وهم الاكتمال وحبُّ التملك

محمد باباعمي

 

كلما تأملتُ ظاهرة لها علاقة بالنفس البشرية -بل بنفسيتي أنا كما أدركِها وكما أحاورها- أجد أن الجواب الصحيح يمكن أن يُستعار من عالـَم الطفولة البريء الشفاف، ثم يطبق على عالم الكبار المعقَّد والصعبِ الـمِراس.

يلحُّ الطفل “فراس” على والديه لشراء لعبة جميلة بديعة، قد تكون باهظة الثمن، مستعصية على مقدَّرات الأب المحدودة؛ فيركِّز الطفل على اللعبة في طلباتِه الملحة “التي لا تنتهي”، حتى تتحوَّل إلى حقٍّ مشروع، ولقد يُلحق ذلك ببعض التصرُّف المحمود، مِن مثل الاجتهاد في الدراسة، والإقلال من الأخطاء تجاه أخيه وأخته.. إلى أن يلين قلب الوالدين للحلم الكبير -والأم غالبًا هي مركز القرار- فيجمِعوا أمرهم، ويحرِموا أنفسهم من بعض الحاجات، ثم يبشِّروا الطفل باليوم الموعود لاقتناء ما حلُم به طويلاً.

تتسارع دقات قلب الطفل، فيختال في سعادة نشوان ولهان، كأنَّ العالم صار تحت ناظريه أو لكأنـه أسعد إنسان في الوجود.. وقد يخلط الحلم بالمنام، فتواتيه أضغاث الأحلام جميعها تحوم حول اللعبة وحول تفاصيلها؛ لونها، من يشاركه اللعب بها، أين يضعها، كيف يباهي بها عند أصدقائه في القسم، بخاصَّة صديقه “سعيد” الذي دائمًا ما تفوَّق عليه في الممتلكات وفي المتع التي تواتيه من والديه الأثرياء.

ها قد اشترت العائلة اللعبة من المتجر الكبير في المدينة (المول)، وها هي قد تحوَّلت إلى حقيقة ماثلة حيَّة لا غبار عليها في قرارة الصبي، وها قد حقق بها المبتغى وتمتَّع بلعبته بلا حدود ولا قيود، وها قد علم جميعُ مَن حوله من أطفال العمومة، ومن أصدقاء الدراسة، ومن الصحبة في الشارع.. علموا جميعًا بأمر اللعبة.

ثم تمرُّ الأيام وتبرد “دفقة التملُّك”(1) من قلب الولهان مثل “دفقة الماء” ترشح مرَّة واحدة، قد تكون قوية، ثم تغور وتجف. وتمرُّ الأيام فتلتحق لعبة “فراس” الجديدة بلعبه القديمة التي جميعها عرفت نفسَ المصير، وسجَّلت نفس الاهتمام، ثم نفس اللاهتمام.. فلم يعد لها أدنى أثر على مشاعر الطفل، ولا أقلَّ إحساس بالأهمية، ذلك أنَّ لعبةً جديدة نزلت السوق، ورآها عند أحد أبناء جيرانه، لا شك أنها أجمل وأغلى وأفضل من لعبته هو، التي لم تعد وسائل الإشهار تظهرها وتزينها كما كانت.

ثم يكبر “فراس” وتكبر معه رغبة الملكية، وتتغير عنده أساليب التملك، قد تصير أقلَّ حدَّة ولكنها لن تكون أخفَّ محورية في نقطة ارتكاز مشاعره وعواطفه، ولقد يربط الملكية بالقيمة، وقد يرغب فيما عند المشاهير من اللاعبين والممثلين من ملبس ومركب.. وهو في كل الظروف يعتمد على والديه في تحقيق المراد، ويعوِّل على حبهما له لشراء الغالي والنفيس.. ذلك أنَّ والده في عينه “على كل شيء قدير”، وإذا كانت أمه صاحبة أجرة، فهي كذلك “قادرة على كل شيء”.

ثم تمرُّ السنون، وآخِرُ حلم يشرك فيه “فراس” والديه هو الزواج، فيعتقد أنه سيقترن بعروس كاملة تفوق العالمين في الجمال.. هدية العمر وريحانة الوجدان، لا عيبَ فيها سوى أنه لا يصبر عليها ولا يقوى العيش من دونها.. وستلد له أحسن الأطفال وأذكاهم بلا منازع، وتمنحه السعادة معتّقة مثل صهباء ترخُص دونها المهج.

ثم تدول الدولة إليه، ويكبر معه الحلم، فيخطط لوظيفة، وسيارة، ودار، وأسفار، ومتاع.. وهو في جميع ذلك يستدرج إلى “وهم الاكتمال” ويقول: “لو أنَّ لي بيتًا لكنت أسعد الناس”. ثم يقدِّر الله له شراء أرض فلا يرى فيها إلا أنها “نقصٌ” يحتاج إلى “مالٍ” ليتحقق “الاكتمال”.. ثم يسعى لبنائها، ومع الوقت ينتهي منها ويسكنها.. لكنها ما إن صارت تحت ملكيته حتى ارتوى وأتخمه “الإشباع” الذي كان يحلم به أول مرَّة؛ فهو الآن يفكر في غيرها أو فيها، ليحسِّنها من جديد.

وهكذا مع كل مقتنياته وممتلكاته ووظائفه.. لا يلبث أن يحلم، ثم يحقق حلمه، ثم يبرد، ويبقى أجمل شيء في قلبه هو الذي لم يستطع أن يكتسبه.. فهو محلُّ حسرة من جهة، وهو معقِد الأمل من جهة أخرى.. ويقال: “إنَّ أغلى بضاعة هي التي تصطف على أرفف الدكاكين، وأرخصها هي التي تصير رهن ملكك”.

هل سيجد الإنسان مطلق المتعة في شيء من أشياء حياته، أو في مناسبة من مناسبة عيشه؟

لا بد أن تكون أشياء الدنيا ناقصة من جهات، حتى وإن اكتملت من جهة أو أكثر؛ فقد تكون غنيًّا وتقتني ألذّ الطعام، لكنَّ مرضًا ينغص عليك الاستمتاع المطلق بتلك النعم.. وقد عاينتُ أنا -حين كنتُ طالبًا- رجلاً فاحش الغنى، استضافنا وجلس يتفرج فينا.. نحن الذين -يومها- لم نكن نملك ما به نسدُّ رمقنا، ولا نقدر أن نشتري ضروريات الطعام إلا بعد جهد.. جلس وهو يتفرج، فلما سألناه: “لم لا تشاركنا المائدة؟” فقال: “للأسف، المرض يمنعني، ومتعتي الآن أن أجد من يتمتع بما عندي”.

لا شيء يبلغ مرتبة الكمال؛ ذلك أن الخير في الدنيا لا يتمحَّض، وأن الشر لا يتمحَّض.. وقد يصدق ذلك حتى على السياسات، والمشاريع، والحركات، والثورات.. حلمٌ، ثم تحقُّق، ثم اكتشاف للنقص، ثم برودة، ثم موت أو وهنٌ.. وحين تشيخ الأفكار، لا يملك الناس -ولو كان بعضهم لبعض سندًا- أن يرتفعوا بها سامقًا، أو يبلغوا بها الدرجات عاليًا.

ولقد ينسى الإنسان حين يبلغ مرحلة من مراحل حلُمه أن “يشكر الله” على المرحلة.. فـ”الشكر على المرحلة”(2) من أعظم أنواع الشكر؛ ذلك أنه يشفيك من الذهنية الصبيانية التي تشترط الكلَّ أو لا شيء.. فأنت كلما شكرتَ الله على مرحلة، زادك ما به تنتقل لمرحلة أعلى منها لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ(3)، حتى إذا بلغتَ بالحلم إلى ما شاء الله، لم يكن ذات الشيء هو المهم، لكن الشكر المصاحب له هو المهم(4).

يقول ابن خلدون في مقدمته: “أول الفكر آخرُ العمل”، فأنت حين تفكِّر في بلوغ منصب، تكون هذه الفكرة “أوَّل فكرك، ولكنها آخر عملك”؛ فتبدأ بترتيب الأسباب من الأدنى إلى الأعلى سببًا سببًا -مثل درجات السلَّم- إلى أن تبلغ الدرجة الأرفع وهي المنصب المرجوّ، ولكنها هي آخر العمل.

لو أنك قبل كل مرحلة سألت الله، وعند كل مرحلة استعنت بالله، وبعد كل مرحلة شكرت الله، وإذا أصابك مكروه أثناء كل مرحلة صبرت لوجه الله.. ولو أنك ابتغيت من كل مرحلة وجه الله، وطلبت معية الله، وآتيت ما آتيت بالله، ولله، وفي الله، ومن الله، وعلى الله.. لا تغادر الغايةُ قلبك وعقلك وحواسك طرفة عين.. لو أنك فعلت، لكنت “عبدًا شكورًا”، ولكنت من القلّة القليلة -ضمن زمرة آل داوود- التي قال عنها ربُّ الجلال: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)(سبأ:13)؛ ومؤدى الآية الكريمة، أن اعملوا لا لتقوتوا أنفسكم فقط أو لتحققوا رغبات مادية؛ لكن اعملوا شكرًا لله على نعمه، واعملوا لكي تزدادوا منه قربًا، ولكي يكثر الشكر وينمو فيكم فتبلغوا مقام الشاكرين.

مرَّ سيدنا عمر رضي الله عنه برجل في الطريق، فسمعه يقول: “اللهم اجعلني من القليل”. فتعجب عمر من دعوة الرجل، فسأله، فقال الرجل: “سمعت الله يقول “وقليل من عبادي الشكور”، وأنا أرجو أن أكون منهم”. فقال عمر متحيرًا: “كلُّ الناس أعلم منك يا عمر”.

كيف نخفف وَهْم الاكتمال من نفوسنا، ومن نفوس أبنائنا وشبابنا؟

وكيف نوجه حبَّ التملك لديهم حتى لا يطغيهم القليل ولا الكثير، ذلك أنَّا سمعنا ربنا يقول: (إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)(العلق:6-7)؟

وكيف نبلغ مقام الشكر، ونكون من القلة، ولا نغفل عن “شكر المرحلة” لبلوغ الشكر التام الكامل المرجو عن الله تعالى؟

هي أسئلة ثلاثة لا تنتظر الجواب، وإنما تستوجب العمل. فاللهم إنّا نشكرك على الفكرة ونسأل المزيد.. يا ربَّ الشاكرين، وربَّ المحبين المتقين.. آمين.

 

الهوامش

(1) دفقة التملك: مصطلح صاغه المقال للدلالة على القوة والسرعة التي يعقبها الزوال.

(2) شكر المرحلة: مفهوم قد يلحق بمقال “رجل المرحلة”، ويحتاج إلى كثير من التحليل والتطوير؛ لأنه يملك قدرة تفسيرية عالية.

(3) عطاء، فشكر، فزيادة عطاء، فشكرٌ.. هكذا في حركة ولودة ضمن دائرة صالحة، حيث الخير يولد خيرًا، والشكر يولد نعمة.

(4) لاحظ أن الشكر مقدمة للنعمة الأخروية الخالدة، وهو مربوط بالنعمة الدنيوية الزائلة، ولذا كان الشكر أهمّ من ذات النعمة المشكور عليها. ومن ذا يساوي الباقي بالفاني؟

المصدر: https://hiragate.com/%d9%88%d9%87%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d9%83%d8%aa%d9%85%d8%a7%d9%84-%d9%88%d8%ad%d8%a8%d9%91%d9%8f-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%85%d9%84%d9%83/

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك