النّهضة الأوروبيّة أو كيف وُلدت أوروبا من جديد؟
فهمي رمضاني
إنّ أوروبا الحديثة الّتي تنعم اليوم بقيم الدّيمقراطيّة والحريّة والتّقدم وتحظى فيها الذّات الإنسانيّة بمكانة مرموقة ما انفكت تتعاظم هي نتاج تراكمات تاريخيّة وصيرورة طويلة فجرًها عصر مثًل منعطف جذري في تاريخها ألا وهو عصر النّهضة: فقد انتقلت أوروبا منذ منتصف القرن الرّابع عشر إلى منتصف القرن السّادس عشر من عصر مظلم ساد فيه البؤس والفقر والرّكود الفكري والتّخلف وقد أسماه البعض “بالعصر الإقطاعيّ الكنسيّ” نظرا لسيطرة الكنيسة على العقول وسيادة النّظام الإقطاعيّ كنظام اقتصادي للدّولة إلى عصر آخر مثًل فاصلا جوهريا مع العصور الوسطى وصاغ فهما جديدا للإنسان ومكانته في العالم باعثا بذلك روحا تؤمن بقيم العقل والحريّة وترفض الاستبداد السّياسي والدّيني إلى حدّ إعلان التّمرد ضدّهم وقد سمّي هذا العصر بالعصر الحديث الّذي شهدت فيه القارّة الأوروبيّة تطوّرات هامّة كبيرة في ميدان الأدب والفنّ والعلوم والسّياسة جعلتها تنبعث من جديد من بين رُكام التّراث الكلاسيكي ليولد بذلك إنسان العصر الحديث ولينفجر فيما بعد مشروع الحداثة الّذي مثّل قطيعة إبستمولوجيّة تحوًلنا فيه “من عالم مغلق إلى الكون المفتوح” على حدّ تعبير الفيلسوف ” ألكسندر كوراي”.
فمن الحكمة إذن أن نتساءل هنا عن كيفيّة انتقال أوروبا بين هذين العصرين وما صاحب ذلك من اختمار فكري بدًد النّظرة إلى الإنسان والفكر والوجود دون أن ننسى في ذلك التّعريج عن أهمّ ملامح عصر النّهضة ومميّزاته الفكريّة والفنيّة والأدبيّة متسائلين في النّهاية عن عدم تمكّن عالمنا العربيّ الإسلاميّ إلى اليوم من الاستلهام من تجربة النّهضة ليبني حداثة ينتقل عبرها أيضا من عصوره الوسطى الّتي لا تزال جاثمة بين جنبيه.
بزوغ فجر النّهضة: السّياق التّاريخي
إنّ المتأمّل بعمق في الملامح الاقتصاديّة والثّقافيّة والفكريّة لأوروبا خلال القرن الرّابع عشر وبدايات القرن الخامس عشر يلاحظ أنّ شيئا مّا قد بدأ يعتمل في رحم هذه المجتمعات ما انفك يدفعها للتّطلع نحو المجهول والتّأسيس لعالم جديد يقطع مع كلّ مفاهيم وتصوّرات العصور الوسطى. وقد وجدت في مقدمة “ابن خلدون” إشارة هامّة إلى تحسّس هذا المؤرّخ العبقري لبدايات عصر النّهضة في أوروبا وهو تحسّس يؤكّد نباغته وفطنته حيث يقول: ” …بلغنا لهذا العهد (أواخر القرن الرّابع عشر) أنّ …العلوم الفلسفيّة ببلاد الفرنجة من أرض رومة وما إليها من العدوة الشّماليّة نافقة الأسواق وأنّ رسومها هناك متجدّدة ومجالس تعلمها متعدّدة ودواوينها جامعة وحملتها متوفرون وطلبتها مكترثون….”. إذن فهذه الإشارات الخلدونيّة تكشف عن شروع أوروبا في الفترة الّتي أشرنا إليها سلفا في تحسّس خطاها للخروج شيئا فشيئا من ظلمات العصر الإقطاعيّ الكنسيّ وقد بدا ذلك في رأيي مع الاكتشافات الجغرافيّة الكبرى الّتي كانت حدثا هامّا انبثق نتيجة لتطوّر البحريّة الأوروبيّة الوسيطة واختراع تقنيات جديدة للملاحة وأدوات وسفن عملاقة مكًنت البحّارة من التّوغل أكثر في أعماق المحيطات وبالتّالي قطع مسافات أطول واكتشاف العالم قاطبة.
وقد تمثُلت حركة الكشوف الجغرافيّة في مجموعة رحلات بحريّة جعلت أوروبا تسبر أغوار العالم وتكتشف قارّات وعوالم جديدة لم تطئها بعد قدم الإنسان: وقد نظّم البرتغاليون والإسبان معظم هذه الرّحلات ونذكر من أهمّها رحلة “بارتيليمي دياز” الّذي بلغ رأس الرّجاء الصّالح سنة 1487 وأثبت بذلك اتّصال المحيطين الأطلسي والهندي. نذكر كذلك رحلة “فاسكودي قاما ” الّذي نجح في بلوغ ميناء كلكوتا بالهند سنة 1497 ثمّ عاد إلى لشبونة محمّلا بالتّوابل.
بيد أنّ أهمّ اكتشاف سيكون بمثابة منعطف هامّ في تاريخ البشريّة هو استكشاف البحّار الإيطاليّ “كريستوف كولمب” للقارّة الأمريكيّة في 1492 معتقدا خطأ أنّها الهند ليثبت فيما بعد الرّحالة “أمريقوفيسبوتشي” أنّ الأراضي الّتي تمّ اكتشافها تمثّل قارّة جديدة. وسيكون لهذا الاكتشاف تداعيات جدّ هامّة فقد مكًن ذلك كلّ من الإسبان والبرتغاليون من بناء إمبراطوريات استعماريّة من جرّاء اكتشافهم لثروات العالم الجديد كما نتج عن ذلك تحوّل في ثقل التّجارة البحريّة نحو المحيط الأطلسي بعد أن كان المتوسّط مركز التّجارة العالميّة. كتب المؤرّخ الفرنسي “فرناند بروديل” معلّقا عن ذلك “لقد توقّف نبضات المتوسّط “. وفعلا فقد أدّى ذلك إلى تراجع تجارة العالم العربيّ الإسلاميّ الّذي سيشهد منذ هذه المرحلة فترة من الرّكود والانحدار ستتواصل إلى القرن التّاسع عشر: فهل كان حقّا من صدف التّاريخ أن تسقط غرناطة آخر معقل إسلامي في الأندلس في نفس السّنة الّتي اكتشف فيها كولمب أمريكا؟
عموما لقد كان لحركة الكشوف الجغرافيّة دورا جدّ هامّ في بعث نفس جديد في أوروبا لتندفع بذلك نحو اكتشاف العالم واستعماره كما تمكّنت من بناء تصوّر جديد لجغرافيّة العالم حيث تمّ صنع أوّل أنموذج حديث للكرة الأرضيّة في المدينة الألمانيّة “نورمبرج” على يد التّاجر الألماني “مارتن نبهايم” عقب عودته من غرب إفريقيا، كما فجًرت كذلك حركة الاكتشافات ثورة فلكيّة ستبدأ مع “كوبرنيك” و”غاليلاي” اللّذان سيضعان الأسس العلميّة للعلم الحديث المبنيّ على العقلانيّة والتّجربة. وقد أشار المفكّر الفرنسي “مونتاني” إلى حركة الاكتشافات الجغرافيّة قائلا “ها قد وجد عالمنا عالما آخر”.
لئن مكّنت حركة الاكتشافات الجغرافيّة أوروبا من الانفتاح على العالم وبناء تصوّر جديد له فإنّ اختراع الطّباعة مثّل ثورة حقيقيّة في المعرفة سيكون لها تداعيات جدّ هامّة. فقد تمكّن “غوتمبرغ” من اختراع طريقة جديدة للطّباعة سنة 1450 يسّرت عمليّة نشر الكتب وأسهمت بقسط كبير في ترويج أفكار مؤلّفيها. لقد مكّنت هذه الآلة من قلب تصوّرات النّاس حول القراءة والكتابة وبحلول العام 1480 تمّ تأسيس المطابع بنجاح في كلّ المدن الرّئيسيّة في ألمانيا وفرنسا وهولندا وإيطاليا. إذن فقد مثُل هذا الحدث حقّا أهمّ اختراع ميّز عصر النّهضة وقفز بالعلم والمعرفة قفزات واسعة سيكون لها تأثير كبير في تاريخ الإنسانيّة الحديث. لقد كان إعجاب العلماء والمفكّرين بهذا الاختراع غير محدود فهذا مثلا “قيوم فيشي” (جامعي مختصّ في تدريس علوم الدّين عاش خلال القرن الخامس عشر) يكتب معلّقا عن ذلك “بفضل هذا الاختراع أصبح بالإمكان الآن طبع كتب جيّدة لا أخطاء فيها وبأسرع وقت…إنّ رجلا كهذا جدير بكلّ الاحترام والتّبجيل من قبل الفنّانين وكلّ أحباء الكتاب…”.
شهدت كذلك المدن الإيطاليّة – التّي ستكون المهد الأوّل لعصر النّهضة – مع أواخر العصر الوسيط نهضة اقتصاديّة نظرا لتطوّر الملاحة البحريّة وتكثف النّشاط التّجاري والاستفادة كذلك من الإرث الحضاريّ العربيّ الإسلاميّ الّذي تمّت ترجمته إلى اللّاتينيّة. هذا كلّه ساهم في تبلور عصر جديد سيكون بمثابة قطيعة إبستمولوجيّة عميقة في التّاريخ الأوروبي مساهما بذلك في ولادة أوروبا الجديدة الّتي ستؤسّس عالما مبني على قيم الحداثة والحريّة والتّقدم، يحترم الإنسان وقيمه ويعلي من شأنه باعتباره كائنا مبدعا وخلاًق. فماهي أبرز الملامح الّتي ميّزت عصر النّهضة؟.
عصر النّهضة: نظرة جديدة للإنسان والكون
قد لا نجانب الحقيقة في الإقرار بأنّ عصر النّهضة في أوروبا مثّل منعرجا حاسما في تاريخها وساهم في بناء رؤية جديدة للإنسان والكون تنبني على الإيمان بهذا الأخير وبقدرته على الإبداع والإعلاء من القيم الإنسانيّة كالحريّة والتّقدم والعقلانيّة. وقد انطلق عصر النّهضة من المدن الإيطاليّة نظرا لكونها قد احتفظت بالتّراث الكلاسيكيّ أي الإغريقيّ والرّوماني كما عرفت هذه الأخيرة رخاء اقتصاديا تدعّم بهجرة العلماء البيزنطيين الّذين غادروا القسطنطينيّة سنة 1453 بعد أن سيطر عليها العثمانيون.
لقد افتتح عصر النّهضة بحركة فنيّة وأدبيّة عرفت باسم الحركة الإنسانيّة أو “الإنسانويّة” وهي حركة فنيّة وأدبيّة اهتمّت بتجديد التّراث وإحياء الثّقافة الكلاسيكيّة والاهتمام بالإنسان ومن هنا جاء الإسم. ويشترك جلّ الإنسانيون في اهتمامهم بترجمة وإحياء النّصوص القديمة أي اعتماد الماضي كوسيلة لفهم الحاضر واستشراف المستقبل والإيمان كذلك بالتّقدم البشريّ واعتبار الإنسان أروع شيء في هذا الكون لما له من قدرة على تحقيق ذاته والسّمو بها نحو الأفضل.
وقد تجلّت الحركة الإنسانيّة في نهضة فنيّة انطلقت من فلورنسا والبندقيّة وأغلب المدن الإيطاليّة لتشمل أوروبا قاطبة. وقد انطلقت منذ أن بدأ الاهتمام بإحياء الفنّ القديم حيث اقتبس الرّسامون والنّحاتون من جمال الآثار القديمة وأخذوا في محاكاتها في الرّوح والتّعبير. خذوا في محاكاتها تتالفه ونذكر من أهمّ فنّاني عصر النّهضة “ليوناردودا فنشي” صاحب اللّوحة الشّهيرة المسمّاة “بالجوكندا” الّتي لا تزال إلى اليوم تحظى باهتمام الدّارسين والفنّانين. نذكر كذلك “مايكل أنجلو”، “رفائيل” و”بورتشيلي”، وقد ساهم كلّ هؤلاء من خلال فنّهم في بناء رؤية جديدة للإنسان إذ لم يعد هذا الأخير ذلك الكائن المحتقر الّذي لا ترى فيه الكنيسة إلّا جملة من الذّنوب والأخطاء بل أصبح الإنسان قيمة سامية وكائنا مركزيا في الكون نظرا لما جبل عليه من نزوع للإبداع والنّبوغ.
تميّز عصر النّهضة كذلك بثورة أدبيّة تجلّت في سعي رجال الأدب والفكر إلى الاهتمام بالتّراث الكلاسيكيّ وإحيائه من أجل استجلاء أهمّ القيم والمثل الّتي كان لها دور فعّال في الارتقاء بالإنسان. نذكر من بينهم “فرانسوا رابلي” الّذي اشتهر بكتابه “رسالة قرانتوا” حيث وضع فيه مفاهيم جديدة للإنسان ودوره في العالم مشدّدا على أنّ العقل هو الّذي يجب أن يقود الإنسان نحو المعرفة واكتشاف العالم. كما نجد كذلك “ايرازم” وهو فيلسوف هولندي ولد في مدينة “روتردام” وتأثّر بالدّراسات اليونانيّة القديمة وقد ألّف كتاب “مدح الجنون” الّذي دعا فيه إلى ضرورة أن يكون الفكر الإنساني منفتحا على العالم الرّحب متحرّرا من أغلال الكنسيّة والإكليروس الدّيني. أمّا “دانتي ألجيري” المولود في فلورنسا وصاحب الرّائعة الشّهيرة “الكوميديا الإلهيّة” الّتي صوّر فيها زيارة خياليّة للجحيم فهو يعدّ من أهمّ المفكّرين الإنسانيين الّذين نقدوا الفكر الدّيني الكنسي. نأتي أخيرا إلى “توماس مور” صاحب كتاب المدينة الفاضلة” الّذي دعا فيه إلى حريّة العقيدة والتّسامح الدّينيّ.
لئن توجّه بعض كتّاب عصر النّهضة إلى نقد الكنيسة والدّعوة إلى التّحرر من أغلال الإكليروس الدّينيّ فإنّ البعض قد عزم على إعادة بناء نظريات جديدة في العلوم تقطع مع التّصورات الوسيطة الّتي كانت تحت سيطرة الكنيسة فقد أصدر عام 1537″ نيكولا تارتاليا” كتابه “العلم الجديد” الّذي يتناول علم الفيزياء من زاويا علميّة وعقلانيّة حديثة تختلف كلّ الاختلاف عن نظرة الكنيسة للعلوم. كما تعتبر مسرحيّة “دكتور فاوستوس” للكاتب “كريستوفر مارلو” تعبيرا عن بزوغ فجر نجم العلم الحديث والتّفكير التّأملي في عصر النّهضة.
أمّا الكتاب الّذي فجّر ثورة في السّماء على حدّ تعبير البعض فهو “دوران الأجرام السّماويّة” للفلكيّ البولنديّ “نيكولا كوبرنيك ” حيث أوجد نظريّة جديدة قائمة على أنّ الشّمس تعدّ مركز الكون وأنّ الأرض هي كوكب متحرّك في الفضاء. وقد أحدثت هذه النّظرية تحوّلا جذريا في علم الفلك ليفتح بذلك المجال أمام تحرّر الفكر من تسلّط وقيود الكنيسة. إذن فالحركة الإنسانيّة في جوهرها تعبير عن نظرة جديدة للإنسان ولدت بعد إحياء العلوم والقيم والأفكار الموجودة في التّراث الكلاسيكيّ فقد أثار الإنسانيون أسئلة تحرّك الوجدان والعقل معا وتمرّدوا على السّائد العقديّ الّذي كانت تؤمن به الكنيسة فقوّضوا كلّ الرّؤى ليثبتوا أنّ الإنسان كائن حرّ يستطيع السّيطرة على الطّبيعة إذا ما أحكم استخدام عقله وإذا ما تسلّح بروح التّمرد والثّورة ضدّ الأفكار الأخلاقيّة والدّينيّة الّتي كانت سائدة.
لذلك فقد عرّف البعض عصر النّهضة على أنّه حالة ديمقراطيّة تقدميّة تحتفي بالفضائل العظيمة الّتي تثمّن العقل والفنّ والجمال. وقد كان المؤرّخ الفرنسي “جيل ميشليه” أوّل مفكر يعرّف عصر النّهضة على أنّه فترة حاسمة في الثّقافة الأوروبيّة مثّلت فاصلا جوهريا مع العصور الوسطى وصاغت فهما جديدا للبشريّة ومكانتها في العالم. زيادة عن ذلك فقد انبثق خلال عصر النّهضة الوعي بالنّزعة الفرديّة حيث بزغت شمس الهويّة فقد كتب جلّ الإنسانيون بلغات قوميّة جديدة كالإيطاليّة والفرنسيّة والألمانيّة والإسبانيّة بدلا عن اللّاتينيّة. ولا ريب أنّ ظهور الدّولة القوميّة في القرن التّاسع عشر في أوروبا وهي كيان سياسي حديث قطع مع التّراث السّياسيّ القروسطويّ كان أهمّ نتيجة لذلك التّراكم التّاريخيّ والكتابات ذات التّنظير العميق الّتي أخذت تظهر في عصر النّهضة والّتي كانت تدعو إلى ضرورة أن تقوم الدّولة على احترام القيم الإنسانيّة المثلى كالحريّة والمساواة والعدل.
كما اهتمّ مفكّرو عصر النّهضة بالفنون المهتمّة بالإنسان والّتي لاقت إهمالا شديدا طيلة فترة العصور الوسطى فتحوّل بذلك الفنّ من خدمة أغراض الكنيسة إلى الاهتمام بالإنسان ومصيره. وقد استلهم جلّ فنّاني عصر النّهضة أفكارهم من التّراث الكلاسيكيّ أي الإغريقي والرّوماني اللّذان وجدا فيه مصدر إلهام نظرا لما احتوته الكتب القديمة من أفكار وقيم تعلي من قيمة الإنسان. إذن فعصر النّهضة قد أعاد اكتشاف الماضي ولكن بروح جديدة هي روح متّسمة بالاندفاع البرومثيوسي نحو المعرفة، نحو الاكتشاف ونحو التّطلع إلى المستقبل.
فمنذ هذا العصر شرعت أوروبا في تحسّس خطاها شيئا فشيئا نحو الحداثة إذ بانتهاء القرن السّادس عشر كانت الإصلاحات الدّينيّة الّتي قادها مارتن لوثر وجان كالفنّ قد انتشرت في سائر أوروبا كما كان للدّراسات الإنسانيّة الّتي قام بها الأدباء والمفكّرين والفلاسفة دور كبير في إنارة الفكر وتمهيد الطّريق للتّحرّر من أغلال الكنيسة والتّحلي بالعقلانيّة. ولا ريب أنّ أهمّ حدث ستشهده أوروبا والّذي كان من ثمار الاختمار الفكريّ زمن عصر النّهضة هو الثّورة الفرنسيّة الّتي اندلعت في 1789 والّتي أطاحت بالنّظام الفرنسيّ الفرديّ والسّلطويّ لتنتشر صداها في أوروبا ثمّ في العالم قاطبة.
لقد كان هذا الحدث العظيم نتيجة لما أخذ يعتمل في رحم أوروبا من أفكار كان قد فجّرها عصر النّهضة. بعد هذه الثّورة السّياسيّة ستشهد أوروبا ثورة اقتصاديّة تمثّلت في الثّورة الصّناعيّة الّتي انطلقت مع اختراع المحرّك البخاري وقد كان كذلك لهذا الحدث أثر عظيم إذ جعل من الدّول الأوروبيّة دول مصنعة ستعمل على اكتساح العالم وفرض سيطرتها عليه. لقد فجّر عصر النّهضة كلّ هذه الثّورات ليجعل أوروبا تنعم بعهود من الرّقي والتّقدم في كنف الازدهار والتّمدن وقد كان ذلك كلّه بفضل ولادة فكر خلاّق لم يتوان عن إعادة اكتشاف الماضي وقراءة التّاريخ قراءة تتماشى وروح العصر أسهمت في تحرير العقل من الأوهام والخرافات ليغدو بذلك أداة تفكير وإبداع وبالتّالي الوسيلة المثلى لتغيير العالم.
فكم نحن في حاجة حقّا اليوم في عالمنا العربيّ الإسلاميّ إلى تيّار إنسانوي مثلما الّذي ظهر في أوروبا عصر النّهضة يقوم بقراءة تاريخه قراءة نقديّة معاصرة تنبني على القيم والأفكار الّتي نادى بها التّيار الإنسانوي وتستأنس بمنجزات الحداثة الغربيّة وذلك حتّى نكفل التّقدم والرّقي في عالم أصبحنا فيه “أضيع من الأيتام على مأدبة اللّئام”.
لقد مثّل عصر النّهضة فترة تحرّر تدريجي من قيود القرون الوسطى اكتسب خلالها الأوروبيون القدرة على تحسين أوضاعهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة الأمر الّذي جعلهم يعتقدون أنّهم يعيشون فعلا عهدا جديدا قوامه إعادة الاعتبار للإنسان بتخليصه من هيمنة الكنيسة والإيمان بمستقبل مشرق تكون فيه السّيادة للعقل والعلم. ولئن اعتبر عصر النّهضة بداية للتّاريخ الحديث فإنّ خروج أوروبا الفعلي من ظلمات العصر الإقطاعيّ الكنسيّ لم يتحقّق إلاّ ببزوغ فجر التّنوير الّذي سيؤدّي إلى اندلاع أهمّ حدث ميّز العصر الحديث ألا وهو الثّورة الفرنسيّة.