حوار التصحيح وتصحيح الحوار: رؤية لتصحيح النظرة إلى الذات والآخر

حوار التصحيح وتصحيح الحوار: رؤية لتصحيح النظرة إلى الذات والآخر

محمد بن سالم المعشني*

يمكن للمتابع أن يلاحظ بوضوح التصاعد المستمر للحملات الإعلامية والكتابات المسيئة للعروبة والإسلام في بلاد الغرب، منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م التي تتمثل في ضرب مقر وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) وتدمير برجي مركز التجارة العالمي بنيويورك من قبل تنظيم القاعدة.

لقد كان هذا الحدث أمراً فريداً في التاريخ الأمريكي على نحو خاص، والغربي بصورة عامةً؛ فلم تتلقَ دولة غربية كبرى ضربةً موجعة من هذا النوع بهذه الكيفية على الرغم من تاريخ الحروب الغربية الطويل، لا من قبل أية دولة قامت بينهما حرب ولا من قبل أية ثورة أو منظمة، ولهذا ما صدق الغرب أن يتلقى لكمة عنيفة على وجهه من قبل مجموعة قليلة العدد تنتمي لتنظيم شرق أوسطي لم تتضح ملامحه للمراقبين آنذاك بشكل كافٍ، ويختفي قادته ومعظم أفراده في الكهوف والجبال على بعد آلاف الأميال في جنوب غرب آسيا.

فقامت أشد حملات الإساءة للعرب والمسلمين، وبثت أفكار التشويه لحقائق الإسلام، وعملت بعض الدوائر في بلاد الغرب على تخويف الناس مما هو عربي ومسلم، واشترك في كل هذا كتّاب، ومفكرون، وصحفيون، وإعلاميون وساسة، ورجال دين غربيون.

ونجح هؤلاء في إقناع بعض القادة وصناع القرار في بعض الدول الغربية الكبرى بأن الغرب مهدد من قبل الإرهاب الإسلامي، وأن المطلوب هو التحرك العاجل لمواجهة هذا الخطر في مهده قبل أن يتمكن من تحقيق أهدافه؛ المتمثلة في تدمير العالم الغربي واجتثاث الحضارة الغربية!.

ولهذا، طرحت فكرة تحسين صورة العروبة والإسلام في الغرب، من قبل مؤسسات، وهيئات حكومية، رسمية، وغير رسمية، مرتبطة بِها في البلاد العربية، التي أحرجت حكوماتها إحراجاً شديداً من هذه الإساءات، التي تأتي من الدول الغربية الصديقة، ثم أحرجت بدرجة أشد من هؤلاء الشباب العرب المسلمين، الذين يحملون جنسياتها وينتمون إليها، ثم يقومون بضرب المصالح الأمريكية، ويعلنون الجهاد علانية ضدها. وقامت ندوات، وعقدت مؤتمرات، ووجهت شتى وسائل الإعلام، وأرسلت الوفود إلى الغرب، وأنشئت وسائل إعلامية جديدة، هدفها المعلن هو تحسين صورة العرب والمسلمين في عيون الغربيين.

فهذه القوى الغربية المتطرفة أخذت تتعامل مع العالم العربي والإسلامي، وكأن التاريخ بدأ من الحادي عشر من سبتمبر2001م، وكأن كل عربي ومسلم معاد بطبيعته للديمقراطية والليبرالية والثقافة الغربية. ولم تلتفت هذه القوى الغربية المتطرفة إلى ما في العالم العربي والإسلامي، من تنوعات فكرية، وتباينات في الرؤى السياسية، كما أنها لم تميز بين المعتدلين والمتطرفين، وبين الإسلاميين والليبراليين، أو بين الأصدقاء وغير الأصدقاء في العالم الإسلامي الواسع الكبير.

إن ما يجدر بنا فعله في ظل المخاطر والتحديات التي تواجهنا، وتهدد وجود أمتنا المادي والمعنوي، هو البحث عن خيارات أفضل لحماية الأمة وللنهوض بِها من جديد. ونقطة البدء هي دراسة حالة الانحدار، والتراجع الحضاري، الذي نعيشه في الداخل، وحالة العداء والرفض الذي نواجهه في الخارج من قبل الغرب، فنحن بحاجة إلى أن ندرس بعمق وشمول ودقة، هذا الانحدار الداخلي، وهذا العداء الغربي الخارجي، وما لم نقم بدراسات من هذا القبيل، فلن نخرج مما نحن فيه من أزمات ومشكلات، بل قد نخلق لأنفسنا مشكلات جديدة، ولا نتفادى ما يدبره الأعداء لنا.

فالجهات المعادية للعرب والمسلمين في الغرب، لن تقف في عداوتها عند مستوى الصورة السيئة عن العروبة والإسلام وتكريسها في ضمائر الغربيين باستمرار؛ فالعلاقة بيننا وبين الغرب لم تبدأ بهذه الصورة، ولن تقف عندها، أو تنتهي المشكلات بين الطرفين إذا تحسنت هذه الصورة أو تغيرت النظرة، فالأمر أبعد من كل هذا بكثير، ولهذه العلاقة المتوترة جذور عميقة وأسباب متعددة.

إن هذه الصورة السيئة التي يحملها الغرب عنا، وتزعجنا كثيراً أو قليلاً لن تتغير أبداً إلا إذا تغيرت معايير وموازين الغرب، أو تغيرنا نحن وفقاً لما يريد الغرب. لذا؛ فلا ينبغي أن نخدع أنفسنا، فنتوقع أنه يمكننا أن نقنع الغرب بتصحيح نظرته إلينا من خلال الحوار، وتغيير بعض المظاهر السلبية في حياتنا.

وما دام الأمر كذلك، فإن ما ينبغي تغييره وتصحيحه، هو نظرتنا نحن إلى الغرب، وإلى أنفسنا، وإلى العالم الآخر من حولنا.

شروط التصحيح

إن الشرط الأول اللازم الذي لابد من تحققه للقيام بهذا التصحيح، هو تكوين معرفة شاملة، وعميقة، وصحيحة عن الغرب، وعن الذات، وعن العالم الآخر غير الغرب.

فقلة المعرفة بالأشياء، أو الجهل بها، يؤدي حتماً إلى الخطأ في النظرة إليها، ثم الخطأ في الحكم عليها، ثم في التعامل معها.

فلو لم تكن معرفتنا بالغرب ناقصة ما اختلفنا اختلافاً حاداً في النظر إليه، فهو العِلم والتقدم، والحرية، والعدالة، والرخاء، والأمن، والأمان، والنظام، والأخلاق في نظر بعض النخب العلمانية، والليبرالية، التي ترى الخلاص مما تعانيه الأمة في تقليد الغرب واتباع خطواته والسير خلفه في كل شيء.

وهو في نظر مجموعات من السلفيين، والجهاديين، وبعض القوميين، وكثير من العوام، فساد وانحلال، وجشع واستغلال، وكفر وإلحاد، وتبشير واستعمار.

والحقيقة الكاملة عن الغرب ليست في أي من هاتين النظرتين السابقتين؛ فللغرب محاسن كثيرة، وفضائل على البشرية لا تنكر، إلى جانب مساوئه الكثيرة أيضاً. وليس في هذا إشكال أبداًَ، وإنما المشكلة في مدى قدرتنا على أن نستفيد من محاسن هذا الغرب، وأن نتجنب مساوئه وننجح في مواجهته، وهو ينظر إلينا بوصفنا أعداء من الدرجة الأولى، وهو غير مستعد لتقبلنا إلا إذا قبلنا كل ما عنده، أو معظم ما عنده مقابل التخلي عن كل ما عندنا أو معظمه.

فلكي نحمي أنفسنا من هذا الغرب، ونتعامل معه بتكافؤ واقتدار، يلزمنا الولوج إليه من الداخل، لننظر إليه بعيوننا نحن، ونتكلم عنه بلغتنا، ونحكم عليه بمعاييرنا؛ لأننا حتى الآن، لا نزال نتكلم عنه بلغة لا هي لغته، ولا هي لغتنا، وننظر إليه بعيون لا هي عيونه ولا هي عيوننا، ونحكم عليه بمعايير لم نتفق نحن عليها فيما بيننا.

إننا بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلى معرفة جميع ما في الغرب من خير وشر، وقوة وضعف، ونظم وتشريعات، وعقائد وفلسفات، وقوى وأحزاب، وجمعيات، ومنظمات، ومؤسسات وهيئات. إنا بحاجة إلى معرفة ما يقرِّب، وما يباعد بيننا وبينه من أفكار وديانات، ومواقف، وسياسات.

مع ما سبق وبغير هذه المعرفة، لا يمكننا التعامل مع الغرب تعاملاً، يمكِّننا من الاستفادة منه، أو التحرر من سيطرته وهيمنته أو التصدي له، والوقوف في طريقه إذا جار علينا، أو حتى تجنب المخاطر، والويلات التي قد تأتينا منه إذا بقينا على ما نحن عليه اليوم من تشرذم، وضعف وصراعات، وتبعية وتخبط في رسم السياسات التنموية والنهضوية، أوسياسات مواجهة المشكلات القائمة أو الطارئة.

ولكي نحصل على هذه المعرفة الشاملة عن الغرب، لابد من القيام بدراسات يمكن تسميتها (دراسات غربية) أو (دراسات استغرابية)، يصدر قرار بإقامتها، وإنشائها من أعلى السلطات في العالم العربي والإسلامي، وترصد لها ميزانيات سنوية، ويقام لها مصادر دخل خاصة، وثابتة، وتمنح الاستقلال المالي والإداري الكامل بعد قيامها، وتترك إدارتها، ووضع خططها، وأهدافها وبرامجها، وكل ما يتعلق بِها للعلماء والباحثين والمفكرين مع إشراك الأفراد والجهات الخاصة، والعامة في الوطن العربي والإسلامي، في عمليات التخطيط، والتنسيق، والبناء، والتنفيذ، كل بحسب ما يقدر عليه.

وكم هو جميل، بل ضروري أن نقوم بتبني هذه الفكرة ودراستها، وأقل ما يمكن البدء به في هذا إنشاء جامعة أو مركز أو هيئة خاصة تعنى بمثل هذا النوع من الدراسات. ولنا في الغرب أسوة حسنة في هذا؛ بإقامته ما سمي بالاستشراق قديماً أو الدراسات الشرقية كما تسمى اليوم، فقد أنشئت في الغرب هيئات، ودربت كوادر، وخصص ميزانيات لدراسة العالم الإسلامي، دراسة مفصلة وشاملة، من كل الجوانب، حتى وجدت في الغرب دراسات وأبحاث وعلماء، ومتخصصون في حقول المعرفة المختلفة، ذات الصلة بالعالم الإسلامي قديماً وحديثاً، ربما أكثر مما يوجد من هذا في العالم الإسلامي نفسه.

فلا تكاد تخلو جامعة غربية مرموقة، من قسم أو وحدة، تعنى بشيء من هذا. وقد لوحظ أن الاهتمام بالإسلام والمسلمين، أخذ يزداد في بلاد الغرب على نحو متصاعد لم يسبق له مثيل منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

كل هذا، يجعل من الضروري التفكير بجدية في إقامة ما يمكن تسميته (الدراسات الغربية) خدمة لمصالحنا العليا قبل أي شيء آخر؛ لأن امتلاك المعرفة ضرورة حضارية، لكون المعرفة سلاحاً لا ينتصر في أي معركة عسكرية أو حضارية من دون امتلاكه.

تصحيح ذاتي
إن تصحيح النظرة إلى الذات، مقدم على تصحيح نظرة الآخر إلى الذات فنحن لا نستطيع تكوين صورة صحيحة (للآخر) إلا إذا كنا نملك صورة صحيحة (للأنا). فغياب وجود نظرة صحيحة للأنا يقود إلى التعلق (بالآخر) إعجاباً،ويدفع إلى أخذ ما عنده وتقليده، حتى في النظرة إلى الذات.

ويوم يصبح المرء أو الشعب ينظر إلى ذاته بعيون غيره، أو يحكم عليهما بمعايير عدوه، فهذا دليل على ضعفه، وذله، وجهله، بنفسه وبطبيعة عدوه، وهذا هو الاستلاب بعينه.

ومن المؤسف، أن هذا هو ما حصل ويحصل في العالم العربي الإسلامي اليوم، بعد أن نجح الغرب -إلى حد ما- في تغيير نظرتنا إلى أنفسنا، وحضارتنا وجوانب من ديننا، وتمكن من تشكيلها وفقاً لمعاييره وتصوراته.

فغدا في الأمة من يزدري ماضينا، وحاضرنا، وقيمنا، وأخلاقنا، ويرى بأن تخلفنا بسبب حضارتنا وثقافتنا. ولربما غالى البعض من هؤلاء ورأى أن التخلف الحضاري مرتبط بطبيعتنا وتركيبتنا. ولكي نخرج من هذا التخلف والجمود، وحياة القرون الوسطى -في نظر هؤلاء- فلابد لنا من تغيير قيمنا وموازيننا وتصوراتنا أو تعديلها بشكل جذري حتى تتوافق مع قيم وموازين وتصورات العصر التي هي تصورات غربية.

ومقابل هذه النظرة التي تلغي (الأنا) وتذيبها في الآخر، هناك من يرى (الأنا) رؤية تقوم على التضخيم والمبالغة، وكأنه لا أحد في الدنيا غيرنا، فلا حضارة غير حضارتنا، ولا أخلاق غير أخلاقنا.

أوكأن الأمة بعافية حضارية كاملة، وكل ما تحتاج إليه، هو تحسين صورتها في الخارج، وإجراء بعض التعديلات من الداخل.

بل هناك من يعتقد أنه يمكن إقامة المشروع الحضاري الإسلامي، وتقديمه للعالم من جديد؛ اعتماداً على فهم سطحي لكثير من النصوص الشرعية، والآراء الفقهية؛ الموجودة في بعض كتب الفقه والتفسير، وكأن كل ما ينقصنا هو تطبيق هذه الأحكام والآراء الفقهية، من غير وعي كافِ بأن الأمة تحتاج إلى تصحيح كثير من المفاهيم الدينية والدنيوية، وأن مشكلاتها متعددة ومتراكمة، وأن تطبيق النصوص مرتبط بشروط وظروف موضوعية يجب إيجادها قبل تطبيق النصوص والأحكام.

ولم ينتبه هؤلاء إلى أن بناء الإنسان المسلم الصالح على العقيدة والأخلاق الإسلامية أمر ذو أهمية قصوى للأمة وللدين نفسه، يجب على الأمة التفكير به والتركيز عليه، ومن ثم القيام به، قبل التفكير بتطبيق الأحكام.

إن هذا التفاوت الكبير، والتضارب الحاد في النظر إلى (الأنا)، مرده إلى غياب (الأنا الكلية) التي لا تقوم نهضة، أو تتم وحدة وطنية أو قومية إلا بها.

فهي التي توحد أي مجموعة بشرية في الأفكار، والخطط، والأهداف، والمشاعر، والوجدان، والمزاج، على الرغم مما قد يكون بينها من خلافات وتنوعات شتى. فهاهم يهود نجحوا في إقامة إسرائيل، حين تجمعوا من كل بلاد الدنيا في فلسطين، تحت مظلة (الأنا الكلية)، التي تشعرهم بأنهم كيان واحد، وأمة واحدة. وهاهم الأوربيون اليوم يذيبون (أنَواتهم) الجزئية في (الأنا الكلية)، وهو ما حصل في الهند، وفي الصين وغيرها.

فالأنا الكلية، مظلة يستظل بِها أقوام وشعوب، يشعرون بأنها رابطهم المشترك الذي به ومن خلاله يعرفون أنفسهم، ويعرفهم غيرهم.

وهذه الأنا الكلية، هي التي قامت بها، وعليها الحضارة العربية الإسلامية من قبل، وتقوم بِها وعليها كل حضارة قوية اليوم. ولن تقوم لنا قائمة، أو تشرق شمس حضارتنا وتسطع بنورها على العالم، إلا بوجود هذه (الأنا الكلية) التي تذوب فيها جميع (الأنَوات) فتنتهي معها أكثر الصراعات والتناقضات التي ظهر أكثرها بسبب غياب الأنا الكلية.

فلنبحث عن سبل فعالة في بناء هذه (الأنا الكلية)، التي يرتبط خروجنا من الانحدار الحضاري بقدرتنا على إيجادها، وبنائها على أسس سليمة. ومن أول ما ينبغي عمله في هذا،هو تحديد هذه الأنا الكلية وتعريفها بشكل واضح، ثم زرعها في القلوب والعقول من خلال البيت، والمسجد، والمدرسة، والجامعة، والجمعية، والنادي، والجماعة، والحزب والمؤسسات المختلفة في المجتمع. فهذه (الأنا الكلية) مغيبة، ولا أثر فعلي لها في واقع حياتنا، على الرغم من حديثنا عن الأمة العربية الإسلامية الذي يرد في المناسبات القومية، أو الدينية، أو عند الشعور الجماعي بالخوف والخطر الخارجي، فنحن في واقع الحال لم نعد أمة واحدة، كما كان يجب أن نكون، ولكننا أمم وشعوب، لكل منها (أنا) خاصة، أحلتها مكان (الأنا الكلية)، وعملت على بنائها، وترسيخها، حتى ملأت عقولنا، وأسماعنا، وأبصارنا، وصارت عنواناً لكل قطر من أقطارنا، الأمر الذي أفقدنا (الأنا الكلية)، التي فقدنا معها القوة، والعزة، والمجد، والغنى.

إن وجود (الأنا الكلية)، شرط من شروط قيام نهضة عربية كبرى، أو أي نهضة في أي قطر، ولا غنى لأحد أوجهه منا عنها، حتى الأنا الجزئية التي تمثلها الدولة القطرية هويتها الوطنية، لن تبقى قائمة في ظل طوفان العولمة، والفضاءات البشرية والحضارية الكبرى، إلا إذا ارتبطت بأنا كلية تحميها وتسندها.

ويجب علينا أن نجعل بناء هذه الأنا الكلية هدفاً استراتيجياً ضمن الأهداف الإستراتيجية التي نضعها لأنفسنا للخروج من الوهن الحضاري والوصول إلى الانبعاث الحضاري المنشود.

ولكي لا نعرقل هذا المشروع، ونعيقه بالأنا الجزئية، التي ظهر فشلها على أكثر من صعيد، من الحكمة والواقعية، أن نعترف بهذه (الأنا الجزئية)، بوصفها واقعاً، وجد في ظل الاستعمار، وطغيان الأنانية، والأنا الفردية، مع العمل على تغيير مفهوم هذه الأنا وتحويلها، من أنا بديلة للأنا الكلية، إلى أنا متكاملة، ورديفة لها، لا تعارضها أو تناقضها. ولنا مثل فيما تفعله أوروبا، والولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا الاتِّحادية والهند، وغيرها من المجموعات البشرية ذات الثقافة العامة الواحدة، التي تستظل بمظلة (أنا كلية) واحدة بجانب (أنَوات) لا تتصادم مع الأنا الكلية ولا تخرج عن سيطرتها أو تتعارض معها.

عقبات في الطريق

من غير شك، فإن عملاً كهذا ستعترضه عقبات كبيرة، لعل من أكبر هذه العقبات، وجود (أنَوات) جزئية، في كل قطر عربي ظهرت في غياب (الأنا الكلية) وقدمت لتكون بديلاً عنها.

وقد طرحت برامج خاصة ببناء هذه (الأنَوات) الجزئية، لصرف الإنسان العربي عن (الأنا الكلية) وشغله عنها، والإيحاء له بأن هذه الأنا الجزئية، هي ذاته الحقيقية ليس في حاضره فقط، بل في ماضيه ومستقبله.

والعقبة الثانية، التي تعترض سبيل بناء الذات الكلية، هي غياب مفهوم واضح محدد للأنا الكلية، وتعدد الرؤى حولها.

فالحركات الإسلامية لها مفهوم خاص عن هذه الأنا، مخالف لمفهوم الأنا الكلية، عند الحركات القومية، والحركات القومية، لها مفهوم خاص للأنا الكلية، ليس مطابقاً لمفهوم الأنا الكلية، عند الحركات الليبرالية، بل إن أصحاب الاتجاه الفكري والسياسي الواحد، لهم أحياناً أكثر من وجهة نظر حول مفهوم الأنا الكلية وبنائها.

ومن العقبات الرئيسة، التي تعترض بناء ذاتنا الكلية، موقف (الآخر) الذي بلغ درجة عالية من القوة والهيمنة والغرور والظلم والتعصب، ضد الآخر الذي حدده سلفاً بأنه نحن العرب والمسلمين.

فهو لن يسمح لنا ببناء أنا كلية، وسيعمل بكل وسعه لعرقلة بناء هذه الذات؛ لأنه يرى بأن بناء الذات لا يكون إلا على حساب الآخر على نحو ما عمل هو في بناء الأنا الأوروبية، التي قامت على تفكيك الآخر وسلبه (أناه) وإقصائه وعزله.

لقد ساهم الغرب بدور كبير، في هدم بناء الأنا الكلية العربية الإسلامية، وشجع قيام الأنا الجزئية، ودعمها، أو أقامها بشكل مباشر، من هنا لا يمكن أن يقف مكتوف الأيدي، أمام قيامها من جديد، خاصة إذا علمنا بأنه لا يسمح بوجود أنا جزئية، خارج مواصفاته ومعاييره يمكن أن تذكِّر بالأنا الكلية، وتقود إلى قيامها.

فذاكرة الغرب قوية جداً، وهو يقرأ التاريخ، ويعلم جيداً أن الأمة العربية الإسلامية التي هزمته عسكرياً وفكرياً، وتفوقت عليه حضارياً، في حقب خلت من الزمان، وكادت أن تستوعبه وتحتويه احتواءً كلياً، ما كان لها أن تفعل ذلك، إلا في ظل وجود (الأنا الكلية) التي لا تتوحد أو تنهض إلا بها.

ومن الأمور التي يحسن بنا التوقف عندها، ونحن نبحث عن سبل النهوض، وحلول للمشكلات التي تواجهنا، هو أننا صرنا ننظر إلى العالم من حولنا، ولا نرى إلا الغرب، فهو الذي يسحرنا، وهو الذي يخيفنا.

وهو الذي يستحوذ على اهتمامنا دون غيره من شعوب العالم الأخرى، وكأننا وقعنا تحت تأثير الإعلام الغربي الذي يجسد هذا العالم الكبير في أوروبا والغرب، ولا يكاد يرى سواهما. فكثيراً ما يردد بعض قادته عبارات مثل: المجتمع الدولي، والعالم المتحضر، وهم لا يقصدون بذلك إلا العالم الغربي في الغالب. ومن قوة تأثير الغرب فينا أصبحت عيوننا لا تكاد ترى من الجهات إلا جهة الغرب، بل صرنا نتوقع ونعتقد أن شمس حضارتنا ستطلع من هناك، غير مدركين أن الغرب كان ولا يزال مصدر الخطر علينا.

فلنتذكر العالم الرحب الواسع من حولنا، لنتذكر أفريقيا المجاورة ذات الأكثرية المسلمة، ولننظر إلى الشرق القريب منا في أمور كثيرة، ففي الشرق أمم ناهضة، وأخرى في طريقها إلى النهوض، وفي الشرق كتل حضارية ضخمة تكاد توازي الكتلة الغربية، أو تنافسها، كاليابان والصين والنمور الآسيوية، والهند.

وهذه الأمم والحضارات تشترك معنا في أنها شرقية من ناحية المزاج العام، وتشترك معنا في بعض أنماط الثقافة والعادات والطبائع، وتشترك معنا في مواجهة الغرب والتبرم من عنجهيته وغروره، وتشترك معنا في وجود علاقات تاريخية حسنة، كالهند والصين، وتشترك معنا في وجود شعوب وجاليات إسلامية ضخمة تعد بمئات الملايين.

ولا ننسى أن أكبر وأقوى الدول الإسلامية اليوم تقع في الشرق، وأن المد العربي الإسلامي لم يتوقف هناك، وفرص الاستفادة من التقدم العلمي، الذي يحرزه الشرقيون مواتية، لنا أكثر بكثير مما يتيحه الغرب.

والدليل على ذلك ما تقدمه هذه الدول لبعضها؛ على نحو ما فعلت اليابان لكوريا وماليزيا، وإندونيسيا وغيرها، وما تفعله الصين مع باكستان في مجال الصناعة العسكرية. وفوق هذا كله فإن الشرق لم يكن لنا مصدر خطر داهم، أو صراعات وصدامات دائمة كما كان الغرب دائماً.

************************

*) باحث وأكاديمي من عمان.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=548

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك