو شجعتها. لكن الأدبيات تشير بثقة أكبر إلى انتشار الدعوة من حمص وحماة وباتجاه طرطوس حتى وصلت إلى جبال اللاذقية في الثالث عشر. ويجب التنويه هنا إلى أن الدعوة كان تحولاً دينياً وليست حركة استيطان، أي أن تحول الجبال البطيء إلى العلوية-النصيرية لم يكن بسبب حركة لاجئين احتموا بالجبال. هذه الجبال لم تكن معروفة باسم واحد وإنما بأسماء كتل وقمم ولم تصبح إلا لاحقاً وفي وقت متأخر جبال النصيرية. نقطة العلام الأخيرة في ظهور الطائفة كمجموعات عشائرية التنظيم حسب الكاتب كانت مع قدوم المكزون السنجاري (ت 1240) إلى جبال اللاذقية ومن ثم جبال حماة بدعوة من مجموعات علوية-نصيرية رأت أنها معرضة للهزيمة والاندحار تحت ضربات عدوان مثلث الإسماعيليين (النزاريين) والفرنجة والأكراد (الأيوبيين كما يزعم الكاتب). التراث العلوي يزعم أن العشائر العلوية انحدرت من أولاد وأحفاد المكزون. ولذلك يعتقد الكاتب بأن الهوية الجمعية (ليست مجموعة فكرية وإنما قبيلة وطائفة) تبلورت مع قدوم المكزون وجيشه من جبل سنجار. التراث العلوي الحديث يزعم أن المكزون كتب عدة مؤلفات بلورت الفكر العلوي، ويجعل الكاتب هذا الادعاء مقابلاً لبلورة الهوية الطائفية للجماعات العلوية-النصيرية.
 
يرسم الكاتب في الفصل الثاني صورة حية للعلاقات داخل المجتمعات العلوية وبين المجتمعات العلوية والإسماعيلية والشيعية والدرزية والسنية في مناطق مختلفة من مصياف إلى جبلة إلى جبال كسروان إلى دمشق. هذه العلاقات قد تكون سلمية في منطقة وعدائية في منطقة أخرى، ولا تدل على سياسة شاملة. وحتى ضمن المجتمعات العلوية ظهرت منافسة عقائدية بين عدة فرق، وذكرت المصادر أن رجال الدين العلويين المدعين تمثيل أرثوذكسية علوية حاربوا هرطقات داخلية ممثلة بالأفكار الإسحاقية والأفكار الحلولية. كما قامت حروب بين بعض الفئات الإسماعيلية والعلوية من أجل السيطرة على المعاقل الجبلية في ريف حماة الغربي. وفي عام 1305م انطلقت حملة مملوكية من دمشق بقيادة قادة عشائريين دروز باتجاه قرى كسروان الدرزية والشيعية لأسباب تتعلق بالضرائب. وعام 1318 م انطلقت حملة أخرى من جبلة نحو بلاطانوس (القرداحة) للقضاء على تمرد ديني عسكري بقيادة شخص ادعى أنه المهدي وهاجم القرى وجمع الغنائم ووزعها على أعوانه وحاصر جبلة. قتل المدعي في الحملة وسقط كثير من أتباعه وأعاد المماليك بقية الأتباع إلى قراهم. وقد سبق الحملة بعدة سنوات مسح شامل للسكان والأراضي في الجبال من أجل فرض السلطة المركزية وإضعاف سلطة الأمراء المماليك وتحديث المعلومات الضريبية. صاحَب الحملة تبريرات دينية مثلما صاحب حملة كسروان، منطلقها قنونة التعامل مع الفرق غير السنية وخاصة مسألة الإعتماد عليها لحماية الساحل من هجمات صليبية محتملة. يعرض الكاتب الروايات التاريخية المعروفة لهذه الحملة ويوضح كيف تناقلها المؤرخون وزادوا في لهجتها الدينية مع الزمن. في هذا السياق ذكر الكاتب فتوى ابن تيمية (ت. 1328 م) بخصوص تكفير العلويين أوضحت مدى جهل صاحب الفتوى بالفرق بين العلويين والرافضة والقرامطة، مما يدل على أن الفتوى عامة تشمل كل الفرق “الضالة”. النسخة الثانية من الفتوى والمنسوبة لابن تيمية تخلط بين العلويين والدروز والنسخة الثالثة استخدِمت لإنتاج تبرير ديني لحملة عام 1318 م، وهي تشبه الفتاوى التي استخدمت في تبرير حملة كسروان. أخيراً، يذكر الكاتب ضريبة مجهولة فرضها المماليك على بعض المناطق العلوية تسمى “درهم الرجال” وهي ضريبة على الأفراد وليست على الأراضي. وهي تشبه بذلك الجزية لكنها ليست جزية لأنها لم تُفرض على كل المناطق العلوية، ويبدو أنها كانت ضريبة تأديبية.
 
ويناقش الفصل الثالث دخول الجبال الساحلية ضمن الإمبراطورية العثمانية في حروب السلطان سليم (1516 م) ضد أعدائه الصفويين الذين حاولوا بسط نفوذهم على المناطق الشرقية من الأناضول والتي تسكنها فرق دينية صوفية (مثل العلوية والبكداشية) قريبة من مذهب التشيع الذي اعتمده الصفويون (في الحقيقة كانت هذه المناطق شبه مستقلة وأعاد سليم إخضاعها). حملة التصفية لشيعة حلب ومن جاورهم من العلويين أثناء دخول السلطان سليم إليها لا تقوم على أدلة تاريخية قوية. ويعتقد الكاتب أن الشيعة في حلب اقتصروا على بعض القرى بعد تحوّل حلب إلى التدين السني أثناء حكم الزنكي والأيوبي. لكن الكاتب يكشف النقاب عن تمرد في المرتفعات العالية شرق جبلة عام 1518 م. التمرد محلي (أول ذكر لعشيرة الكلبية) ويماثل تمرد 1318 إذ سبقه مسح ضريبي للمناطق الجبلية ولعموم سوريا من أجل إدخالها في البيروقرطية العثمانية وتقدير الضريبة التي يجب فرضها. وهذا يقودنا إلى أن فكرة الملجأ الجبلي لفرقة دينية مضطهدة، هي فكرة حديثة لبناء المظلومية لا تدعمها الأدلة التاريخية. كل الأفكار التي لا تنجح في المراكز الحضرية الكبرى تتجه نحو الأطراف، حيث يتماهى التمرد السياسي على المركز مع الهرطقات أو التمرد الديني. لم يلجأ العلويون إلى جبال الساحل ولا الموارنة والدروز إلى جبال لبنان ولا الشيعة إلى جبل عامل ولا الإسماعيليون إلى مصياف ولا اليزيديون إلى جبل سنجار. هذه المناطق لم يصلها الإسلام كما لم تصلها المسيحية إلا في مراحل متأخرة وبأشكال مختلفة عن أرثوذكسيات المدن الكبرى؛ والخليفة أو الملك لم يكن رئيس الدعاة ولم تتعدَ همومه جمع الضرائب من رعيته. وعلى العكس كان الإتهام بالهرطقة فرصة لفرض الضريبة التأديبية أكثر منها لقتل الفلاحين إذا لم يكن استبدالهم سهلاً.
 
تابع العثمانيون فرض ضريبة “درهم الرجال” (الأرشيفات تغطي الفترة بين 1519 إلى 1646 م) لقرن من الزمن على بعض المناطق العلوية مما مكن الكاتب من التعرف على القرى التابعة للنواحي الجبلية المختلفة (فقط القرى التي دفعت الضريبة) وكيف تعامل معها العثمانيون. هذه النواحي هي من الجنوب إلى الشمال صافيتا، القليعة، الخوابي، الكهف، جبلة، بلاطانوس (القرداحة)، وصهيون، واللاذقية. الهم الأكبر كان مسح هذه القرى وتقييم الضريبة وجمعها، وليس التأديب على أساس ديني رغم أن عبارات مثل “المتمردين” و”الرافضة” و”النصيرية” و”الفئات الضالة” ترددت في الأرشيفات، وهناك تعابير مشابهة للفئات المتمردة الأخرى في الإمبراطورية. أنهى الكاتب الفصل بمراسلة موجهة عام 1584 من الباب العالي إلى طرابلس ينوه الباب العالي فيها إلى تسلمه العريضة التي تتحدث عن جلب “الطائفة النصيرية من الروافض” الخمر وبيعه في أسواق المدن وإلى قبوله اقتراح طرابلس بفرض ضريبة الخمر وضريبة الدمغة وضريبة الميزان على هؤلاء البائعين في أماكن البيع مثل حمص وغيرها من الأماكن المذكورة في العريضة.
 
الفصل الرابع يقسم علويي الجبال إلى قسمين، شمالي يتجمع حول القرداحة والبهلولية وبيت شلف وجنوبي يتجمع حول صافيتا. القسم الجنوبي غلبت عليه القيادة الإقطاعية العشائرية. وهذا نسق اشتركت فيه كل المناطق السورية بسبب اتباع الدولة لسياسة لامركزية (في القرنين السابع والثامن عشر) تعتمد على جباية الضرائب (إقطاع، مزارع ضريبية، ضمان، إلتزام) من العشائر القوية المحلية؛ مثل بيت شمسين وبركات وصقر ورسلان في صافيتا. وكان لعشيرة الرسلان دور سياسي في المنطقة من خلال حروبهم مع الإسماعيليين في مصياف واشتراكهم في المنافسة بين والي دمشق ووالي طرابلس. أما القسم الشمالي فغلبت عليه قيادات عسكرية (مقدمون) اعتمدت في مدخولها على قطع طريق حلب اللاذقية وغزو القرى. وهو الأمر الذي لا نزال نراه الى هذا اليوم، إذ أن عائلة الأسد لا تزال في معظمها عصابات وشبيحة (الأعمام وابناء العم). صعود اللاذقية في أواخر الثامن عشر وبداية التاسع عشر كمرفأ تجاري للحرير والتبغ ومنتهى القوافل بين حلب واللاذقية المحملة بالبضائع لحساب الفرنسيين والتجار المحليين جعل من الضروري صعود العداء بين أصحاب المال وبين قطاع الطرق في الجبال. الفرنسيون تعاملوا مباشرة مع قادة الغزو ودفعوا لهم إتاوات مقابل حماية القوافل، أما أهل اللاذقية فاعتمدوا على المتسلم العثماني وعلى جنوده وعلى التجييش الديني. وأهم المشاكل ذات الطابع الطائفي كانت بين عصابات القرداحة والبهلولية وبيت شلف وببن تجار اللاذقية ومشايخها. ولذلك كان هؤلاء يدفعون متسلم اللاذقية ليضرب العصابات بقوة؛ وطبعاً كانت هذه القوة تشمل القرى وأهلها وتعتمد أحياناً على فتاوى دينية وأحياناً على رغبة المتسلم في تحسين سمعته أمام الباب العالي. فكانت كل حملة على القرى العالية تنتهي بجلب العديد من الرؤوس المقطوعة وإرسالها إلى اسطنبول على أنها رؤوس قطاع الطرق. وكان رد العصابات عشوائياً مثل عمليات المتسلم، فكان يشمل القرى والمدن وينتهي بالحرق والقتل والسلب. وهذه قصة تشبه قصة حمص مثلاً مع البدو. لكن البدو لم يطوروا هوية طائفية وإن كانت القبائلية ليست ببعيدة عن الطائفية لكنها دون قصة مظلومية.
 
الفصل الخامس يناقش الفترة المحورية من أول القرن التاسع عشر إلى احتلال إبراهيم باشا لسوريا وأثناء فترة حكمه. قبل عام 1831 كانت سوريا تعج بأمراء الحرب، مثل حالها اليوم. فكان السلاح منتشراً وسلطة الدولة ضعيفة والمنافسة شديدة بين المتسلمين في المدن وأمراء الحرب في البوادي والقرى والجبال. بعض هؤلاء كانوا سنة عرباً وبعضهم بدواً وبعضهم أكراداً (جبل الأكراد) وبعضهم دروزاً وبعضهم علويين (بعضهم تركمان إلا أن تسمية جبل التركمان حديثة جداً). المعارك والمناوشات كانت كثيرة وكان لبعضها صفة طائفية. ولا ننسى أن المدن أيضاً كان فيها أمراء حرب (أنظر مسلسل الحصرم الشامي عن أغاوات المدن). طبعاً البسطاء والفلاحون كانوا وقود هذه المناوشات. وأهم مثال على تحول بعض هذه المناوشات بين أمراء الحرب إلى حرب طائفية تدخلت فيها الدول هي أحداث 1860 في جبل لبنان ودمشق. إنها فعلاً كانت حرب أمراء عصابات تحولت إلى مجازر (ضد الطرف الخاسر) لأسباب اقتصادية وسياسية واستراتيجية. وقبل ذلك تحالف بعض قادة العلويين في الشمال مع إبراهيم باشا ثم لم يلبثوا أن انقلبوا عليه بالتعاون مع الدولة العثمانية نفسها، وذلك لأنه أراد سحب سلاحهم وإدخال أولادهم في الجيش الجديد. في الحقيقة طبق إبراهيم باشا إصلاحات واسعة وجذرية وأعطى الجميع حقوق المواطنة وأنشأ المجالس المحلية وأعطى حصصاً للأقليات فيها. لكن العقلية العشائرية انتصرت لأنها كانت ولا تزال قوية في سوريا. أما بعد خروج إبراهيم باشا عام 1841 فإن الدولة العثمانية دخلت في مرحلة إصلاحات هائلة أدت إلى صعود فاعلين اجتماعيين جدد وهبوط آخرين في كل المناطق.
 
يبدأ الفصل السادس بالعهد الحميدي (1908-1876) وهو قمة التغيير الذي بدأته التنظيمات، والذي أدى إلى نشوء دولة مركزية قوية حديثة على النمط الأوروبي؛ وما يتبع ذلك من محاولات لحشر الرعية في إطار المواطنة الذي تنازعته قوتان، قوة العثمانية والإنتماء للدولة كمواطنين لهم حقوق وواجبات، وقوة الهوية الإسلامية التي استخدمها السلطان عبد الحميد لوقف التدخل الغربي السياسي وتقدم البعثات التبشيرية دينياً وثقافياً. ولم يكن رد فعل العلويين على السياسة الحميدية بإنشاء مساجد ومدارس عداءاً محضاً، وإنما اختلف من منطقة إلى أخرى باختلاف الاستفادة أو القدرة على الاستفادة من الإصلاحات وباختلاف تعسف الأعيان المحليين وممانعتهم لتنفيذ قرارات الدولة. كثيرون استفادوا من افتتاح المدارس في مناطقهم والمشاركة في المجالس البلدية، وكتبوا عرائض للدولة وطالبوا بما يعطيهم القانون من حقوق. كما ساعدت هذه الإصلاحات، رغم كل أخطائها وعثراتها، على نشوء طبقة وسطى علوية متعلمة ونهضة أدبية ومعلمين حاولوا نشر التعليم في القرى النائية ووعي سياسي تطور في فترة الانتداب الفرنسي إلى وعي طائفي انفصالي عند البعض أو إلى وعي عروبي يطلب الاتحاد مع المركز عند البعض الآخر. وقد أحسن الكاتب في هذا الفصل بجمع تاريخ التجمعات العلوية في كيليكيا وأنطاكيا وسوريا، مما ساعده على توضيح الأنساق التاريخية المشتركة والأخرى غير المشتركة. بالنسبة للدولة التركية الكمالية فقد تابعت إصلاحات الفترة الحميدية وأعطت للمجتمعات العلوية في كيليكيا (هاجرت في عهد إبراهيم باشا) وأنطاكيا فرص كثيرة للتطور الإقتصادي والمجتمعي وحرية دينية. لكنها اتبعت سياسة إندماج قائمة على الإنتماء التركي العرقي واللغوي. هذه الفرص جذبت حتى بعض العلويين من الشمال السوري في أوائل الإنتداب الفرنسي، فالكاتب يكشف عن مراسلات بين الشيخ صالح العلي وكمال أتاتورك عرض فيها الأخير إدخال المنطقة التي يسيطر عليها الشيخ في الاتحاد التركي العلماني.
 
الكتاب الذي بين أيدينا مثير فعلاً ويجب أن يقرأه الجميع، ويحتوي على كم هائل من المعلومات الأرشيفية تحتاج إلى عدة كتب لتكشف أهميتها وتبعاتها. إنه تاريخ منطقتنا بأسرها في مسيرتها التحديثية الطوعية أو المفروضة. بعض ما قدمه الكاتب فرضيات وقراءات مطاطة للمراجع التاريخية (وهي بطبعها غامضة وقابلة للمط) لكنها تشير إلى وجود منظومات تفسيرية أخرى غير المظلومية والاضطهاد الممنهج والعلاقة الإشكالية. ولابد من القول بأن ظهور الطوائف مرتبط بالدولة الحديثة وفرض سياسات مركزية منهجية معممة وتأطير المجتمعات المحلية ضمن الحلقة الاقتصادية-السياسية  للدولة مثل الضريبة والخدمات والتجنيد والتعليم والإقتصاد الوطني والضمان الإجتماعي. الطائفة مفهوم سياسي أساسه توحيد الهوية من أجل توحيد التمثيل السياسي وبالتالي توحيد الفوائد والمضار التي تأتي من جهة الدولة. يمكن أن نتكلم عن أيديولوجية سنية للدولة العثمانية لكن لا يمكن أن نتكلم عن طائفة سنية أو طائفة علوية أو مسيحية. الدولة القديمة كانت تستعين بالدين لتأكيد شرعيتها، لكنها لم تكن تقوم بالضرورة بفرض مذهب معين أو دين معين أو معاقبة فئات اجتماعية لأنها كافرة. فتوى ابن تيمية لم تكن سياسة رسمية للدولة المملوكية، والحملات التأديبية، إن وجدت، لم تكن لمجرد معاقبة الهراطقة وإنما كانت لأسباب متعلقة بالدولة ثم قام علماء الدين بتبريرها من منطلق شرعي. إن الحل في سوريا ليس في متابعة ممارسات الدول القديمة وأمراء الحرب والطوائف من الطرفين وإنما في إيجاد نموذج للعيش المشترك تحت سقف دولة المواطنة وتكافؤ الفرص والحريات.
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك