لقد انتهى عهد 11 سبتمبر ..
جائحة الفيروس التّاجيّ، وصفحة من التّاريخ كان ينبغي أن تُطوى منذ زمن بعيد، 6 أبريل 2020، بن رودس، نائب مستشار الأمن القومي السّابق لباراك أوباما.
في قاعة واسعة خالية من النّوافذ في أروقة وكالة المخابرات المركزيّة الأمريكيّة CIA، هناك لافتة تقول:”كل يوم هو 12 سبتمبر” every day is september 12th، عندما رأيت هذه الكلمات لأوّل مرّة، خلال جولة في عمليات الوكالة، شعرت بنوع من التّضارب، فبصفتي من سكان نيويورك الّذين شهدوا هجمات الحادي عشر من سبتمبر، شعرت بذلك بنفسي ذات يوم، غير أنّني عندما رأيت هذه اللاّفتة خلال العهدة الثّانية لإدارة أوباما، بدى لي أنّها تتجاهل كلّ الأمور الّتي أخطأت فيها بلادنا بسبب هذه الذّهنيّة. والآن وحيث يقوم “كوفيد 19 ” بتحويل نمط معيشة الأمريكيين، ويهدّد بحصد الأرواح أكثر من أي إرهابي أضعافا مضاعفة، فإنّه قد آن الأوان أخيرا لطيّ هذا الفصل من تاريخنا الّذي بدأ في 11 سبتمبر 2001م.
أقول ذلك كشخص شكّلت أحداث 11 سبتمبر حياته، فقد كنت طالبًا في الرّابعة والعشرين من العمر. كنت أعمل ضمن حملة لمجلس المدينة عندما شاهدت انحراف الطّائرة الثّانية نحو مركز التّجارة العالميّ، لأرى لاحقا أوّل برج ينهار، بدى كلّ شيء فعلته في حياتي حتّى تلك اللّحظة تافها، مشيت عدّة أميال إلى شقّتي، في الوقت الّذي كان المواطنون من سكان نيويورك يخرجون إلى الشّوارع ليكونوا بالقرب من بعضهم البعض (كما لا يمكننا أن نكون اليوم). في الأيّام الّتي تلت ذلك، كان حي “كوينز” الّذي أقيم فيه، مقرّا لإقامة عدد من الجنائز لرجال المطافئ، ولن أنسى أبداً صورة أرملة منهارة تجلس على كرسي حديقة في الباحة الأماميّة لمنزلها، تتلقَّى التّعازي من مجموعة من أشدّ الرّجال قوّة – لكنّ الأكثر انكسارا – الّذين رأيتهم على الإطلاق.
كنت مذعورا وغاضبا، تأثَّرت بخطاب الرّئيس”جورج دبليو بوش” أمام جلسة مشتركة للكونجرس بعد أيّام قليلة أعلن فيها بثقة أنّ “حربنا على الإرهاب تبدأ من القاعدة، لكنّها لن تنتهي هناك، ولن تنتهي حتّى يتمّ العثور على كلّ جماعة إرهابيّة ذات بعد عالمي وإيقافها وهزيمتها”، مُحدّدا طبيعة الصّراع بقوله: “يسأل الأمريكيون لماذا يكرهوننا؟ “إنهّم يكرهون ما نراه هنا في هذه الغرفة- حكومة منتخبة ديمقراطيا” …أن يتمّ تأطير هذا الحدث الّذي يتعذّر استيعابه، بطريقة تتناسب تمامًا مع الرواية الأمريكيّة الّتي نشأت عليها في الثّمانينيات والتّسعينيات من القرن الماضي كان يبعث على الطّمأنينة، فقد أصبح لأمريكا بعد عقد من الزّمان-ميّزه العزل التّافه لبيل كلينتون وغياب حسّ المسؤوليّة- هدف قومي جديد على قدم المساواة مع الحرب الباردة، إنّه جهد أجيال أخرى لجعل العالم مكانا آمنًا للديمقراطيّة، وكان انتقالي إلى واشنطن العاصمة لكي أكون جزءًا من هذا الجهد بأيّة طريقة ممكنة.
تحصّلت على وظيفة كاتب خطابات للنّائب السّابق “لي هاميلتون” Lee Hamilton، وهو رجل نموذجي حكيم في واشنطن، خدم في الكونغرس لمدة 34 عامًا، وأدار مركز وودرو ويلسون Woodrow Wilson Center، وهي مؤسّسة فكريّة أُنشئت كتكريم رسمي لرئيسنا الثّامن والعشرين، كنت أذهب كلّ يوم إلى العمل في مبنى رونالد ريغان، هناك حيث تذكّْر قطعة من جدار برلين زوَّار قوس النّصر الأمريكيّ بأصلنا كقوّة عظمى بعد انتصار ويلسون في الحرب العالميّة الأولى إلى انهيار الشّيوعيّة السّوفيتيّة الّتي جعلت أمريكا القوّة العظمى الوحيدة في العالم – وهي فترة يبدو أنّها لا تزال في مرحلتها المبكّرة مع إطاحة قوّاتنا المسلّحة بأنظمة في أفغانستان والعراق.
تمّ تعيين هاميلتون نائبا لرئيس لجنة 11 سبتمبر، وبهذا ولمدّة عامين تركَّزت حياتي وعملي على هذه الهجمات الّتي أجبرتني على الانتقال إلى واشنطن. كانت إحدى المهام الّتي كلَّفني بها هاميلتون هي مراجعة جميع فتاوى أسامة بن لادن بعناية، ومعالجة الدّوافع الأكبر لتنظيم القاعدة، لكن وبعد قراءة كلمات بن لادن الخاصَّة ودراسة حياة الخاطفين، لم يعد بإمكاني أن أوفّق بسهولة بين دوافعهم وبين ما قاله بوش بعد الحادي عشر من سبتمبر، لم يبدو أنّ الأشخاص الّذين هاجمونا كانوا يركّزون على كراهيتهم “للحكومة المنتخبة ديموقراطيا”، ولكنّهم كانوا يكرهون السّياسة الخارجيّة الأمريكيّة، وما سعوا إليه هو الإطاحة بحكوماتهم، وبشكل رئيسي حكومة المملكة العربيّة السعوديّة الّتي جاء منها بن لادن و15 من الخاطفين التّسعة عشر، ومصر من حيث جاء زعيم المؤامرة محمّد عطا.
وفي الوقت الّذي كانت تعمل فيه لجنة 11 سبتمبر على إصدار تقريرها، كانت حرب العراق تتداعى نحو كامل، لقد خرق تفكيك الجيش والدّولة العراقيين إيماني بالكفاءة الأمريكيّة، وحطّم رعب سجن أبو غريب شعوري بالسّلطة الأخلاقيّة لأمريكا، كما خرق الانتصار الاستراتيجي الواضح لإيران ثقتي في أحكام مؤسّسة الأمن القوميّ… إنّ إعادة صياغة الحرب باعتبارها محاولة لجلب الديمقراطيّة إلى الشّعب العراقيّ حطّمت ثقتي بالكلمات الّتي يتفوّه بها قادتي، وتلك الخطابات الّتي كانت مثيرة يوما ما أصبحت تبدو مثار سخرية، إنّها تبرير بأثر رجعي لخطأ كارثي، لقد كانت الديمقراطيّة تتعرّض للانحطاط بدل أن تتعزّز ..
كنت غاضبا قبل كلّ شيء من نفسي، فقد كنت ديمقراطيًا، ومع ذلك جئت إلى واشنطن لأكون جزءًا من ردّ الحزبين معا -الديمقراطي والجمهوري- على 11 سبتمبر – ردّ كان سيقذف الإرهابيين “إلى مقبرة نفايات التّاريخ للأكاذيب البغيضة “، بجانب “الفاشيّة والنّازيّة والشّموليّة ” بكلمات بوش .. لقد صدقت عرض “كولين باول” في الأمم المتّحدة حول أسلحة الدّمار الشّامل العراقيّة، وابتهجت لإسقاط تمثال صدام حسين، كما تجاهلت المؤشّرات الواضحة للتّجاوزات: فتح حكومتنا لمعسكرات في خليج غوانتانامو، وتعذيب أناس ربّما كانوا أبرياء. وانخرطت في فكرة أنّ الديموقراطيين كانوا بحاجة لإثبات استعدادهم للمشاركة في “الحرب العالميّة على الإرهاب” بحزم، حتّى عندما قادتنا إلى الحرب مع بلد لم يكن له علاقة بهجمات 11 سبتمبر. كنت ساذجاً ومخطئا، انسقت وراء مشاعري بعد أحداث 11 سبتمبر بسبب منصبي، وتأكيدات حكومتي أنّ كلّ يوم هو 12 سبتمبر Every day is September 12
ومع ذلك فإنّ هذا لا يعني أنّ القاعدة لم تكن تمثِّل تهديدًا، أو أنّ بعض الخير لم يأتِ من جهود أمريكا لمحاربتها، فأنا على يقين من أنّ الهجمات توقّفت، وتمَّ إنقاذ الأرواح البريئة، وأنّ معظم الرّجال والنّساء الّذين عملوا في مكافحة الإرهاب كانوا مدفوعين برغبة صادقة في جعل الولايات المتّحدة- والعالم – مكانًا أكثر أمانًا، لكن مع نهاية رئاسة بوش، وانهيار الاقتصاد العالميّ من حولي، كان من المستحيل تجاهل حقيقة أنّ ردّ فعل أمريكا على 11 سبتمبر قد ألحق ضرراً أكثر من نفعه.
استمرّت هجمات الحادي عشر من سبتمبر في تشكيل حياتي عندما ذهبت للعمل في حملة باراك أوباما الرّئاسيّة، وهي الوظيفة الّتي لم أكن لأحصل عليها لولا ارتباطي بلجنة 11 سبتمبر، الّتي لم توفّر لي المؤهّل فحسب، بل وعلاقة مع دينيس ماكدونو Denis McDonough ، الّذي ساعدني في الانضمام إلى حملة أوباما (وقد عمل لاحقًا كرئيس موظّفي البيت الابيض في ولاية أوباما الثّانية).
كما أنّ أوباما ماكان ليُنتخب الرئيسا 44 للولايات المتحدة لولا 11 سبتمبر الّتي أطلقت سلسلة الأحداث الّتي أدّت بدورها إلى حرب العراق، فقد قدمت معارضته للحرب قبيل الغزو، وتعهّده بإنهائها تناقضه الجوهري مع هيلاري كلينتون في الانتخابات التّمهيديّة الديمقراطيّة. وهكذا، وكما أجبرني الحادي عشر من سبتمبر على الانتقال إلى واشنطن، فإنّه سرّع الأحداث الّتي أدّت بي إلى أن أصبح نائبًا لمستشار الأمن القوميّ في البيت الأبيض بعد أقلّ من عقد من الزّمن.
خلال العام الأوّل لأوباما في منصبه، استمرّت مجموعة كبيرة من القوى-الجاذبة غالبا- في سحب الرّئيس الشاّب بشكل أعمق نحو جماعة صراعات ما بعد 11 سبتمبر الضّخمة، فسمح باستخدام الطّائرات المسيّرة دون طيّار عندما تولّى منصبه وتتسارع خلال عام 2009. وكانت التّحذيرات العاجلة بشأن المنتسبين إلى القاعدة في اليمن والصّومال تسحب الولايات المتحدة إلى تلك الدّول، وضغط الجيش الأمريكي على أوباما لإرسال حوالي 60000 جندي أمريكي إضافي إلى أفغانستان عام 2009 وحده – نصفهم كنتيجة لطلب كان على الرّف عندما تولّى منصبه، والنّصف الآخر في موجة لاحقة من ذلك العام. وبقدر ما كانت هذه الزّيادة تبدو ضروريّة في ذلك الوقت، فإنّ التّكاليف تبدو الآن أكبر من المكاسب.
وأنا أعمل في المساحة الرّابطة بين السّياسات والسّياسة، أدركت بشكل كامل أنّ إنهاء الحروب أصعب من إعلانها، كانت المرّة الأولى الّتي عانى فيها أوباما من انشقاقات كبيرة في دعم الكونجرس الديمقراطيّ هي حول محاولته إغلاق معتقل جوانتانامو عبر نقل بعض السّجناء إلى الولايات المتّحدة. كانت رغبة أوباما واضحة في فكّ الولايات المتّحدة عن العراق، وتجنب الالتزامات العسكريّة الأخرى في الشّرق الأوسط مع الحلفاء التّقليديين الضّعفاء للولايات المتّحدة، وأبرزهم المملكة العربيّة السعوديّة ومصر، الّلذان كانت أفعالهما محوريّة للغاية في صعود تنظيم القاعدة.
وفي فترة ولايته الثّانية، بذل أوباما جهودًا مكثّفة أكثر لإعادة توجيه السّياسة الخارجيّة الأمريكيّة والأمن القومي بعيدًا عن تركيزهما على الإرهاب بعد 11 سبتمبر .. تمّ القضاء على أسامة بن لادن، تاركًا تنظيم القاعدة وهو لم يعد كسابق عهده، وكان الاقتصاد ينمو، كما أظهر استطلاع للرّأي أنّ الشّعب الأمريكي كان منهكا من الحرب. في البيت الأبيض، أجرينا محادثات حول إنهاء “فترة ما بعد 11 سبتمبر”، وهي المحادثات الّتي أدّت إلى خطاب أوباما في جامعة الدّفاع الوطنيّ عام 2013، حيث قال: “”طوال العقد الماضي، أنفقت بلادنا أكثر من تريليون دولار على الحرب، ممّا ساهم في تفجير عجزنا، وتقييد قدرتنا على بناء الأمّة هنا على أرضنا”. وذهب للدّعوة إلى بذل الجهود لإلغاء واستبدال تفويض عام 2001 لاستخدام القوّة العسكريّة الّتي هيمنت على حرب العراق (وهو جهد لم يبذله الكونغرس قط). وقال “إنّ جهودنا المنظمة لتفكيك المنظّمات الإرهابيّة يجب أن تستمرّ”…”لكنّ هذه الحرب، مثل كلّ الحروب، يجب أن تنتهي، هذا ما ينصح به التّاريخ، وهذا ما تتطلّبه ديمقراطيتنا. ”
كانت السّنوات الثّلاث اللاّحقة تبدو وكأنّها شدّ وجذب بين رغبة أوباما في الانتقال إلى عصر جديد والانسحاب من أمريكا ما بعد 11 سبتمبر. بدأ أوباما في رسم الخطوط العريضة لنوع جديد من السّياسة الخارجيّة بأولويات جديدة، فانخفض عدد القوّات في العراق وأفغانستان إلى حوالي 15000 في مقابل 150.000 جندي تمّ نشرهم هناك عام 2009، وجنَّبنا الاتّفاق النّووي الإيراني كلا من “إيران مسلّحة نووياً” وحربا أخرى في الشّرق الأوسط، كما قام “اتّفاق الشّراكة العابرة للمحيط الهادئ” ببناء ائتلاف من الدّول في اتّفاقيّة تجاريّة محتملة، وكتلة استراتيجيّة لتحجيم صعود الصّين، وأصبحت مكافحة تغيّر المناخ أولويّة رائدة في كلّ علاقة ثنائيّة أو متعدّدة الأطراف تقريبًا للولايات المتّحدة، ممّا أدّى في النّهاية إلى اتّفاق باريس.
غير أنّه كان على أوباما دائمًا أن يوازن بين أولوياته في مقابل الالتزامات الّتي شعر بها كرئيس لما بعد 11 سبتمبر، وعندما أعود إلى الوراء إلى ذلك الوقت، أجد أنّ العديد من الأشياء الّتي أتساءل عنها – الاستخدام المستمرّ للطائرات دون طيّار على نطاق محدود، ودعم الحرب السعوديّة في اليمن، والحرب الأفغانيّة الطّويلة الأمد- ليست على الاطلاق الأمور الّتي تمّ انتقادنا عليها بشكل صاخب، وتركّزت أغلب الضّغوط بدلاً من ذلك، حول: لماذا لم يقم أوباما بعمل المزيد في إيران وسوريا واليمن وأفغانستان أو الشّرق الأوسط الاكبر؟
في الواقع، كانت الأحداث السّياسيّة والعالميّة مثل الرّمال المتحرّكة تحت أقدامنا. ففي الخارج، أدّى اندلاع الحرب الأهليّة السوريّة وترنّح العراق وظهور داعش – خليفة تنظيم القاعدة الّذي تجذّر في العراق بعد غزونا-، إلى عودة الولايات المتّحدة إلى حملة جديدة لمكافحة الإرهاب، وفي الوقت ذاته ركّز الجمهوريون اهتمامهم في الدّاخل على مجموعة سامّة من القضايا الّتي لا تنتهي- إن لم نقل الخادعة- ، وهي القضايا ذات العلاقات الأمنيّة الوطنيّة الفضفاضة مثل الإصرار على إعلان الحرب ضدّ “الإسلام الراديكاليّ” ، والتّحقيقات المستمرّة في بنغازي الّتي امتدّت إلى التّحقيقات في ممارسات البريد الإلكترونيّ لهيلاري كلينتون، وغوغائيّة قبول اللاّجئين والهجرة غير الشّرعيّة إلى الولايات المتّحدة.
وقام دونالد ترامب بصياغة مشروعه بناءا على هذه التيّارات الظّلاميّة عندما أطلق حملته الرئاسيّة عام 2015، مستغلًا مخاوف أمريكا ما بعد 11 سبتمبر من “الآخر” غير المرئي، وخيبة الأمريكيين الّذين وُعدوا بانتصارات عظيمة في العراق وأفغانستان فلم يجدوا سوى المستنقعات، وعوض أن نراجع الطّرق الّتي قد نكون قد فهمنا بها الرّد على11 سبتمبر بشكل خاطئ، قام ترامب بكسب الأعداء في الدّاخل وجعلهم كبش فداء: رئيس أسود، المهاجرون ذوو بشرة سمراء، واللاّجئون المسلمون. وقامت وسائل التّواصل الاجتماعيّ بإبراز هذه المخاوف وتسليطها على عشرات الملايين من الأسر الأمريكيّة، وجعلتنا مؤشّرا سهلا لحملة التّأثير الرّوسيّة.
وبالعودة إلى وقت مضى، فقد جاء الإنذار الأوضح في سنوات أوباما حول المستقبل الّذي نعيشه الآن في خريف عام 2014، ففي وقت كان فيه الشّعب الأمريكي في حالة من الذّعر الشّامل حول داعش، إثر حادثة قطع الرّأس المأساويّة لأربعة رهائن أمريكيين، واجهنا تفشي مرض معدي هو إيبولا، الّذي هدَّد بقتل الملايين من النّاس. غير أنّه مع نشر الجيش الأمريكي في غرب أفريقيا، وتجنيد عشرات الدّول للمساهمة بعمّال ووسائل الرّعاية الصحيّة، ودمج البنية التّحتيّة للصّحة العامّة والأمن القوميّ في أمريكا تحت إدارة موحّدة، تمكَّن أوباما من قيادة التّحالف الّذي قضى على تفشي إيبولا بالقرب من مصدره، وكانت تلك تمثّل ذروة نجاح أوباما في القيادة الدوليّة.
لكنّ الواقعة ظلّت تطارد أوباما، فقد كان يخبر الزوّار الأجانب باستمرار أنّ المخاوف من وباء مّا تقضُّ مضجعه، ومع نهاية رئاسته، كان قد أنشأ مديريّة الأمن الصّحيّ العالميّ في مجلس الأمن القوميّ، وطوَّر دليلا للإدارة المستقبليّة لاستخدامه في مكافحة الأوبئة، وأجرى تدريبا للأمن الدّاخليّ على مستوى مجلس الوزراء مع مسؤولي ترامب القادمين لوضعهم ضمن عمليّة صنع القرار للاستجابة لتفشي وباء مّا. لكن الرّئيس القادم إلى المنصب لم يكن عازمًا على البناء على إرث أوباما، بل على تفكيكه.
في عام 2019 كنت أدرّس محاضرة في جامعة “كاليفورنيا” بـ “لوس أنجلوس” حول الخطاب الرئاسيّ والسّياسة الخارجيّة الأمريكيّة، وكانت إحدى الخطابات الّتي كلّفت طلاّبي بقراءتها خطاب بوش أمام الكونغرس بعد الحادي عشر من سبتمبر، والّذي لا يزال يبرز كنوع استثنائي في كتابة الخطابات. لقد كنت أصغر بسنتين فقط من هؤلاء عندما وجدت هذه الكلمات مثيرة للغاية، في حين قرأ طلابي النّص كما لو كان من كوكب مختلف. هل جعلت الولايات المتّحدة حقّا هدفها الوطني برمّته حربا ضدّ جماعة من الإرهابيين؟.. طلبت من طلبتي سرد قائمة لما يعتقدون أنّه أكثر القضايا الّتي تواجه البلاد إلحاحا، فتصدّر تغيّر المناخ القائمة، ثمّ عدم المساواة الاقتصاديّة وديون الطلاّب والعنصريّة الهيكليّة ومجموعة من القضايا الأخرى الّتي عبّأت القائمة، ولم يشر أي طالب منهم للإرهاب، كانت مناشدة الأجيال الّتي دعى إليها بارني ساندرز Bernie Sanders – والّتي كانت متناقضة مع المؤسّسة الديمقراطيّة الّتي كنت جزءًا منها – واضحة في تلك القاعة.
يحبّذ “ترامب” الحديث عن إنهاء حروب أمريكا بعد 11 سبتمبر، لكن ميزانيته الدفاعيّة الأخيرة أعلى بـ 112 مليار دولار ممَّا كانت عليه في العام الّذي تولّى فيه منصبه، ويبدو أنّ هذا الإنفاق الإضافي توجهه رغبة صغيرة من الرّئيس في الإعلان أنّه يستثمر أكثر في الجيش الأمريكيّ، فقد ازداد استخدام الطّائرات دون طيّار، وتمّ تخفيف قواعد الاشتباك في أفغانستان وضدّ داعش للحدّ من الخسائر بين المدنيين، وتمَّ رفع عدد القوّات الأمريكيّة في أفغانستان. ومع استثناء ملحوظ من التّراجع الغريب والمتسرّع لمهمتنا في مواجهة تنظيم داعش في سوريا، فإنّ الموارد الّتي تمّ توفيرها بعد 11/9 للبنية التّحتيّة العسكريّة والاستخباراتيّة الأمريكيّة أصبحت أكثر قوّة من أيّ وقت مضى، كما تمَّ إلغاء جهود أوباما لصياغة سياسة خارجيّة لما بعد 11 سبتمبر – الّتي ارتكزت على اتّفاقيّة الشّراكة عبر المحيط الهادئ واتّفاقيّة باريس.-وحلَّ محلّها رزمة من السّياسات تحت راية “أمريكا أوّلاً” “America first” – وهي عبارة عن مزيج من ممارسات تقييد الهجرة، واحتقار الحلفاء التّقليديين والمؤسّسات الدوليّة، والحرب التجاريّة مع الصّين.
وركّز ترامب بشكل أكثر حدّة، على إيران باعتبارها أولوية قصوى، فقد وضع أمريكا منذ الانسحاب من الاتّفاق النّوويّ الإيرانيّ، على شفا حرب مستمرّة مع البلاد، فبالإضافة إلى تجديد العقوبات، نشر ترامب ما يقرب من 20000 جندي أمريكي إضافي في الشّرق الأوسط، ممّا أثار الاستفزازت الإيرانيّة ردّا على ذلك. (من وجهة نظر الحجر الصّحيّ، من الصعب أن نفهم أنّه قبل شهرين وجدنا أنفسنا تقريبًا في حرب أخرى بعد 11 سبتمبر بناءً على قرار رئاسي بقتل شخص مّا).
في مواقفه ونهجه، لا يزال ترامب نفسه رئيسًا من عهد 11 سبتمبر إلى حد كبير، لم يكن بإمكانه أن يصبح رئيسًا دون هندسة إعلام الجناح اليمينيّ، وبشكل رئيسي شبكة فوكس نيوز، الّتي ازدهرت بعد هجمات 11 سبتمبر. وحوَّل محاميه الشّخصيّ رودي جولياني Rudy Giuliani رد ترامب الجدير بالإشادة حول تلك الهجمات إلى مهنة ربحيةّ قادته طول الطّريق إلى أوكرانيا في السّعي وراء نظريات المؤامرة حول جو بايدن، وأكملت كذبة ترامب أنّ المسلمين في نيو جيرسي احتفلوا بسقوط البرجين التوأمين، تشويه المشهد من لحظة هدف أميركي مشترك، إلى تعبير عن سياسات الهويّة البيضاء ضدّ الآخر الزّاحف.
نجح ترامب في تسخير الغضب والمظلوميّة والوطنيّة والعنصريّة الفجَّة للظَّفر بالدّعم السّياسيّ، لكنّ هذا النّهج عديم الجدوى في التّعامل مع أزمة حقيقيّة، فها هو في كوفيد 19 يواجه خصمًا لا يبالي بما يطلق عليه من تسميات، ولا يعترف بحدود، ولا يعمل بقواعد السّياسة الأمريكية المتصدّعة، بل بقواعد العلم والواقع الموضوعي.
وفيما وقعت الهجمات في 11 سبتمبر في على ثلاثة مواقع فقط، فإن كوفيد 19 قد مسَّ بالفعل كلّ الأشخاص تقريبًا في البلاد، وتخضع معظم الولايات المتّحدة لأوامر التّباعد الاجتماعيّ، ومن الواضح أنّنا ندخل مرحلة من الصّدمة الشّديدة. وكثير – إن لم يكن معظم – مواطنينا سيصابون بالمرض، وقد يموت عدد لا يحصى من النّاس، ويمكننا اختبار النّظام الاجتماعيّ والتّماسك بطرق غير متوقعة، وسيدخل الاقتصاد الأمريكي في صدمة من المرجّح أن تضاهي الأزمة الماليّة لعام 2008 والكساد العظيم، وكما هو الحال مع تلك الأحداث فإنّ التّداعيات الجيوسياسيّة ستكون عميقة وطويلة الأمد.
تشير الأشهر الأولى من هذه الأزمة إلى أنّ النّظام العالمي الّذي سينبثق من جانب آخر سيتغيّر على الأرجح بشكل دائم، وإن كان ردّ فعل أمريكا على الحادي عشر من سبتمبر ارتكب الخطأ المألوف المتمثّل في تسريع تهاوي القوّة العظمى عبر التّجاوزات؛ فإنّ رئاسة ترامب وفشلنا في الاستجابة بفعالية لـ كوفيد 19، تظهر لنا مخاطر عالم لا تبذل فيه أمريكا أي جهد في القيادة على الإطلاق.
ومع ذلك، توفّر الاضطرابات الضّخمة فرصة للتّغيير الضّخم أيضا، وهذا ما تحتاجه أمريكا، هذه ليست مجرّد مسألة تصفية لحروب 11 سبتمبر المتبقيّة – نحن بحاجة إلى تحويل ما كان طريقتنا الشّاملة للنّظر إلى العالم منذ 11 سبتمبر. نعم، لدينا حاجة مستمرّة لمحاربة الجماعات الإرهابيّة، لكنّ أعظم التّهديدات الّتي سنواجهها في المضيّ قدما لن تأتي من مجموعات مثل القاعدة أو داعش، ولكن من تغيّر المناخ والأوبئة، والمخاطر الّتي تطرحها التّقنيات النّاشئة، وانتشار مزيج من الاستبداد القوميّ والشّموليّة على الطّريقة الصينيّة الّتي يمكن أن تغيّر الطّريقة الّتي يعيش بها البشر في كلّ البلدان، بما في ذلك بلادنا.
ولمواجهة هذه التّحديات، سيتعيَّن على الأمريكيين إعادة التّفكير في التّوجُّه الحاليّ لحكومتنا ومجتمعنا، وتخطّي ذهنيّة ما بعد 11 سبتمبر، وأي جهد جادّ يجب أن يغيّر أولويّات الإنفاق الحكوميّ، إذ ليس من المنطقيّ أن تكون ميزانية البنتاغون أكبر 13 مرّة من ميزانيّة الشّؤون الدوليّة بأكملها والّتي تموّل وزارة الخارجيّة، والوكالة الأمريكيّة للتّنمية الدوليّة USAID ، والبرامج العالميّة في وكالات أخرى. إنّ ميزانيّة التّأهّب للأوبئة بأكملها لا تصلح حتّى للمقارنة مع خطة تريليون دولار لتحديث البنية التّحتيّة للأسلحة النّوويّة الأمريكيّة، ثمّ إنّ الاستثمارات الذّكية في البحث والتّطوير، بما في ذلك لوكالات مثل المعاهد الوطنيّة للصّحة ومؤسّسة العلوم الوطنيّة، تستغلّ للمساعدة في جعل أمريكا رائدة عالميا في الصّحة والعلوم والتّكنولوجيا؛ فنحن الآن متأخّرين عن دول مثل ألمانيا وكوريا الجنوبيّة – الدّول الّتي ساعدنا في إعادة بنائها أو بنائها خلال الحرب الباردة – في تطوير ونشر اختبارات كوفيد -19.
إنّنا بحاجة إلى تغيير طريقة تفكيرنا حول الأمن القوميّ والسّياسة الخارجيّة، لم تنسجم الجهود المكثفة لزيادة تغير المناخ والأمن الصّحيّ العالميّ ففي إدارة أوباما بشكل جيّد مع البنية التحتيّة المترامية لمكافحة الإرهاب في أمريكا، أو مع مصالح الكونغرس، يجب أن تصبح هذه التّحديات الحاسمة محلّ تركيز المزيد من الموظّفين في البيت الأبيض، ووزارة الخارجيّة، ووكالات أخرى – ويجب أن تُجمع الشّراكات خارج الحكومة، وفي الأثناء إذا أردنا الاستمرار في نشر الخطاب حول الديمقراطيّة الّذي استخدمناه منذ 11 سبتمبر تجاه خصومنا، فإنّه يجب علينا نحن وحلفاؤنا أن نرتقى نحن أنفسنا إلى هذا المستوى.
إنّنا بحاجة إلى تغيير موقفنا من الحكومة نفسها، فقد أدّى التّهجم لعدّة عقود على دور الحكومة في الحياة الأمريكيّة إلى هذا النّوع من إدارة ترامب الّتي تستهزئ بالخبرة، وتزدري موظفي الخدمة المدنية، فجاءت أزمة كوفيد 19 لتكشف أنّ الحكومة ضروريّة؛ وأنّ الخدمة العامّة ذات قيمة؛ وأنّ الحقائق والعلم يجب أن توجّه القرارات؛ وأنّ الكفاءة أهم من ألاعيب واشنطن الّتي لا تنتهي.
تشكِّل السّنوات منذ الحادي عشر من سبتمبر الآن ما يقرب من نصف حياتي، رحلتي الخاصّة خلال هذه السّنوات أخذتني من استنشاق الهواء اللاّذع في مركز التّجارة العالميّ الّذي كان بمثابة غرفة عمليات البيت الأبيض إلى العزلة الاجتماعيّة في “لوس أنجلوس” بموجب أمر ” ابقى آمنا في المنزل”…. منذ أيّام أخذت بناتي في جولة عبر الشّوارع الفارغة، حيث تبدو مدننا الرئيسيّة الآن أشبه بمجموعة من أفلام الكوارث المشؤومة، التقطت ابنتي البالغة من العمر 5 سنوات زهرة هندباء. بعد أن نفثت بذورها سألتها عن رغبتها ما ذا تكون: فردّت: “أن نجعل الفيروس التّاجي يرحل”، فكّرت ما الّذي ستفعله ابنتي مع كلّ هذا، وماذا سنفعل نحن حيال ذلك؟
في تلك اللّحظة، لم يعد هناك 12 سبتمبر.