الأوبئة عبر التّاريخ: فوبيا الدّين والخرافة

نورة بنعلي

 

واجهت المجتمعات الإنسانيّة – عبر التّاريخ – بعض الأوبئة الّتي انتشرت على نطاق واسع، وقبل أن يكون الوباء مرضا فتّاكا فجائي الظّهور وسريع الانتشار، فهو وَقْع تاريخي مهمّ، بما يخلّفه من آثار عميقة على الصّعيدين الماديّ والرّوحيّ للمجتمعات الّتي عايشت أحداثه وعجزت عن إيجاد علاج له وإيقاف إهلاكه للنّاس، “بحيث يساهم في تسريع أو كبح بعض التّطورات، ويؤدّي إلى الانهيار المفاجئ للتوازنات القائمة داخل الأمم الّتي يصيبها”.

ويعتبر وباء الطّاعون من أهمّ تلك الأوبئة الّتي كانت تصيب البشر بأعداد هائلة وأودت بحياة الملايين في فترة زمنيّة قصيرة. إذ أثّرت هذه الجوائح على الأفراد الّذين عاشوا هذه الفترة الاستثنائيّة، وغيّرت جانبًا من اتّجاهاتهم القِيميّة، وأثارت لديهم العديد من الأسئلة الوجوديّة الحاضرة والموجودة بالقوّة، فكانت الأوبئة ينظر إليها باعتبارها عقابا ربّانيًا نتيجة ما اقترفه البشر من ذنوب ومحرّمات، خصوصا أمام انتشارها الفجائي وسرعة انتقال عدواها وعجز الإنسان عن إيجاد علاج يوقف تفيشها بين النّاس. فتتشكّل بذلك حالة إيمانيّة بالقوّة الخفيّة وتصبح جزءا أساسيا في تكوين فكر الإنسان وحضارته، باعتبارها موجودة بشكل متفاوت لدى البشر ومرتبطة بالإطار الثّقافيّ والبيئيّ الّذي وجد فيه.

تأرجح أنماط التّدين وارتباك القيم

لقد جاء في أحد النّصوص المستوحاة من كتب المناقب ما يأتي: “إذا غلت أسعاركم وقلّت أمطاركم وضعفت ثماركم وتنكّرت قلوبكم وعميت عن الرّشد مسامعكم وكثرت النّميمة والغيبة في خياركم وجارت عليكم ملوككم فالتجؤوا إلى الله بالأولياء الّذين خلف ظهوركم يؤمّنكم الله ممّا تخافون”. أثناء فترات انتشار الأمراض والأوبئة تتأثّر منظومة القيم وأنماط التّدين لدى بعض الفئات، حيث يظلّ الفرد متمسّكًا بالمفاهيم والأعراف الّتي تُفسّر ما يحدث، وترشده نحو سلوكيات بعينها، مثل الطّقوس الدّينيّة أو الخيريّة أو غيرها والّتي من شأنها تخفيف معاناته بحسب معتقداته وإيمانه، غير أنّه مع طول المدّة وارتفاع مستوى الخطورة وتفشّي الوباء وزيادة الضّغط النّفسيّ يرتبك الفرد، ويتشكّك في معتقداته وقيمه. “فالكائن البشري لا يقوى على تحمل الكثير من الواقع” كما يقول أليوت، لذلك فقد يذهب إلى ممارسات ذات صلة بعقائد أخرى لعلّه يكون خاطئًا فيما يعتقد. ويتساءل البعض – خاصّة في الأوبئة والأزمات الطّبيعيّة الّتي يشعر بارتباطها بالقدرات الغيبيّة – لماذا يبعث لنا الإله ما يؤلمنا ونحن نؤمن به؟ وهو ما جسّد خاصّة في القرن الرّابع عشر ميلادي إبّان الطّاعون الّذي اجتاح كامل أوروبا، في الأعمال الفنيّة وتصوّرات الفرد في تلك الفترة فالكثير من اللّوحات “جسّدت صورة الله، والملائكة أو الشّياطين وهي تلقي بالرّماح وتقذف بسهام الطّاعون على النّاس”، فكان استخدام السّهم أكثر شيوعا في تلك الرّسومات كرمز يدلّ على الطّاعون. أمّا الفنّ الجنائزي فالمنحوتات تجسّمت في شكل ثعابين تلفّها ضفادع محاكاة لمأساة الموت.

وتظهر التّناقضات لدى الأفراد بين الرّغبة في الاحتماء بالقيم والدّين والمعتقدات الشّعبيّة، وبين شكوكه في قدراتها على نجاة الفرد، وبذلك تحفّز الأزمات الكبرى والأوبئة – في سياقات أخرى- تصاعدَ التّدين والتّردد على دور العبادة، وزيادة في ممارسة الشّعائر الدّينيّة، أو على الأقلّ إعادة التّفكير في دور الدّين، خاصّة من الفئات الّتي لم تكن تمارس هذه الأنماط من التّدين، فتعيد إلى الإنسان شيئا من توازنه السّيكولوجيّ وتضع حياته بمعنى مّا فيصبح الدّين عصابا جماعيا” إزاء عجز العلم عن حماية الإنسان عندئذ يتقدّم الدّيني لحمايته ويخفّف من القلق الّذي يحياه.

لقد طبعت الأوبئة نفوس غالبيّة المجتمع المغرب الأوسط خلال العصر الوسيط ونظرا لاعتقاد غالبيّة النّاس بأنّ سبب الأمراض إنّما هو عقاب إلهي ورأوا في التّقرب من الأولياء وطلب العلاج الوسيلة المُثلى للنّجاة من هذه الأمراض، فانتهج أولياء المغرب أسلوب العلاج بالرّقيّة ونجد “عيسى بن سلامة البسكري” قد ألّف كتابا في فضل القرآن سمّاه  “اللّوامع والأسرار في منافع الأخبار”، وفيه جزء لمعالجة مختلف الأمراض بالرّقيّة. وبذلك يضطلع “الرّوحاني بوظيفة حقيقيّة مثلها مثل الوظائف الجنسيّة والعرفانيّة أو الحركيّة، هي إذن موجودة دوما وفي كلّ مكان في حالة كمون على الأقلّ”.

العودة للتّراث الشّعبي

خلال فترات الأزمات بصفة عامّة وأوقات انتشار الأوبئة، لا يعلم الأفراد كيفيّة التّعامل مع الوباء وتبعاته، ممّا يدفع الفرد إلى الاعتماد على ذاته في البحث عن حلول للخروج من هذه الأزمة. وتُشير سيكولوجيا الأوبئة إلى وجود طبيعة مزدوجة للسّلوك الإنسانيّ، حيث يحتمي بقشرة من العقلانيّة تُخفي أفكارا وتحيزات لا منطقيّة. وفي الأوقات الطّبيعيّة، يتمكّن غالبيّة البشر من الحفاظ على قدر من العقلانيّة بطريقة أو بأخرى، غير أنّه في الأزمات تصير اللاّعقلانيّة سيّدة الموقف، ويدفع الخوف والارتياب الفرد نحو سلوكيات متناقضة غير منطقيّة، حيث يستعيد نمطًا أشبه بالحياة البدائيّة غير المتحضّرة الّتي تحرّكها المشاعر والاحتياجات البدائيّة. ومن أهمّ المسارات الّتي يلجأ لها الأفراد عادة في هذه النّوعيّة من الأزمات البحث في معطيات التّراث الشّعبيّ، سواء لمحاولة التّعامل مع المرض ذاته، فيما يعرف بالطّب التّقليديّ أو الطّب الشّعبيّ، أو معطيات التّراث الّتي تبعث على الطّمأنينة أو تلك “الحكم” والمقولات الّتي يبدأ الأفراد بتداولها للتّكيّف مع الأزمة وتطويعها لخدمته.

فالإنسان يسعى للبحث على الطّمأنينة والحال أنّ الظّاهرة هي أصلا مظهر من مظاهر التّعبير عن الإحباط الاجتماعيّ والخواء الرّوحيّ والعقائديّ، وشكلا من أشكال التّعبير عن التّعلق بالمقدّس الّذي يمثّل رؤية العالم، لأنّه مصدر الخير والقوّة الملهمة بالنّسبة للمتعلّقين به بحكم قربه من وعيهم وإدراكهم الحسّي وإيمانهم الدّيني المبتور.

وقد لاحظ علماء النّفس الاجتماعي أنّ الأوبئة تبدّل ملامح الحياة وأنماط السّلوك بالنّسبة للمجتمعات، وتنتهي التّجربة بخلق معانٍ وأفكار وأنماط مختلفة للحياة الإنسانيّة، كما تحدث ثورة في التّفسيرات المرتبطة بأسباب هذه المعاناة الجماعيّة جرّاء الوباء، وتتسبّب في موجة من التّناقضات القيميّة، خاصّة وأنّ الأوبئة بطبيعتها تعدّ أمراضًا “جديدة” لا تتوفّر بشأنها معلومات أو توقّعات بكيفيّة انتشارها ومكافحتها، وبالتّالي لا يوجد بالضّرورة علاج لها. وكلّما كان الوباء خطيرًا من حيث تداعياته، زادت المدّة الزّمنيّة بلا علاج وكانت المساحة متروكة للاجتهادات الفرديّة والاجتماعيّة، والتّمسك بأيّ أمل في الخلاص، حتّى وإن كان ذلك يتمثّل في ممارسات غير منطقيّة بالمطلق.

وفي إطار الأزمة الحاليّة والّتي يعيش فيها كلّ العالم حالة من الذّعر والخوف يبدو الدّافع الأكبر للجميع هو النّجاة من كارثة الوباء، فانكشف الغطاء عن ما تكّنه النّفس البشريّة من حبّ للذّات وخوف من الموت، الخوف من العدوى والموت فتتفاقم الفوبيا حيث يتعذّر تمييز المصاب من غير المصاب فيصبح “الجحيم هو الآخرون” حسب قول سارتر.

تولَّد لدى النّاس هواجس عدّة ترجموها في عدّة سلوكات، فالبعض اعتقد أنّ الاعتدال في العيش والابتعاد عن كلّ إفراط سيعينهم على تجاوز هذه المحنة، وعلى جانب آخر، ظهرت ممارسات أخرى مرتبطة بالمعتقدات الشّعبيّة، تُخفيْ بين سُطورها وممارساتها حالاتِ القلق الاستثنائيّة الّتي تحياها الإنسانيّة اليوم، محاولة للإجابةِ عن سؤال وحيد ” كيفَ نحيا والمَوتُ على الأبواب؟ “إنَّه ضعفٌ إنساني عالمي” كما يقول كامو.

أمام خطر الموت الّذي يؤذن به الفيروس مَحت ردود فعل شرائح كبيرة من النّاس عقودا من عقلانيّة الحداثة، أناس اليوم كما أناس الأمس ردّوا الأمر إلى الغضب الإلهيّ.

وقُدمّت احتمالات مختلفة في تفسير ظاهرة كورونا، فالبعض من رجال الدّين فسّر ظاهرة كورونا من وجهة نظر لاهوتيّة وألبسوها عباءة دينيّة و”عقاباً إلهياً”، واعتمدوا خطاب الوعيد والتّرهيب ونظريّة “نهاية العالم”، والبعض الآخر أدرجها في خانة “نظريّة المؤامرة السّياسيّة” ومن الصّعب الاعتقاد في أنَّها سقطت علينا فجأةً من السّماء وثالثٌ أدخلها في إطار نظريّة “التّهويل السّياسيّ”.

هذا التّماثل العابر للأزمنة والمجتمعات والثّقافات بين ردود فعل البشر على النّكبات إنّما يدلّ على ديمومة الرّوحيّ والإيمانيّ واندراجه في أصل حضارة الإنسان، على الرّغم من كلّ ما يمتلكه إنسان الحداثة، من قوّة وصناعة وعلوم محكومة بالتّكنولوجيا. لكن ربّما تعيد كلّ أزمة صادمة ومؤثّرة في العالم المناقشات من جديد حول تلك التّحولات.

****

البيبليوغرافيا:

– Miège (J.L) : Epidémie, dans Encyclopédie Universalis, Corpus 8, 1990.

– لرقش (دلندا): المغرب العربي الحديث من خلال المصادر، مركز النّشر الجامعيّ ميديا كوم، تونس، 2003.

– R (Meyer) : La dimension spirituelle en psychothérapie éd. Somatothérapie, 1997.

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك