شرّ المأساة السّوريّة وسؤال المصير المشترك؟

لحسن أوزين

 

ربّما لا أحد من القرّاء – قبل اندلاع الثّورة السّوريّة – كان يصدّق حجم العذاب المهول الّذي عاناه النّاس في القوقعة، وهي تتحدّث عن الكمّ الهائل من الإعدامات، من الموت الحافي الّذي يتربّص بالسّجناء في أي لحظة كومض البرق الخاطف للحياة تحت وقع التّعذيب والتّشويه والكثير من الألم المروع. كما أنّ الكثير من النّاس في شرق المتوسّط لم يكن يصدّق القدرة والاستعداد الرّهيب النّفسي والسّياسي لقتل النّاس بهذه الطّريقة العارية من أي التزام أخلاقي قانوني وإنساني من طرف الاستبداد والدّاعشيين والحشديين وكلّ فرق الموت، ليس في سوريا فقط، بل أيضا في ليبيا العراق…

لم نكن نصدّق أنّ قراءتهم الاستشراقيّة السّوسيولوجيا والأنثروبولوجيا الكولونياليّة لتاريخنا وقيمنا ومكوّناتنا السّوسيولوجيّة والثّقافيّة، كمكوّنات إثنيّة دينيّة مذهبيّة وثقافيّة…، ستنتصر سياسيا وعلى الأرض في جعلنا مجرّد فرق وطوائف وهويّات قاتلة. إنّها القراءة نفسها الّتي خلّفت جريمة ضدّ الانسانيّة في الإبادة الرّونديّة. هكذا دفعنا الثّمن مضاعفا ولازلنا في بداية الكارثة نتيجة عنادنا المتصلّب في تمجيد الذّات المهترئة والمنخورة من الدّاخل بلوثة خيال العظمة المرضي، والتّميّز الدينيّ والمذهبيّ العصبيّ الطّائفيّ لخير أمّة أخرجت للنّاس. فمن لا يرغب أو يحسن قراءة تاريخه وفضح علاّته ومناطق ظلّه المتخلّفة والعفنة عليه أن يدفع الثّمن الباهظ.

لقد أدّى فقر الدّم التّاريخيّ عند الكثير من المثقّفين والمفكّرين إلى نوع من الموات الأبدي في معاودة إنتاج الأسئلة الخاطئة نفسها في التّغيير والإصلاح والنّهضة والثّورة والتّنمية فثقل المتخيّل التّاريخي في تمجيد الماضي البطوليّ إلى درجة القداسة عطل عمليّة النّقد التّاريخيّ بمعناها الفلسفيّ والمعرفيّ الإبستمولوجيّ وفق المقاربات والمنهجيات الحديثة في قراءة المسكوت عنه والمهمّش والمغيّب وراء سياسة بناء حقيقة التّاريخ المتداول. وفي هذا السّياق استغربنا انتصار جورج طرابيشي لابن خلدون2 في حواره السّجاليّ مع محمّد عابد الجابري الّذي لاحظ عنف ووحشيّة الخطاب الخلدوني “إنّ ما يلفت النّظر في الخطاب السّياسيّ الخلدونيّ هو أنّه خطاب تهيمن فيه المفاهيم والعبارات الدّالة على الاستبداد والعنف. ومن ذلك: غلبة المدافع والممانع، الافتراس، الاستطالة، الاستيلاء على الملك، انتزاعه، استبداد صاحب الدّولة على قومه، الانفراد بالمجد، كبح من التّطاول، جدع أنوف العصبيات، فلج شكائمهم، قرع عصبيتهم، كبح أعنتهم، استئثاره بالمال ونهم، رئموا المذلّة والاستعباد، خضد من الشّوكة…تغيب بصورة تامّة المفاهيم الّتي تقابلها وتضادّها، أعني المفاهيم الّتي يتشكّل منها عادة الخطاب السّياسي المدني مثل مفاهيم: الحقوق والواجبات، الحريّة، المسؤوليّة، العدل، القانون، الفرد، الشّخص، الحكومة، الانتخاب.” 3 وبدل أن يعمّق طرابيشي إشكاليّة الجابري ويحاول أن يتجشّم عناء البحث العلميّ الحقيقيّ في محاولة تجذير سؤال الديمقراطيّة من خلال تشريح أصول وأسس الاستبداد العربيّ الاسلاميّ، ذهب في اتّجاه نقد أطروحة الجابري وفق منهجيّة جدول الحضور والغياب الّتي مارسها الجابري، لكن طبقها طرابيشي بشكل معكوس لأنّ غرضه تكذيب الجابري أكثر ممّا هو مهتمّ بالإسهام في إنتاج المعرفة العلميّة حول طبيعة الطّغيان العربيّ الاسلاميّ في أسسه الماديّة والثّقافيّة الرّمزيّة. وضدّ هذا الغرض العلميّ عمل طرابيشي بمنهجيّة نقديّة تطارد “الحقيقة” تبعا لثنائيّة الصّحيح والخطأ مبيّنا خطأ الجابري في توصيفه للمدن اليونانيّة وما عاشته من ديمقراطيّة بعيدة عن العنف السّياسيّ، وقريبة من الحياة السّياسيّة المدنيّة. ” وإذا عدنا الآن إلى مقارنة بين مستوى الطّابع العنفيّ في الخطاب الخلدونيّ وفي الخطاب السّياسي العربي عموما وبين مستواه في الخطاب الثّوقوديدي وفي الخطاب السّياسيّ “المدني” اليوناني عموما، فلن نتردّد في قلب الموازنة الجابريّة لنؤكّد أنّ كمّ العنف ودرجته في الحضارة اليونانيّة أكبر وأعلى- وربّما لا يقاس- من كمّه ودرجته في الحضارة العربيّة الاسلاميّة….ولكنّنا سنلاحظ أنّ العنف في هذه الحضارة كان يتمحور حول السّلطة السّياسيّة، أمّا المجتمع الأهلي- ولن نقول “المدني” خوفا من التباسات كثيرة- فكان نسبيا في منجى منه. فالحضارة العربيّة الاسلاميّة شهدت حروب سلالات وعصبيات، وحروب أمراء وطالبين، وحروب مرتزقة ومتسلّطين، ولكنّها لم تشهد حروب مدن كتلك الّتي شهدتها اليونان الكلّاسيكيّة. فالحرب كانت على السّلطة في المدن، لا بين المدن. وبديهي أنّه ما كان يندر أن يقع السّكان المدنيون أنفسهم ضحايا لحروب المتزاحمين على السّلطة السّياسيّة، ولكن لم يحدث في تاريخ الحضارة العربيّة الاسلاميّة -إلاّ على سبيل الاستثناء لا القاعدة- أن استبيحت المدن في الحروب الدّاخليّة وذبح رجالها عن بكرة أبيهم واغتصبت نساؤها واستعبد أولادها ومحي موقعها من الوجود على ذلك النّحو الجماعي والنّظامي الّذي عرفته المدن اليونانيّة.”4 أوردنا هذا النّص رغم طوله لضرورة منهجيّة ومعرفيّة تفرضها كارثة شرّ المأساة الّتي تعيشها شعوبنا من تهديدات من أنظمة الاستبداد الإباديّ وبحماية دوليّة في الانتصار للجرائم ضدّ الانسانيّة. صحيح أنّ طرابيشي يشير إلى المصادمات الطّائفيّة مثل الّتي حدثت في حيّ الكرخ ببغداد لكنّ “السّكان المدنيين لم يأخذوا قطّ صفة الأعداء الّذين برسم الأسر والاستعباد والإبادة.”5 فهل حقّا هكذا كانت الحضارة العربيّة الاسلاميّة في سيرورتها التّاريخيّة؟ وهي الّتي أقامت اقتصادها السّياسي على الجهاد، أي اقتصاد المغازي، الّذي كان أفقه القبلي مسدودا، كاستبداد عصبي، سرعان ما تنهار دولته الحربيّة، لذلك كانت حركته دائريّة تلتهم في نشأتها ونهايتها المدنيين العزّل، إلى درجة تكفيرهم قصد استباحتهم، و منح شرعيّة دينيّة لاعتبارهم غنائم حرب، وهم مجرّد مجتمع أهلي، أو مدني.

إنّ ما يشغلنا الآن هو ما فجّرته من أسئلة حارقة الهزائم والمآسي الّتي عاشتها شعوبنا في التّاريخ الحديث والمعاصر في مواجهة المشاريع الاستعماريّة والصّهيونيّة، وصولا إلى المأساة السّوريّة، ومسؤوليتنا جميعا كتركيب اجتماعي اقتصادي، وبنى سياسيّة ثقافيّة، وفي الموروث الفكريّ والثّقافيّ الدينيّ، وفي أنماطنا الفكريّة وممارساتنا السّياسيّة أفراد وجماعات…، في صناعة التّسامح تجاه الطّاغية الّذي اُلتهم المجتمع والبلد بمن وما فيه. وفي سياق هذه الأسئلة القلقة المسكونة برعب السّؤال النّقديّ حول واقعنا الحيّ الّذي يراد له أن يبدو طبيعيا خارج التّاريخ والقوانين الماديّة الّتي تحكم المجتمعات في سيرورتها التّاريخيّة، كتب إبراهيم نصر الله مقالة ممتازة يبيّن إلى أي حدّ هذه الظاّهرة تطرح نفسها بشكل ملحّ وبجديّة ومسؤوليّة تتجاوز اللّغة الإيديولوجيّة.

“هذه الظّاهرة الرّسميّة العربيّة الّتي تتعامل مع ذاكرة البشر كما لو أنّها ذاكرة تُمحى في نهايات كلّ نهار، وتغدو صفحة بيضاء في الصّباح التّالي؛ في استطاعة الأنظمة أن تخطّ عليها ما تريد، مرعبة في الحقيقة. لكن لنعترف أيضًا أنّ شعوبنا تنسى، أو تتناسى في حالات كثيرة، إذ يغدو، مثلًا، مُرشحٌ مّا كأنّه طوق النّجاة لسفينة الشّعب كلّما اسودّت الدّنيا أكثر، مع أنّه ساهم في وأد أحلام هذا الشّعب وملاحقتها وسحقها لأزمنة طويلة، ويغدو أحد الرّموز الأمنيّة الّتي أذاقت البشر الويل قائدًا وطنيًّا تلتفّ حوله أحزاب، ويهلّل له أناس، بعضهم كانوا ضحاياه.

لكن، ولحسن الحظّ، أنّ هناك أناسًا لا ينسون، وإن كانت المصيبة قائمة في أناس يملكون قدرة غريبة على تكرار الأخطاء، والوقوع في براثن هؤلاء كلّما غيّر هؤلاء أقنعتهم.

في واقع عربي كهذا يصعب وضع حجر أساس للكرامة الوطنيّة والكرامة الحضاريّة، إذ تبدو المعادلة دائمًا: حتّى في وقائع حروب الدّمار العربيّ الّتي اجتاحت كثيرًا من الأوطان، إنّنا مخيّرون بين السّيء والأسوأ، وكأنّ السّيء هو المحطّة الأخيرة الّتي يتحتّم علينا أن نترجّل فيها، هربًا من الأسوأ. وهذا أمر غريب حقًا، إذ أنّ جريمةً أو مخالفة مّا، أو تصرّفًا شائنًا أو موقفًا معاديًا للإنسانيّة، يمكن أن يتمّ اكتشافه في حياة شخص مّا، خارج عالمنا العربيّ، يكفي أحدها لتدمير مستقبل هذا الشخّص إلى الأبد.

هل نحن، إلى هذا الحدّ، شعوب متسامحة مع طغاتها وجلاّديها وناهبي ثرواتها؟

بالطّبع، لسنا كذلك كلّنا! بدليل هذه الثّورات الّتي تندلع كلّما حشرنا وخُيّرنا بين السّيء والأسوأ، ما سيوصلنا كلّنا ذات يوم إلى رفع الشّعار الأوضح والأجمل: كلن يعني كلن.”5

فمن داخل هذه الهزائم والخراب والدّمار، وتهديد السّيء والأسوأ…، كيف يمكن النّهوض، وعلى أيّة أرضيّة يمكن البناء، كشعوب متنوّعة متعدّدة ومختلفة في مكوّناتها السّوسيولوجيّة والثّقافيّة، من الإثنيّة إلى الدينيّة والمذهبيّة… داخل كلّ بلد؟  لكن تجمعنا الهزائم والخيبات والمآسي، فالخنجر حافر في العمق، والدّماء الّتي تسيل في وطن دون آخر لا يعني الاستثناء، أو الخروج من دائرة الخطر. فأرضيّة البناء الرّاهنة في كلّ بلد لا يمكن أن تزيغ عن بعد وطني، أي وطنيّة تعي موضوعيّة المصير المشترك لتدبير التّوافق وبناء الاختلاف، بحيث لا يمكن لأي مكوّن كيف ما كان أن ينفرد بتقرير المصير الّذي هو مصير مشترك. إنّ وطنيّة مّا (ديمقراطيّة وحداثيّة) – بغضّ النّظر عن شكلها السّياسيّ مركزيّة أو غير مركزيّة حسب سيرورة النّقاش والتّواصل الخلاّق-  تطرح نفسها كحلّ وإجابة موضوعيّة لواقع التّحولات الرّاهنة، وذلك على خلفيّة المصير المشترك الّذي يشمل “الكلّ” دون استثناء “الجزء” لمواجهة الاستبداد المحلّي في النّظام وفي الهويّات القاتلة كيف ما كانت طبيعتها عصبيّة إثنيّة أو دينيّة…، ومواجهة  أيضا المشروع الصّهيوني والقوى الإقليميّة والامبرياليّة القديمة والمستحدثة.

******

الهوامش:

1-القوقعة: شرّ مأساة السّرد العاري(ج1) وكذلك في الجزء 2 من قراءتنا للرّواية.

https://www.alawan.org/2020/02/03/%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%88%D9%82%D8%B9%D8%A9-%D8%B4%D8%B1%D9%91-%D9%85%D8%A3%D8%B3%D8%A7%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%91%D8%B1%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AC1/

2- لماذا انتصر جورج طرابيشي لابن خلدون؟

https://www.alawan.org/2016/02/19/%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%B5%D8%B1-%D8%AC%D9%88%D8%B1%D8%AC-%D8%B7%D8%B1%D8%A7%D8%A8%D9%8A%D8%B4%D9%8A-%D9%84%D8%A7%D8%A8%D9%86-%D8%AE%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%86%D8%9F-1%D9%85/

3- جورج طرابيشي: نظريّة العقل، دار السّاقي، ط2، س1999، ص 307.

4 نفسه، ص 335.

5 – نفسه، 335.

6- إبراهيم نصر الله: هل نحن شعوب متسامحة مع طغاتها؟

https://www.alquds.co.uk/هل-نحن-شعوب-متسامحة-مع-طغاتها؟

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك