سورية وأكلة السبع دول

حسام الدين الفرا

 

في سورية لدينا أكْلةٌ لذيذةٌ اسمها السبع دول، وبعضهم يُسمّيها خضاراً مُشكّلةً.. يقول صديقي: سورية صارت مثل أكلة سبع دول، ولكنها ليست لذيذة، بل مَن يأكلها كأنه يأكل ويتجرّع العلقم أو السُّم.

بين قرية وأختها إذا أردتَ التنقّل، فأنت بحاجة لكفيل، أو على الأقل ستُفتّش، و(يُشيّك) على اسمك، فيما إذا كنت مطلوباً أم لا. وكلُّ جهةٍ عندها قوائمُ لأشخاصٍ، صُنّفوا على أنهم أعداء، ويجب القبض عليهم.

يقول صديقي إن بين دول الاتحاد الأوروبي التي تربطها اتفاقية (شنغن)، لا يوجد مثل هذا التدقيق، وأنت قد تجتاز دولاً كثيرةً، خلال ساعات قليلة، ولا أحد يقول لك ما أحلى الكحل في عينك. كلُّ فصيلٍ لدينا له حاجزٌ خاصٌ به، وعليك أن تُبرز بطاقتك الشخصية، وأن تمتثل لمَا يقول عناصر الحاجز المُدجّجون بالسلاح. بعض الحواجز حسب مرجعيته، لا مشكلة عنده في النقاب والحجاب، وبعضها كأن كلَّ مشكلته في النقاب والحجاب.

والسائق خبيرٌ بكلّ الحواجز وطريقة تعاملهم، فكان يُنبّه الركاب ويقول: هذا الحاجز لا مشكلة لديه في النقاب، ويوجه كلامه للنساء، بأن بإمكانهنّ إظهار وجوههنّ، وتسمع عندها إحدى النسوة تحمد ربَّها قائلةً: الحمد لله كدنا أن نفطس من الحرّ والنقاب.

يتابع صديقي سرده: أخطر معبر اجتزته ذات يوم في ريف حلب، بين قريتي إحرص وحربل. طبعاً في كل الحواجز يجب أن تقوم بـ(فرمتة) الجوّال، لأن أي صورة أو رسالة ممكن أن تُودي بك إلى التهلكة

وفي حاجزٍ آخرَ يحذر السائق الركاب بقوله: وصلنا إلى حاجز الفصيل الفلاني، فيجب أن تجلس النساء في مؤخرة السيارة، والشباب في المقدمة، ولا ينسى أن يؤكد على النقاب.

يستطرد صديقي: وردَ في الأثر، بأن السفر قطعةٌ من العذاب، لمَا يلاقي المرء فيه قديماً، فما بالك بما يجري اليوم، بالسفر بين البلدات والمدن السورية، حيث تدمّرتِ الطرق بسبب الحرب، وبصعوبة تستطيع السيارة التقدم، وسط الحفر العميقة والأنقاض.

إنها الجحيم والموت بحد ذاته، ولكنْ فوق الموت عصّة قبر! عليك أن ترصد ميزانيةً ماليةً خاصةً للسفر، وكلُّ سائقٍ وكلُّ حاجزٍ له شروطه وأحكامه. قد يبيعك السائق لسائقٍ آخرَ، من بلدة معرة مصرين حتى الوصول إلى الرقة باعنا السائقون ثلاث مرات. في إعزاز تخلّى عنا سائقنا وركبنا في سيارة أخرى، وجرى الأمر نفسه في عفرين.

يتابع صديقي: عندما تصل إلى معبر العون الدادات عليك أن تنزل، لتركب شاحنةً كما الأغنام، لتقطع مسافة بضعة كيلومترات تفصل بين فصيلين، وعندما تنزعج من سائق الشاحنة وتقول له: امتلأت الشاحنة، ولم تعد تتسع، ينزعج السائق ويصرّ على ملئها أكثر، وأنت لا تستطيع إلا أن تمتثل لكلامه، فهو محميٌّ من فصيل المنطقة، ويعمل بإمرته.

بعد النزول من الشاحنة تصبح في منطقة أخرى لها قوانينها وأحكامها، وتصعد سيارة أخرى لتتجه إلى الرقة. تقف السيارة عند الجسر، ويستقبلك حاجز ضخم على الفرات، وتبقى بانتظار التفتيش و(التشييك)، على الأسماء والهواتف، أكثر من ثلاث ساعات.

تتنسّم عبير الفرات، فوق الجسر ويسمح لنا، وللسيارة التي تقلنا أن نغادر باتجاه الرقة، تاركين خلفنا أرتالاً من السيارات، تنتظر كذلك السماح بالمرور. عند وصولنا إلى مدخل بلدة عين عيسى لا يسمح الحاجز الموجود، بمرور السيارة من داخل البلدة، بحجة وقوع تفجيرات سابقة. ويُطلب أن نسلك في الليل وظلامه الدامس طريقاً غير نظامي، لا يعرفه السائق الذي أخذ يسأل، بعد أن ضاع في الطريق الترابي السيئ. أكثر من ثلاثَ عشرةَ ساعةً استغرقها الطريق بين معرة مصرين والرقة، حتى وصلت مهدود الحيْل، خائر القوى، وأحتاج للراحة بضعة أيام.

بعد إنهاء الزيارة، وقضاء فترة في كنف الأهل، وفي حضن الفرات، عليّ أن أسلك طريق العذاب نفسَه، ولكنْ هذه المرة صارت لديّ خبرةٌ، فلم أركبْ شاحنة الأغنام وقوفاً، وركبتُ خلف أحدهم، على درّاجته النارية، ليقطع بي منطقة البرزخ التي تفصل بين الفصيلين المتحاربين.

وصلت إلى العون، وخفّف من رحلة العودة وجود بعض المعارف، اتفقت معهم، على أن نجد سيارةً لإيصالنا إلى ريف إدلب، دون أن نُباع في الطريق، وننتقل من سيارة إلى أخرى. رأينا أحد عناصر الحاجز، وسألناه، إذا كان يستطيع أن يؤمن لنا سيارةً، وفعلاً أمّنها لنا، وأعطانا رقمه، وطلب من السائق عدم تغيير السيارة وبيعنا في الطريق.

كان العنصر يبدو طيباً، ومهيباً بزيه العسكري، ومسدسه البراق المُنكّل، ولكن استغربت عندما انطلقنا وتحدثت مع السائق وقلت عنه بأنه ابن حلال، ليردّ السائق: ابن "حلال" مصفّى!

أتعلم أنه اقتطعَ جزءاً من أجرتكم له. وهو أول من باعكم واستغلكم، لا ويعطيكم رقم جواله، لتتصلوا إذا تعرضتم للاستغلال.

يقول صديقي: هذه الحواجز لا تُذكر أمام أُخرى، فقد اضطررتُ في بداية تحرير المدينة، وانتقال دوائر الدولة إلى دير الزور، إلى السفر للدير، على الرغم من عرضي مبلغاً من المال، على أحدهم لئلا أذهب، ولكنه قال: الأمر لا يتم إلا بشكل شخصي.

ذهبت باكراً مع صديق لي، وكانت لديه المشكلة نفسها، وكلانا يضع قلبه بين يديه، لمَا سمعنا من أخبار عن حاجز عيّاش، حيث فُقد أثر كثير من الموظفين. حاجز عياش الرهيب على نهر الفرات، بحاجة بعد أن تنزل من السيارة أن تستقل شاحنة، أو دراجة نارية لتصل إلى الماء، حيث توجد الزوارق الحديدية، لتبحر بك نحو عياش، حيث عليك أن تمشي قليلاً لتصل إلى المكان الذي سوف تُسلّم بطاقتك الشخصية، سلمت بطاقتي وأنا أدعو الله ألّا يكون هناك ما يسوء.

عند ذلك الحاجز يسيطر الخوف والهلع على الموجودين، وسط صراخ بعض عناصر الجيش، ووصفهم الناس بالأغنام والطرش لأنهم لا يلتزمون بالإرشادات. بعد التأكد من البطاقة الشخصية، وبأنني غير مطلوب، حمدتُ الله، وقلت لنفسي بقي مشوار الذهاب إلى الجورة حيث الدوائر، وبعدها أيمم نحو الرقة. عندما ينهي الشخص عمله ويعود، من تلك المنطقة المخيفة، يشعر بأنه قد وُلد من جديد.

يتابع صديقي سرده: أخطر معبر اجتزته ذات يوم في ريف حلب، بين قريتي إحرص وحربل. طبعاً في كل الحواجز يجب أن تقوم بـ(فرمتة) الجوّال، لأن أي صورة أو رسالة ممكن أن تُودي بك إلى التهلكة، وخاصة في هذا الحاجز، فقد اعتقلَ كثيرون، ولم يُعرفْ مصيرهم.

هذا المعبر شهد توتراً كبيراً بين طرفيه، وقال لي أحدهم بأن سيارةً مفخخةً، فيها أكثر من ألف كيلو من المتفجرات كانت متجهةً بسرعة، من حربل إلى إحرص وتمكّنَ الجيش الحر، كما قال من تفجيرها، قبل وصولها إلى هدفها، واستطاع قناص بمهارته أن يقتل الانتحاري.

وبسبب ذلك مُنعتِ السيارات من العبور، بين طرفي المعبر، فأنزلتنا السيارة التي كنا فيها، لنتابع مشياً مع حقائبنا بضعة كيلومترات. فعلاً كانت هناك آثار دمار كبير على جانبي الطريق، لتفجير السيارة المفخخة منذ أيام.

ينهي صديقي سرده ويقول: لا أنسى حاجزاً في الطريق إلى الرقة، حيث وُضعت بعض الرؤوس فوق القضبان الحديدية، ليراها المارون. الأمر الذي أخاف النساء والأطفال المتواجدين في السيارة، وعندما شاهد أحد العناصر الملتحين فزع الأطفال وهلعهم قال لهم: لا تخافوا فإن هذه الرؤوس لا تُخيف.

 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك