ما قبل نظرية الدولة: المسألة السياسية في إسلام الصدر الأول

ما قبل نظرية الدولة: المسألة السياسية في إسلام الصدر الأول

عبد الإله بلقزيز(*

طيلة تاريخهم المديد -وهو يزيد عن ألف وأربعمائة عام في تقويمهم الزمني- لم يتوقف المسلمون عن تنزيل مسائل السياسة والدولة والسلطان السياسي منزلة الموضوع الأجدر بالعناية في جملة الموضوعات الجماعة والأمة والاجتماع الإسلامي التي شغلتهم منذ بواكير البعثة المحمدية. وهم في ذلك يشبهون غيرهم من الأمم والجماعات الدينية الأخرى التي سبقتهم في الوجود، أو عاصرتهم، أو لحقتهم في الزمان، وكان عليها أن تعتني بأمر اجتماعها السياسي. غير أن المسلمين -في هذا الباب- مختلفون عن سواهم في بعض (التفاصيل): في أن السياسة والسلطة ليستا تفصيلاً في اجتماعهم الديني، ولا يمكن في الوُسع النظر إليهما كحيِّزيْن مستقلين عن ذلك الاجتماع؛ بل هما باب في كتاب الشرع، وفي أنهما تناهيا مع الجماعة (جماعة المسلمين) إلى حد تعذر فيه -دون أن يستحيل- وعيُ الفارق بين الزمني والديني أو إعادة بنائه كفارقٍ موضوعي قابل للإدراك.

من المؤكد أن المسلمين في هذا يختلفون عن أهل ملل أخرى كالمسيحيين والكونفوشيوسيين والهندوس، ممن أوجدت نصوصهم وتجاربهم التاريخية توازناً مقبولاً بين العقيدة والحياة. لكنهم -قطعاً- أقرب ما يكونون إلى الموسويين الذين لم يقمْ فارق لديهم -في النصوص على الأقل- بين العقيدة والشريعة والحياة. وإذ يفسِّر ذلك -من جانب أول- معاناة الفكرة الدهرية (العلمانية) في المجتمعات الإسلامية الحديثة والمعاصرة -حين أصبحت الفكرة هذه مؤسسة للدولة والسياسة منذ القرن الثامن عشر الميلادي- يلقي الضوء الوقت نفسه على الأسباب الثقافة العميقة التي وفرت للفكرة الإسلامية في الدولة والسياسة إمكانية أن تطلّ باستمرار على حقل الجدل الفكري في مسائل السلطة والمجال السياسي في المجتمعات الإسلامية.

ما الذي احتلته المسألة في الإسلام: نصاً وتجربة تاريخية؟ وكيف وعاها المسلمون الأوائل؛ أعني الصدر الأول للإسلام، قبل أن يهتدي الوعي الإسلامي إلى إنتاج نظرية في الدولة والسلطان؟

المسألة السياسية في الإسلام

يُشار عادة -وكلما تعلق الأمر بالحديث في الإسلام- إلى أن الإسلام رسالة دينية ومشروع سياسي في الآن نفسه.

وربما انتبه المستشرقون المتأخرون إلى هذه الحقيقة التي لم تكن لتخفي على فقهاء السياسة الشرعية، ولا على الخلفاء قبلهم منذ أول اصطدامهم بمسألة الاستخلاف السياسي عقب شغور منصب الولاية السياسية بغياب صاحب الدعوة. وقد يكون الديني في الإسلام -والفكري والثقافي استطراداً- أكثر ما شغل الكتابة الاستشراقية منذ بدأت تعتني بسيرة رسول الإسلام وشخصيته في عصر (الأنوار). غير أن الصدام السياسي الكبير بين أوروبا الاستعمارية والدولة العثمانية أعاد بناء الصلة بين الديني والثقافي وبين السياسي في وعي المستشرقين، ثم أتى صعود (الصحوة الإسلامية)، منذ الحرب العالمية الثانية، في مصر، ثم في الهند، وفي سياقها قيام دولة باكستان على الفكرة الدينية؛ لكي يكرس تلك الصلة ومعها يرفع من درجة الانتباه إلى مركزية المسألة السياسية في الإسلام. على أن هذه الصلة ترددت أصداء الوعي الإسلامي المعاصر بها في كتابات محمد رشيد رضا المتأخرة، وخاصة في كتابات حسن البنا، وأبي الأعلى المودودي، وأبي الحسن الندوي، وسيد قطب، وتقي الدين النبهاني، بحيث بات مألوفا أن يتردد تعريف الإسلام بحسبانه دينا ودولة(1). وكان ذلك إيذاناً بميلاد ما دعي باسم (الصحوة الإسلامية) ومؤسساتها الحزبية المنتظمة تحت عنوان (الإسلامية السياسية)(2) للمغالاة في التفكير والتطرف في الممارسة السياسية، فنشأت جماعات (الجهادية الإسلامية)، فقد بات مألوفاً التعبير عن مقولة (الإسلام دين ودولة) بمفردات أكثر حدة من قبيل: (الإسلام مصحف وسيف).

ربما كان هذا سياقا حديثاً ومعاصراً لوعي الإسلام بوصفه حاملاً -في تضاعيف تكوينه ورسالته- هذه الجدلية التركيبية بين الديني والزمني. غير أن الوعي بهذه الجدلية قديم قدم الرسالة نفسها كما الوعي بمركزية المسألة السياسية في الإسلام. ومع أن النص الديني الإسلامي لا يسعف بالكثير من الشواهد الدالة على مركزية تلك المسألة؛ لندرة ما أفاد به في هذا الباب -كما سنرى- ولا يرفع المسألة -في القليل النادر مِمَّا نص عليه- إلى مرتبة الواجب الديني المأمور به؛ إلا أن تجربة الإسلام التاريخية -وخاصة في صدره الباكر- توفر الكثير من تلك الشواهد الدالة على مركزية المسألة فيه. وهو أمر ترتفع قيمته في ميزان التقدير العلمي كلما تذكرنا أن فصلاً رئيساً من فصول تلك التجربة التاريخية كان هو الحقبة النبوية التي تفرض النظر إلى معطياتها وإلى معطيات السياسة فيها، من حيث هي قرينة على أمر ديني واجب الإصغاء والاقتداء والبر بالوفاء لمرجعيته.

ما الذي يبرر إذن القول بمركزية المسألة السياسية في الإسلام؟

نميل إلى الاعتقاد بأن هذه المسألة كانت رئيسة في الإسلام -منذ بواكيره- وأنها كانت كذلك من وجوه ثلاثة على الأقل: من وجه أول؛ لأنّ الرسالة تحتاج إلى جماعة سياسية تحملها. ولأنها تحتاج -من وجه ثان- إلى سلطان سياسي يوطدها، وينطق باسمها، ويذهب بها إلى الأفاق. ثم؛ لأنّها -من وجه ثالث- فرضت نفسها على المسلمين منذ اليوم الأول لغياب قائد كيان المسلمين في المدينة ورسول الإسلام إليهم، وظلت تضغط على وحدة جماعتهم طيلة فترة الخلافة الراشدة، وخاصة منذ مطلع عهدها الثاني.

-1-

1- الإسلام والجماعة السياسية

أنتجت الدعوة المحمدية جماعة مِلّيةً تدينُ بها، وبالوحي الذي حَملتْهُ إليها، هي جماعة المسلمين، التي تسمت باسم رسالة نبيهم إليهم. كان بناء هذه الجماعة المِلِّية صعباً وشاقاً في المراحل الأولى للرسالة، أي في المراحل التي كان فيها جمهور الدعوة ضيقاً لا يتجاوز الحيِّز القبلي والقرشي وأطرافه الأقرب، إما بسبب ضيق المجال المكاني (=مكة)، أو بسبب قوة الممانعة التي أبداها (الملأ المَكّي) ضد دعوة تقترح عليه توحيداً اعتقادياً يدمر النظام الإيماني الوثني وعائداته الاقتصادية والتجارية المُجْزية، أو تفرض عليه منظومة قيمية اجتماعية جديدة قوامها المساواة في الدين، وأمام الله، بين قلة قليلة من (الذين يكنزون الذهب والفضة)، وبين السواد الأعظم من العبيد(3)، وسائر المهمشين من غير المنتسبين إلى خيار البطون القبلية. ولعله لا قرينة على أن بناء تلك الجماعة الاعتقادية كان صعباً وشاقاً -في مرحلة (الوحي المكي)- من أن مجموع من استجاب لدعوة النبي e، وصار في جملة جنده، لم يتجاوز بضعة عشرات من الناس -أحصتهم كتب السير(4)- على الرغم من أن مرحلة (الوحي المكي) استغرقت من زمن الدعوة المحمدية ما يزيد قليلاً على نصفه. ومع أن رسول الإسلام أمر بالجهر بالرسالة -بعد نزرٍ من سنوات كانت فيها الدعوة سرية- بنص صريح: ﴿فاصدع بما تُؤمر﴾(5)، وكان عليه بمقتضى أمر الوحي -﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾(6)- أن يلتفت ابتداء إلى محيطه الهاشمي نقطة انطلاق في مخاطبة الاجتماع القبلي القرشي، إلا أن حصيلة نجاحاته حتى على هذا الصعيد الاجتماعي الأضيق كانت متواضعة؛ للأسباب التي ألمحنا إليها ولغيرها من الأسباب.

ولقد كانت هذه المحنة النبوية في تبليغ الرسالة، وكسب الأنصار، والتقدم في بناء جماعة اعتقادية قوية ومتماسكة وعريضة الجمهور، في جملة الأسباب التي حملت على الهجرة الاضطرارية من مكة إلى يثرب، ومعها البحث عن جمهور جديد للدعوة من خارج مكانها المكي الارتكازي.

وإذ آذنت الهجرة بإمكانية توسعة جمهور الجماعية الملية الإسلامية، فهي آذنت -في الوقت نفسه- بانتقال الدعوة من حيز ديني إلى حيز سياسي لا يفارقه الدين؛ بل يحايثه ويحمل عليه. هكذا بدت المعالم الأولى لصيرورة المسلمين جماعة سياسية (ودينية) بعد أن كانوا -قبل الهجرة- جماعة مؤمنين فحسب.

ولقد أمكن لهذه الجماعة السياسية أن تقوم في يثرب فعلاً، بعد الهجرة من مكة إليها، بسبب أنها لم تكن محكومة بما يمنع الجماعة الاعتقادية من التوسع -كما الأمر في مكة- أو بما يمنعها من أن تقيم نظاماً سياسياً يطابق شخصيتها الملِّية. ولم يكن هذا الإمكان بصيرورتها إلى جماعة سياسية بسبب وجود بنية استقبال يثربية للمهاجرين -مثّلها الأوس والخزرج الذين أمسوا أنصارا- فحسب، بل كان -أساسا- بسبب وجود حاجة حيوية إلى تلك الجماعة السياسية؛ حتى تستمر الرسالة نفسها ويستمر معها توسع الجماعة الملية. ومع أن الجماعة السياسية في يثرب -وقت تسمت (المدينة) بعد الهجرة، والمؤاخاة بين الأوس والخزرج- لم تقتصر على المسلمين حصرا: مهاجرين وأنصارا؛ بل شملت المخالفين في الملة من القبائل اليهودية في المدينة التي أبرم معها النبي e (عقدا سياسيا)، أتت (الصحيفة)(7) تعبر عنه في شكل (دستور) أو (ميثاق) سياسي يؤسس مبكرا لعلاقة (المواطنة): الاشتراك في الموطن لا في الدين(8)- إلا أن (دولة المدينة) كانت -في المطاف الأخير- دولة مسلمين (وليس بالضرورة دولة إسلامية). ولقد أمكنها أن تتحول سريعًا إلى دولة إسلامية لأسباب عدة اعتنت كتب السير والطبقات بتدوين حوادثها، ومنها نقض الميثاق بين النبي ويهود بني قريظة وبني قينقاع وبني النضير بسبب غدرهم، وقد بلغ ذروتة الدراماتيكية في الصدام المسلح والتصفية المادية الشاملة (=خيبر).

في كل الأحوال، أتى (الإسلام المدني) يرهص بتحويل الجماعة المكية -التي تكوِّن وجدانها الاعتقادي في (الإسلام المكي) ابتداءًا، وتعمق في تجربة الهجرة إلى المدينة- إلى جماعة سياسية، أي إلى جماعة تعيد تأسيس الاجتماع الديني للمسلمين في صورة اجتماع سياسي باتَ -هو نفسه- ممراً إجباريا للاجتماع الديني؛ كي يعيد إنتاج نفسه وكي يتوسع في المجال الحجازي ابتداء، ثم خارج هذا المجال في مرحلة لاحقة.

ولم يكن ذلك التحول تفصيلاً عادياً في تاريخ الرسالة. فإلى كونه نقل الجماعة الإسلامية من الاجتماع الديني إلى الاجتماع السياسي، أعاد -بمعنى ما- تأسيس النبوة نفسها بوصفها قيادة دينية وقيادة سياسية في الآن نفسه، وأعاد معه تأسيس الإسلام من حيث هو رسالة إيمانية ومشروع سياسي في تلازم عضوي غير قابل للإنفكاك؛ أي بلغة معاصرة أثيرة على مفردات خطاب الإحيائية الإسلامية(9)، من حيث هو دين ودولة. وكان ذلك -من دون شك- أول شكل من أشكال التعبير عن العلاقة الماهوية بين الديني والسياسي في الإسلام.

2- السلطان السياسي لإسلام ما بعد الوحي

كان يمكن للجماعة الإسلامية أن تظل في الحقبة النبوية، وحتى بعد الهجرة من مكة جماعة اعتقادية فحسب، وألاّ تصير إلى جماعة سياسية -مع أن ذلك لم يحصل كما رأينا- لكنة ما كان لها إلا أن تكون جماعة سياسية في الحقبة ما بعد النبوية؛ ذلك أن الفترة النبوية -وقد امتدت في الزمان لثلاثة وعشرين عاما(10)- كانت فترة تأسيس للدين الجديد في تعاليمه ومنظومة قِيَمِهِ على عرب الجزيرة العربية. وككل فترة تأسيس، كان تشبع العرب بتلك التعاليم والقيم طريّاً بحيث لم يقطع تماماً مع الموروث الثقافي والاجتماعي القبلي لحقبة (الجاهلية)، كما لم يكن قد نشأ جيل إسلامي مفصول عن ذلك الموروث قبل - الإسلامي. ومع أن جمهور المؤمنين برسالة الإسلام تزايد عدداً واتّسع نطاقاً بحيث فاض عن المجال الحجازي -موطن الدعوة- ليشمل سائر الجزيرة العربية في العهد النبوي؛ إلا أنة لن يكون عصيّاً إدراك حقيقة أن ذلك التزايد في جمهور المسلمين والتوسع في جغرافية جماعتهم ليس يعني -حكماً- أن رسالة الإسلام تغلغلت عميقاً في الوجدان الجمعي للمخاطبين بها، المعلنين فيئًا إلى أمرها. وآي ذلك واقعتان ليستا قابلتين للطعن:

أولاهما أن بعضًا -كثيراً أو قليلاً- ممن أسلموا، ما جهروا بإسلامهم طوعاً وإيماناً وعن اختيار؛ بل اضطروا إلى الدخول فيه واللحاق بحركته الظافرة بعد أن لحقتهم الهزيمة في المواجهة الشرسة مع الإسلام، وتبين له أن حفظ البقية الباقية من مصالحهم ومراتبهم إنما هو وقف على السباحة في تياره لا ضده. وما كان ليخفى الأمر هذا على النبي e، الذي طمأن هذا البعض على مصالحه –سعياً إلى إغلاق موضوع أية معارضة قرشية للدعوة التي حزمت أمرها على الانطلاق إلى الآفاق- إلى حد التلميح بتجاوز مجرد الصفح (وقد بدأ إبان فتح مكة حين أعطى النبي أمانا لمن (دخل دار أبي سفيان) رديف الأمان الممنوح لمن دخل المسجد)، إلى حفظ مراتب (الملأ المكي) -وهي مراتب (الجاهلية)- من خلال التشديد على أن (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام).

وثانيهما أن حركة (الردة) سرعان ما اندلعت في أرجاء مختلفة من أراضي الإسلام، ما إن عم الخبر بوفاة النبي. ومع أن في الوسع المصادقة على قراءة دارجة لــ(الردة) بوصفها تمردا سياسيا لـ(أطراف) على (الدولة) أخذ شكل امتناع عن دفع الزكاة، إلا أنه ليس في الوسع -في الآن نفسه- حصر هذا التمرد في النطاق السياسي فقط؛ ذلك أن الامتناع عن دفع الزكاة ليس محط تمرد سياسي على (الدولة)؛ بل هو نقض لركن ركين من واجبات الدين.

وعليه، ما الذي يمنع من الافتراض بأن (الردة) تعبير عن شعور لدى ذلك البعض بأن غياب صاحب الرسالة يرفع عنه (عبء) الالتزام بأحكام رسالته التي حُمِل على أن يضوي تحت أحكامها مكرها؟

ولذينك السببين –وهما من جملة أسباب أخرى- يسوغ الاعتقاد -ولو من باب الافتراض- بأن العرب كانت في حاجة إلى كامل الفترة النبوية حتى تتكون جماعة دينية متماسكة في الحد الأدنى من تماسكها، وأنها كانت ممكنة (الاستغناء) كجماعة اعتقادية عن سلطان سياسي يرعى اجتماعها الديني ويعيد إنتاجة. ولعل مجرد وجود رسول يقود الجماعة وينظم أمورها ويلهمها بما يأتيه من أفعال أو يفوه به من أقوال، ومجرد وجود وحي، يرسم لها الحدود والفوارق بين المأمور به والمنهي عنه، والوحي -عند رحيله- انقطع، فما عاد ثمة ما يبرر الاعتقاد بأن اجتماعها الديني بات ممكن الاستمرار والتجدد من دون اجتماع سياسي يحفظه ويضع له أسباب الديمومة، وإذا كان من هذا الثابت لدينا أن هذا التحديد المتضافر للسياسي إزاء الديني تحقق في حقبة الدعوة نفسها، حين كانت المرجعية للوحي وللنبوة، فكيف بعد أن بات مصير جماعة المسلمين مرهونا بتدبير المسلمين أنفسهم بعد انقطاع الوحي وغياب منصب النبوة؟

لقد كانت الدعوة -في عز سلطة ومرجعية النبوة- في حاجة إلى سلطان سياسي ينتظم به حالها، وتنفتح لها أبواب الفشو والسيادة. أما بعد الغياب النبوي و–قبله- انقطاع الوحي، فقد باتت في حاجة مضاعفة إلى ذلك السلطان السياسي الذي به تستوي وتنتشر.

3- خلافة النبي وسؤال السلطة

لئن كان السؤال الذي دار في أذهان المسلمين في اللحظات الأولى لانتشار نبأ وفاة الرسول، وكان مدار جدل بين الأنصار والمهاجرين في (سقيفة) بني ساعدة، وهو: من سيخلف النبي في إمامة المسلمين؟ فإن من الناقل القول بأنه ما كان سؤالا دينيا، ولا كان من الممكن أن يأخذ شكلا دينيا؛ لعلم المسلمين سلفا أن نبوة رسولهم اختتمت الرسالات، وأنهت أمر القيادة الدينية بالمعنى الدقيق للكلمة. لقد كان سؤالا سياسيا؛ بل كان سؤالا عمن سيخلف الرسول في الإدارة السياسية لشؤون المسلمين. وهكذا تعامل معه أولئك الذين تنادوا إلى الاجتماع للبحث في أمر خلافتة في اليوم الأول لوفاته.

قد يُعترض على ذلك، القول بأن خلافة النبي مزدوجة الطبيعة: سياسية ودينية في الآن نفسه، وأن (أمير المؤمنين) (وخليفة رسول الله) ليس فقط مجرد قائد سياسي يدير أمور المسلمين الاجتماعية، ويقود معاركهم وفتوحهم، ويدير بيت مالهم، ويوزع الغنائم عليهم؛ بل هو -قبل ذلك وأثناءه وبعدة- مَنْ يؤمهم في صلاة الجماعة، ويقضي بينهم، ويملك حق الفُتيا فيما عرض لأحوال اجتماعهم من أوضاع تقتضي أحكاما تناسبها، وهذا صحيح بغير شك؛ إذ الديني والسياسي اجتمعا للخليفة، وكانا في جملة ما كوّن نصاب الإمامة في الإسلام. غير أن الذي لا يقبل الجدل أن سائر الذين تطلعوا إلى خليفة يخلف الرسول كانوا يدركون -على نحو حاد أو بالسليقة- أن خليفتهم لن يشبه الرسول في سلطته الدينية. فلا هو مرسل يحمل وحيا وكتابا، ولا هو معصوم يتعالى عن إتيان الفعل الخطأ(11). وإذا كان لا بد من دليل على ذلك، ففي أن إجماع المسلمين على قائد واحد انعقد -في تاريخهم- مرة واحدة على شخص النبي e. أما من تسلسلوا في خلافته، فلم ينعقد عليهم مثل ذلك الإجماع الأول والتأسيسي الذي صنع جماعة المسلمين وأنتج وحدتها.

لقد بويع أبو بكر بطريقة يجوز أن يقال في حقها: إنها أقرب ما تكون إلى أسلوب الأمر الواقع(12). ومع أن البيعة أخذت من سائر الصحابة -وإن تأخرت حسب أكثر من رواية بيعة الإمام علي بن أبي طالب له- إلا أبا بكر الصديق دشن خلافته بمواجهة معارضة عارمة نظمت تحت عنوان (الردة)، وكانت عنوانا عريضا لانهيار حالة الإجماع الذي رد علية أبو بكر بحرب ضروس. ولم يكن حظ الخليفة عمر أفضل حالا من أبي بكر، حتى وإن كان -في المخيال الجماعي الإسلامي- أكثر عدلا وحلما. ولقد قتلا معا من طرف فئة معارضة: فئة المستضعفين في حالة عثمان وفئة الخارجيين (المحكمّة) عن سلطان الخليفة في حالة الإمام علي. ولقد كان واضحا -في هذه الحالات الأربع من انهيار الإجماع- أن الأمر لا يتعلق بانهيار إجماع ديني، بل بانهيار إجماع سياسي، بدليل أن سائر الذين تمردوا على خلفائهم أو شاركوا في تصفيتهم ظلوا مسلمين، وإن كانت مواقفهم السياسية ستقدم نفسها -منذ (الفتنة الكبرى)- في صورة مواقف عقدية ستمهد لعلم الكلام، ولسؤاله التأسيسي المتصل بالموقف من (مرتكب الكبيرة) وما ارتبط به من سؤال عن الإيمان والكفر.

اصطدم المسلمون إذاً بسؤال السياسة والسلطة منذ وفاة الرسول واجتماع (السقيفة)، وما كان منهم –ولهم- إلا أن يصطدموا به. لقد وحدهم الوحي، ورعت النبوة وحدتهم واجتماعهم لمدى شارف ربع قرن. وبعد أن انقطع الوحي، ورحل رسوله عن عالم الشهادة، لم يكن أمامهم إلا أن يطرحوا سؤال السلطان السياسي الذي سيقوم فيهم بعده. ولئن كان سؤال السياسية في وعيهم إشكاليا، نصوصهم الدينية -كما سنرى لاحقا- لم تسعفهم في العثور على أجوبة قطيعة عليه؛ الأمر الذي دفع بهم إلى سلوك دروب متعرجة -لم تكن تخلو من مجابهات مريرة- سعيا في تحصيل مثل ذلك الجواب الذي سكت عنه منذ الطور الثاني من الخلافة الراشدة مع مقتل عثمان بن عفان، وانطلاق مسار الفتنة والاقتتال الأهلي في داخل الجماعة الإسلامية إلى حين نهاية حقبة الخلافة وقيام (الملك المعضوض): نظام الدولة السلطانية مع قدوم السلطة والدولة العصيبة القبلية الأموية.

في (الفتنة الكبرى)(13) عاش المسلمون أوجع أشكال الاصطدام بسؤال السياسة والسلطة وأمرها. لم تكن المشكلة هنا مشكلة خلاف سياسي فحسب حول من يملك شرعية الخلافة؛ بل كانت حربا أهلية اقتتل فيها المسلمون لأول مرة بهذه الضراوة والشراسة منذ تكونوا جماعة اعتقا دية، وتجابه فيها الصحابة مجابهة إفناء متبادل لأول مرة في حياتهم منذ أقامت صحبة النبي فيهم لحمة الأخوة والمودة، وصهرتهم جسما متماسكا أوكل له النبي مهمة الذهاب بالرسالة في الآفاق، وآل إليه -بعد وفاة النبي- أمر قيادة المسلمين، ولم تتوقف الحرب الأهلية بين المسلمين عند حدود قيام مركزين للحكم: في الكوفة حيث الخلافة للإمام علي، وفي الشام حيث السلطة لمعاوية بن أبي سفيان، بل استمرت مستعرة بعد غياب الرجلين. وكانت ذورة تعبيراتها مجزرة كربلاء(14). ومن حينها انقسم المسلمون شيعا ومذاهب بعد أن وحدتهم رسالة الإسلام. ومع أن السياسة (والسلطة) لم تفلحا كثيرا في حفظ وحدة المسلمين بعد تجربة النبوة، إلا أنه لم يكن بد منها لأمرين: لكي تستمر الجماعة الاعتقادية مع اعتلال أمرها من فرقة وشقاق، وهي استمرت -بغير شك- بالسلطان السياسي نفسه الذي أوقع فيها الخلاف والشرخ، ولكن أيضا الذي حمى بقاياها من التبدد والزوال، ثم لكي تتوسع الرسالة في الآفاق وتدخل أمصار وشعوب تحت أحكامها، وهو ما تحقق تاريخيا من طريق الفتوحات التي أبلى فيها الأمويون بلاء حسنا، على عِظَم ما أرتكبوة من قبل في حق وحدة الجماعة الإسلامية.

-2-

لعل لهذه المحنة التي ألمت بالمسلمين في معترك الصراع على السياسة والسلطة سببا تحتياً يفسرها ويلقي الضوء على وقائعها؛ إنه غياب تشريع قرآني للمسألة السياسية. لكنه غياب لم يمنع -على عِظَمِهِ- من تغطية فراغه النصي في سياق التجربة التاريخية الإسلامية كما سنرى.

1- في غياب تشريع سياسي قرآني

قدم النص القرآني للمسلمين مدونة تفصيلية من التشريعات تشمل معظم مناحي حياة الإجماع الإسلامي: من التجارة والبيوع والعقود إلى المواريث والحقوق، إلى أحكام الأنكحة والطلاق والولاية على الأيتام، إلى قواعد قسمة أموال الفتوح والغنائم، إلى أحكام الحدود، إلى المواثيق والعهود مع غير المسلمين...إلخ. لكنه لم يقدم تشريعاً خاصاً للمسألة السياسية يرسم إطار السياسة والسلطان، ويحدد وظائفهما، ويؤسس قواعدهما على مقتضى نصوص وتعاليم صريحة التعريف والتعيين. وقد كانت لذلك الفراغ التشريعي آثار بعيدة المدى في رؤية المسلمين للسياسة، ونصاب السلطة في اجتماعهم الإسلامي. وكما أتى يؤسس لصراعات متحللة من أي إلزام ديني إلا ما كان من وازع حملت عليها، أتى –في الوقت نفسه- يفتح جدل فقهيا وفكريا خصبا، وأحيانا (مخصْبا) بالدم، بين جماعاتهم وفرقهم المذهبية حول السلطة.

في قراءات لاحقة للمسألة السياسية في الإسلام، سيقال: إن مثل ذلك التشريع القرآني موجود ومنصوص (أو نصي) وإن باحتمال. وسيشار -من باب الإثبات- إلى آيتي الشورى(15) بوصفهما تعينان نوع نظام الحكم في الإسلام. غير أن مستند هذه القراءات -وقد ازدهرت في الفكر الإسلامي الحديث بتأثير سلطة الأفكار الليبرالية الداعية إلى إقامة السلطة على مقتضى الاختيار الديمقراطي- إذ يفصح عن أن الحكم يتقرر بالاختيار لا بالتعيين أو بالتوريث أو ما شابه، بيد أنه لا يوضح أمرين رئيسين: نوع النظام السياسي في الإسلام، ومن تشملهم عبارة الشورى من المسلمين: عامتهم أم خاصتهم؟ أي عمن يحق لهم الاختيار وتجوز لهم الولاية؛ إذ ترك الأمر مبهما وكان لغموضه كبير أثر في التجربة التاريخية السياسية في الصدر الأول للإسلام وما أعقبة من عهود.

فأما عدم التصريح بنوع النظام السياسي فواضح من منطوق الآيتين التي تَكِلان (الأمر) (=أي الحكم) إلى المسلمين الذين هم من سيحدد طبيعته. والمسألة هنا ليست جزئية أو تفصيلية.

فحين يمتنع التصريح في النص، يفتح الباب أمام التأويل. والتأويل وإن كان اجتهادا في التبيين والتجلية، فهو ليس دائما فعلا معرفيا أو تؤسسه المعرفة فحسب، وإنما كثيرا ما تتقرر وجهته تبعا للمصالح التي تحمل على التعبير عنه بهذا الشكل دون ذاك. وفي هذه الحالة التي نحن أمامها من عدم تصريح الآيتين بنوع نظام الحكم في الإسلام، أفرج اجتهاد الفقهاء والخلفاء عن مفهومين للنظام ذاك: مفهوم توفيقي هو أقرب ما يكون إلى معنى الآيتين الصريح، ومقتضاه أن الجماعة(الإسلامية) هي من يؤول إليها أمر التوافق على نظام الحكم الذي سيقوم فيها. وهو مفهوم اعتنى كثيرا بمسألة الإجماع على قاعدة فكرة (عصمة الأمة) التي ما اجتمعت على ضلالة كما ورد في حديث نبوي. ومفهوم توقيفي يقرر قاعدة مقتضاها أن الأمة محكومة -شأنها شأن نظام الحكم فيها- بالشريعة، وأنه ليس يجوز لها وَضعٌ في أمر قررته الشريعة سلفاً.

لقد كان هذا المفهوم التوفيقي مفيدا للسياسة والسلطان بعد زوال الخلافة وانقلابها إلى ملك؛ إذ حررهما من (قيد) نظام الخلافة (الراشدة) الذي يفترض قاعدتين هما: السابقة في الإسلام، والقرابة من النبي(18) ليرسيهما على مفهوم الجماعة(17).

والمفارقة أن ذلك ما حصل إلا على حساب مفهوم الشورى نفسه الذي انسحب من قواعد السياسة والسلطة ليفتح خروجه الباب أمام دخول مبدأ الوراثة في الحكم منذ تولية يزيد بن معاوية بموجب ولاية عهد! وما حصرت فائدته في الأمويين والعباسيين فحسب؛ بل تعممت لتشمل الفقهاء أيضا، خاصة فقهاء(السياسة الشرعي) ممن نظَّروا لـ(الدولة السلطانية) وجوزوها شرعاً، وتحديداً في العهد الذهبي لذلك التنظير: القرن الخامس الهجري مع أبي الحسن الماوردي، و(إمام الحرمين) الجويني، حين كان التسويغ لتلك الدولة فعلاً اضطرارياً فقهياً؛ لا خوفاً من شوكتها وجبروتها، بل خشية فتنة تمزق نسيج الجماعة. ونملك أن نقول اليوم: إن ذلك القول أفاد الإسلاميين المحدثين، منذ القرن التاسع عشر، الذاهبين إلى القول بمدنية النظام السياسي(18) في الإسلام، وبأن السيادة والسلطة للأمة، وهما مصدر شرعية السلطنة والدولة؛ لأنّه وفر لهم قاعدة شرعية تقول: إن الحكم اختيار يقرره المسلمون.

أما المفهوم التوقيفي فأفاد الثوار المبكرين سواء أكان في عهد علي أم في عهد معاوية للقول: إن الحكم في الإسلام شأن ديني بمقتضى النص ليس يجوز التطاول عليه. بذلك قالت المحكمّة حين رفعت شعار (لا حكم إلا لله) في وجه الإمام علي رفضاً للتحكيم مع معاوية قبل أن تعود عن ذلك فترفع شعار الشورى والاختيار في وجه معاوية عند مبايعته. وبشبيه ذلك قالت الشيعة حين أسقطت الشورى والاختيار وإجماع الجماعة مؤكدة على أن الحكم يتقرر بمقتضى (الوصية) وأن النبي محمداً أوصى لعلي به. ولم يكن من قبيل المصادفة أن (الإسلام الإحيائي)، منذ ثلاثينيات القرن العشرين -وخاصة منذ النصف الثاني منه- وجد في المفهوم التوقيفي هذا ما يؤسس لشرعية مقالته الذاهبة إلى تعريف نظام الحكم في الإسلام بأنه نظام (الدولة الإسلامية) أو نظام الدولة القائمة بأمر تطبيق الشريعة الإسلامية.

وكثيرا ما وجد مثقفون إسلاميون معاصرون(19) في آيات قرآنية عديدة من قبيل: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾(20)، أو من قبيل: ﴿أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله لقوم يوقنون﴾(21) المستند الشرعي للاحتجاج بها منافحة عن فكرة جوهرية الشريعة في نظام الحكم الإسلامي، دونما توقف عند معنى (الحكم) في تلك الآيات التي يفيد معنى القضاء22 لا معنى الإدارة السياسية التي يقابلها اللفظ القرآني (الأمر). أما من يشملهم أمر الشورى من المسلمين في آيتي الشورى تينك، فلم يجْرِ التصريح به قرآنياً وليس يكفي ضمير (هم) في الآيتين ليقطع بأن الخطاب يعني سائر المسلمين. ومع أن المسألة هنا ليست معرفية تتصل بدلالة النص وبأوجه الإبهام أو القطع في صريحه ومضمره، وإنما هي سياسة في المقام الأول مأتاها مصالح مادية حملت على نوع محدد من الفهم ومن الاستعمال لآيتي الشورى في الحقب الثلاث التأسيسية للمجال السياسي الإسلامي: حقبة النبوة وحقبة الخلافة الراشدة وحقبة ميلاد الدولة الأموية، إلا أنه لا سبيل إلى تجاهل حقيقة أن امتناع التصريح في الآيتين، بمن يشملهم خطاب الشورى فتح أوسع الأبواب أمام أشكال مختلفة من التعبير السياسي عن قاعدة الشورى تلك. لنقرأ في هذا السياق ثلاثاً من الوقائع الدالة:

أولى تلك الوقائع أن كتب التاريخ والسير لم تحمل لنا من الإفادات الوقائعية ما يدل على أن الممارسة النبوية للشورى -وقد كانت الشكل التاريخي الأول له- أدخلت في نطاقها ما يقع خارج دائرة الصحابة من المسلمين؛ بل لسنا نجد في المصادر تلك دليلاً على أن سائر الصحابة كانوا في جملة من استشيروا في أمور معلومة أشبعتها المصادر إياها سرداً وتفصيلاً. كان (كبار الصحابة) -بالأحرى- المخاطبين من النَّبِيّ e في أمور المسلمين. بذلك؛ مثلا تشهد حادثة المنافسة التي دارت بين النبي وكبار الصحابة حول (صلح الحديبية)، والتي قال فيها عمر بن الخطاب ما قاله من رأي في عدم جواز مصالحة المشركين على شروطهم. وبذلك تشهد حوادث أخرى -أهمها الغزوات- كان إطار التشاور فيها ضيقاً لا يفيض عن حدود النخبة السياسية الأولى في الإسلام: الصحابة. وفي كل حال، لو أقرت التجربة النبوية صيغة الشورى المفتوحة على رأي عموم الجماعة لباتت في عداد سنن تجري مجرى الأصول التي يبنى عليها، ولما كان في وسع أحد -بعد حقبة النبوة- تعطيل أحكامها. ولعلنا لا نجد تفسيراً لفكرة (شورى أهل الحل والعقد) في التجربة السياسية الإسلامية كما في (نظرية الخلافة)، إلا في غياب دليل من السنة النبوية -ناهيك عن غياب في النص القرآني- على أن فعل الشورى يتجاوز إطار الخاصة أو النخبة السياسية الضيقة التي مثلها الصحابة.

وثانية تلك الوقائع مرتبطة بالأولى، وتمثلها حادثة خلافة عمر بن الخطاب خلال رقدته المرضية بعد طعنه؛ إذ تروي المصادر التاريخية أنه دعا ستة من الصحابة، وأوكل إليهم أمر الاتفاق بينهم على خليفة منهم يخلفه في الإمارة إن قضى نحبه. وتشير الواقعة إلى حقائق ثلاث بالغة الدلالة في هذا المعرض: أولها: أن الرجال الستة كانوا من قريش: وليس يعنينا ذلك هنا -على أهميته في مضمار السياسة والمجال السياسي في الإسلام- إلا في اتصاله بمسألة حصر الولاية في قريش دون سائر الجماعات الأخرى. وثانيتها: أن عمر قصر حق الاختيار على هؤلاء الستة دون سواهم. وثالثتها: أنه حصر حق الولاية فيهم23. وفي هذه الأحوال جميعاً، تتحدد الشورى -اختياراً وولايةً- في فئة ضيقة من نخبة الصحابة، تكاد تكون أضيق من النخبة المستشارة في العهد النبوي، وتخرج تماماً من حيز (الحق العام): حق سائر المسلمين فيها.

أما ثالثة الوقائع تلك فهي تولية معاوية الحكم وبيعته من أهل الشام والحجاز، ثم من أهل العراق بعد، دونما تحصيل لها من طريق الشورى. والمستفاد من ذلك أن المسلمين ما كانوا تشربوا فكرة الشورى بعد واستدخلوها في جملة ما يؤسس الشرعية السياسية في نظام اجتماعهم، وإلا ما كانوا ليسكتوا عنها في هذه التولية، كما أن من ذلك أنهم كانوا أعنى بأمر وحدة معرضة للتمزق والتذرُّر -بعد تجربة دراماتيكية مع الحرب الأهلية- من عنايتهم بأمر مشروعية السلطة. ولعل في سكوت المسلمين عن قاعدة الشورى في ولاية معاوية ما شجع الأخير على إسقاطها كلياّ حين عهد بأمر خلافته إلى ابنه يزيد مدشناَ –بذلك- نظام الملك في الإسلام ومنهياً نظام الخلافة الذي أخرج السيادة في قريش من فرع بني أمية ما خلا في عهدها الثالث (مع عثمان بن عفان)(24) ليعيدها إلى ذلك الحي من قريش ومن بني عبد مناف!

هكذا كان التباس معنى الشورى ومن إليهم يوكل أمرها سبباً في صلة تاريخية وسياسية مضطربة بها من قبل المسلمين. وهو التباس لا يرتبط بامتناع التصريح فحسب؛ بل يتصل إجمالاً بما أسميناه غياب تشريع قرآني للمسألة السياسية. على أن غياب هذا التشريع -معطوفاً على إحجام النبي عن العهد لغيره بخلافته- لم يغلق الباب أمام تفكير المسلمين في المسألة السياسية؛ إذ دفعهم -ابتداء- إلى البحث عما يملأ هذا الفراغ التشريعي القرآني في التجربة النبوية وما أعقبها من خلافة الراشدين،عساهم يجدون فيها ما يجيب عن سؤال السياسة والولاية.

2- السنة والأثر: وحين وجد المسلمون أنفسهم مطوقين بالحقيقتين الصارختين تينك: غياب الرسول -وقبله انقطاع الوحي- وغياب تشريع قرآني للمسألة السياسية،لم يكونوا بعيدي عهد بأكبر مصدر إلهام لتجربتهم الحياتية العامة، أعني التجربة السياسية النبوية في (دولة المدينة)؛ بل كانت هذه ماثلة أمامهم ووقائعها طرية في وجدانهم يعيشونها كما لو كانت مستمرة. لذلك ما كان مستغرباً أن يفيئوا إليها مثالاً يحتذى ويستظل به من العراء (الفراغ التشريعي). ولم تكن المشكلة هنا وفي هذا الموضوع، أعني فيما عليهم أن يستعيدوه من تلك التجربة للجواب عن مشاكل تدبير أمور المسلمين العامة؛ فالمسلمون إجمالاً -والصحابة في هذه الحال خاصة- ما كانوا أمام ترف الاختيار بين ما ينبغي انتهاله من التجربة النبوية، فهي -بعد قرآنهم- مرجعهم الوحيد في تنظيم اجتماعهم السياسي (والديني ابتداءً).., وإنما المشكلة في أن التجربة إياها -وككل تجربة تاريخية- ما كانت تحوي من السوابق ما يسعفهم ببناء أجوبة عن كافة إعضالات حياتهم العامة، مِمَّا كان يلقي عليهم أعباء السعي في التماس تلك الأجوبة المسكوت عنها في النص الغائبة في خبرة المدينة وتجربتها السياسية(26).

كان يمكنهم أن يستعيدوا الكثير من سوابق المقارنة النبوية لمسائل سياسية عدة مثل تنظيم الغزوات، وتجهيز الجيوش، وتنصيب الولاة، وتوزيع غنائم الفتوحات، والقضاء بين الناس، والإفتاء في المسائل بمقتضى ما نص عليه الوحي أو على نحو ما اهتدى إليه الرأي، وإبرام المحالفات والمعاهدات...إلخ، ولم يكن مطلوباً منهم -في هذه الحال- أكثر من إعادة إنتاج سنة نبوية تتنزل فيهم منزلة المشرع الذي لا يرد له حكم لعصمته. لكنهم غالباً ما وُوجهوا بمسائل أخرى لم ترد لها نظائر في السوابق النبوية، أو هي وردت لكن شروطها تغيرت عن ذي قبل فاستلزمت أحكاماً (جديدة) تناسبها. لنأخذ هنا -على وجه التمثيل والاقتضاب- ثلاث مسائل (هن) أم مسائل الحقبة الأولى من الخلافة الراشدة: حقبة (الشيخين) أبي بكر وعمر(27).

المسألة الأولى هي الولاية، أو شرعية الخلافة بعد وفاة النبي e؛ إذ مع وجود الأمر القرآني بالشورى في أمر (حكم)المسلمين، فإن ملابسات (اختيار) أبي بكر خليفة عطلت العمل بهذا الأمر. وإذ نشدد على عبارة (الملابسات)،فليس لتبرير تعطيل العمل بذلك المبدأ من قبل المتجادلين في اجتماع السقيفة، خاصة عمر بن الخطاب وأبي بكر (وهم من تُجمع المصادر التاريخية على أنهم الحاضرون في الاجتماع من كبار الصحابة)، وإنما لبيان وجه الضرورة الذي فرض نفسه على اجتماع كان يمكن أن ينتهي -لو فشل- إلى حرب أهلية بين المسلمين(28).

ربما وجد من اعتبر السجال نفسه -الذي دار في السقيفة- نوعاً ما من الشورى، خاصة وأنه دار حول المعايير التي بمقتضاها ينبغي تأمير فرد على الجماعة. لكن هذا -فيما نرى- ­­­­­­­­­­­­يجافي معنى الشورى، كما ورد نصاً وكما فهمه المسلمون، في أمرين على الأقل، هما أن المعايير تلك جماعية(29)، تتعلق بأفضال فريق في الجماعة وأدواره وهو المهاجرون وليست تتعلق بخصال (مرشح) فرد وأهليته للقيام بأمر الخلافة كما سيحصل -مثلاً- في شورى الخلافة الثالثة ولو على نحو جزئي. ثم إن خلاف السقيفة حسم بفرض الأمر الواقع لا بتراض. والأمران معاً يتعارضان ومعنى الشورى الذي يرد إلى (الاختيار) الطوعي والحر. جرى -إذن- تأسيس أول سلطة سياسية في الإسلام، بعد السلطة النبوية، من طريق أخذ بيعة لأبي بكر، ولكن ذلك ما كان يعني أنها عارية عن آية شرعية؛ بل إنها تمتعت بها في حدها الضروري وإلا ما كان لها أن تستمر، وليست شرعيتها متأتاة من كونها أعملت قاعدة البيعة مستلهمة سابقة بيعة النبي في العقبة (الأولى والثانية)(30). ولا في كونها قامت على مبدأ القرشية(31) معياراً ومرجعاً؛ بل إن شرعيتها في أنها صانت وحدة المسلمين من الانقسام، وهي الوحدة التي لم تنجح بيعة عثمان بن عفان -وقد أتت من طريق الشورى بين الصحابة الستة- في صونها من شرخ سياسي داخلي قاد إلى الفتنة.

ولعل ثقل الشعور بمسؤولية الدولة عن وحدة الجماعة هو نفسه الذي سيحمل أبا بكر الصديق على تحرير وصيته لعمر بن الخطاب بخلافته بعده(32). متجاوزاً مرة ثانية - مبدأ ترك أمر السلطة شورى بين المسلمين، حيث كان يخشى أن تفضي الشورى إلى تنازع في الرأي، فانقسام.

هكذا اقتضت متغيرات الاجتماع السياسي الإسلامي -بعد حقبة النبوة- مقاربة أخرى للمسألة السياسية كان الاجتهاد فيها مع وجود النص -آيتي الشورى- الأداة التي بها حل إعضال الخلافة.

والمسألة الثانية -وقد نُظر إليها اتصالاً بالمسألة الأولى- هي وحدة الجماعة والأمة. وهي تعرضت لامتحان تاريخي عسير أوشكت فيه على الانفراط والتداعي في أول عهد أبي بكر بالخلافة؛ عنيناَ التمرد القبلي الواسع -في سائر أرجاء الجزيرة العربية- ضد الدولة واندلاع ما سوف يعرف في كتب التاريخ باسم (حروب الردة).

ومن نافلة القول أن وحدة الجماعة والأمة تهددتها (الردة) بوصفها تهديداً للدولة: دولة الخلافة الفتية، وقد مثلت نظام الاجتماع السياسي الإسلامي الذي وظيفته -أيضاَ- إعادة إنتاج الاجتماع الديني، أي إعادة إنتاج الجماعة والأمة. ومع أن (الردة) أطلت بوجه ديني، إن من خلال حركات ادعاء النبوة (مسيلمة الحنفي(33) في شرق الجزيرة، والأسود العنسي في اليمن(34)، وطليحة الأسدي في قبيلة أسد(35)) إلا أن مضمونها السياسي كتمرد ضد الدولة، وكتهديد لوحدة الأمة، ما كان ممكناً تغييبه حتى بالنسبة إلى أبي بكر الذي رد عليها بقسوة عسكرية لا سابق لها في الحدة منذ بداية الدعوة المحمدية.

تذكر المصادر التاريخية أن أبا بكر رفض المساومة على حق الدولة في تحصيل الزكوات، وعارض آراء الصحابة الذين نصحوه بالاعتدال في الموقف، وقرر الحرب على المرتدين قائلاَ عبارته (الشهيرة): (والله لو منعوني عقالاَ كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه)(36).

كان يدرك -بحسه السياسي العالي- أنه لا يجوز له التنازل في هذا الموضوع أو غض الطرف عنه؛ لأنّ من شأن مثل ذلك التنازل أن يشجع على مزيد من التمرد في أمور أخرى قد تستحفل نتائجه على صعيد هيئة الدولة وسلطانها، خاصة وأن دولة ما بعد النبوية طرية العود، وتقاليد الحياة القبلية المتمردة على المركزية والاستقرار ما فتئت تبعث نفسها من جديد داخل نظام الدولة القائمة. ثم إنه كان يدرك أن ضعفاَ ما يدب في الدولة سيجر إلى تفكك في بنية الجماعة والأمة. ومن ثمة، كان حزمه في جبه (الردة)، وكانت قسوته التي لم يشاطره إياها بعض الصحابة. ولما كان التاريخ دوماَ حجةً لأفعال الماضي أو حجة عليه، فإن أفعال أبي بكر تجاه (الردة) بدت -من وجهه نظر مصلحة الدين والدولة- مبررة وشرعية؛ لأنّها أخمدت لهيب أول تمرد جماعي كبير في الإسلام تحدى الدولة، وهدد وحدة الجماعة بالشرخ، ويصح هنا أن نقول مع الجابري: إن أبا بكر (أنقذ... دولة المدينة) بخوضه الحرب ضد (الردة)، وإن هذه كانت (بمثابة فتح جديد لجزيرة العرب وإعادة تأسيس لدولة المدينة)(37).

******************

الحواشي:

*) باحث وكاتب من المغرب.

1- لعل مرشد جماعة (الإخوان المسلمين) حسن البنا أول من صاغ هذا التعريف للإسلام فيما نعرف.

2- نؤثر تعبير الإسلامية السياسية على تعبير (الإسلام السياسي)؛ لأنّ الإسلام السياسي قد يطلق على أكثر من موضوع: على الفقه السياسي الإسلامي: فقه السياسية الشرعية، وعلى نظام الخلافة، وعلى علم الكلام السياسي، وعلى الدولة العربية أو الإسلامية الحديثة التي تقول عن نفسها أنها تطبق شريعة الإسلام (إيران، أفغانستان طالبان، السودان، باكستان ما قبل انقلاب مشرف، المملكة العربية السعودية...)، بل وحتى على بعض الفكر السياسي الإصلاحي الإسلامي: فكر الأفغاني، ورشيد رضا، ومحمد بلحسن الحجوي، وعبدالحميد بن باديس، وعبدالعزيز الثعالبي، وعلال الفاسي، ومحمود شلتوت... وإلى ذلك فإن (الإسلامية) في اللسان العربي وفي نحوه صيغة جمع لمفرد هو الإسلامي. وهي لذلك السبب أوفى أداء للمعنى من تعبير (الإسلام السياسي) الدارج.

3- على ما في مقاربتهما المنهجية المادية التاريخية من كبير تعسف في مجال إدخال المادة التراثية قسرا في قوالب المفاهيم الماركسية (الطبقة، الصراع الطبقي، المضمون المادي للأفكار...)، إلا أن طيب تيزيني وحسين مروه يظلان أفضل من أطل -من الباحثين العرب المعاصرين- على سياق الصراع بين الدعوة النبوية وبين الأرستقراطية التجارية القرشية، وعلى الأسباب الاجتماعية/الاقتصادية العميقة التي أسست لذلك الصراع، وتحديدا المقاومة الشرسة التي أبداها الملأ المكي ضد الدعوة منذ ميلادها وإلى فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة في هذا، راجع:

- طيب تيرزيني، مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط، دار دمشق.

- حسين مروه، النزعات المادية في الفلسفة العربية - الإسلامية، جزآن، دار الفارابي، بيروت.

4 - الواقدي وابن إسحاق وأبن هشام.

5 - سورة الحجر، آية 94.

6 - سورة الشعراء، آية 214.

7 - نص الصحيفة مثبت في كتُب السِّير.

8 - انظر قراءتنا لـ(الصحيفة) ولمضمونها السياسي في:

عبد الإله بلقزيز: الإسلام والسياسة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت 2001م، الفصل الأول.

9- اهتمّ باحثون غربيون بمفهوم (الإحيائية) الإسلامية. وعلى وفرة ما حرروه في الموضوع (جاك بيرك، ماكسيم رودينسون، أولييفيه كاري، جيل كيبل، الآن روسيون...)، نحيل إلى ما كتبه في هذا الباب: برتراند بادي. انظر في هذا:

Bertrand Badie، Les deux etats: pouvoir et societe، en occident et en terre d،islam، Fayard, paris، 1986 (L، Espace du politique).

10- تجمع كتب التاريخ والسير والطبقات على أن البعثة النبوية بدأت والنبي في سن الأربعين. لكن هشام جعيط يرى رأيا آخر؛ إذ يفترض أنها بدأت في سن الثلاثين. راجع:

هشام جعيط، في السيرة النبوية - الوحي والقرآن والنبوة، بيروت - دار الطليعة - 2000م.

11- ثمة خصوصية شيعية لا ينطبق عليها هذا الحكم؛ لأنّها ماهت -على نحو ما من المماهاة- بين النبوة والإمامة (محصورة في (آل البيت) طبعا) على صعيد العصمة. وهذه تمثل ركنا ركينا في نظرية الإمامة في الفقه السياسي الشيعي الاثني عشري، بل منذ لحظته الجعفرية والإسماعيلية المبكرة والتأسيسية في الحلقة السادسة من تاريخ الإمامية.

12- راجع كتب التاريخ والسير التي تعرض لحادثة المبايعة في السقيفة، وللطريقة التي تدخل بها عمر بن الخطاب لحسم أمر الخلافة.

13- التعبير لطه حسين، وهو عنوان كتاب صدر له منذ نصف قرن.

14- راجع تحليلا رفيعا لتجربة الحرب الأهلية تلك في:

Hicham Djait: La Grande discord: Religion et politique dans L، Islam des origins, paris, Gallimard, 1989.

15- الآيتان هما: ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾. سورة الشورى، الآية 38، ﴿وشاورهم في الأمر﴾ سورة آل عمران، الآية 159.

16- كان معاوية بن أبي سفيان -وهو أول من وجد في هذا المفهوم التوفيقي ما يلائمه- ممن لا تتوافر فيهم شروط السابقة والقرب كما لاحظ ذلك رضوان السيد. راجع:

رضوان السيد، الجماعة والمجتمع والدولة، دار الكتاب العربي، 1997م، ص36.

17- راجع حول مفهوم الجماعة، وما استقر عليه استعمالها منذ حكم معاوية، رضوان السيد في المرجع السابق، ص39- 48.

18- انظر الموضوعات التأسيسية لهذه المقالة المدنية الإسلامية في:

محمد عبده، الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، دراسة وتحقيق محمد عمارة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسة والنشر، 1973م، الجزء 3: الإصلاح الفكري والتربوي والإلهيات، ص288.

19- راجع مثلاً:

- سيد قطب، معالم في الطرق، القاهرة – بيروت، دار الشرق، ط13، 1993م، ونحو مجتمع إسلامي. القاهرة – بيروت، دار الشروق، ط 15، 1993م.

- روح الله الخميني، الحكومة الإسلامية، بيروت، مركز بقية الله الأعظم، الطبعة 2، 1999م.

- عبد السلام فرج، الفريضة الغائبة في: رفعت سيد أحمد، النبي المسلح ج1، الرافضون، بيروت، رياض الريس للكتب والنشر، 1991م.

- أبو الأعلى المودودي، نظرية في الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1980م.

- سعيد حوى، جند الله: ثقافة وأخلاقاً، القاهرة، دار الطباعة الحديثة، ط2، 1977م.

- عبد السلام ياسين، الشورى والديموقراطية، الدار البيضاء، مطبوعات الأفق، 1996م.

20- سورة المائدة، آية 44.

21- المصدر السابق، سورة المائدة، آية 50.

22- راجع في هذا: محمد عمارة، الدولة الإسلامية -بين العلمانية والسلطة الدينية، القاهرة- بيروت، دار الشروق، 1988م، ص44-45.

23- قارن مع هذا، رضوان السيد، الجماعة والمجتمع والدولة، م م س، ص35-36.

24- بهذا المعنى كانت مطالبة معاوية بالقصاص لدم عثمان مطالبة بعودة السلطان إلى بني أمية. قارن مع: طه حسين، الفتنة الكبرى؛ وعلي الوردي، وعاظ السلاطين؛ ومحمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي؛ وهشام جعيط La Grande discorde.

25- نستثني من هذا الحكم الرواية الشيعية التي تقول بأن النبي أوصى لعلي بالخلافة استناداً إلى (حديث الثقلين) (راجع: مسند أحمد، وسنن البيهقي، وسنن الدرامي) و(حديث المنزلة) (راجح الحديث في صحيح البخاري وتعليق عيدوس العلوي الأندونيسي (ابن درويش) عليه في: شواهد التنزيل لمن خص بالتفضيل: المجتمع العالمي لأهل البيت، قم، 1996م، ص367) و(حديث الغدير) (راجع تفسيراً له في: محمد باقر الصدر، بحث حول الولاية، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 1985م، ط3، ص85).

26- ذلك ما سوف يؤسس لقاعدتي الإجماع والقياس في أصول الفقه كما صاغها الإمام الشافعي موفقا بين النصية السلفية و(الرأيية) والحنفية. وذلك أيضا ما كان في أساس الاعتناء المالكي بـ(الاستحسان) والمصالح المرسلة قبل أن تجد صيغتها التنظيرية في فقه المقاصد مع أبي إسحاق الشاطبي.

27- لم تكن هذه المسائل الثلاث جديدة على المسلمين تماماً؛ وإنما كان منها -كما سنرى- ما هو معلوم منها لديهم من السنة النبوية المعززة بصريح النص. لكن معالجتها في عهد الخليفتين ستختلف قليلاً باختلاف شروط انطراحها عليهم.

28- راجع تفاصيل السجال بين المهاجرين والأنصار في هذا الاجتماع في: ابن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك، بيروت، دار الكتب العلمية 1987م، ج2، ص235- 243.

29- يذهب محمد عابد الجابري إلى احتسابها معايير قبلية على خلفية قراءة تذهب إلى الاعتقاد بدور مركزي للقبيلة في تشكيل المجال السياسي الإسلامي. انظر: الجابري: العقل السياسي العربي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، الفصل الرابع.

30- راجع التفاصيل في: ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا (وآخرين)، القاهرة، مطبعة مصطفى الحلبي، ج1، ص429-454.

31- قبل أن تكرس كتب فقه السياسة الشرعية (فقه الخلافة) القرشية مبدءا من مبادئ الشرعية بقرون كرَّسته مرافعة عمر وأبي عبيدة في السقيفة!

32- انظر نصها في: ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، وهو المعروف بـ تاريخ الخلفاء. تحقيق محمد طه الزيني. القاهرة، مكتبة مصطفى الحلبي وأولاده، الجزء 1، ص19، وقارن رواية أخرى عن (الوصية) في: الطبري، تاريخ الأمم والملوك، م م س، الجزء 2، ص352.

33- ترد الروايات التاريخية تسميته بـ(مسيلمة الكذاب) إلى رسالة جوابية من النبي -عليه الصلاة والسلام- عن رسالة مسيلمة إليه. تقول رسالة مسيلمة في مطلعها: (من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله...). وتقول رسالة النبي الجوابية: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب...) انظر الرسالتين في ابن هشام، السيرة النبوية، ج1، ص600-601.

34- يشار هنا إلى أن ادعاء مسيلمة والأسود العنسي للنبوة نفسه. راجع التفاصيل في: تاريخ الأمم والملوك، ج2.

35- يذهب الجابري إلى أن موجة النبوة المدعاة تنتمي إلى حساسيات قبلية قديمة منذ ما قبل الإسلام، بين ربيعة ومضر، انظر كتابه: العقل السياسي العربي، الفصل الرابع.

36- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج1، ص17.

37- محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، ص167.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=593

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك