المثقف الإفريقي باللسان العربي: انتحار من أجل المبدأ، أم خيانة لأجل البقاء

المثقف الإفريقي باللسان العربي: انتحار من أجل المبدأ، أم خيانة لأجل البقاء

الحسن سعيد جالو(*

تواجه الثقافة العربية اليوم أصعب مرحلة في مسيرتها الوجودية التي لم يتردّد بعضهم إلى وسمها بالكارثة أو الطوفان، فهي من حيث الجاذبية فقدت نسبة كبيرة من بريقها إن لم نقل بريقها كلّه، ومن حيث الكفاءة، لم تعد تقدّم لروادها ذلك البعد العالمي والإنساني الذي لا بدّ لأيّ ثقافة تكافح من أجل حياة أفضل وعالم أفضل أن تأخذه بعين الاعتبار. لو لا الإسلام، لفقدت ثلاثة أرباع جمهورها المشتّت في القارات الخمس. إلاّ أنّ هذا العامل أيضا لم يعد مضمونا، أو على الأقل مغريا، وذلك بعد أن استطاع بعض المغرضين من الأجانب وأبناء الإسلام -مع أسف شديد- ربطه بالإرهاب ربطا لا فكاك له منه. فوقعت الأوساط الإسلامية في سوء فهم رهيب بين الإرادة الإلهية الحقيقية وبين أدواتها الواقعية، بين تعهد المولى بحتمية الحفاظ على الكتاب والدّين من حيث الجوهر، وضرورة ترك الثقافة حرّة رقراقة ومباحة في المجال الإنساني. وهكذا اختلط الحابل بالنابل فحار ذو اللبّ وسأل.

هذه الدّراسة تبحث عن وضع المثقف الإفريقي باللسان العربي. ما هي آماله وأحلامه؟ فكيف يمكن له العمل في بيئة فرانكفونية أو أنجلوفونية معادية، مع تخاذل فاضح أو تواطؤ واضح من أبناء الضاد أنفسهم؟ وما هي الآفاق المقترحة للمستقبل إن كان له في المستقبل من أفق، أو أنّ السيل قد وصل الزّبى؟

في التعريف كان الإشكال:

1- من هو المثقف الإفريقي باللسان العربي؟: إنّه من الصعب جدّا أن نقوم بأي تعريف في العلوم الإنسانية دون الوقوع في الإيديولوجية، ومن ثمّ الوقوع في المحظور: إذ أنّك مضطّر إلى القيام بعزل عناصر تراها ثانوية، وإبراز عناصر أخرى تراها مهمّة أي عكس ما تقوم به الطبيعة من حيث التركيب والتجميع، وهذا هو الإيديولوجية بعينها(1). السؤال المشار إليه يبدو للناظر في أول وهلة بسيطا للغاية، ولكنّه ليس كذلك. فالكلمات: الثقافة الإفريقي والعربي من الكلمات التي يتداخل فيها الدّين مع القومية والتاريخ... لتتحوّل إلى قنابل موقوتة، لذلك على كلّ من يتعامل معها أن يعرف ذلك جيّدا حتّى لا يقول: إنّه قد فوجئ بما لم يكن يتوقّعه. قد تكون الثقافة أقلّ خطرا من الأخريين، لذلك سأبدأ بها دون الذّهاب بها إلى فيافي العلماء والفلاسفة والأنثروبلوجيين المتشعبة، وسأكتفي بواحد فقط وهو الأنثروبلوجي البريطاني: إدوارد بورنت تايلور (E.B. Tylor) الذي ظلّ تعريفه للثقافة مقبولا عند عدد لا بأس به من العلماء ورجال الثقافة، وذلك من النّصف الثاني للقرن التاسع عشر إلى اليوم. الثقافة عند تايلور هي: »... ذلك النظام الكلّي المعقّد الذي يشمل العلوم والفنون والمعتقدات والأخلاق والقيم والعادات، وكلّ المكتسبات والمواهب التي اكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في المجتمع«(2). قد يكون هذا التعريف غير كاف، لكن لم نجد أحسن منه بعد.

أمّا الإفريقي فقد يكون عند البعض مقدّسا، وعند الآخرين لبسا وإهانة. الأفارقة في جنوب الصحراء السود وبعض الأمريكيين من أصل إفريقي، يعتبرون هذه الكلمة جنسا ولونا وتاريخا وقومية، بل وهويّة أيضا. لذلك فهم يتنازلون عن هوياتهم الضيّقة والصغيرة: من قبيلة وعشيرة وجنسية لصالح الهويّة الإفريقية العامّة(3). أمّا الأفارقة في شمال الصحراء أي العرب فلا يحبّذونها؛ لأنّها قد تعني عند بعضهم السواد والحال أنّهم يرون أنفسهم بيضا، كما أنّها نظرا إلى الأوضاع الاقتصادية والسياسية الصّعبة في القارة السمراء، قد تعني عند بعضهم التخلّف. أمّا كلمة: العربي فهي أخطر من الأوليين: الأفارقة المسلمون في غالبيتهم، سودا كانوا أم بيضا، شماليين أم جنوبيين، يعتبرون أنفسهم عربا، لذلك من الخطورة بمكان أن تقول لأحدهم: لست عربياً، وهذا يعني عنده: لست مسلما!ً أو بعبارة أخرى، أنت كافر وهجين بلا دين ولا حضارة! وهنا ببساطة شديدة دخلتَ أرضا ملغّمة ووعرة قد لا تكون واعيا بذلك، لكنّك من المؤكّد لن تخرج منها بسلام!(4).

من الطرائف مثلا أنّ الأفارقة المسلمين -خاصة في إفريقية الغربية- لا يطلقون على من لم يروه يصلّي كلمة العربي لذلك يسحبون هذه الهوية عن جمهور كبير من سكان المغرب العربي ومشرقه؛ لأنّهم فيما يعتقدون لا يستوفون شروط العربي الذي بنوه في خيالهم والذي يتعلّق ببعض الخصائص الهشّة، منها الخصائص المادية والمعنوية مثل: اللباس والطقوس واللغة وغيرها. قد يسمع الزائر لإفريقية الغربية كلمة ً نَارْ بَيْرُوتْ المقصود هنا هو اللبناني ونَارْ غَنّّارْ الموريتاني هو المقصود...إلخ(5). »نار« مصطلح يطلقونه على عربيّ لم يتأكّدوا من عروبته، أو يضنّون عليه هذا الشرف العظيم.

ففي عام 1975م. زار المغفور له الملك الفيصل بن عبد العزيز آل السعود بعض دول إفريقية الغربية، منها السنغال وكان كاتب هذه السطور حاضرا، وكان من بين الجمهور الهائل الذي جاء لاستقبال جلالته والذي لم يسبق له مثيل من قبل، رجل يردّد جملة واحدة، ملوّحا يديه للسيارات المرافقة للموكب الملكي ويقول: يا أهلَ مكّة السَلاَمُ عَلَيْكُمْ فنبّهه أحد المستقبلين إلى أنّ الملك الفيصل ليس ملكا لمكّة المكرّمة وحدها، وإنّما لمملكة كبيرة وواسعة اسمها: المملكة العربية السعودية، لذلك من الأحسن أن نقول: تحيا السعوديّة، لكنّ صاحبنا رفض أن يقول هذه التحيّة اللاّئقة لجلالة الملك وأصرّ على تحيّته الخاصة. لم يكن الرّجل غبيا ولا عنيدا، وإنّما كان يعبّر عن العقل الجمعي لشريحة اجتماعية مهمّة، إن لم نقل الأهمّ(6).

هذه الواقعة تقودنا إلى التعريف الذي أرتئيه هنا للمثقف الإفريقي باللسان العربي. فهو ذلك الذي لا يكتفي بإتقان اللغة العربية العتيقة، بل ويؤمن أيضا أنّها لغة لا تعبّر عن المفاهيم الدّينية من صلاة وصوم فقط كما يعتقد الشيوخ التقليديون، وإنّما إضافة إلى ذلك فهي لغة تعبّر عن الحياة بكلّ تعقيداتها المتشابكة، شأنها في ذلك شأن الفرنسية والإنجليزية وكلّ اللغات الحيّة. وهو شرط لا تجده عند الشيوخ التقليديين، إذ هم -رغم طول باعهم في اللغة العربية، ومهارتهم في العلوم الدّينية- لكنّهم يرون أنّ المعارف الدنيوية والحياة المدنّسة (profane) لا تليق بهذه اللغة المقدسة! كما أنّ هذا المثقف، ليس مرادفا للمستعرب حسب المفهوم الفرانكفوني الهجين (arabisant) الذي يقابله المتفرنس (francisant)، أي المنبتّ على الثقافة العربية، وهذا ليس صحيحا؛ لأنّ الثقافة العربية جزء لا يتجزأ من ثقافته الأمّ التي إن كانت غير عربية في البداية، لكنّها بفضل الإسلام استعربت تماما.

إنّ الصورة المثالية الوردية حول العرب ولغتهم التي نجدها عند الشيوخ التقليديين وعند العامّة من المسلمين الأفارقة، قد تكون إيجابية في الوهلة الأولى، لكنّها صورة ميتة لا نصيب لها من الحياة. ثمّ إنّها صورة قلقة رجراجة ومتناقضة، قد تحمّل العرب ما لا طاقة لهم به، وهي بذلك لا تقلّ خطورة من الصور النّمطية السلبية المعروفة في الغرب؛ لأنّ الذي يعبد العرب والذي يلعنهم سيّان، كلاهما ينطلق من موقف غير عقلاني وغير واقعي، فهو إذن موقف غير أخلاقي ومدان بالضرورة(8).

2- العابرون في زمن عابر: لا شكّ أنّ الحضارة الإسلامية شهدت تراجعا مذهلا لم يتفق الدّارسون على تفسيره إلى اليوم، لكنّ تدخل الاستعمار الغربي في شؤون المسلمين هو الذي زاد الوضع سوءاً(9). كانت إفريقية ما وراء الصحراء المسلمة أو ما كان يعرف ببلاد السودان تنعم بالأمن والأمان مقارنة إلى غيرها من الجهات، حتّى جاءها الاستعمار الغربي مبكّرا في ثوب المستكشفين ورجال الدّين منذ القرن الخامس عشر الميلادي، وليس القرن التاسع عشر كما قال بعضهم، محاولا تقليل الخسائر التي منيت بها القارة من جراء العبودية والاستعمار. كما أنّ النظام التعليمي في المنطقة لم يكن متخلّفا عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمنطقة كما ادّعى الاستعمار فيما بعد، بل كان ملائما للظروف المذكورة، وكان التلميذ يتلقّى التعليم في البداية بحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، ثمّ يبدأ بعلوم الآلة ويتطور إلى المراتب العليا من التعليم. كما وجدت المؤسسات الجامعية العليا في المنطقة، مثل: جامعة تمبكتو وجامعة جنّى في مالي، وجامعة بير بالسنغال، وجامعة لابي بغينيا وجامعة سوكتو بنيجيريا وغيرها. كل هذا ضمن نظام متكامل يحترم البيئة المحلّية ونواميسها، بحيث أنّ التلميذ ليس فقط يتقن اللغة العربية كتابة وقراءة، وإنّما لغته المحلّية أيضا وذلك عن طريق نظام النقل الصوتي (transcription) أي كتابة اللغات الإفريقية بالحرف العربي الذي بدوره تطور كثيرا عن طريق التجربة والممارسة. بفضله استطاعوا ترجمة آلاف الكتب من العربية إلى لغاتهم المحلّية، على الرغم من أنّ موقف الأفارقة تجاه ترجمة القرآن الكريم إلى لغاتهم كان موقف رفض صارم(10)، فإنّهم من جهة أخرى بذلوا كلّ ما في وسعهم لنقل النصوص الثانوية من فقه وأصول وكلام وأدب إلى لغاتهم، إضافة إلى الإبداع والابتكار داخل لغاتهم بالحرف العربي.

ذلك؛ لأنّهم إن فهموا أنّ ترجمة القرآن غير ممكنة وغير جائزة -رغم عدم وجود هذا الفهم في القرآن نفسه، كما أكّدنا ذلك في مكان آخر- فإنّهم عرفوا أنّ حاجتهم إلى العلم والمعرفة، وإلى الفهم والاستفهام كانت أقوى بكثير من مجرّد انتمائهم إلى أمّة بدون أن يكونوا قادرين على الإسهام فيها وإضافة اللبنات في صرحها. وهناك حقيقة أخرى عرفوها وهي أنّه إن كان المنى الذي يراود جميعهم صغارا وكبارا، رجالا ونساء، هو إتقان لغة القرآن كتابة وقراءة، ولكنّهم عرفوا أيضا أنّ هذا المنى -إن تحقّق لبعضهم وهم قلّة- فإنّه عصيّ، من هنا بدأ بعضهم يتعامل مع الواقع الجديد بكلّ واقعية، ألا وهو كتابة النصوص العربية الثانوية في لغاتهم المحلّية تعليما وتثقيفا للجمهور العريض الذي لا يصل إلى فهم دينه من واجبات ومحرّمات إلاّ بهذه الطريقة(11).

لقد استطاع هذا النظام تخريج ثلّة من العلماء في هذه المنطقة عبر العصور، منهم من ذاع صيته في جميع الأصقاع. كصالح بن محمد بن عبد الله بن عمر الفلاّني، ولد في فوتا جالون (غينيا كناكري) حيث قرأ القرآن وحفظه. في اثنتي عشر سنة من عمره، سافر إلى منطقة القبلة (موريتانيا) حيث درس علوم الدين عند الزوايا وكان لامعا في كلّ العلوم. من زملائه محمّد بن بونا المعروف بمحمّد المختار بن بونا. ومن زملائه كذلك محمد بن هاشم الفلاني وعبد الرحمن الشنقيطي ومحمّد الحافظ بن المختار، ومحمّد بن غورد (GurDo)(12).

عندما أكمل صالح دراسته في القبلة، سافر إلى ماسينا (مالي) ومن هناك إلى تمبكتو فالمغرب وتونس حيث التحق بجامعة الزيتونة. من شيوخه وزملائه في تونس الشيخ الغرياني وهو أبو عبد الله محمّد بن علي الغرياني الطرابلسي التونسي، بدأ حياته العلمية في جربة ثمّ انتقل إلى تونس العاصمة، ومن الذين أخذوا عنه العلم مرتضى الزبيدي. توفّي عام 1195هـ(13).

لم يبق صالح بن نوح في تونس كثيرا، فقد انتقل إلى مصر، حيث تلقى العلم من علمائها وحصلت له معرفة واسعة في أوساطهم، منهم الزبيدي صاحب القاموس الذي سمح له أن يروي عنه العلم، وهو الأسلوب المتّبع آنذاك في جميع الأرجاء من العالم الإسلامي. كما فعل صالح في المدن السابقة، لم يبق مدّة طويلة في مصر، انتقل إلى مكة المكرّمة ومنها إلى المدينة المنوّرة حيث ظلّ يدرّس العلوم الإسلامية: من فقه وقرآن وحديث. ومن الذين نقلوا عنه العلم كانوا في أعلى الرتب، عبد الحفيظ العجمي قاضي مكة المكرمة، وشمس بن العابدين مفتي دمشق وغيرهما(14) ومن مصنّفاته: إيقاظ همم أولي الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار. قطف الثمر في رفع أسانيد المصنفات والفنون والأثر، تحفة الأكياس بأجوبة أسئلة الإمام خير الدين الياس، وغيرها، ظلّ الشيخ يدرس في المدينة المنورة لم يخرج منها إلى أن توفّي فيها في جمادى الآخرة عام (1218هـ) الموافق (1803م).

من المفارقات أن يكون هذا العالم معروفا في جميع أرجاء العالم الإسلامي، من المغرب إلى الهند، إلاّ في البلاد التي أنجبته، فهو فيها ليس فقط مغمورا، بل مجهولا أيضا(15).

من العلماء السودانيين المعروفين خارج المنطقة السودانية الكشناوي، وهو محمّد بن محمد الفلاني الكشناوي السوداني (غرب إفريقيا) حفظ القرآن وتلقّى مبادئ العلم في موطنه، ثمّ رحل لطلب مزيد منه، جاور مكة المكرّمة، ثمّ رجع إلى القاهرة حيث التقى بجبرتي الكبير جدّ المؤرخ الشهير عبد الرّحمن الجبرتي. كان الكشناوي من الذين لمعوا في جلّ علوم عصره ومعارفه، وكان يقول الشعر بأغراضه المختلفة، لكنّه اشتهر بالشعر الحكمي، ومن أمثلته هذان البيتان:

طَلَبْتُ الْمُسْتقَرَّ بِـكُلِّ أَرْضٍ *** فَلَمْ أَجِدْ بِأَرْضٍ مُسْتَقَـرَّا

َتبِعْتُ مَطَامِعِي فَـاسْتَعْبَدَتْنِي *** وَلَوْ أَنِّي قَنِعْتُ لَكُنْتُ حُرَّا(16)

لم يكن الكشناوي كمواطنه صالح بن نوح الذي ركّز جهوده على الفقه وأصوله وعلوم الحديث وعلوم القرآن، بل اهتمّ بعلم الحروف والأرقام، وعلم اللغة والنحو. ومن مصنّفاته في تلك المجالات: بهجة الآفاق وإيضاح اللبس والإغلاق في علم الحروف والآفاق، في مجلّدين، بلوغ الأرب من كلام العرب في النحو(17) توفي الكشناوي رحمه الله عام (1154هـ) الموافق (1741م) في القاهرة ودفن فيها.

نلاحظ أنّ بلاد السودان -من حيث التعريب- لم تكن مختلفة كثيرا عن المناطق التي تمّ تعريبها في العالم الإسلامي. وبصفة خاصة المغرب العربي ووادي النّيل، الجذر المهمّ في المجتمع وهو الدّين قد وقع تعريبه بدون خسارة تذكر، كما أنّ الفئة الخاصة وهي العلماء وقع تعريبهم أيضا، وعرّبت المدن وبقي الرّيف غير معرّب، لكنّه هو أيضا لا يصمد طويلا؛ لأنّه محتاج إلى المدينة أكثر من احتياج المدينة إليه. الرّيف على أصالته وفصاحته، ضعيف من حيث الإمكانات المادية والمعنوية، لا يستطيع فرض لغته ورؤاه على المدينة(18). رأينا هذه الحقيقة في تاريخ تدوين اللّغة العربية وغيرها من اللغات الكبرى في العالم، إذن لو تمّ احترام عملية التفاعل اللغوي في المنطقة دون تدخل أطراف خارجية، لكانت مسألة التعريب مسألة وقت فقط لا غير. هذا ما اعترف به بول مارتي (Paul Marty) المسؤول عن الجهاز الاستخباراتي الفرنسي في المستعمرات الفرنسية في إفريقية الغربية الذي قال: إنّ هناك أجزاء كثيرة من السنغال، خاصة منطقة فوتا تورو في شمال البلاد تمّ تعريبها أو يكاد، بحيث نجد فيها ثلاثة من كلّ خمسة المواطنين يعرفون القراءة والكتابة باللغة العربية. وهنا تدخّل الاستعمار مباشرة وعزل المنطقة عن امتدادها الطبيعي من الشمال والشرق، وذلك بدعوى تجفيف الينابيع، وصادر المكتبات العربية، وأغلق المدارس والكتاتيب(19).

أمّا من الناحية السياسية، فقد شنّ حربا ضروسا على الشيوخ المحلّيين، خاصة المناضلين منهم. كما وقع خلق طبقة جديدة من رجال الدّين المؤيدين للاستعمار وسياسته وتمّ تخصيص العطايا لهم ولذويهم. هكذا وقع تهميش الثقافة العربية في المنطقة وكل ما له علاقة بها من قريب أو بعيد(20). لم نشاهد مثقفا عضويا عربيا في المنطقة حسب التعريف الذي وضعته، إلاّ في بداية القرن العشرين وهو الشيخ موسى كمارا من بلدة غانغويل الذي يمثل مرحلة انتقال بين الثقافة العربية الدّينية التقليدية والثقافة العربية المعاصرة. لقد حاول الشيخ -رغم ما كان يعتريه من ظروف صعبة في ظلّ نظام استعماري دموي- حاول أن يعصرن النظام الفكري للثقافة العربية في هذه المنطقة، وبدأه بإعادة كتابة تاريخ المنطقة بأسلوب علمي جذّاب تجنّب فيه الرّوايات الخرافية والأحداث الأسطورية. من أهمّ وأثمن ما تركه لنا الشيخ باللغة العربية مخطوطان نادران في معهد دراسات إفريقية السوداء (IFAN) بالسنغال المعروف قبل الاستقلال بمعهد الدراسات الفرنسية بإفريقية السوداء. والمخطوطان هما: انتصار الموتور في تاريخ بلاد فوتا تور وزهور البساتين في تاريخ بلاد السوادين إضافة إلى مخطوط مهمّ يتعلّق بالجدل الذي أثاره المستعمر الفرنسي حول شخصية المجاهد العظيم الحاج عمر تال تنقية الأفهام من شبهات الأوهام في سيرة الحاج عمر الفوتي ً وغيرها من الكتب(21).

3- العنقاء تقوم من رمادها، ولكن...: لم يترك المستعمر -سواء الفرنسي أم الإنجليزي- الثقافة العربية الإسلامية تتطور تطورا طبيعيا، بل قام بتضييق الخناق عليها، من حظر السفر على المسلمين في طلب العلم والمعرفة الإسلاميين في الدول العربية التي لم تكن هي أيضا حرّة في غالبيتها. إلاّ أنّه خدم الثقافة العربية من حيث لا يدري عندما قام بتأسيس معاهد محلّية تزلّفا إلى الثقافة المحلّية بغية تغييرها أو تحييدها، وهنا كان لابدّ من إدخال الإسلام كمادة تدريس في المؤسسات الرسمية. فقد اغتنم بعض المسلمين المتعطّشين للثقافة الإسلامية هذه الفرصة فجعلوا يدرسون الإسلام كمادة مع اللغة العربية(22).

لقد قام الشيخ سعد عمر توري في مدينة سيغو بمالي بتأسيس مدارس إسلامية تدرس فيها اللغة العربية في المستعمرات الفرانكفونية، سرعان ما ذاع صيتها في كامل المنطقة، كما تأسست المدارس العربية في شمال نيجيريا عرفت ﺑ (school of Arabic studies in Kano)(23)، لكنّ المستعمر تدارك خطأه فغيّر تكتيكه فارضا الحرف اللاّتيني على مادة التدريس زعما بأنّ هذه المادة يجب تدريسها باللغات المحلية كما تدرس مدارس الإرساليات مادة الدين المسيحي باللغات المحلّية، وهذا كان له مبرر باعتبار أنّ الدّين المسيحي نشر باللغات المحلّية عبر تاريخه الطويل وهذا عكس الإسلام تماما الذي كان دوما مرافقا بلغة القرآن منذ رحلته الأولى، ولم يسمع في التاريخ الإسلامي الطويل أنّ أمّة مسلمة رفضت لغة القرآن الكريم، والحال أنّ المواطنين في الدول المستعمرة، خاصة المسلمين منهم كانوا يرفضون رفضا باتا لغة المستعمر الأوروبي، مع أنّ هذا قد أثر فيهم تأثيرا سلبيا مباشرا حتى بعد الاستقلال، خاصة في مجال التنمية. أمّا اللغة العربية فكانوا يعتبرونها لغتهم الأمّ وإن كان أكثرهم لا يتقنونها(24). لذلك تجدهم حتى في كتابتها في لغاتهم المحلّية، لم يكونوا جادّين فيها، بل كانوا يعتبرون هذه العملية مؤقتة؛ لأنّها تثقيفية وتربوية ولا يقف الطالب عندها، بل سرعان ما يتجاوزها إلى اللغة العربية الفصيحة التي هي منى كلّ مسلم. فجاءت أملاءاتهم في اللغات المحلّية رديئة ومختلفة من مدرسة إلى أخرى ومن منطقة إلى أخرى، بل من شيخ إلى آخر، باستثناء منطقة كلوه وزنجبار النّاطقتين باللغة السواحيلية في إفريقية الشرقية، ومنطقة فوتا جالون النّاطقة باللغة الفلانية في إفريقية الغربية(25).

مهما يكن من أمر فإنّ المستعمر قد نجح في تمرير مشروعه الذي تبنته منظمة يونسكو بعد الاستقلال بدعوى حماية الثقافات المحلية من الانقراض. فأسست بعد الاستقلال مباشرة معاهد توحيد الكتابة في اللغات الإفريقية بالحرف اللاتيني، وعقدت مؤتمرات دولية لهذا الغرض أولها مؤتمر بماكو عام 1966م. في غياب الحضور العربي كليا في هذه المؤتمرات، تمّ تبنّي كلّ قراراتها، وطوي الحرف العربي عن الذاكرة الإفريقية المسلمة التي صاحبها على ما يقارب خمسة عشر قرنا(26).

ذهب المستعمر شكلا ومضمونا في بعض الدول الإسلامية، وفي بعضها شكلا فقط، فتأسست الدولة الوطنية بحدودها المعروفة اليوم، واستيقظ الضمير الديني الإسلامي أو ما يعرف بالصحوة الإسلامية، فذهب الشباب الإفريقي المسلم إلى الشرق زرا فات ووحدانا: منهم من تيمّم صوب الأزهر الشريف، في مصر وبلاد الشام والعراق والخليج العربي، ومنهم من توقف في الزيتونة والقيروان في تونس أو القرويين في المغرب، قبل أن يواصل رحلته نحو الشرق أو يستقرّ فيها أو يرجع إلى بلاده. فإن تعذّر هذا وذاك، فالطريق إلى البحر سالك؛ لأنّ موسم الهجرة إلى الشمال في ذروته.

ككلّ الشباب المسلم في العالم الإسلامي، مني الشباب الإفريقي المسلم بخيبة أمل قاتلة: التعليم الذي جاءوا من أجله، لم يكن في مستوى الطموح، المواد التي تدرس في أغلب المعاهد والجامعات الإسلامية، لا تفي الغرض في عالم معقّد بعلومه ومناهجه، بينما تجد الجامعات الإسلامية تخلو من هذه المناهج خلوّا تامّا، بل إنّ بعضها تكفّر تلك المناهج تكفيرا. الدين عندها ما زال يدرس بطريقة عتيقة إن لم نقل متخلّفة، هذا ما جعل الطالب فيها لا يحصل على ما يحتاج إليه من علوم ومعارف، ولو كان نابغة من النّوابغ، مِمَّا جعل كثيرا منهم يتسرّبون في الطبيعة أو ينتقلون الى الجامعات الغربية حيث يتوافر لهم الإبداع الفكري، وهذا القصور في الواقع لا يقتصر فقط على الجامعات الإسلامية، بل أيضا على الجامعات غير الدّينية أو التي يسمونها الجامعات الأهلية: فتاريخ الأديان إن وجد، فلا يدرّس بطريقة علمية(27). أمّا الأنثروبلوجية، فغائبة غيابا كلّيا إلاّ ما يعطى منها في شكل جذاذات عن طريق علم الاجتماع الذي بدوره لا يدرّس إلا تدريسا شكليا، إذ يعرض على شكل نظريات لا تطبّق على أرض الواقع، والحال أنّ هذا العلم كله متعلق بالواقع العملي المعقّد، ولا يكون ذا فائدة إلا عند ما يشتبك معه بشكل مستمر.

إنّ ضعف جامعاتنا في المناهج، لم يعد خافيا على القاصي والدّاني، ويكفي أن تنوي البحث في موضوع ما دون الرّجوع إلى المستشرقين خاصة إلى دائرة معارفهم الإسلامية، حتّى ترى نفسك في غابة من المعلومات لا تعرف أين تبدأ بها ولا أين تنتهي، وأنت هنا مضطّر إلى اتّخاذ أحد القرارين لا ثالث لهما: فإمّا أن تجمع ما وصلت إليه يدك وتتخلّص من العمل كيفما اتفق، هذا ما يفعله أغلب الباحثين اليوم، وإمّا أن تترك البحث نهائيا، هذا ما يفعله قلّة منهم.

يكفي أن تقوم بمسح بسيط حول الأطاريح المنجزة في أيّ جامعة من هذه الجامعات، حتّى ترى أنّ الأعمال كلّها أو جلّها معادة وليس فيها أيّ إبداع أو ابتكار، بل عبارة عن نسخ منسوخة بعضها من بعض. لا أقول هذا الكلام جزافا أو رغبة في اتّهام الناس كيفما يتفق، بل أقوله عن تجربة وممارسة في الواقع المعيش، خذ مثلا مجموعة من الطلبة الناطقين باللغة العربية في مستوى الثانوية العامة، وقارنهم بمجموعات أخرى من الناطقين باللغة الفرنسية أو الإنجليزية أو غيرهما في المستوى نفسه والعمر نفسه، ستجد الآخرين قادرين على إنتاج الخطاب الشفهي والخطاب المكتوب المقبولين نسبيا دونما عناء أو تكلّف يذكر. أمّا الناطقون باللغة العربية، فأكثرهم لا يقدر على ذلك، وقس عليه المعارف الأخرى من فنون وعلوم وآداب... إذا عجز التلميذ في هذا المستوى عن إسماع صوته بلغته الأمّ أو اللغة التي ينطق بها كتابيا وشفهيا، فعليه أو على المسؤولين عنه أن يراجعوا مناهجهم(28).

في الجهة المقابلة أي المسيحيون، نجدهم عكسنا تماما، التعليم عندهم مقدّسا، وعندنا ليس كذلك، وهم يعتنون بالإنسان في هذا الجانب منذ ولادته: يبنون المدارس والمعاهد والجامعات ويجلبون لها أساتذة ومعلمين أكفاء، يدرسون علوما ومعارف متنوعة تتبع أحدث المناهج العلمية، ولا يفرقون بين العلوم الدينية وغيرها. بل من المعلوم أنّ 99% من الرؤساء الأفارقة تخرجوا في المعاهد الدينية المسيحية قبل الاستقلال(29) ومثال آخر هو نيجيريا حيث تجد أكثر من خمس جامعات مسيحية، فقد بنى فيها اليسوعيون الكاثوليك أخيرا معهدا نموذجيا جديدا وهو المعهد اليسوعي النموذجي لويولا بالعاصمة أبوجا (Loyola Jesuit College) يتسع أكثر من ألف طالب برأسمال يتجاوز 7،11 مليون دولار من تبرعات منطقة نيويورك (New York Provence) والوكالة القومية للتنمية الدولية الأمريكية (The United States Agency for the International Development) ويرأس هذا المعهد أستاذ جامعي كفء ومتخصص في الدراسات العربية الإسلامية وهو باتريك راين (Patrick Ryan) اليسوعي الأمريكي. التعريفة في هذا المعهد (2500 دولار في العام) منخفضة جدّا، إذا قورنت بمستوى المعهد وقيمته، ومع ذلك يعفى الطالب الفقير عن الدّفع، أو تعطى له منحة مالية ليدفع مصاريفه. المعهد على حداثة سنّه، برز اسمه محلّيا ودوليا، وفاز بجوائز محلية وعالمية. كما أنّهم لا يهملون طلابهم أينما كانوا، يتتبعون أحوالهم ولو بعدوا عن الجامعة، ولا يفتئون في خلق شبكة من الفرص والعلاقات العلمية لطلبتهم وتلاميذهم: من زمالة إلى حضور مؤتمر علمي أو إسهام في دورية أو مجلة(30).

تقويماتهم دقيقة ومنصفة، ففي جامعة غريغوريان بروما مثلا، لا يسمح لطالب في الدراسات العليا تسجيل رسالة الدكتوراه، إلا إذا كان يتقن ثلاثا من ستّ لغات معتمدة في الفاتيكان وهي: اللاتينية والإيطالية والإنجليزية والأسبانية والفرنسية والألمانية(31). في المقابل نجد جلّ الطلبة في الجامعات الإسلامية، لا يتقنون أي لغة بما فيها اللغة العربية التي كان من المفروض أن تكون من تحصيل الحاصل لدى الطالب المسلم. أمّا أحوالهم العلمية فلا تسأل عنها، إذ غالبا ما تكون عتيقة لا تلتفت إلى المناهج العلمية الحديثة كما قلنا سابقا، مِمَّا جعل أكثرهم لا يصلحون في العير ولا في النفير! إذ هم لا يستطيعون أن يخاطبوا أحدا في أي لغة بما فيها اللغة الرسمية في بلدانهم. لعل ذلك ما جعل بعضهم ينقطع عن الدراسة في مستويات عالية مفضلا خدمة بسيطة في أوروبا، وبعضهم الآخر يدرس لكن في حالة نفسية يائسة؛ لأنّه يعرف ما ينتظره بعد الدراسة وهو البطالة والخمول،؛ ذلك لأنّ الجامعات الإسلامية لا تفكر في أنّ من مهامها التشغيل ولا تخلق شبكة من العلاقات بينها وبين طلبتها القدماء، ولا يهمها وجودهم ولا ظروفهم المعيشية، ولا حتّى الأثر الذي يحدثونه في مجتمعاتهم.

بعض الجامعات الإسلامية في الواقع، ليست جامعات إسلامية، إلاّ بالاسم فقط؛ لأنّ مناهجها العلمية وإطارها التربوي ورؤاها الفلسفية وسياساتها العلمية محلّية لا علاقة لها بالإسلام كرؤية كونية شاملة، عكس الجامعات المسيحية التي من حيث الرّؤى والإطار التربوي عبارة عن الأمم المتحدة، أي أنّه يمثل كلّ أطياف اللون الثقافي والعرقي والسياسي(32).

كل ذلك جعل الرسم البياني للدراسات العربية الإسلامية في المنطقة بصفة عامة، وفي غرب إفريقية بصفة خاصة في حالة هبوط مستمر. في الماضي كان الناس يسافرون إلى الجامعات الإسلامية في المشرق العربي على الأقدام وكان لهم تقدير اجتماعي عظيم إذا رجعوا إلى بلدانهم. أمّا اليوم فالطالب في الدراسات العربية الإسلامية (Arabisant)، مرادف للفاشل في تعليمه!(33) وقد لخّص ذلك مواطن جزائري من منطقة القبائل برسالة وجهها إلى إحدى القنوات التلفزيونية المسيحية، جاء فيها: »إنّ قناتكم بالنسبة إليّ نافذة ضوء من الأمل في حياتي المظلمة...عمري 37 عاما ومثقف، لكن ثقافتي لم تنفعني في شيء، ضيّعت شبابي بلا عقيدة ولا أمل، ولا عائلة...فقدت الثقة من نفسي وأخاف من كلّ شيء. أنا قلق ومحبط، وكلّما فكرت في معنى من معاني حياتي، زدت إحباطا. حاولت الخروج من الجحيم أعني من بلادي! لكن بدون جدوى الأبواب موصدة في وجوهنا والتأثيرات ممنوعة علينا. عندما وجدت قناتكم مشاهدا برامجكم، شعرت بقليل من الضوء ينفتح أمامي في الآفاق، وهكذا أحسست بأنّ الله لن يتركني وحيدا، وهو الأمل الوحيد الذي أحتاج إليه الآن، وهكذا تيقنت أنّ الخلاص لن يأتي إلا من عند المسيح...« سعد الوناس(34).

لقد تفطّن العالم الإسلامي إلى هذا القصور، وقرّر إنشاء جامعتين إسلاميتين في إفريقية السوداء إحداهما بنيجر في غرب إفريقية والأخرى بأوغندا في شرق إفريقية وقد أُتّخذ القرار بإجماع في منظمة المؤتمر الإسلامي بمدينة لاهور باكستان عام 1975م. ولكنّه لم ينفّذ إلاّ في عام 1982م. الجامعتان جيّدتان من حيث المبدأ، لكنّهما فشلتا من حيث الواقع والمضمون، الجامعة الإسلامية في أوغندا مثلا أصبحت جامعة أنجلوفونية بإطارها وطلبتها وبرامجها التي لا يمثل الإسلام فيها، إلاّ نسبة قليلة تتراوح بين 25%، إلى 30%(35).

أمّا الجامعة الإسلامية بساي في نيجر فحدّث ولا حرج، الأمر الذي جعلها تغلق أبوابها مرّتين.؛ ذلك لأنّ هذه الجامعة تأخذ طلبتها وكوادرها المستقبلية من المدارس العربية في المنطقة مباشرة، وهذه المدارس التي تنمو وتنتشر كالفطريات لا تخضع لأي تنسيق فيما بينها، كما أنّها لا تخضع لأي نظام داخلي ولا برنامج واضحة معالمه: الشهائد فيها تزوّر بكل سهولة ويسر؛ لأنّها لا تخضع لمراقبة الدولة، مِمَّا جعلها تمنح شهائد الثانوية العامّة لطلبة أمّيين حقيقة لا مجازا. ويبدو أنّ الدولة تعرف ذلك جيّدا، لكنّها تتعلّل بعدم رغبتها في التدخل في مواضيع دينية أي حصر اللغة العربية في موضوع دينيّ لا غير، وهذه سياسة المستعمر الذي كان يسعى وراءها إلى تهميش اللغة العربية ومن ثمّ تنفير النّاس منها.

المؤسّسات الثقافية العربية في القارة بدورها فشلت فشلا ذريعا، وأفضل مثال في ذلك مجموعةٌ والفجر للصحافة والإعلام بالسنغال التي بدأت بإصدار جريدة أسبوعية باللغة العربية، وكانت تعاني كسادا مزريا في الأسواق لرداءتها. فلّما بدّلت لغتها العربية بالفرنسية وفلسفتها الإسلامية بالبراغماتية، أصبحت من أكثر المؤسسات نجاحا في المنطقة وهي الآن تملك جريدة يومية وإذاعة تبثّ برامجها في موجة أف أم (FM)، وعمّا قريب ستفتح قناة فضائية عالمية. أمّا مديرها العام سيدي محمد الأمين نياس فلا أحد يتصوّر الآن أنّه ناطق بالعربية وأنّه تكوّن في الوطن العربي؛ لأنّ خطابه إمّا بالفرنسية وإمّا بالولوف(36).

وهناك نسبة كبيرة من المثقفين الأفارقة باللسان العربي اضطروا إلى مهن أخرى وثقافات أخرى، وبحسن حظّهم كانوا يتمتعون بموهبة خارقة ومرونة عالية، مِمَّا مكنّهم من التحوّل إلى أجواء أخرى لم يعدّوا لها في البداية(37) ولو فشلوا في هذا التحوّل، لكان مصيرهم كمصير زملائهم أي التهميش والموت البطيء. من هؤلاء الرئيس القمري الحالي أحمد عبد الله سامبي الشخص الوحيد من الناطقين باللغة العربية في إفريقية ما وراء الصحراء استطاع الوصول إلى سدّة الحكم منذ الاستقلال، ولكن بعد فشل ذريع للطبقة الفرانكفونية الفاسدة التي جلبت الموت والفقر إلى البلاد عن طريق انقلابات عسكرية مدبّرة في الخارج من مرتزقة مأجورين: كبوب دينار (Bob Dinar) الفرنسي وأمثاله. تكوّن أحمد عبد الله سامبي في كلّ من المملكة العربية السعودية وإيران. وبعد تخرجّه، عاد إلى بلاده لكنّه وجد الأبواب موصدة أمامه، فامتهن التجارة والأعمال وكان مثالا يحتذى به في النزاهة والإخلاص، ومع ذلك شنّت عليه الصحافة الفرانكفونية حربا لا هوادة فيها، واصفة إياه بأنّه ظلامي متطرّف!(38).

إنّ أكثر الأفارقة الوافدين إلى الدول العربية، فهموا بعد تجربة شخصية، وقناعة داخلية أنّ المعركة الحضارية بين الغرب والعروبة في إفريقية ما وراء الصحراء، قد انتهت لصالح الغرب، هذه القناعة قد لا يعبّرون عنها بأقوالهم، ولكنّهم يعبّرون عنها بأفعالهم وأحلامهم، مثل: نزعتهم المبالغ فيها إلى تدارك ما فاتهم من اللّغات الغربية كالإنجليزية والفرنسية، وإهمال كلّ ما هو عربي وإسلامي، فقد وصل الأمر ببعضهم إلى ترك دراساتهم العربية، والذهاب إلى الدول الغربية والعمل فيها، في أعمال لا علاقة لها بهذه الدّراسات: كالعمل في المصانع والمعامل الإيطالية بالشمال وغيرها.

ومنهم من ترك هذه الدّراسات فشارك في مناظرة الثانوية العامّة في بلاده، ونجح فيها ثمّ ذهب إلى الغرب، كالطالب البوركنابي في القيروان نوفوا (نوح) توندي الذي استعمل هذه الطريقة، والتحق بمدرسة بوليتيكنيك بباريس، حيث تحصّل على دكتوراه الدولة في علوم الرّياضيّات. بل إنّ الطلبة الأفارقة النّاجحين في الدّراسات العربية والإسلامية أنفسهم، عادة يسجلّون الدّراسات العليا في الجامعات الغربية، قبل عودتهم واستقرارهم في بلدانهم، وهكذا يغيّرون ولاءهم الثقافي نهائيا، ويتداركون أمورهم قبل فوات الأوان، كمن يريد أن يقول: إذا وقع والديّ في خطأ مصيري، وأدخلاني في دراسات لا مستقبل لها، فأنا لن أقع في الخطأ نفسه، أو من المفروض ألاّ أقع فيه، أو كما يقول المثل: إذا جنى عليّ أبي، فأنا لن أجني على ابنيٌ!

نستطيع أن نقول بأمانة: إنّ في كلّ إفريقي ناجح في الدّراسات العربية والإسلامية، هناك ما يقارب مائة إفريقي فشلوا أو تركوا هذه الدّراسات بمحض إرادتهم(39). وهذا يبيّن بما لا يضع مجالا للشكّ أنّ الخوف في إفريقية ما وراء الصحراء اليوم، ليس ممّن يسمّونهم بالمتطرفين الإسلاميين والأصوليين الراديكاليين، وإنّما من المتطرفين العلمانيين! هذه القناعة ليست بدعة إفريقية، بل وجدناها عند كثير من علماء الزيتونة وكوادرها الذين بدورهم أدخلوا أولادهم في المدارس الفرانكفونية، خلافا عمّا كان ينتظر منهم. مِمَّا جعل كثيرا من الباحثين يرون في حركة التعريب في المنطقة المغاربية، بصفة عامّة أنّها حركة إيديولوجية لا علاقة لها بالواقع المعيش، بل تُرَوّج فقط لدى الطبقات الدنيا والفقيرة. أمّا الطبقات الحاكمة والميسورة أحوالها، فتدخل أولادها كما قلنا في المدارس الفرانكفونية، ليحكموا المنطقة إلى الأبد. يمكن أن تلاحظ ذلك جيّدا عن طريق انتلّجانسيا السياسية، والاقتصادية، والثقافية(40).

الخاتمة: لقد تناولنا فيما سبق من صفحات وفصول ظروف المثقف والثقافة العربية في إفريقية ما وراء الصحراء، وحاولنا فيه التجرّد قدر المستطاع. فبناء على ذلك نستنتج الاستنتاجات التالية:

- أراد القدر منذ البداية أن يجعل الثقافة العربية هبة لإفريقية، ويجعل القارة الإفريقية هبة اللغة العربية لظروف يطول شرحها هنا، ولكنّنا لا نذهب مع القائلين: إنّ مردّ ذلك يعود إلى كون الثقافة الإفريقية ثقافة مسالمة أو ضعيفة. فليس هناك ثقافة عدوانية وثقافة مسالمة، ولا ثقافة ضعيفة. لكنّ الظروف المحيطة بالثقافة العربية جعلتها محاصرة من ثلاث جهات لا تستطيع النفاذ إليها وهي: إيران وتركيا وأوروبا، فبقيت الجهة الوحيدة التي بإمكانها أن تنفذ إليها هي الجهة الإفريقية حيث الثقافات المتشظية. هذا العامل كان حاسما في بقاء اللغة العربية ونجاتها، لو استغلّ بمهارة وإخلاص لأتى أكله، ولكنّه مع الأسف الشديد لم يستغلّ، لا بمهارة ولا بغيرها فضاعت الفرصة لصالح الثقافات الأوروبية الوافدة.

- المثقف الإفريقي باللسان العربي قدّم كلّ ما كان عليه أن يقدّمه، فقد أحبّ هذه اللغة وثقافتها من صميم قلبه، وقدّم لأجل ذلك تضحيات جسيمة: من بؤس وغربة وحرمان، لكن حسبما يبدو لي أنّ الخلل في هذا الميدان كان أكبر بكثير من أن يستطيع هذا المثقف التأثير في النتيجة: القائمون على هذه الثقافة دول تتباين في رؤاها الفلسفية إلى حدّ التناقض، ولكنّها لا تختلف كثيرا في أدوارها العملية، أي من رديء إلى أردأ! والحال أنّه كان من الممكن لها القيام بدور إيجابي مهما كان متواضعا.

- ليس كلّ من يدّعي حبّ اللغة العربية صادقا في قوله، إذ ليس في حبّ اللغة العربية في شيء من تشجيع الكتاتيب والمحاضر التي تعود إلى العصور المظلمة، في عصر الحاسوب والإعلامية، بدعوى الحفاظ على الهوّية والتراث. هويتنا ليست في تلك اللوحات البائسة والرّفوف الباهتة، مع أنّها لعبت دورا كبيرا في الماضي، وساعدت على إبقاء القرآن الكريم غضّا في هذه المنطقة. إنّه لدور عظيم، ولكنّ العالم تجاوزه اليوم. ما يؤلمني هو أنّ هناك من يزايد علينا في هذا التراث ليشدّنا إلى الوراء، أعني هنا أولئك الذين لا يريدون أن يروا من الإسلام في إفريقية الغربية إلاّ تلك المناظر المزرية والمنفّرة من الثقافة العربية الإسلامية، حيث ترى آلافا من الأطفال الصغار في سنّ التمدرس تمتحن طفولتهم بقسوة، وتجهض أحلامهم ببلادة وشماتة.

- وجود اللغة العربية اليوم مهدّد ليس فقط في إفريقية الغربية، وإنّما في الوطن العربي أيضا حيث وُضِعَتْ هذه اللغة على هامش الحياة وذلك بإعطاء اللغات الأجنبية الغربية كلّ الأدوار المغرية ذات القيمة الحقيقية في وجودنا: من علم ومال وأعمال وسياسة، ولم يبق للغة العربية إلاّ المسلسلات الدّينية الموسمية، والمزايدات المحمومة في الفضائيات العربية.

- لا تتحمّل الدول وحدها مسئولية ما جرى ويجري، بل للمواطن العربي أيضا نصيبه فيما يجري، إذ لا أحد منعه من أن يبذل ما عنده في سبيل أمّته، خاصة نحن أمّة الأوقاف والزكاة التي علّمت الغرب دور المؤسسات المدنية والمنظمات غير الحكومية المعروفة عندهم بالمؤسسات الخيرية أو الإنسانية (foundations and humanitarian institutions)، وما يتبعها من جمعيات، فقد برهنت أنّها تستطيع أن تقدّم الفارق في كل الميادين، خاصة في وقت الأزمات مثل تلك التي نعيشها اليوم. فليعذرني القارئ إذا قلت له: إنّ كثيرا من الطلبة الأفارقة في الوطن العربي محرومون حتّى من تذكرة السفر إلى بلدانهم، مع أنّهم يمنعون منعا باتا من العمل في البلدان المضيّفة!

- ليس هناك ثقافة من أجل الثقافة، بل هي كما عرّفها تايلور ذلك النظام الكلّي المعقّد. ومعنى ذلك أنّه لا يمكن لأيّ كان أن يعيش خارج اللعبة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فعلى المخلصين للثقافة العربية في الوطن العربي أن يفهموا هذه الحقيقة بكلّ جلاء ووضوح، ومن ثمّ مساعدة المثقف الإفريقي باللسان العربي على الاندماج في الدورة الاقتصادية والثقافية، كما يفعل الناطقون بالفرنسية والإنجليزية لإخوانهم في القارّة، وذلك بتمكينهم من خدمات وبحوث وزمالة في المؤسسات العلمية، وليس الغرض من ذلك أنّنا نريد منافستهم، فنحن نعرف قدراتنا وإمكاناتنا جيّدا، ونعرف أنّها لا تمكّننا من القيام بذلك في الوقت الحاضر على الأقل، لكنّنا نريد أن نقدّم أفضل صورة متاحة للثقافة العربية في القارة السمراء، ونذكّر أولئك الذين استضعفونا أو استهانوا بنا بالمثل الإفريقي القائل: إنّ الإسكافي الذي يجاور الحدّاد، لا ينتظره حتّى ينتهي من صخبه ليبدأ العمل، وإنّما يعمل ببسالة في صمته.

- مخطئ من ظنّ أنّ النّاس من أجل مبادئهم قادرون على تحدّي كلّ الظروف في كلّ الأوقات، أو أنّ إيمانهم يزداد قوّة وصلابة في وقت الأزمات الحادّة. لقد برهن التاريخ أنّ النّاس يضعفون في وقت الأزمات، ومن ثمّ يخونون مبادئهم أو ينحرفون عنها، لذا فإنّ توفير ظروف ملائمة لهم يعتبر إسهاما في نحت أقدارهم نحو مستقبل أفضل.

**********************

الحواشي:

*) باحث من تونس.

1 - Encyclopedia Britannica, 2005. Art. Ideology.

2- Tylor, E.B, primitive Culture, part II. Religion in Primitive Culture. New York: Torchbook, 1871.

3- Christian, Coulon. Le Marabout et Le Prince: Islam et pouvoir au Sénégal, Pedonne: Paris, 1981, pp25-36.

4 – Amadou, Hampaté Bâ. Amkoulel. L’Enfant Peul, Paris: Babel, 1992.

5- Thomas, Louis Vincent. La Terre africaine et ses religions, Paris: Larousse, 1975, pp47-86.

6 - Britannica, opcit. Art. Symbols. cf. Mircea, Eliade. Cosmos and History: The Myth of Eternal Return, New York: Harper and Row, 1959.

7 - Vincent, Mansour Monteil. Aux Cinq Couleurs de l’Islam, Maisonneuve: Paris, 1989.pp197-220

8- Britannica, opcit, Art. Afrocenterism.

استعرت هذه العبارة من وولي سوينكا الكاتب النيجيري الحائز على جائزة نوبل للآداب الذي وصف التيار الزنجي في إفريقية السمراء وأميركا بأنّه تيار تافه؛ لأنّ النّمر لا يقول عن نفسه: أنا نمر، بل ينقضّ على فريسته لتعرف أنّه نمر!

9- Christian, Coulon. Op.cit, pp52-63.

10- حسن سعيد جالو. أثر الإسلام في اللغات الإفريقية: الولوف والفلانية نموذجا. أطروحة الدكتوراه في تاريخ الأديان، جامعة الزيتونة، يونيو 2002م, ص185.

11- المرجع نفسه, ص187 هذا الرفض من حيث المبدأ فقط؛ لأنّنا نعرف أنّ هناك بعض الأماكن خرقت هذه القاعدة، مثل فوتا جالون التي وجدت فيها نسخ قرآنية باللغة الفلانية منذ قديم الزمان. كما أنها كانت -كما قلنا في مكان آخر- المنطقة الإفريقية الوحيدة التي ضبطت الحرف العربي رسما وإملاء في اللغة الفلانية.

12- Hunwick, John O. Saleh al Fulani of Futa Jallon, an 18th Century Mujaddid, Dakar, IFAN, Tome 40, Série B, N° 4, 1978, pp879-885.

13- محمد مخلوف، شجرة النور الزكية، القاهرة، 1930م رقم الشجرة 1389.

14- كحّالة عمر رضا, معجم المؤلفين، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ب.ت, مادة فلاني، ص55 ـ 79.

15- John, O. Hunwick, op cit, pp879-885.

16- كان (Kann) أحمد، الجهاد الإسلامي في غرب إفريقيا الزهراء للإعلام العربي، القاهرة، 1987م.

17- عمر رضا كحالة, سبق ذكره، مادة فلاني.

18- ابن خلدون عبد الرحمن, المقدّمة، مكتبة ودار المدينة المنوّرة والدار التونسية للنشر، تونس، 1984م, ج2، ص413-418.

19- Paul, Marty. L’Islam au Sénégal, Paris: Maisonneuve et Lereaux, 1917.

20- Christian, Coulon. Op.cit, pp45-58.

21- Ousmane, Kane. Intellectuels non euro phones, Dakar: CODESRIA, 2003, pp, 10-78.

22- Ibid, pp58-62.

23- Lamin, Sanneh.Translating the Message: the Missionary Impact on Culture, New York: ORBIS, 1993.

24- Ibid, pp85-89.

25- Amadou, Hampaté Bâ. Amkoulel. Opcit, pp, 85-97

26- أحمد العابد, اللغة العربية واللغات الإفريقية، ألكسو، تونس، 1992م، ص119 ـ 143.

27- عبد الله صالح سانا, مدخل لقضايا المسلمين في غرب إفريقية: دراسة في الإنسان والمجتمع. القارئ العربي للتوثيق والإعلام والتأليف والتراث والنشر. القاهرة. ب.ت.

28- حسن سعيد جالو, الإنسان المعاصر بين جدلية الحداثة ومناهج الأديان: هل للمسلم فيها من موقع؟ الحياة الثقافية العدد: 167، تونس سبتمبر، 2005م.

29- Hastings, Adrian. A History of African Christianity: 1950-1975. Cambridge: Cambridge University press, 1979.

30- Loyola Jesuit College Abuja, Service of God and Others, Abuja: 2005.

31- A Guide to the Gregorian University, Year 2000-2002, pp14-26.

32- حسن سعيد جالو, سبق ذكره، ص7-26.

33- عبد الله صالح سانا, سبق ذكره، ص154-162.

34- El Watan, 26 juillet 2004. EVANGELISATION EN KABYLIE: Danger ou phénomène marginal ? (1re partie) Pp, 8-16.

35- Ousmane, Kane. Op.cit, Pp34.

36- Ibid.

37- Ibid.

38- RFI. La parole aux auditeurs. Sujet du Jour (les Comores) 15/5/2006. 08.30 GMT.

39- عبد الله صالح سانا, سبق ذكره، ص96-125.

40- Assous, Omar. Arabisation and Cultural Conflict in Algeria, (PhD. Thesis) in Northeastern University: Boston Massachusetts, 1985. cf. Cherfi Mohamed. Islam ET Liberté: Le Malentendu historique, Paris: Albin Michel, 1998
المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=602

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك