في تفكيك ظاهرة العنف
عبد الله إبراهيم
دار جدل طويل ومتشعّب حول ظاهرة العنف، ولا ينبغي الاكتفاء بوصفها، بل كبحها، ونزع أية شرعية عنها؛ فرصيد العنف يتراكم ببطء، ولا يعرف أحد متى تتدفّق سيوله، فهو طاقة مغلولة بأصفاد واهية، لها مغذّيات نفسية، أو اجتماعية، أو سياسية، أو دينية، وحينما يتفجّر يصبح ممارسة عمياء تحرق الأخضر واليابس، وللتقليل من ضرره، فأول ما ينبغي القيام به تهذيب السلوك الفردي، وضبط الانفعالات الهوجاء، ثم العمل على تجفيف منابع العنف الجماعي بالتمدّن الذي يقوم على تغيير نمط علاقة الإنسان بنفسه، وبجماعته، وبالله، وذلك لا يكون إلا بتجريد المجتمع من اللاهوت الديني والسياسي، بإحلال العدالة والمساواة والشراكة محلّ الاستبداد والتفاوت والتبعيّة، فيقع الاعتراف المتبادل بين الأفراد والجماعات، وتصبح العلاقة مع الله قائمة على الإيمان وليس الخوف، وتحلّ قوانين الدنيا محل أعراف الفقهاء، ويصبح للدين تاريخ قابل للوصف، والمعاينة، والاستنطاق، والتأويل، والنقد، والمقارنة؛ فمن غير الفصل بين كلام الله والحواشي المتزاحمة حوله، لن يتمكّن المؤمنون من اكتشاف اللّب القيمي للظاهرة الدينية، فيشغلون، كما هو الحال، بحواشيها من تفسيرات، ومذاهب، ويختصمون حولها، ويقتتلون باسمها، وهم جاهلون بالمقاصد الأساسية لها بين ما جاءت به، وما جاءت من أجله، ومع ذلك فمن الصعوبة قطع دابر العنف.
اتّخذ العنف طابعا مؤسسيا تجاوز هدف الانتصار على العدو، إلى التنكيل به، ومحقه، وتدمير كلّ ما من شأنه إعادته إلى الحياة الطبيعية
تأتي الصعوبة من تلوّن ظاهرة العنف، وتغلغلها في سلوك الأفراد والجماعات، ولبوسها لبوس الحق في توفير غطاء لأعمال باطلة، وفي معالجته لظاهرة العنف استند "رينيه جيرار" إلى فرضية مؤدّاها "أنّ العنف ذو طبيعة محاكاتية"؛ فجعله قائما في "أساس كلّ فكر ديني أو ثقافي"، فهو يلبث راسخا في طيّات الوجدان الديني، أو التخيّلات الثقافية، وفي علاقة المرء مع نفسه، وفي الجماعة مع هويّتها، ويشيع بالمحاكاة القائمة على الرغبة، فيتمدّد في الوسط الاجتماعي، فلا يكاد ينجو أحد منه "لمّا كان البشر يميلون، بتأثير نزعتهم المحاكاتية، تلقائيا، إلى التعامل مع أعداء الآخرين كما لو أنّهم أعداؤهم الشخصيين، فإنّ دائرة التبادل العنفي تشرع في الاتّساع منذ اللحظة الأولى على وقع أعمال الثأر والانتقام التي تنذر بتدمير الجماعة بأسرها"؛ فالعنف غول شره لا يرتوي من الدم مهما عبّ منه "إذا لم يقيّض له الارتواء مضى يبحث عن ضحيّة بديلة، وخلص إلى تحقيق مبتغاه شأنه دائما، حيث نراه- فجأة- يستبدل بالمخلوق الذي يثير غضبه مخلوقا لا صفة له -ولا علّة- توجب حلول صواعق العنف به".
يقترح العنف لنفسه جملة من الضحايا حسب حاجته في التعبير عن العدوانية الكامنة فيه، ولا يشترط في الضحية أن تكون العدوّ المقصود لممارس العنف؛ فالعنف يطلب إشباعا له حتى لو كان الأبرياء موضوعا له، وتلك متوالية خطيرة لا تضع حدّا للعنف، بل تُشرع له الأبواب، وبمرور الوقت يصبح الأبرياء هم ضحاياه، فلا حصانة لهم بإزاء هذا الغول، كما لوحظ ذلك في الحروب المذهبيّة، فمادام الظمأ للعدوان قائما، ومادامت إمكانية استبدال الضحايا متاحة فلا حصانة لهم، فبعد المرحلة الأولى سوف يصبح الأبرياء هم موضوع الانتقام؛ لأن متوالية العنف لا تميز بين متّهم وبريء؛ فغايتها الارتواء الذي يتعذّر إشباعه، وذلك هو نهم العنف الذي ينتهي به الأمر إلى ممارسة محاكاتية لا تؤدي وظيفة، بل تتذرّع بإرواء ظمأ لا يرتوي.
وقد استهجنت "حنّة أرندت" تشريع العنف مهما كانت أنواعه، واستنكرت إباحته، بل عارضت اعتماده وسيلة للدفاع عن النفس، ونيل الحقوق، وتحقيق المطالب، بقولها: لو كان العنف ناجعا، والأخذ به مفيدا، فسوف "يكون بوسع الثأر أن يصبح الترياق العجائبي الذي يداوي كافة شرورنا"، فتلك الشعارات البرّاقة التي تدفع بها الانفعالات بهدف استرداد حقّ مغتصب، أو الحصول على مطلب عصّي "مجرّد تعبير عن مزاج عابر، أو عن جهل، أو عن نبل المشاعر لدى الشعب، وقد تعرّض لأحداث لا سابق مماثل لها، من دون أن يكون له القدرة ما يمكّنه من التعامل معها عقليا"؛ ذلك أنّ "العنف لا يعزّز من شأن القضايا، ولا من شأن التاريخ، ولا من شأن الثورات، ولا من شأن التقدّم والتأخّر، ولكن بإمكانه أن يفيد في إضفاء طابع درامي على المطالب، وإيصالها إلى الرأي العام لافتا نظره إليها"، فلا ينبغي أن يكون غاية بذاته؛ لأنه ينتهك أعراف الحياة، ويسلب الأرواح، ويدمّر الممتلكات، وقد لا يفضي إلى بدائل أفضل. وربطت أرندت بين العنف وأدواته، فلا يتعرّف العنف من غير وسائل تعبّر عنه "إنّ أدوات العنف تطوّرت تقنيّا إلى درجة لم يعد من الممكن معها القول بأنّ ثمة غاية سياسية تتناسب مع قدرتها التدميرية، أو تبرّر استخدامها حاليا في الصراعات المسلحة". لقد اتّخذ العنف طابعا مؤسسيا تجاوز هدف الانتصار على العدو، إلى التنكيل به، ومحقه، وتدمير كلّ ما من شأنه إعادته إلى الحياة الطبيعية، كما حدث في أثناء الاحتلال الأمريكي للعراق في عام 2003، وبما أنه ما من عنف إلا وله الأدوات التي يعبّر بها عن نفسه، فقد وضع التقدّم التقني نفسه في خدمة إنتاج وسائل العنف على مستوى الأفراد والأمم.
أمسى من المعلوم أنّ الأمم "جماعات متخيّلة" كما قال أندرسن في كتاب له بالعنوان نفسه؛ أي إنها جماعات تنتظم في أطر من الأيديولوجيات العرقية أو الدينية أو الثقافية؛ فهي محكومة بمرويات كبرى تؤمن بها، وتراها أفضل من غيرها، وتعدّها من مكونات هويّتها الخاصة، وكل مساس بهذه الهويّة المتخيّلة سيؤدّي إلى تغذية تلك الجماعات بالعنف، وهو يتفجّر عند أول اختبار، وإلى ذلك فإن التفسيرات الضيقة للدين تشحن المؤمنين بفكرة رفض الآخر المختلف عقائديا أو مذهبيا، فتنشأ تحيزات لا تقرّ بالشراكة، وليس ينبغي نسيان دور النزعات التربويّة الضيّقة التي توهم أتباعها بالأفضليّة، وتتهم الآخرين بالدونيّة، ففي هذه المناطق المعتمة يعشّش العنف، ويفرّخ. وحتى على مستوى الأفراد، فالنظام الأبوي القائم على التراتب والهرمية يخلق أفرادا مجهّزين بفكرة العنف؛ ذلك أن النظام الأبوي، وامتداداته السياسيّة والدينيّة يعدّ أحد الحواضن الراعية للعنف، ولو جرى التوسّع في تعقّب ظاهرة العنف بشكل كامل، ووقع تجاوز التحيّزات الدينية، والطائفية، والأبوية، لظهر العنف لصيقا بالتجربة الاستعمارية، تلك التجربة الشنيعة التي انتهكت الجماعات الأصلية، وجرحت كرامتها الجوانيّة، وخلخلت علاقاتها، وخرّبت أعرافها، باسم الدين مرة، وباسم التمدّن مرة، فوقع استئصال أنظمة قيمية راسخة، وحلّت مكانها أنظمة قيم مستعارة من ثقافات أخرى، وكل ذلك بذر عنفا شبه مقدّس في خيال الجماعات الأصلية كردّ فعل أخذ سمة المقاومة، فقد نشأ عنف بدواعي الحماية والمقاومة والحفاظ على الهويّة.
وتنبغي الإشارة إلى أن الفكر البراغماتي نظر إلى المجتمعات على أنها فئات غير متجانسة، فهو لا يعنى بالمجتمع بوصفه بوتقة انصهرت فيها التشكيلات الإثنيّة والمذهبية والثقافية، بما يؤدّي إلى نشوء هوية وطنية جامعة تحترم الخصوصيات الثقافية، وتراعيها بنوع من التعددية المرنة، بل نظر إلى المجتمع بوصفه جماعات متنافرة تنتظمها القوة والمصلحة، وهي تنسج هوياتها الضيقة في منأى عن الجماعات الأخرى، وما أن تتعرّض مصالح الجماعات للخطر، إلا وتعتصم بذاتها حماية لنفسها، وتحقيقا لمصالحها، متبنية العنف لتحقيق ذلك. فلا وجود لفكرة المصير المشترك، والهويّة الشاملة، والثقافة الجامعة، ويفرض هذا التفسير للهويّات تحيّزات تفرّخ العنف، وفرضه على الجماعات الأخرى، حيث تتلاشى الجماعة، إن لم تكن لها شوكة تذبّ بها عن نفسها، فالعنف مبدأ من مبادئ التفكير البراغماتي. وما يعصف بكثير من أرجاء العالم من عنف له صلة بهذا التفسير، وخاصة بعد أن أخفقت مشاريع التنمية السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وحّل الاستبداد مكان استيعاب التعدّدية الثقافية، وقبول الآخرين المختلفين، ويجعل هذا التفكير المغلق من العنف نوعا من العقيدة الجديدة في مجتمعات مضطربة في أحوالها العامة.
ما برح العنف ملازما لكثير من المجتمعات التي لم تفلح في وضع مسافة بين تخيلاتها، وعواطفها، ومصالحها، ولم تفرّق بين المقدّس والمدنّس، وخلطت بين هذا وذاك، ولم يرسخ التمدّن فيها، فلا يتبيّن لها المسار الذي اختطّته في حياة تقوم على الفتك بالآخرين من غير أن تعرف بمآله. ولطالما استعان ممارسو العنف باعتقاد راسخ مؤدّاه "أنّ الله كان على الدوام في صف الطرف الأقوى" كما ذكرت حنا أرنت. ولم يخفت بريق العنف عبر التاريخ على الرغم من كثير من المحاولات لكبح جماحه، فوتيرته في تصاعد مع التقدّم التقني، وانهيار سلّم القيم التقليدية، والصراعات الدينية والمذهبية، والحركات الاستعمارية، وحركات المقاومة والاستقلال، والحروب الأهلية، والحركات الجهادية، وكلها تسوّغ العنف بذرائع واضحة، وقد رأى "رفائيل لُمكِن" أن العنف "خصيصة ملازمة للنشاط الإنساني، فتاريخ البشرية هو تاريخ العنف متمثّلا في الحرب والإبادة، والغزو والاستعمار، وإقامة الإمبراطوريات بأمر الله أو الآلهة في الديانات التوحيدية أو التعددية، والجمع العقيم بين الديمقراطية والإمبراطورية؛ والثورة، والمجزرة، والتعذيب، والتمثيل بالجثث والقسوة"، وعليه فما الحرب، وهي التعبير الأسوأ عن العنف، إلا "ترخيص ممنوح شرعيا لقتل أناس لا نعرفهم - أو أحيانا نعرفهم حقّ المعرفة على غرار الحروب الأهلية - لكنهم يتحوّلون فجأة إلى طرائد يجب القضاء عليها".
وقد استبطن العنف نوازع المجتمعات القديمة والحديثة، وتجلّى في تمثيلاتها الدينية والأدبية والفنية، ورسم بعض أمجادها القومية، وتوزّع على الأفراد والجماعات، وفيما عدّ عند الأفراد جزءا من طبع وغريزة كان عند الجماعات تعبيرا عن زهو قومي، أو كبرياء دينية، أو إفصاحا عن وهم الإيمان بمرويات تقول بالتفوّق، والأفضلية، ورفعة الأصل، وقد تتداخل دوافعه الفردية والجماعية في ظل أيديولوجيات عدوانية، جعلت من منه أداة لفرضها، كما هو الحال عند سائر حركات التطرّف الديني والقومي. والغالب أن يقع اصطناع العنف بناء على نظام متلازم من الأطماع، والرغبات، والأهواء، التي تلتقط لها دعما من الأديان والثقافات الحاملة للمعتقدات والتخيّلات، فتصبح مفرّخة للعنف، ومحرّضة عليه، بل مشرّعة له، فالعنف هو التعبير عن قدرة مؤذية يمتلكها الفرد أو الجماعة، غايتها الإضرار بالآخرين.
التفسيرات الضيقة للدين تشحن المؤمنين بفكرة رفض الآخر المختلف عقائديا أو مذهبيا، فتنشأ تحيزات لا تقرّ بالشراكة
ولم يغب العنف عن الثقافات القديمة، ومنها الإغريقية التي رأت مكمن العنف في النزاع بين الدين والدولة، ومثالها الأول الصراع بين "بنثيوس" ملك طيبة، وسليل قدموس السوري، و"ديونيزوس" إله الخمر والمتعة، وقد أشار "تيري إيجلتون" إلى أن ديونيزوس هو إله الإلهام والإسراف في البهجة، وهي صفات باعثة على الانتشاء العميق الذي يفضي إلى العنف عند أتباعه، وهم يستمتعون بتقطع الأوصال بمرح يفقدهم صوابهم، فتلك عودة للتعبير عن الغرائز البدائية التي تستمتع بالدم، فيكون طقس النشوة عندهم "أشبه بكرنفال سوداوي". تُقرن ديانة ديونيزوس الاستغرق في مباهج الحياة بالاستمتاع بالدم، ما يعنى تلازم المتعة بالعنف. وهذا الجوهر الغريزي وضع ديونيزوس في تضاد مع بنثيوس، فلم يقبل ببسط النظام على أتباعه، ولم ينجح بنثيوس في إدراك أنّ خليط المتعة والعنف متأصّل في تلك الديانة، وربما في كلّ ديانة، فوقف ضد ديونيزوس بهدف إحلال النظام العقلي محلّ الفوضى الحسية، أي أنّه أراد السيطرة على طقس مُغال في البهيمية، فذلك يتنافى، في تقديره، مع حكم يريد بسط النظام على المجتمع بأكمله، غير أن مقابلة عنف جماعة متهتّكة بقمع حكم مفرط في قوته يؤدّي إلى تقويض بنيان ذلك الحكم، كما دمّر ديونيزوس قصر بنثيوس، وتمزيق جسده بيد عابدات ذلك الإله، فيصبح الملك، ضابط النظام الاجتماعي، فريسة لعنف ديني أهوج.
وحسب إيجلتون، فقد تعذّر على بنثيوس "رؤية أنّ العقلَ، لكي يكون مؤثّرا، لا بدّ له أن يتأصّل داخل قوى لا عقلانية"؛ فيتصدّع المُلك من طرف القوى التي يحاول السيطرة عليها، وإدراجها في النظام الذي يريده، وعلى هذا ينبغي توجيه العنف إلى جهة غير تدمير المُلك نفسه، فالحرص على فرض النظام هو بذاته محاولة الإبقاء على فوضى مستترة، فكلّ رغبة تنفي ذاتها. وعلى هذا، فإن ديونيزوس "يشوّش وينعش في آن"، وديانته الغامضة تبدأ بالانتشاء غير أنها تنتهي باحتساء الدم، وهو نقيض المُلك الذي يشرع بالعنف بدعوى بسط النظام بهدف تحقيق السعادة، فكلّ منهما يتمرأى في الآخر؛ لأنه نقيضه وشبيهه في الوقت نفسه، وكما أنّ لديانة ديونيزوس أعرافها، فإن لمملكة بنثيوس قوانينها، فيكون النزاع بين عرف ديني وقانون وضعي. وفي الوقت الذي يريد فيه بنثيوس تطبيق القانون في طيبة يعلن ديونيزوس بأن ذلك يتعارض مع الأعراف الدينية، وإذ تفرض الأعراف نفوذها عند مريدي ديونيزوس، حيث المتعة والاهتياج؛ فإن الانصياع لقانون بنثيوس يلزمه الردع، وقد أخفق بنثيوس في إدماج المتعة الهوسيّة في سياق نظام يوّفر نشوة مقيدة؛ فالعدالة هي مسألة تحقيق نوع من التكافؤ بين الأعراف والقوانين.