الاستشراق في خدمة الكولونيالية

مصطفى عاشور

 

“ولو أن أحدهم كتب كتابًا في تاريخ أمته، بمثل العقل والمنطق اللذين يكتب بهما في تاريخ الإسلام، لكان مصير ما يُطبع منه أن يظل مطروحًا عند ناشره، حتى يفتح الله عليه فيبيعه بالجملة لمن يستعمله لشيء يُتقَزَر منه غير القراءة”..هكذا يتحدث العلامة أبو فهر “محمود شاكر” في كتابه “أباطيل واسمار” عن منهج كثير من المستشرقين في التعامل مع التراث والتاريخ الإسلامي، فالمستشرق تغيب عن الموضوعية والحيادية، وينظر بعين كليلة سقيمة إلى الإسلام، نصا، وحضارة.

وقد ارتبط الاستشراق لفترات طويلة بالاستعمار، فكان ذراعه الفكرية، فمهد له الطريق للوصول إلى المجتمعات لاحتلالها  واستغلالها، وأمـد الاستعمار بالعمق المعرفي، بعدما بذل المستشرقون جهودا مضنية لصياغة معرفة يمكن أن تساعد في إخضاع المجتمعات، فجابوا الصحاري، وأتقنوا اللغات واللهجات، وأنتجوا الكتب والترجمات والقواميس والمعاجم، ورصدوا حركة المجتمع، ووضعوا بين يدي الاستعمار مادة علمية وفيرة، فتجسدت المجتمعات في كيان تبدو فيه مواطن القوة وأماكن الضعف.

وتأتي مجلة “دراسات استشراقية” الفصلية لترصد وتحلل جانبا مما كتبه الاستشراق عن الإسلام وأهله وبلدانه، وتكشف كيف رسم الاستشراق تلك الصورة الذهنية التي بررت الاحتلال والاستغلال والانتهاكات، ومن ثم فما تقوم به المجلة مهمة جليلة، في هذا الجانب الذي لا يسترعي انتباه كثير من المثقفين والمفكرين، وفي هذا العدد (21) شتاء 2020، الصادر في مائتي صفحة، عدة موضوعات، منها: بلاد شنقيط والمستشرقون، وجمع القرآن وموقف المستشرقيين السويديين، والاستشراق الفرنسي والإرث الثقافي الكولونيالي، والمرجعية الهندية للتصوف الإسلامي، والإسلام في مرآة فلاسفة الأنوار، والغرب وتعزيز صورة الصراع بين المسلمين.

المحظرة والفرنسة

رغم بساطتها في البناء، إلا أن دورها في بناء الإنسان كان عظيما، لم تهتم “المحظرة” كثيرا بالأحجار، وإنما صرفت غايتها لتأسيس ذاتٍ قويةٍ ترفض الخضوع الفكري والسياسي، لذا تعرضت لتضييق وتشويه في ظل الاحتلال والاستشراق الفرنسي.

يسبق  الاستشراقُ فرنسا إلى بلاد الشنقيط (موريتانيا) ليستكشف أرضها وأهلها، وكانت المحظرة أكبر اهتماماته، لدورها في الحفاظ على الهوية ومقاومة التبشير، ويعد المستشرق “موليين” Mollin” من أوائل من تنبه لدور علماء شنقيط في بث الإسلام والحافظ على الهوية الدينية في غرب أفريقيا، وكذلك المستشرق “بول ديبيي” Paul Dubie الذي أعطى اهتماما خاصا للثقافة الشنقيطية، والمحظرة على وجه التحديد، أما الصحفي “غاستون دوني” Gaston Donnet فعبر الصحراء مصمما على معرفة كيف نشأت دولة المرابطين، واستوقفه في كتابه “رحلة عبر الصحراء” مكانة علماء شنقيط، والظروف الصعبة التي يتلقى فيها الأطفال تعليمهم.

واهتم المستشرق “إتيان ريشي”Etienne Richet بالحضور الصوفي في المحظرة، وأدهشة الثقافة العميقة والفاعلة التي يتمتع بها الصحراويون، لكنه نظر بنوع من الاستعلاء على المحظرة وطريقة تعليمها، واستوقف المستشرق “فرنسيس دو شاسيه” Francis De chassey  ملكة الحفظ المدهشة عند الشناقطة، إذ أن جُل معارفهم محفوظة في صدورهم، ومنقوشة في بواطنهم، كأنهم مكتبات ضخمة تتنقل على الأرض، ومدح المستشرق “بول بنليفي Paul Painleve  في مذكراته التعليم في المحظرة، معتبرا إياه مفخرة لأهل شنقيط..

وهناك كثير من التقارير كتبها الضباط عن التعليم والمحظرة، ومن ذلك ما كتبه القس “بول بوالا” l’abbé Boilat الذي كان يعمل لحساب الاستعمار الفرنسي في السنغال، ولاحظ تأثير المحظرة في نشر الإسلام ومقاومة التبشير، وكذلك كتب عن شنقيط بعض الأفراد مثل المترجم السنغالي “دودوسك” الذي تسمى بـ”ولد ابن المقداد” Ould Ebnoul Moqdad والذي درس في المحظرة وتضلع في اللغة العربية والعلوم الشرعية، لكنه سخر معارفه لخدمة الاستعمار، ومن ثم فالاستشراق الفرنسي اعتنى بدراسة المحظرة، وأبدى اهتمامه بالتراث الديني والثقافي للمجتمع الشنقيطي.

وقد قاوم الغالبية من علماء شنقيط ضغوط الاستعمار الفرنسي للكتابة عن الثقافة الشنقيطية، معتبرين ذلك نوعا من التعاون مع الاستعمار، حتى إن العلامة “البشير بن أمباريكي” عندما تعرض لضغوط ليقبل التعاون مع الفرنسيين، دعا الله قائلا:” يا رب من أراد لي إمارة عند النصارى ثَقلن أوزاره، واجعله في الدنيا فقيرا فاسقا؛ لا يلقي بعد الموت شيئا لائقا”، لذا قطعت فرنسا علاقة الشناقطة بمحيطهم الإسلامي والعربي والأفريقي، وفرضت القيود على الحج واستيراد المصاحف.

وقد توالت ترجمات المستشرقين لكتب علماء شنقيط، فترجم مثلا “بول مارتي” Paul Marty كتاب “أخبار الأخبار بأخبار الآبار”، ويلاحظ أن بعض الكتب أُلفت بطلب من الاستعمار نظرا للاهتمام الذي أولاه المستشرقون ببلاد الشنقيط، وكانت الغاية هي التاثير في ثقافة أهل شنقيط، بعدما وجد الاستعمار ماضيا وأمجاد يحتفظ بها الناس في ذاكرتهم، ومؤسسات اجتماعية وتعليمية تساهم التثقيف وبناء الهوية.

ولكن.. ما رأي المستشرقين في المحظرة؟

أتي غالبية المستشرقين من جامعات أوروبية لها تقاليدها التعليمية الراسخة، ومناهجها، ومبانياها الفخمة، وهو ما أثر في نظرتهم إلى المحظرة ذات البناء البسيط، والتي لا يتوفر لها جهاز إداري فعال، ولا ميزانيات، ولا هيئات تعليمية منضبطة، ولا مكتبات، أي أنهم نظروا بعيونهم وسابق خبراتهم إلى المحظرة، ولم يدركوا قوتها وتأثيرها في بناء الشخصية وصيانة الهوية وطبيعة المعارف التي تقدمها في ظل الطبيعة الصحراوية القاسية، لذا رأي بعضهم أنها مؤسسة عديمة الفائدة، تفتقد إلى المشروع الثقافي والرسالي، لكن ما استوقف الاستشراق هو الأعداد الضخمة من الطلاب الذين كانوا يستفيدون من التعليم في المحظرة، والحماسة التي يستقبلون بها تعليمهم في ظل الظروف القاسية.

أدرك المستشرقون أنهم كلما اقتربوا من فهم المجتمع في شنقيط كلما امتلكوا القدرة على التأثير فيه، لذا دعا المستشرق “بول مارتي” الاستعمارَ إلى الاهتمام بالمحظرة لأنها هي التي تخرج الدعاة والقضاة والأئمة، معتبرا إياها عقبة أمام الاستعمار وأمام التنصير خاصة في منطقة غرب أفريقيا وحوض نهر السنغال، حيث لقي المبشرون عنتا كبيرا في تلك المنطقة من الأشخاص الذين تعلموا في المحظرة، وهو ما أكده الرحالة “موللين” Mollin عندما تحدث عن دور التجار من أبناء المحظرة والذين كانوا يفرشون بضائعهم وعلمهم للناس فنشروا الإسلام في مناطق لم يستطع المبشرون أن يصلوا إليها في قلب أفريقيا.

وقد شكل الاستعمار الفرنسي من المستشرقين لجانا لاحصاء المحاظر في موريتانيا، وجمع المعلومات عن شيوخها، فكتب “كوستاف أودان” وثيقة عن المحاظر في منطقة “كيدي ماغة” وأحصى (166) إماما ومعلما، واعترف “أودان” بحرق الاستعمار لثلاثة مكتبات كبرى، كما انتهج الاستعمار الفرنسي سياسات لاحتواء المحظرة، فأصبح لا يمنح ترخيصها إلا لمن يراه لا يشكل خطرا على الاستعمار، ووضعت شروط على كل طفل يلتحق بالمحظرة أن يقضي ساعتين يوميا في المدرسة الفرنسية، أو أن تخصص المحظرة ساعتين يوميا لتدريس الفرنسية، وحاربت فرنسا المحظرة خارج موريتانيا، ومن هنا لعب الاستشرق دورا في فهم المحظرة ودورها في تعميق الهوية الدينية، وكيفية مواجهتها وقمعها.

الاستشراق والكولونيالية

كان الراهب الفرنسي “جريردوي أورالياك” الذي تعلم في الأندلس، وتقلد منصب البابوية في روما، تحت اسم “سلفستر الثاني” (999م-1003م) أول بابا ينشيء أول مدرسة عُنيت بتدريس اللغة العربية وآدابها وهي مدرسة “ريمس” Reims، غير أن البداية الفعلية للاستشراق الفرنسي تعود إلى القرن الثاني عشر الميلادي مع ظهور أول ترجمة لاتينية للقرآن الكريم عام 1143م، وظهور قاموس لاتيني-عربي، فتزايد الاهتمام بالعربية والترجمة عنها، ووصل عدد الترجمات إلى ثلاثمائة في القرن التالي.

وقد عرف الاستشراق الفرنسي طفرة على يد “غوليوم بوستيل” Guillaume Postel (1505-1581م) الذي أنشأ أول كرسي للغة العربية في باريس، وتلك كانت البداية، وفي القرنين (16و17) الميلاديين يعرف الاستشراق نهضة علمية مع ظهور الطباعة، ثم تنامى مع الاحتلال الفرنسي لمصر عام 1798م، ثم احتلال الجزائر 1830، وتونس 1881م.

وكان القرنان (19و20) الميلاديين العصر الذهبي للاستشراق الفرنسي، فعقد أول مؤتمر دولي للاستشراق في باريس عام 1873م، وتجاوز عدد المخطوطات العربية سبعة آلاف مخطوطة في المكتبة الوطنية في باريس، ومع الاستعمار زاد الاهتمام بالاستشراق.

وصرح “رايمون طوماسي” Raymond Thomassy أحد منظري الاستعمار، بضرورة توظيف العلم لتعبيد الأرض التي ستزحف عليها الجيوش، وبعد هزيمة المغرب في معركة “إيسلي” عام 1844م أخذ الاستشراق يأخذ مكانه في الرؤية الاستعمارية، خاصة مع الأب “شارل دو فوكو”  Charles de Foucauld‏ ، ثم “ميشو بلير” Michaux Bellaire الذي أعد جملة من الأرشيفات عن مدن المغرب وقبائلها، ثم جاء تأسيس مجلة العالم الإسلامي the Revue du monde musulman عام 1906 التي أسسها ” لو شاتلييه ” La chatelier .

والمعروف أن الاستشراق الفرنسي الميداني المباشر بدأ مع اكتشاف رأس الرجاء الصالح عام 1488م، فتدفق المستشرقون وافتتحوا مراكز التبشير في أفريقيا، وكان أولها في الكونغو عام 1491م، ثم تحددت مناطق الاستشراق الفرنسي بعد احتلال الجزائر، ثم السنغال 1851م وتوسع الفرنسيون في الشام وشبه القارة الهندية.

ومع نهاية القرن التاسع عشر ساهم الاستشراق الفرنسي في وضع الأجندة الاستعمارية، وتجنيد البعثات العلمية للتمهيد للاحتلال وفرض الحماية، ويعتبر “سيلفستر دي ساسي” Silvestre de Sacy رائد الاستشراق الكولونيالي، وتتلمذ علي يديه أبرز المستشرقين الأوروبيين الكبار، ويرجع له الفضل في جعل باريس مركزا للدراسات العربية.

وكان الرجل حلقة الوصل بين الاستشراق والسياسية الاستعمارية الفرنسية، فكان في طليعة جيوش الاحتلال، وكانت مهمته ترجمة منشورات الجيش، ومنها منشورات نابليون في مصر عام 1798م، والاعلان الفرنسي للجزائريين عام 1830م، أما الأخطر في أدواره فكان كتاباته التي رسمت المعالم السلبية لصورة الشرقي والمسلم في الذهنية الغربية.

وقد حاول الاستشراق الكولونيالي الفرنسي أن يزاوج بين إرادة المعرفة وإرادة السلطة وإرادة الغزو والاحتلال، فمثلا ألف “مولييراس” August Molieras كتاب “المغرب المجهول” عام 1895م  والذي يعد أول بحث أنثروبولوجي يتناول العادات والتقاليد السائدة في المجتمع المغربي.

وكانت مدرسة الجزائر التي تأسست تحت رئاسة المستشرق “رينيه باسِّيه” Rene Basset عام 1879م المختبر الرئيس للفكر الكولونيالي حول المغرب، وكذلك دراسات “ميشو بلير” عن القبيلة المغربية، والصراعات القبلية، أما المستشرق “جاك بيرك” فكان يرى أن الاستشراق سينتهي من تلقاء نفسه عندما تتجاوزه دراسات الشرقيين في المعرفة: عمقا، ودقة ، وجدية.

المصدر: https://islamonline.net/36535

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك