المثقّفون والثّورات

ملاحظات حول الأنتلجنسيا

نعمان الحاج حسين
 

1

مع التّحوّلات الكارثيّة الّتي شهدتها البلدان العربيّة الّتي تلقفت الثّورة التّونسيّة عام 2011، ظهر عجز خطاب المعارضة عن استيعاب الأحداث أو التّعبير عنها، وليس ذلك فقط لأنّ الثّورات فشلت في ليبيا ومصر وسوريا واليمن، فالثّورة في تونس فشلت أيضا بالوصول إلى أهدافها في البداية ولكن الثّورة التّونسيّة عقلنت هزيمتها الأولى بعد أن وصل إلى السّلطة حزب النّهضة الإسلاميّ، أي المعارضة الّتي لم تصنع الثّورة لكنّ تونس رفضت العنف والفوضى وحافظت على سلميّتها مبدئيا، وبالتّالي كانت قادرة على تحقيق انتصارها لاحقا. أمّا في البلدان العربيّة فقد قام خطاب المعارضة السّائد بالحلول محلّ خطاب الثّورات الشّعبيّة وأعلن منذ البداية بيانات الانتصار الحتميّ، ثمّ استسلم لاستيلاء الإسلاميين على الثّورات من خلال تبرير الحركات الإسلاميّة المعاصرة بتبريرات اجتماعيّة تاريخيّة، فوصل إلى السّلطة في مصر أيضا معارضة لم تكن صانعة للثّورة هي جماعة الإخوان المسلمين، وفي سوريا استولت على التّظاهرات الشّعبيّة منظّمات إسلاميّة لم تشارك في التّظاهرات الأولى. وغرقت بلدان الرّبيع العربيّ الأوّل بالدّماء والدّمار تحت غطاء خطاب المعارضة المنفصل عن الواقع، بينما ثابرت الثّورة التّونسيّة بواقعيّة فانتخب التّونسيون في المرّة الثّانية رجلا من النّظام القديم هو السّبسي الّذي حافظ على الاستقرار وعلى الدّيمقراطيّة، بينما عجز المصريون والسّوريون عن عقلنة فشلهم واندفعوا نحو الأفخاخ القاتلة.

هكذا أثبتت السّنوات التّالية على الثّورة التّونسيّة عام 2011 أنّ الشّرارة الّتي أطلقتها لم تكن سوى ربيعا تونسيا وحسب، وليست ربيعا عربيا، وأنّ ما حدث بشكل آلي، كاستجابة للثّورة التّونسيّة هو مجرّد انتفاضات شعبيّة أكّدت وحدة الشّعور العربيّ دون أن تكون تعويضا عن اختلاف بنية الدّولة والمجتمع التّونسيين عن الدّول العربيّة، وحتّى مصر، الدّولة العربيّة الأكبر والرّائدة بين الدّول العربيّة، بدت مختلفة عن بنية الدّولة التّونسيّة. فالثّورة ليست عملا آليا وإنّما هي رهن بجملة من الشّروط، لأنّ انتقال الثّورة بالتّداعي ليس ضمانة للنّجاح فليس هناك نجاح بالتّداعي وليس هناك – في الحقيقة – ثورة بالتّداعي، لكنّ المعارضين للأنظمة العربيّة والّذين كانوا قد فقدوا الأمل بالثّورة، وجدوا في بلدانهم فجأة ثورات شعبيّة بخطاب جديد غير مكتوب ودون توجيه أو قيادة فحاولوا قيادة الثّورات الشّعبيّة الجديدة بخطابهم المكتوب مسبقا وهو خطاب قديم أي تقليدي غير راهن راهنيّة الثّورة، وغير واقعي ومليء بالإحالات التّاريخيّة. والثّورات حدث جديد وواقعي لأنّ الواقع نفسه متغيّر وليس ثابتا وكلّ حدث ثوري هو راهن معني بالحاضر والمستقبل لكنّ المعارضين أصبحوا عبئا على الثّورات الشّعبيّة العربيّة بخطابهم الغوغائي الإنشائي الّذي حاول تغطية الثّغرات وتمرير الوقت، وأثقلوا كاهل الثّورات بتبرير الحركات الإسلاميّة واعتبار ثقافة الإسلاميين هي ثقافة الشّعب والمجتمع بشكل أوتوماتيكي، بدل أن تكون الثّورة وحدها هي الممثلة للشّعب وفق صيرورة تاريخيّة كما قال فرانز فانون: “أنّ الثّقافة الحقّة هي الثّورة “(1) .

أمّا الثّورة التّونسيّة الّتي نجحت بإسقاط النّظام، فإنّها نجحت بإسقاط المعارضة، وكتبت خطابها الثّوري المستقلّ مرّة جديدة بانتخاب مرشحها من خارج الخطاب السّياسيّ التّونسيّ التّقليدي وهو قيس سعيّد عام 2019مترافقا مع انطلاق الرّبيع العربيّ الثّاني في الجزائر والسّودان والعراق ولبنان، وهو الرّبيع الّذي لم ينجح بعد مثل تونس لكنّه تفادى كلّ عوامل الفشل في الرّبيع العربيّ الأوّل رافضا الأسلمة والعسكرة والمعارضة.

2

– المثقّفون والرّبيع العربي

أثبتت الانتفاضات أنّ الخطاب الأصلي لثورة المجتمع خطاب غير مكتوب، لأنّه خطاب الشّعب، بينما الخطاب السّائد والمكتوب هو خطاب السّلطة وخطاب المعارضة، والشّعوب لا تصدّق الأكاذيب ولا تصنعها – بالضّرورة – ولكنّها تتلقّاها فقط، فالشّعوب تردّد الأكاذيب بدل أن تنطق بالحقيقة حين تكون عاجزة وخائفة، غير أنّها سرعان ما تصنع الحقيقة وتنقلب على الأكاذيب عندما تثور لكنّ السّلطة و–المعارضة– هما من يملكان سياسة إدارة الأكاذيب والحقائق في خطابهما، وإذا كان خطاب الأنظمة أصبح عاجزا عن خداع الشّعوب لكنّه يقمعها فقط، فإنّ خطاب مثقّفي المعارضة لا يقمع الشّعوب لكنّه يخدعها فقط في انفصامه عن الواقع وفي كثافته الإيديولوجيّة، فأثبت قدرته على الإضرار بالحراك الثّوريّ وإثبت مدى هشاشة الثّورات في البلدان العربيّة الّتي لم تعتمد على أكثر من الإشارة التّونسيّة للإنطلاق الارتجاليّ وعلى خطاب المعارضة الدّوغمائي. وكما يقول جورج لوكاش: فإنّ “ما يسم الدّوغمائي بالدّرجة الأولى هو الضّعف الملحوظ للواقعي. ففي العقل الدّوغمائي يُشجب الواقع وصولاً إلى غيابه، حيث تسود الإيديولوجيا “.

ورغم أنّنا نتحدّث طوال الوقت عن عودة الدّين والتّعصب الدّيني، يفوتنا أمر عميق وأساسي وممكن ملاحظته: كلّ هذه المظاهر الدّينيّة المعاصرة لا تنطوي على تدين حقيقي، ونستطيع أن نلمس ذلك ليس في خطاب الأصوليين أو في سلوكهم وحسب، بل حتّى باحتكاكنا مع النّاس في الحياة اليوميّة..الّذين عادوا للدّين دون أن يكونوا متدينين، والسّبب..هو فقدان الإحساس بالاتّجاه، ولأنّ الضّعف يجعل الإنسان قابلا للإيحاء . وتحت تأثير الإيحاء، نجح الغرب بفرض خطابه الإعلاميّ والسّياسيّ، وإسكات الأصوات الّتي كانت مستعدّة لتفهّم مطالبنا بالتّنمية والحداثة..واليوم، حين يظنّون أنّ الشّعوب العربيّة تكره الحداثة الغربيّة بسبب الإسلام فكيف يمكن أن يساعدونا؟ لقد استسلم المثقّفون (للواقع) حين نجح الغرب في هذا التّحوير الّذي عزوناه لشعار (الصّحوة الإسلاميّة) باعتباره نابعا من الإسلام وليس من تشجيع الغرب.. والإيحاء عمليّة تنجح مع الجماعات والأفراد في لحظات الضّعف فنحن متزامنون مع أوروبا السّابقة وليس أوروبا الحديثة لأنّنا لم نعد معاصرين للزّمن الحديث، ولم تعد ثمّة حقيقة مّا، ولكن ثمّة اقتصاد للحقائق أي الاستخدام الأمثل لتوزيع المعلومات ووعي الوقائع، ونحن لا نعلم أعماقنا ولا نعرف تاريخنا ..نحن نعرف الظّاهر الّذي يقدّمه الغرب عن ذاتنا، والغرب الّذي يعرف.. يكتفي باستخدام المعرفة ويقدّم الظّواهر الّتي نتلقّاها باعتبارها عمقا.. لأنّ كلّ ما يقدّمه الغرب بلغته نعتبره عميقا وندبج المقالات التّحليليّة النّقديّة عن أنفسنا وكأنّها تحليل لأعماقنا إذا كانت منقولة عن رؤية غربيّة رغم أنّها قد لا تكون أكثر من مقولات سطحيّة كما نجد عند المستشرقين الجدد بعكس المستشرقين القدماء.. ولا نجرؤ على قول شيء حتّى عن أنفسنا إذا لم يسبقنا الغرب إلى قوله..وكلّ ما يقوله الغرب من بعيد نقوله عن أنفسنا وكأنّنا نتكلّم من داخلنا .. وبالطّريقة نفسها نظنّ أنّنا نعرف الغرب أو غيره وأنّنا نعرف مستقبله.. لكنّنا لا نعرف إلّا تقدمه التّكنولوجي ونجهل أعماقه، أي أنّنا نجهل مستقبله لأنّنا لا نعرف إلاّ الظّواهر، نجهل حقيقتنا الّتي نحملها ويعرفها الغرب الّذي يحتكرها بحيث لا تتناقض مع الظّواهر الّتي تمّ تعويمها في النّظام العالميّ الجديد.

التّدين الإنشائي الشّكلي الفارغ للمتدينين ناتج عن أنّهم لا يستطيعون بلوغ الإيمان الحقيقي الّذي له ماض فقط، فيرتكبون أبشع الأعمال باسم الدّين، وهذا يجعلهم أقرب للإلحاد من غير المتدينين.. وبالمقابل فإنّ علمانيّة العلمانيين المتطرّفين هي تدين مقلوب وإلحاد غير منجز، وتصوّرهم عن تديّن المجتمعات تصوّر كاريكاتوري خال من الصّيرورة، فهم يحاكمون التّاريخ كلّما ارتكب الأصوليون عملا..والأصوليون يزعمون تمثيلهم للتّاريخ الدّينيّ، ومجرّد العودة لمناقشة الدّين والتّاريخ بناء على كلّ حادث يرتكبونه، هو اعتراف بصدق تمثيلهم المزعوم للتّاريخ الإسلاميّ.. واعتراف بأنّ علمانيتنا أو حداثتنا، لا تمثّل الواقع، بينما يمثّلون هم الحاضر كتاريخ..ونترك لهم ملايين النّاس من شبه الأمّيين الّذين يعانون بسبب الحاضر وليس بسبب التّاريخ.. لكنّهم لا يعون حاضرهم، ولذلك يتّبعون راية التّاريخ عندما ترفع لهم (كشعار)، ويؤكّد “ياسين الحافظ ” على مقولة (جورج لوكاش): ” إنّ جدّة العمل السّياسيّ تظاهرة ماثلة لذا فإنّ كلّ حدث سياسي جديد بحاجة إلى تحليل جديد، والحال أنّ السّياسة الدّوغمائيّة بحكم فكرها التّقريريّ عاجزة عن ذلك، فتستبدل التّحليل بالمقارنة “..

ولذلك فإنّ الجماهير وليس المعارضة هم من أعادوا الثّورات إلى حقيقتها في الرّبيع العربيّ الثّاني كامتداد حقيقي للثّورة التّونسيّة ولكن بعد سنوات من سقوط النّظام التّونسيّ وهذا دليل على أنّ الجماهير العربيّة لم تكن قد اختارت الإسلاميين ولا الماضي الإسلامي في الرّبيع العربيّ الأوّل ولكنّها وقعت في مصيدته أمّا المثقّفون فرغم زعمهم أنّهم يعون الحاضر لكنّهم يعتبرون حملة الرّايات الدّينيّة ومن يتبعهم من المهمّشين هم سكّان تاريخيون في الحاضر… وبذلك يتخلّى المثقّفون عن مسؤولياتهم..مثل دون كيشوت الّذي يبارز طواحين الهواء…ولا غرابة أن يتبادل الطّرفان الاتّهامات بالصّيغة ذاتها..فالمتدينون يؤيّدون أي شخص يرفع راية الدّين حتّى لو كان مزيّفا، والملحدون يؤيّدون أي شخص يحارب المتدينين حتّى لو سحق الدّولة المدنيّة.

والمعارضون رغم عدائهم للأنظمة إلّا أنّهم أصبحوا منافسين أكثر من أن يكونوا متناقضين جذريا معها، ولديهم النّظرة ذاتها نحو الشّعوب باعتبارها عالقة في الماضي إلى الأبد وبالإضافة إلى فشلهم التّاريخي مع الأنظمة فقد ساهم المثقّفون المعارضون في إفشال الثّورات الجديدة، وإذا كان مفهوم “الدّولة العميقة” تفسير أوّلي لهزيمة تلك الثّورات، إلاّ أنّه تفسير لا يكمله سوى مفهوم جديد هو “المعارضة العميقة”..

فالشّعوب لم تكن مهتمّة بالحركات الدّينيّة لا تاريخيا ولا في سياق الإسلام السّياسي، وهي كانت متلقية له نتيجة التّرويج الإعلاميّ والسّياسيّ وليست منتجة له، وكان على المثقّفين هنا أن ينحازوا للشّعب في حراكه البعيد عن الدّولة وعن الدّين، فالثّقافة بحسب بروكار شيء مختلف عنهما لأنّها ” تلبية لحاجاتنا الأرضيّة والرّوحيّة المأخوذة بمعنى أضيق، والثّقافة تعديل وتفكيك للهيئتين السّكونيتين – أي الدّولة والدّين – إلّا حين تكون خاضعة لهما وفي خدمة مقاصدهما فقط” (2) لكنّ افتقار المتظاهرين لخطاب ثوري جعلهم يبتلعون خطاب المعارضة ويتبنونه، ورغم أنّ المعارضين في معظمهم علمانيون ماركسيون وقوميون إلّا أنّ خطابهم قام بتفسير ظهور منظّمات الإسلام السّياسيّ وقيادتها للثّورات بتفسيرات تاريخيّة رغم أنّ تلك الحركات جزء من الثّورة المضادّة لكنّهم أعطوا مصداقيّة ووزنا لقلّة من المعارضين الإسلاميين وكأنّهم يمثّلون الأغلبيّة باعتبار أنّ الدّين وليس الشّعب أو الثّقافة هو من يمثّل المجتمع  أي أنّ المثقّفين عبّروا عن المجتمع باعتباره في مرحلة خضوع وليس مرحلة ثورة، فخانوا الثّقافة وخانوا الثّورة.

*                *              *

3

إذا كان عارض (الهستيريا) هو الّذي يسود الطّبقات الدّنيا والّتي تعيش تحت مستوى التّابو ولا تلتزم به، وتتغذّى على الأساطير الخرافيّة، فإنّ (العصاب) هو عارض الطّبقة المتوسّطة..الّتي يسود أفرادها النّزوع، إمّا للاستيلاء على السّلطة إذا كانوا عسكريين..أو الانضمام إلى الطّبقة العليا إن كانوا مدنيين..أمّا الطّبقة العليا فهي لا تؤمن إلاّ بنفسها ..ولكنّها.. تؤمن أنّ أفضل طريقة للسّيطرة على الطّبقتين الأخريين هي تشجيعهما على التّمسك بالأساطير..فكما تعيش الطّبقة العليا فوق التّابوات وتنتج الأساطير دون أن تستهلكها، فإنّ الطّبقة الوسطى من أكثر الطّبقات (حرمانا) لأنّها تقيد نفسها بالتّابوات والمحرّمات كوارثة للثّقافة وللتّقاليد ..ولكن تجذبها الأساطير تحت الضّغط .. مثلما التفت شرائح الطّبقة الألمانيّة الوسطى وفي مقدّمتهم المثقّفون حول هتلر تحت سحر الخطاب القوميّ ضدّ كلّ شيء آخر بما فيه الكنيسة الألمانيّة والدّيمقراطيّة الأوروبيّة، والتفت في الوقت نفسه أوساط من الشّعب الإسبانيّ حول فرانكو باسم الكنيسة الكاثوليكيّة ضدّ الإشتراكيين الملحدين أنصار الجمهوريّة، وكان الوضع في إيطاليا مماثلا وسابقا لهما تحت قيادة موسوليني، ولقد دعمت الطّبقة العليا الأوروبيّة فرانكو ومن بعده هتلر لصدّ انتشار الحركة الاشتراكيّة، لكنّ الرّأسماليّة الأوروبيّة دفعت ثمنا غاليا عندما شنّ هتلر حروبه الشّاملة وعندما هزم هتلر وموسوليني وبقي فرانكو فان الرّأسماليّة الغربيّة حافظت على نظام حليفه فرانكو في إسبانيا حتّى النّهاية.

من المرّات القليلة الّتي تبنى فيها المثقّفون العرب ظاهرة سياسيّة على حساب الحقيقة الاجتماعيّة، وعلى حساب صمتهم الحيادي، كانت هناك سابقة استثنائيّة..وكانت مؤشّرا على أنّ العقل العربي الّذي يمثّله المثقّفون لم يعد قادرا أن يحافظ على المعقوليّة، في مواجهة اللاّمعقوليّة السّياسيّة السّائدة، وأنّه من الممكن أن يدلي بدلوه في الجنون لأنّ هذا أسهل من المعقوليّة حين يكون خارج دائرة الفعل والتّأثير: عند غزو العراق للكويت..فقد وقف مثقّفون إلى جانب نظام عربي لم يكونوا مؤيّدين له مسبقا، لكنّهم قالوا ما يقوله رجل الشّارع البسيط والمخدوع من أنّ صدام حسين (بطل)، وأنّ الغرب يريد تدميره لأنّه يملك أسلحة نوويّة متطوّرة صنعها العلماء العراقيون..ومثلما تقبّل الألمان خطاب هتلر لتبرير احتلال دول ضعيفة ومسالمة مثل بولونيا وتشيكوسلوفاكيا قبل الحرب كذلك تماهى المثقّفون العرب والمسلمون مع الإعلام العراقيّ بترويج الصّورة النّمطيّة السّلبيّة لعرب الخليج، لتبرير احتلال العراق ” المتحضّر”  للكويت “الغنيّة والمتخلّفة”. وهذا تجزيء للصّورة النّمطيّة السّلبيّة عن كلّ العرب في الإعلام الأوروبيّ الأمريكيّ، ولكنّ السّياسات العربيّة قامت بتقسيم الصّورة إلى أقسام من أجل إلقاء تبعة الفشل في الدّول العربيّة الكبيرة والفقيرة على أنّه ناتج من الدّول العربيّة النّفطيّة، الغنيّة والمتخلّفة. كما أنّه أعطى ما يتداوله الشّارع في دول الشّمال العربيّ مصداقيّة الوعي رغم أنّه شعور غريزي لاواعي من اتّهام ثراء الدّول الخليجيّة على أنّه سبب بؤسها، وأعطى الجماهير كبش فداء، بل أنّ مظاهرات شعبيّة خرجت في الباكستان مؤيّدة لغزو الكويت. وبعد غزو العراق، لم يجد الأمريكيون أية أسلحة نوويّة..فقال المثقّفون: إنّ هذا دليل على أنّ الغرب أراد تدمير صدام حسين بحجّة الأسلحة النّوويّة..ونسوا أنّ إعلام صدام ساهم بالانطباع حول امتلاكه ذلك السّلاح وأنّه كان يساهم في كذبة الغرب ..وأنّهم هم أنفسهم تفاخروا بتحوّل العراق إلى دولة نوويّة قائمة على العلم ولكنّ الحادي عشر من أيلول كان قد وقع  في هذه الأثناء وولد كذبة جديدة ضدّ العراق عن علاقته بتنظيم القاعدة..! وتمّ تدمير العراق بأكثر ممّا لحق بالكويت مثلما دمّرت ألمانيا بأكثر من الدّمار الّذي لحق ببولونيا.

وبينما يكون مثقّف الطّبقة الوسطى مؤمنا بالإيديولوجيات الكبيرة، كالإشتراكيّة، أو القوميّة النّاصريّة، أو الإسلاميّة التّقليديّة، فإنّه يمكن أن يتحوّل في لحظة من لحظات التّاريخ الفاصلة معاديا لكلّ ما كان يدافع عنه، مستندا إلى عصابه الشّخصيّ وضغائنه الضّيقة يقول كاتب عربي: “بدا مؤخّراً أنّ حقيقة منطقتنا هي حقيقة مذهبيّة، بل هي أيضاً عشائريّة وقبليّة وعائليّة ومناطقيّة، وفرديّة “(3) مبرّرا كلامه بالأحداث الرّاهنة من الأصوليّة والإرهاب، أنّ فكرا كهذا يقوم عادة على التّشكيك بالحقائق المتعارف عليها ..من أجل حقيقة الواقع الرّاهن .. وهو بصفته الرّاهنة نفسها ليس شيئا ثابتا.. ولو أنّ كلّ راهن هو الحقيقة..فإنّنا أمام حقيقات لانهائيّة ..وكانت آخر حقيقة أشهروها بوجه القوميّة العربيّة: هي الهويّات الوطنيّة المصريّة والسّوريّة واللّبنانيّة..وأنّ العروبة ليست حقيقة، واليوم يقدّمون هذه الحقيقة المناقضة لما دافعوا عنه: ليس لنا حتّى هويّات وطنيّة بل طائفيّة، وهم أنفسهم كانوا متعصّبين للقوميّة العربيّة حين كانت سائدة..أي حين كانت هي الحقيقة الرّاهنة في السّتينات، ولم يتخلّوا عنها إلّا لأنّها هزمت وليس لأنّهم باحثين عن الحقائق الاجتماعيّة.

هؤلاء الكتّاب ينافسون الإنسان العادي في جهله للموضوعات السّياسيّة والفلسفيّة ولا عجب أنّ لهم شعبيّة لأنّ النّاس العاديين يشعرون بسببهم أنّ لديهم قدرة على فهم أشياء رغم عدم معرفتهم بها..وهكذا، تنشأ الخرافات والأساطير السّياسيّة.

ومن أجل عدم نشر الدّيمقراطيّة والحداثة من خلال القوى الاجتماعيّة، تبنّى الغرب شعار حمل الدّيمقراطيّة والحداثة إلى الشّرق على فوهات البنادق طالما أنّ القوى المدنيّة على الضّفتين الإسلاميّة والغربيّة سلّمت بان الإسلام كاره لهما، وأنّه يتعارض مع الدّيمقراطيّة مع أنّ الكنيسة أيضا تتعارض مع الدّيمقراطيّة  ..! يقول غرامشي: ” لقد فشل العلمانيون في مهمّتهم التّاريخيّة كمربّين وفي صياغة شكل من الوعي الثّقافيّ والأخلاقيّ من أجل الشّعب. فهم لم يعرفوا إرضاء المتطلّبات الثّقافيّة للشّعب لأنّهم لم يكونوا ممثّلي ثقافة علمانيّة وهم أيضا لم يعرفوا صياغة نزعة إنسانيّة جديدة تستطيع أن تنتشر بين الفئات الاجتماعيّة الأكثر جهلاً وحرماناً كما كان ذلك مطلوبا من وجهة نظر قوميّة، فهؤلاء العلمانيون ظلّوا مرتبطين بعالم قديم جامد فردي ومغلق”.

******

هوامش:

 

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك