الكمالية وتسييس الإسلام

الكمالية وتسييس الإسلام

بوبي س.سيّد*

1- مؤسسة الخلافة: استتبابُ الإسلام: لا تبدو مؤسسةُ الخلافة مهمةً في التاريخ الإسلامي؛ باستثناء الحقبة الأولى (632-945م). وهذا ما دفعت إليه دراساتٌ كثيرةٌ وتحليلاتٌ شتّى، جعلت من التاريخ الإسلامي، ومن التجربة الإسلامية متعددةً ومُشكلةً، ولا تظهر فيها الخلافة كأولوية في غالب الأحيان. لكنّ هناك حقيقةً لا يمكن إنكارُها، رغم توالي العصور التي ما كانت فيها المؤسسةُ مهمةً على الإطلاق؛ والحقيقةُ التي نقصدُها هي أنه بين موت النبي محمد –صلى الله عليه وسلم- عام 632م وحتى 3 آذار (مارس) عام 1924م، كان منصبُ الخلافة مشغولاً دائماً. فَضَياعُ المعنى السياسي للمنصب بعد القرن الرابع أو الخامس للهجرة، ما أدّى إلى الاستغناء عنها كمؤسَّسة. ولذا يكونُ علينا لتجاوُز سؤال الأهمية أو الجدال حوله أن نتفحص بنية السلطة في التاريخ الإسلامي، والتجربة الإسلامية. ومسألة السلطة بسيطة في الإسلام بمعنىً من المعاني، فقد كانت كلها موظَّفة في النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-. صحيح أنّ الرسالة الإسلامية قائمةٌ على الوحي الإلهي والنبيّ ليس أكثر من مبلِّغ، لكنّ النبيَّ بتبليغه يكشف عن ماهية الإسلام. فصورةُ النبي هي التي وحَّدت الإسلام ومثَّلَتْهُ. ما هي العلاقةُ بين معلن الخطاب أو الداعي إليه ومؤسِّسه من جهة، والخطاب الذي يؤسِّسُهُ ذاك الشخصُ من جهةٍ ثانية؟ إنني أعتبر مؤسِّس الخطاب جهةً شارعةً، فهي التي تحدّد حدود المجتمع السياسي وبالتالي هويته. أما العملُ الذي تُنتجهُ أو تعبّر عنه فهو الشريعة. فالشارع يمثّل الشريعة ويتَّمثلُها في الوقت نفسه. ويُسهلُ ضبطُ الجهد بين الشارع والشريعة في حياته، لكن عندما يُتوفَّى يصبحُ السؤالُ السياسيُّ حاداً.

لقد بدأت الخلافةُ بوصفها مصدراً للسلطة والشرعية السياسيتين عندما مات النبي –صلى الله عليه وسلم- في العام 632م. وهكذا كان موتُ الشارع ولادةً للشريعة, أي إنّ موتَ النبيّ هو الذي أسَّس الإسلام. وليست تلك فكرة مجرَّدة، بل إنّ لها أهميةً تطبيقيةً أيضاً: يبدأُ جمعُ القرآن وترتيبُهُ مع موت النبي، ثم يبدأُ بعد ذلك جمعُ الحديث النبوي، وتشكُّل السُنّة (تقاليد النبي). ما دام الشارع قد غاب فإنّ المجتمع السياسيَّ مهدَّدٌ بالتفكُّك، ولذلك تتحول الشريعةُ إلى مؤسسة للحفاظ على الأمة والدولة. فالحاجةُ إلى الشريعة إذن تبدأُ مع غياب الشارع. لقد نقل موتُ النبي المبدأ الموحِّد للأمة من النبي إلى رسالته، فحضرت الشريعة مكان الشارع الغائب. والحاجة إلى الشريعة تستدعي الحاجة إلى مفسِّرين ومؤوِّلين، لأنَّ الشريعةَ لا تتكلم. وهكذا تظهر وظيفتان يقتضيهما وجود الأمة ووجود دولتها: وظيفة القيادة، ووظيفة شرح الشريعة أو الاجتهاد فيها. وفي هذا السياق الجديد فإنّ الإسلام يصبح دالاً رئيساً. وهذا لا يكون إلاّ بموت النبي. ويظهر ذلك في الشائعة التي نشرها المكيون يومَ وقعة أُحُد، فقد أشاعوا أنّ النبيَّ قد قُتل، فما توقَّف المسلمون عن القتال، وقالوا إنهم لا يقاتلون من أجل النبي بل من أجل الإسلام أو في سبيل الله! فالمشكلة هي إذن أنّ الإسلام صار الدالَّ الرئيس، ولابد أن يجري العمل على تحديد هوية المجتمع وأهدافه العليا. والذي يقومون بذلك: الخليفة والعلماء، من طريق تكريس سلطة الخلافة.

ويرى أَيرا لابيدوس(1) أنّ الخلفاء ورثوا سلطة النبي التنفيذية، وهي سلطةٌ متماسكةٌ، فحلُّوا بذلك محَّل النبي. وهذا غير ممكنٍ، إلاّ إذا كانوا هم أنفسهم أنبياء، ولو ادَّعوا لأنفسهم السلطةَ نفسها لغامروا أو خاطروا بالأُفق الاستطرادي الذي أسَّسه النبي. وهكذا لا يستطيع الخليفة أن يشرّع، لكنه يستطيع أن يؤدّي دورَ القاضي والحَكَم، حين يَعْرِضُ السؤال: من الأكفأ للتكلم محلَّ الشارع؟ ومن يستطيع تفسير الشريعة؟ ومن يستطيع أن يكونَ خَلَفاً في الأمرين؟ وقد انقسم المسلمون حول هذه الأسئلة، وتبلورت فِرَقٌ فيما بعد. فقال أهل السنة إنّ الأمة أو المجتمع كلَّه هو الذي يخلُفُ النبي، بينما رأى الشيعة أنّ فرداً معصوماً أو شبه معصومٍ من سُلالة النبي هو الذي يستطيع أن يخلُفَهُ فقط.

وبعد هذه البداية غير المثالية، والتي استمر التناحُرُ حولها قروناً في النقاشات أو في الواقع السياسي والسلطوي، تضاءل بالتدريج نفوذ الخلافة أو سلطتها، وصار الخلفاء مجرد صورة، بينما سيطر مكانهم غلمانُهُم الأتراك. وفي العام 929م أعلن عبد الرحمن الثالث سليل بني أمية المشارقة ومن قُرطبة، نفسَه خليفةً متلقّباً بلقب الناصر, وبذلك صار هناك خليفتان في عالَم الإسلام. وبعد قتل هولاكو للخليفة العباسي عام 1258م ببغداد، أقام المماليك عام 1261م عباسياً آخر خليفةً صورياً بالقاهرة. وفي العام 1517م استولى العثمانيون على مصر، وأخذوا الخلافة أيضاً، لكنهم ما أظهروا اهتماماً بالتلقُّب بِها إلاّ في القرن الثامن عشر الميلادي.

وبذلك فإنّ الاستنتاج بعد هذا الاستعراض الموجز، أنّ الخلافة ما كانت مهمةً لأنها سلطةٌ سياسيةٌ تقود الجيوش، وتفرض الضرائب. بل هي مهمةٌ لقيامها على الشريعة، وأنها الرابط المستمرّ مع الشارع المؤسِّس. فهي النقطة التي تشكلت حولها الهوية الإسلامية العالمية، والوحدة الثقافية والدينية الإسلامية. وعندما كانت الخلافة موجودةً كانت عماد البنية السياسية الإسلامية، فكان الإسلام يوصفه دالاًّ رئيساً ملتصقاً بالدولة. وهكذا فإنّ مؤسسة الخلافة وفّرت للإسلام ثباتاً واستقراراً نِسْبيَّيْن.

2- الإلغاء وردّة الفعل، الإسلامُ المنفلت: في 3 آذار عام 1924م وبناءً على إصرار مصطفى كمال، ألغى المجلس الوطني الكبير الخلافة. وقد كانت المسألة تستحق التأجيل بسبب تعقيدها. لكنّ مصطفى كمال كان مستعجلاً، وما استغرق التمهيد غير سنةٍ واحدةٍ بالكاد. كانت الأولويةُ لديه طبعاً القضاءَ على السلطنة، التي أراد تشكيل سلطته كبديلٍ عنها. وقد فعل ذلك بعد الانتصار على اليونانيين عام 1922م؛ إذ حوَّلها أولاً إلى ملكيةٍ دستوريةٍ ثم ألْغاها بتاتاً، واتّجه للقضاء على الخلافة. وقد كان يخشى من ردود الفعل الداخلية قبل الخارجية والإسلامية. لأنّ معظم العاملين معه من مدنيين وعسكريين نشأوا في ظلّ تلك السلطة وكانوا معتادين عليها باعتبارها جزءًا من دينهم وهويّتهم. يقول Deringil(2): يمكن اعتبار الفترة من إعلان الجمهورية في 23 نيسان 1923م وإلى إلغاء الخلافة في 3 آذار 1924م فترة تحضير انشغل فيها كمال بإعداد الرأي العام داخل المجلس الوطني وخارجه معاً. وأصبحت مسألة الخلافة مسألةً رمزيةً في الصراع على السلطة بين كمالٍ ومناوئيه – إذ استخدم كلٌّ من الطرفين حججاً دينية! شوَّه كمال سُمعة الخليفة بالتذكير بعمله ضد السلطة الوطنية، واستخدام الطائرات اليونانية لتوزيع المنشورات باعتبار مصطفى كمال متمرداً. وفي فترة الفصل بين السلطنة والخلافة دارت مماحكاتٌ طويلةٌ بين كمال وعبد المجيد بشأن شروط المنصب ولباسه وصلاحياته. وقد تركزت حُجَج مصطفى كمال ضد الخلافة في ثلاثة أمور: أنه أولاً: لا علاقةَ للإسلام بالخلافة، ووجود الإسلام لا يقتضي وجود خليفةٍ له. وثانياً: أنّ الخلافة المرتبطة بالسلطة تعني وجود دولة متعددة الإثنيات والقوميات. وفي الزمن الحديث لا وجودَ إلاّ للأمة/الدولة ذات القومية الواحدة. وقد تحمل الأتراك عبر التاريخ مسؤوليات وأعباء كل المسلمين، وخسروا وما كسبوا شيئاً، فحتى العرب وقفوا في الحرب ضدَّهم. وثالثاً: إنّ منصب الخلافة وما يحيط به من تقاليد وأعراف مصطَنَعة من الفكرة إلى اللباس؛ كلُّ ذلك يعني التخلُّف ومعاداة العلم والحضارة. لكنْ لماذا تُعادي الخلافةُ العلم، ولا تليق بالعصر الحديث؟ لأنها ذات تقاليد غير أوروبية وغير غربية في نظر مصطفى كمال ومُشايعيه. إنهم يريدون أن يكونوا أوروبيين تماماً في مسألة الدولة/الأمة، وفي مسألة المجتمع المدني اللاديني إلاّ بالمعنى الأخلاقي العام الذي له صلةٌ بمسألة الهوية. وقد عُرضت على أتاتورك من الداخل والخارج عدة عروض رفضها جميعاً: فكرة أن يكون الخليفةُ صورياً ولا سلطةً له وإنما هو رمز، وفكرة أن يكونَ هو نفسُه الخليفة، وفكرة أن يوافق على تعيين خليفة عربي شريف يكون مركزُهُ بتركيا أو خارجها. ورفض الرجل هذه الأفكار كلَّها كما رفض الدولة الطورانية أو الإسلامية، وأقام دولةً قوميةً تركية.

وكما يمكن أن نتوقَّع فقد كانت ردة الفعل عنيفةً وفي سائر أنحاء العالم الإسلامي، وليس بين العوامّ الأتراك فقط. فقد أنهى إلغاء الخلافة احتمال تأسيس حيّز إسلامي غير قومي. وكانت تلك إشارة إضافية إلى التفكك النهائي للإسلام. وما بقي حاضراً إلاّ في مسائل الأحوال الشخصية، والهوية العامة الدينية والأخلاقية الغامضة. فقد اعتبر الكماليون أنّ الإسلام لا يتلاءمُ مع الحداثة، بخلاف المحاولات التي قامت في أنحاء شتى من العالم الإسلامي وحقّقت نجاحاتٍ متفاوتة. وكان من بين ردود الفعل محاولة إعادة تأسيس الخلافة التي أبدى رغبةً فيها فؤاد ملك مصر. كما أنَّ الهاشميين حاولوا إعادة الخلافة، لكنهم ما وجدوا لها أرضاً. واعترض التونسيون بوضوح على إلغاء الخلافة. وكذلك فعل المسلمون الهنود الذين كانوا قد شكلوا «حركة إحياء الخلافة» عام 1919م، ودعموا تركيا في الحرب، وضغطوا على بريطانيا من أجل سياسات أكثر توازُناً بعد الحرب، لأنهم كانوا يخشَون على الخلافة وعلى الإسلام إذا خسرت تركيا الحرب. وقد اجتمع على ذلك السنة والشيعة بالهند البريطانية، لأنهم رأوا في ذلك شأناً متعلقاً بالهوية الإسلامية. وفي القاهرة نظمت مجموعة من العلماء مؤتمراً في أيار (مايو) 1926م طالب خلاله المؤتمرون باستعادة الخلافة. وأدلى رشيد رضا باجتهادٍ بشأن مصائر الخلافة وأهميتها بالنسبة للإسلام. وسلَّم محمد إقبال بسقوط الخلافة رغم أسفه وأساه، وقال بتحويل العالَم الإسلامي إلى (عُصبة أُمم) أو رابطة يتعاون أعضاؤها بقدر الإمكان بدلاً من النُواح على واقعٍ بائسٍ ما كان مفيداً للمسلمين. ومضى علي عبد الرازق بعيداً عندما رأى أنّ الخلافة ما تأسستْ منذ البداية على الدين، ولا كان الإسلامُ يقتضيها. فلدى التحديثيين كانت خصخصة الإسلام أو إبعاده عن الدولة هي الوسيلة المُثْلى للنهوض به وتجديده.

عندما ألْغى الكماليون الخلافة، قطعوا العلاقة المترسّبة بين الإسلام وسلطة الدولة، وهي العلاقة التي تجاوز عمرها الألف عام. وقد أدى قرارهم من حيث لم يحتسبوا إلى إعادة تنشيط الإسلام. فالدالّ السلطوي في الدين الإسلامي ما عاد مرتبطاً بترتيبٍ سياسيٍ تاريخي، وصار ادعاؤه أو ادعاء تفَسيره وتوظيفه أسهل بكثير.

3- تحديث الإسلام: أسلوب أتاتورك (1923-1945): أدّى فصل الإسلام عن الدولة إلى ظهور الحاجة لخطاب سلطوي بديل لا يكونُ الإسلام جزءًا منه. ففي خطاب القَسَم الرئاسي قال أتاتورك: (بلد جديد، ومجتمع جديد، ودولة جديدة... تتمتع بالاحترام في الداخل والخارج). أعطى مصطفى كمال الانطباع في بعض خطاباته المعتدلة بين 1923 و 1924م أنه إنما يريد الفصل لصالح الإسلام حتّى لا تُسيّسه الدولة وتُسيء استعماله لصالحها. لكنّ ذلك لم يكن صحيحاً بوجهٍ كافٍ. بل الذي أرادهُ مصطفى كمال مطاردة الإسلام بحيث لا يشكْل أيّ منافسة حتى في المجال الخاصّ، لاعتقاده أنه يشكّل عقبةً أمام التقدم الفردي والمجتمعي. ويبدو هذا الإصرار من خلال قوانين المجلس الوطني وقرارات الحكومة. ففي يوم إلغاء الخلافة صدر قانون يضع سائر المؤسسات التعليمية تحت إشراف الحكومة. وفي نيسان (أبريل) 1924م أُلغيت المحاكم الدينية. وفي العام 1925م صدر قانون القبعة الذي يحرّم لُبس الطربوش، ويحدّ من ليس الحجاب. وفي العام نفسِه حُلّت الطرق الصوفية. وفي العام 1926م طُبّق القانون السويسري بحذافيره. وفي العام 1928م سُحب اعتراف الدولة بالإسلام، فما عاد الإسلام في الدستور دينَ الدولة، وأُقرّت الأبجدية اللاتينية. وقد قال الكماليون إنهم يريدون تأسيس تركيا الجديدة على استراتيجيات أربع : العلمانية والقومية والتحديث والتغريب. والعنوانان الأولان جرى التعبير عنهما في (إسهام الستة للكمالية) (وهي: الجمهورية والقومية والشعبية واشتراكية الدولة والعلمنة والثورية)، أما العنوانان الأخيران فيترددان أقلْ في الخطاب الكمالي.

وقد عنت العلمنة (اللاييكية بتعبير الكماليين) ففي نظرهم ليس فصل الدولة عن مؤسسات الإسلام فحسْب، بل كذلك تحرير العقل الفردي من المفاهيم والممارسات الإسلامية التقليدية. وقد تابعوا ذلك بإصرار في المجال التشريعي عندما حرَّموا أن يكون في الحيّ الواحد أكثر من مسجدٍ واحد، فلم يُبْن مسجدٌ جديدٌ بتركيا حتى الخمسينات. وكثيراً ما وصف مصطفى كمال الإسلام بأنه رمز الظلامية، والجثة المطهَّرة التي تسمّم حياتنا، وعددّ الحضارة والعلم!

أما القومية فنظر إليها الكماليون باعتبارها النمط الشرعي والعلمي الوحيد للمجتمع السياسي؛ وذلك على النمط الوستفالي. فقد أنْهت معاهدة وستفاليا عام 1648م حرب الثلاثين سنة، وكرّست مبدأ الولاء الديني للدولة من خلال الحكّام. وظهرت فيها لأول مرةٍ فكرة الربط بين الشعب والأرض والدولة. وهكذا فقد كانت القومية وسيلةً لتجاوُز التعددية القومية للدولة العثمانية، وإنشاء مجتمع أكثر تجانُساً. كان النموذج العثماني مُناقضاً للنموذج الوستفالي للدولة/الأمة – وفي حين اعُتبرت تعددية العثمانيين محمودةً، رآها الكماليون دليلاً على التفكك، وأرادوا القضاءَ عليها بتاتاً فاستعصى عليهم استيعاب الأكراد في النموذج الوستغالي هذا. لقد جرى اختراع (التركي) ليحلَّ محلَّ (المسلم)؛ لأنّ التابعية الإسلامية تُخالفُ »منطق الأمة«. وقد انعقد مؤتمران للتاريخ التركي في العامين 1932 و1937م لإحلال التركية محلّ العثمانية، واعتبار الهجرة إلى الأناضول فعلاً عبقرياً أنشأ دولةً قوميةً، وطوَّر الحضارات التي كانت موجودةً واستوعبها ودمجها.

أما الركن الثالث وهو التحديث، فقد جرى التأكيد فيه على أنه قطيعةٌ مع الإصلاحات العثمانية وليس استمراراً لها. فالإصلاح العثماني أراد تقوية المجتمع والدولة في وجه أوروبا بإجراءات في الجيش والإدارة؛ مع التأكيد على الخصوصية والهوية الإسلامية للدولة والمجتمع. أمّا التحديث الكمالي فالمُرادُ به التغريب بالتحديد، وليس تقليد الغرب، بل استنساخه. فالهوية الإسلامية تعني التخلف واللاعصرية. والغرب يعني التقدم التكنولوجي والإنساني. ولذلك كان لابد من نَسْخ الغرب بحذافيره ليحلَّ محلَّ الهوية التقليدية للمجتمع والدولة.

4- تأثير الكمالية: كان لبرنامج مصطفى كمال تأثير كبير على المسلمين خارج تركيا. فقد حاكى رضا خان (1925-1941) بإيران الكمالية محاكاةً شبه تامة. وقال ساطع الحصري إنّ إصلاحات كمال أتاحها التقدم التاريخي! وأبدت أكثر الأنظمة الإسلامية بعد ذهاب الاستعمار في تكويناتها معالم عديدة من الكمالية. ولذلك يمكن الحديث عن الكمالية في العالم الإسلامي بعد الحرب العالمية الثانية، وإن لم يكن التشابُهُ ظاهراً للعيان. ذلك أنّ تلك الأنظمة لا تعتبرُ الإسلام دالاَّ رئيسياً في قيام الدولة والنظام، ولا تعترف له بأيّ دورٍ في الشأن العامّ. وبالطبع ما كانت لتلك الأنظمة إستراتيجية واحدة، بل اتخذت منْحيَيْنِ رئيسيَّين: منحى استبعاد الإسلام، أو منحى الاستيلاء عليه وتحويل معانيه. المنحى الأول: كان إستراتيجية الأُسرة البهلوية بإيران. فالإسلام في نظر رضا شاه وابنه عقيدة استعمارية غريبة، وقد كان بمثابة انقطاع أو تحريف للهوية الحقيقية الآرية العريقة لإيران. وقد فشلت إيران في تحقيق التقدم بسبب استيلاء العرب الساميين عليها وتقييدها بالإسلام. واستندت هذه الآراء إلى حب رضا شاه وابنه للخطابات العِرْقية، وكراهية بعض الفئات للعرب. وفي الأعوام 1971-1977م عاد محمد رضا شاه إلى تاريخ إيران القديم. وقد عادت أنظمةٌ عربيةٌ وإسلاميةٌ أُخرى إلى التاريخ السابق للإسلام مثل مصر والعراق، وإنْ ليس بالعنف الإيراني الشاهنشاهي.

أما المنحى الثاني: منحى الاستيلاء والتحويل فيسمّيه المؤلف: إستراتيجية شبه الخلافة؛ مثل أن ينسب الحاكم نفسه إلى النبي محمد –صلى الله عليه وسلم- أو أن يتسمى بأمير المؤمنين أو أن يدّعي اتّباع الشورى بدلاً من الديمقراطية. ولا تنحصر محاولات استبعاد الإسلام بهذين النمطين، ولكنهما الأبرز. وفي مفارقةٍ تاريخيةٍ فإنّ الكماليين ما استطاعوا نزع الصفة السياسية عن الإسلام، بل من خلال إزالتهم إياه من مركز تشكيلاتهم للنظام السياسي سيّسوه، أي طردوه من المجال السياسي الظاهر فانتشر في الثقافة العامة وصار متوافراً وقابلاً للعودة. يقول شريف ماردين: لقد أصبح الإسلام أقوى في تركيا لأنّ التعبئة الاجتماعية لم تقلّص عدم الآمان عند مَنْ أُخرجوا من مكانتهم التقليدية، بل على العكس فاقمتْهُ(3).

5- التوافر والسيطرة: يشرح Laclau(4) بروز النزعة الإسلامية على النحو التالي: تبرز الإسلاموية كتحدٍ للكمالية؛ لأنّ النظام الاجتماعي في المجتمعات التي استُبعد فيها الإسلام يصبح فوضوياً إلى درجةٍ يصبح فيها الإسلام نقطة الاستقرار الوحيدة: لذلك تصبح الخطابات القائمة حول الإسلام هي الوحيدة التي تعدُ بالانتظام. ويقترح لاكلاو مؤهِلاً آخر: يعتمد قبول الخطاب على صِدقيته أو على المصداقية التي يتمتع بِها لدى الجمهور. وهذا مشكلٌ لسببين: أنه يشبه التعليلات بالثقافة السياسية وبالتقليد عندما تضعُفُ الحجة، ثم إنّ ذلك يعني أنّ الخطاب السلطوي جاهز ويحتاج فقط لكشف النقاب عنه. والواقع أن التوافر لا يكفي، بل لابد من الحاجة إليه وأن يكونَ ملائماً. ثم هناك السؤال: لماذا يحل الإسلام محلّ الأنظمة الكمالية وليس خطابات أخرى مثل الديمقراطية الاجتماعية أو اللييرالية؟!

لقد اقترحتُ أنّ الإسلام عُبّر عنه بدايةً بوصفه دالاًّ رئيسياً، وأنّ الإسلاموية هي محاولة إعادة التعبير عن هذا الدالّ الرئيس في نظامٍ سياسي. وقد جاء إلغاء الخلافة ليفكّ ثبات العلاقة المترسبة بين الإسلام والدولة، وكانت نتيجةُ ذلك إعادة تنشيط الإسلام بوصفه خطاباً سياسياً.

**************************

الحواشي

*) ترجمة ملخصة للفصل الثالث من كتاب:

BOby s, sayyid:Eurocentrism and the Emergence of islamism-London-New york2007,P207-226

1- في مقالته: الدولة والدين في المجتمعات الإسلامية، بمجلة Past and Present، عدد مايو، 1996م. وهو ما يذهب إليه كلٌّ من باتريشيا كرون ومارتن هانيدز في God's Caliph, 1986 وهو غير صحيح.

2- Deringil, S. The Origins of Turkish nationalism in Ottoman history; in: European History Quarterly, April 1993

3- Mardin, Serif (1993): Turkey, Islam and westernization; in C. Caldecola (ed): Religion and Societies> Berlin: mouton.

4- Laclau, Ernesto: New Reflections on the Revolution of Our Time. London 1990

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=552

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك