النّهر السّاكن لا يصلح للاستحمام
سعيد ناشيد
“دوام الحال من المحال” – قول عربي مأثور
“إنّك لا تستطيع أن تسبح في النّهر الواحد مرّتين”، كما كان يُردّد الفيلسوف اليوناني هيراقيطس، لأنّ المياه تتغيّر باستمرار، فلا يبقى النّهر هو النّهر نفسه إلاّ في مستوى التّعبير المجازيّ. والحال أنّ كلّ تعبيراتنا عن العالم هي مجرّد مجازات نعتاد عليها ثمّ ننسى في النّهاية أنّها مجازات. لكن ليس وحده النّهر من يتدفّق، بل بدوره الشّخص الّذي يسبح لا يظلّ نفس الشّخص في كلّ مرّة يهبط فيها إلى النّهر، لأنّه يتغيّر باستمرار، فالخلايا دائمة التّجدد، والأمزجة دائمة التّقلّب، والأفكار دائمة التّوارد، ومن ثمّة لا يبقى الشّخص هو نفسه إلاّ في حدود الأثر الباقي في ذاكرته وذاكرة الآخرين، وهو الأثر الّذي يخفتُ مع مرور الزّمن.
لذلك، حين نلتقي بأحد أصدقاء الطّفولة، فسوف لن يمثّل لنا ذلك الشّخص في تلك اللّحظة سوى أثر لشخص لم يعد موجوداً، غير أنّنا قد نصرّ أحيانا على التّنقيب عنه بين ثنايا الانفعالات والأفعال وردود الأفعال. لذلك نفهم سبب فشل محاولات استرداد الصّداقات القديمة بالنّحو الّذي كانت عليه بعد أن يمرّ أمد طويل عن انقطاعها. ولكلّ واحد منّا خيباته في هذا المجال. على أنّ الأمر يتعلّق برغبة قد تبدو صادقة بيد أنّها تخرق قوانين الطّبيعة، ولا تحترم قانون التّدفّق الّذي يسري على الأشياء والأشخاص كافّة.
لذلك أيضا، يبدو العتاب الشّهير الّذي يتردّد أحيانا بين الأزواج والأحبّة والأصدقاء على النّحو التّالي، “لماذا تغيّرتَ!؟” مجرّد إنكار طفولي لواقع التّدفق الّذي يسري على كلّ الكائنات بلا استثناء. لكنّنا نستطيع في المقابل أن نفهم النّفَس الدراماتيكي حين يأتي البوح بضمير المتكلّم: لقد تغيّرتُ! بمعنى، أنّ هناك أشياء قد ماتت بالفعل.
ودعنا نتصوّر المثال التّالي:
لنفترض أنّنا نجحنا في وضع كاميرا تصوير سحريّة أمام جسم معيّن لمدّة مليون عام، ثمّ قمنا بعد ذلك بتسريع الشّريط في حدود أقلّ من دقيقة قصد المشاهدة، فسنذهل لا محالة، وسنرى رؤية العين كيف أنّ ذلك الجسم لم يستطع منذ الوهلة الأولى أن يبقى هو هو، فقد كان يتدفّق منذ البداية آخذا في التّلاشي بلا توقف، إلى أن صار شيئا آخر أو أشياء أخرى، غير أنّ الزّمن الّذي يناسب وعينا البشري لا يمنحنا زاوية نظر مناسبة لإدراك حجم التّدفق الجارف في الوجود، والّذي يجعل الفرق بين مليون عام ودقيقة واحدة مجرّد زاوية نظر نسبيّة بالنّظر إلى مدى الأبديّة. وسنكتشف أيضا أنّ مبدأ الهويّة على طريقة أرسطو (أ هي أ) لا يسري إلاّ داخل عالم يناسب حدود إدراكنا الزّمني. إنّنا لا نفطن في العادة إلى حركة الأشياء الّتي تتحرّك بـ”بطء شديد” إلاّ بعد أن تقطع مسافة كافية. إذ أنّنا لا ندرك الحركة تحديدا، بل ندرك المسافات أثناء تمدّدها وتقلّصها، ثمّ نستنتج من ذلك كلّه مفهوم الحركة. إذا وُجد جسم وحيد في الفراغ الأبديّ، فلن يكون هناك أي معنى لعبارة، إنّه يتحرّك! لهذا السّبب لم يجد بارمنيدس صعوبة في اعتبار الحركة مجرّد وهم.
لا تتحرّك الأشياء في مستوى المكان إلّا بالنّسبة إلى المسافات القائمة بينها، لذلك استطاع بارمنيدس إنكار وجود الحركة في المكان، غير أنّ الأشياء تتدفّق في الزّمان بفعل الصيرورة، وهي لا توجد وتُرى وتُدرك إلاّ بفعل تدفّقها الذّاتي، وبذلك النّحو يكون هيراقليطس قد أنقذ مفهوم الحركة بأنّ ربطه بالزّمان بدل المكان، غير أنّه منح للحركة في المقابل طابعا دراماتيكيا: كلّ الأشياء تتدفّق نحو التّلاشي.
بل بمزيد من الدّقة نقول:
ليس الوجود مجرّد نهر يتدفّق أو أشياء تتدفّق، بل الوجود هو تدفق النّهر وتدفق الأشياء، إنّه فعل التّدفق بالذّات. إنّ عبارة “نهر يتدفّق” لتمنحنا إمكانيّة تصوّر نهر لا يتدفّق في المقابل، ولو تجاوزا أو لبعض الوقت، وهي إمكانيّة ممتنعة في كلّ الأحوال، بيد أنّ عبارة “تدفّق النّهر” تحيل إلى الفعل بدل الاسم، تحيل إلى التّدفق بدل النّهر، تحيل إلى الوجود بدل الموجود، تحيل إلى الوجود من حيث هو فعل لا ندرك منه إلاّ الأثر، مثل العاصفة الّتي لا تدلّ على جسم معيّن بل على قوّة وحركة وطاقة وفعل، إنّها تدلّ تحديدا على أثر الفعل عندما تتطاير الأشياء وتقتلع الأشجار. وكذلك مثل النّار الّتي لا تمثّل جسما ماديا بل هي مجرّد أثر حراري وضوئي لتفاعلات كيميائيّة تغلي بقوّة ولا ندرك منها سوى الأثر الّذي هو ذلك “الشّيء” المرئي الّذي يبهرنا، يسحرنا، يساعدنا، يدفئنا، يلهمنا، يخيفنا أيضا، ونصطلح عليه باسم النّار. كذلك هو الوجود الّذي لا ندرك منه إلاّ آثاره الحسيّة أثناء صخب التّدفق نحو التّلاشي.
لا يدلّ الوجود على الموجودات حين تتدفّق وتغلي وتصير، بل يدلّ بالذّات على فعل التّدفّق والغيلان والصّيرورة. ليس الوجود سوى أثر للتّدفق، تماما كما أنّ النّهر هو الأثر الّذي يخلّفه فعل تدفق الماء في مستوى شكل المجرى، وصوت الخرير، وتضاريس الصّخور، ورائحة الأعشاب، ونسيم الوادي، وما إلى ذلك.
الوجود هو بمثابة تدفّق نهر عظيم، غير أنّ منبعه ومصبّه ومساره ومغزاه، كلّ ذلك عبارة عن ألغاز قد تبقى بلا حلّ إلى أجل غير مسمّى، بيد أنّ البشر يسعون لاكتشافها شبرا شبرا، وشفرة شفرة، فينجحون حينا ويخفقون أحيانا، ما يعني أنّ الطّريق سيكون طويلا، وأنّنا لا نزال في بداية الطّريق.
لذلك، سيبقى النّقاش العلمي والمعرفي والديني حول نهر الوجود مفتوحا إلى أجل غير مسمّى، وينبغي أن يتواصل بتواضع وانفتاح، وسيتطلب الأمر جهداً تراكميا طويل الأمد، إلا أنّه لا يجب أن يحجب عنّا نحن الفانون المهمّة الآنية: يوجد النّهر لكي نسبح فيه.
لأجل ذلك يجب علينا أن نتقن مهارة السّباحة، ولأجل ذلك أيضا يجب أن تصبّ كلّ الدّراسات المرتبطة بالنّهر في النّهاية في تحسين ظروف العوم، وتنمية مهارة السّباحة، وأن يكون الهدف العملي هو أن يسبح معظم النّاس بأكثر ما يمكن من الأمان في نهر يظلّ بطبعه غير آمن.
قد نعيش ونفنى دون أن نفهم مغزى الحياة، كما قال الموسيقار المصري محمد عبد الوهاب في أغنيته الأخيرة قبل وفاته (من غير ليه)، غير أنّ ذلك الجهل السّقراطي لا يجب أن ينسينا في الشّيء الوحيد الّذي نعرفه: توجد الحياة لكي تعاش، مثلما يوجد النّهر لكي نسبح فيه.
قد يبدو التّدفّق مخيّبا للآمال أحيانا، وقد نأمل لو يتوقّف النّهر قليلا حتّى نسبح في نفس الماء بأمان طفولي وشغف بريء، لكن علينا ألاّ ننسى هذا: دون تدفّق لن يكون النّهر صالحا للاستحمام.