حركة التاريخ بين الكلانية والتجزيئية
وليد عبد الحي
عند مراجعة أدبيات تفسير حركة التاريخ نجد منهجين ثاويين في كل النصوص ، منهج يحاول التركيز على المسار العام لحركة التاريخ وهو المعني برصد الاتجاهات العظمى(mega-trends) ثم يربط بين هذه الاتجاهات العظمى ليفسر الحركة ويضع أساسا للتصور المستقبلي استنادا لخريطة الترابط هذه ، وهنا يتشكل المنهج الكلاني( Holistic ) القائم على فكرة محددة وهي أن محصلة تفاعل الاتجاهات العظمى في التاريخ هي أكبر من المجموع الرياضي لها.
أما المنهج الثاني والقائم على تجزئة قطاعات التاريخ والانفراد بها واحدة تلو الأخرى ومحاولة فهم المنطق الثاوي في جوهرها ثم إسقاط هذا الفهم على ” المشترك ” بينها، وهو منهج تجزيئي( Reductionism)، وهو منهج أزعم أنه يتوارى ولو بقدر من المماطلة.
لنقف عند الاتجاهات العظمى في التاريخ ونرصد أبرزها، مع التذكير أن هذه الاتجاهات تتزايد ولم تعرف في اتجاهها العام التراجع للخلف، مما يستدعي رصد الحركة العامة للتاريخ من خلالها، ومن خلال تفاعلها مع بعضها شريطة عدم نسيان أن مجموع تفاعلاتها أكبر من حاصل الجمع الرياضي المألوف لها :
1- الزيادة المتواصلة لعدد سكان العالم، فليس هناك ولو ليوم واحد في التاريخ كله تناقص”لمجموع” سكان العالم، فالحروب والأوبئة والكوارث الطبيعية كانت تنقص عدد سكان دولة أو إقليم معين لكن المجموع الكلي لسكان العالم في تلك اللحظة كان يتزايد، فالحرب العالمية الأولى والثانية أودت كل منهما بعشرات الملايين من السكان، لكن سكان إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية كانوا يتزايدون وبما يفوق المعدل السنوي لقتلى الحرب، ناهيك عن استمرار الولادة في مجتمعات الحرب ذاتها.
2- التراكم العلمي في شتى مناحي الحياة، هل يمكن لأحد أن يدلني على يوم واحد فقط كان حجم المعرفة العلمية فيه أقل من اليوم السابق عليه؟، فكل اكتشاف فردي أو جماعي أو نظرية أو منهجية أو تقنية تتطور يوميا، ويكفي التأمل في الآلات من حولك سواء في مجال آلات الحرب أو المواصلات أو الاتصالات أو الأدوية أو أنماط الإنتاج أو النظريات الاجتماعية أو الانسانية أو الفنون وحتى أنماط الألعاب وتطويرها، وهذا التطور هو المسؤول عن تغير البنية الفوقية لكل المجتمعات ولو بتباين في مستويات هذا التغير، فمساحة الحرب في زمن الحجر المسنون ليست بأي حال من الأحوال هي نفس مساحة الحرب في زمن الصواريخ عابرة القارات، وعالم لم يكن الأفراد فيها يعرفون شكل وصورة الحاكم وعالم يروه وهو يضرب بالبيض الفاسد، وانتقال بسرعة ركض الخيل ليس هو ذاته حيث انتقال بسرعة تفوق سرعة الصوت، ومجتمع كان يتشبب بامرأة سمع عنها فقط ومجتمع يراها تتعرى له تماما…الخ.
3- إجمالي الناتج المحلي العالمي، يجمع كل المؤرخين الاقتصاديين أن إجمالي الناتج العالمي خلال الألفي عام الماضية لم يتراجع فيه هذا الإجمالي في مساره العام، فقد يتراجع في دولة أو إقليم لكنه يتزايد في إقليم آخر لا سيما وأن الزيادة السكانية والتطور العلمي يعززا هذه الزيادة، وقد يتلكأ لفترة قصيرة لكنه يعود وبوتيرة أعلى من السابق وبمجموع يفوق ما سبق، فخلال الخمسة قرون الماضية زاد إجمالي الناتج العالمي أكثر من 350 ضعفا.
4- الترابط والتواصل بين المجتمعات، عندما كان المؤرخون القدامى يتحدثون عن ” العالم” كان في ذهنهم فقط آسيا وأفريقيا وأوروبا ، وأصبح مفهوم العالم مكتملا بعد 1492 م مع كولمبوس، ثم بدأ الترابط والتواصل والتداخل والتجارة والتثاقف سلما أو حربا يتزايد إلى أن وصلنا المرحلة الحالية حيث ظهر مصطلح العولمة وبدأ عصر انتهاء الانفصال بين الزمان والمكان أو ما سماه انتوني جيدنز ” Time-space Distanciation” وأصبحنا بالفعل قرية واحدة، وهو مسار لم يتوقف ولو للحظة واحدة.
5- التطور القيمي: ولعل هذا الاتجاه الأعظم الأخير هو الأكثر تعقيدا وإثارة للجدل، لكن التحلل من إسقاطات المنظور القيمي الذاتي يدل على أن تطور القيم هو اتجاه أعظم في حركة التاريخ، فالرق لم يعد موجودا بالكم والكيف السابق، ومكانة المرأة ليست هي ذاتها، وحقوق العمال ليست هي ذاتها، وتأليه الحاكم يتآكل، والديمقراطية تتسع. لكن رواسب التاريخ تجعل التقدم في هذا الاتجاه أكثر تعقيدا وأكثر مراوغة لكن المحصلة العامة تتسق مع الاتجاهات الأربعة السابقة.
لو وضعت الاتجاهات الأعظم الخمسة السابقة في مصفوفة ثم حاولت رصد التأثير المتبادل بينها، ستجد أنها تفسر التحولات الكبرى في العالم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتقنيا، وتفسر الحروب والسلام والصعود والهبوط على سلم القوى الدولية، وتفسر التلوث والفن في نفس الوقت، وتطور القيم ومراوغاتها.
المصدر: https://islamonline.net/36326