السلوك الإيجابي

عبد الدائم الكحيل

 

لو تأملنا تعاليم القرآن والأوامر والنواهي، نلاحظ أنها مليئة بالسلوك الإيجابي، ولذلك، فإن المؤمن أكثر الناس سعادة في حياته، وهذا ما أثبته العلماء مؤخرًا.

في مقالة نشرها موقع بي بي سي، وجد الباحثون بجامعة تكساس، أن السلوك الإيجابي يؤجل مراحل الشيخوخة. وأضاف الباحثون أن الأشخاص الذين ينظرون إلى الحياة بنظرة يملؤها الأمل، تقل عندهم ظهور علامات الهرَم مقارنة بالمتشائمين. وقال الباحثون إن نتائج الدراسة التي نشرت في مجلة “سيكولوجي أند إد جينج”، تشير إلى أن العوامل النفسية بالإضافة إلى الجينات والصحة البدنية، تلعب دورًا في تحديد مدى سرعة بلوغ سنّ الشيخوخة.

وأجرى فريق البحث بجامعة تكساس تجارب على 1558 من كبار السن، لبحث ما إذا كانت هناك علاقة بين الأحاسيس الإيجابية، وبداية مرحلة الوهن. وفي بداية الدراسة قبل سبع سنوات، كان جميع المتطوعين للمشاركة في الدراسة، في صحة جيدة.

وقام الباحثون بقياس تطور أعراض الشيخوخة عند المشاركين، من خلال قياس فقدانهم للوزن والجهد وسرعة السير وقوة قبضتهم. وتوصل الباحثون إلى أن المشاركين الذين يحملون رؤية إيجابية للحياة، كانوا أقل عرضة لأعراض الوهن من غيرهم. وأكد الباحثون على الحاجة لإجراء مزيد من الأبحاث لتوضيح السبب في هذه العلاقة.

غير أن الباحثين تكهنوا بأن المشاعر الإيجابية قد تؤثر بشكل مباشر على الصحة عن طريق تغيير التوازن الكيميائي في الجسم. وربما كان السبب في هذه الصلة هو أن التوجه المتفائل يساعد في تعزيز صحة الإنسان من خلال ترجيح نجاح هؤلاء الأشخاص في الحياة.

وهنا أود أن أتذكر معكم قوله تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ((يونس:58)؛ فهذه الآية تخبرنا بأن المؤمن يفرح برحمة الله تعالى. هذا الفرح هو نوع من أنواع السلوك الإيجابي، وهو نوع من أنواع التفاؤل الذي يمنح المؤمن السعادة وطول العمر، ويزيد من مناعة جسده ضد الأمراض.

يقول الدكتور “جلين أوستير” رئيس فريق البحث: أعتقد أن هناك علاقة بين العقل والجسم، حيث إن أفكارنا وسلوكنا ومشاعرنا تؤثر على الوظائف البدنية وعلى الصحة بشكل عام، إما عن طريق آليات مباشرة مثل وظائف جهاز المناعة، أو عن طريق آليات غير مباشرة مثل شبكات الدعم الاجتماعية.

وقد أشارت دراسة أخرى نشرت في المجلة نفسها، إلى أن التوجه العقلي قد يؤثر في الأداء البدني. وفي هذه الدراسة طلب فريق البحث بجامعة نورث كارولاينا من 153 شخصًا من مختلف الأعمار، إجراء اختبارات على الذاكرة بعد أن سمعوا كلمات إيجابية وسلبية.

وتضمنت العبارات السلبية الاضطراب والعته والخرف، أما العبارات الإيجابية فتضمنت الإنجاز والنشاط والتميز. وأظهرت النتائج أن أداء الذاكرة عند المشاركين في الدراسة من البالغين، كان ضعيفًا بعد أن تعرضوا لعبارات سلبية.

وعلى النقيض، كان هناك اختلاف كبير في أداء الذاكرة بين الشباب والبالغين الذين تعرضوا لعبارات إيجابية. وقال الباحثون: إن دراستهم تشير إلى أنه إذا تم التعامل مع كبار السن على أنهم أعضاء فاعلون في المجتمع، فإنهم سيكونون كذلك. وقال “توماس هيس” رئيس الفريق العلمي: قد تكون هناك أسباب اجتماعية ذات تأثير قوي على أداء ذاكرة البالغين.

وهنا نتذكر حديثًا نبويًّا رائعًا ومليئًا بالتعاليم الإيجابية، يقول صلى الله عليه وسلم: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍّ خيرٌ” (رواه مسلم). فهذا يحرِّض المؤمن على أن يكون قويًّا ليس في جسده فقط، بل في إيمانه وثقافته وأخلاقه وصبره.

والصبر هو سلوك إيجابي عظيم لم يدرك العلماء أهميته إلا حديثًا، ولكن الله تعالى جعل جزاء الصبر دخول الجنة بغير حساب: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)(الزمر:10).

كذلك فإن القرآن يخبرنا بأن المؤمن لا يحزن أبدًا، لأن الحزن سلوك سلبي. ولو تأملنا كلمة “تحزن” في القرآن، وجدناها مسبوقة بكلمة “لا” دائمًا، وهذا يدل على أن المؤمن لا يحزن. ولنتأمل في هذه الكلمات النبوية التي جاءت في أصعب الظروف التي مر بها النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وهو في الغار، يقول تعالى:  (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا)(التوبة:40).

التفاؤل لزيادة العمر

وقد عثر فريق من العلماء على دليل يثبت ما للتفاؤل من محاسن على حياة المرء؛ فقد توصل فريق من علماء النفس الأمريكيين إلى أن الأشخاص المنشرحي البال، المتفائلين في نظرتهم إلى التقدم في السن، يعيشون لمدة أطول من أقرانهم الذين يستبد القلق بهم.

الآن لنتأمّل هذه الآية في قوله تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين((آل عمران:139)؛ إنها آية تحث المؤمن على السلوك الإيجابي في عدم الوهن وعدم الحزن. ويقول العلماء: إن إحساس الإنسان بالوهن، يضعف من جهاز المناعة لديه، كذلك شعور الإنسان بالحزن الدائم، يسبب له الاضطرابات النفسية المختلفة.

وجاء في بحث أنجزه الفريق التابع لجامعة “ييل” في ولاية كونيكتيكات، أن الأشخاص الذين يتملكهم الخوف من الشيخوخة، تظهر عليهم أعراض التقدم في السن بسرعة أكبر. ويضيف العلماء في البحث الذي نشروه في مجلة “بيرسوناليتي أند سوشيال سايكولوجي” بأن من يتقبلون الأمر برحابة صدر، يمكن أن يعيشوا سنوات أطول ممن يحاولون الكف عن التدخين أو يمارسون التمارين الرياضية.

إن المؤمن لا يخشى الشيخوخة، بل يحب لقاء الله، ولذلك قال تعالى: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ((العنكبوت:5). والمؤمن يكون سعيدًا لحظة الموت فلا يخاف ولا يحزن، يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ((فصلت:30). وتأملوا كم تحوي هذه الآيات من رسائل إيجابية للمؤمن، تجعله يعيش فرحًا سعيدًا فلا يحزن ولا يخاف، وبالتالي إن هذه الآيات تعالج القلق حيث تفشل وسائل علم النفس.

وقد تبين للباحثين الأمريكيين، أن من لا يخيفهم تَقدُّم قطار الحياة، يعيشون في المتوسط سبع سنين ونصف أكثر من أولئك الذين يقضون وقتهم حسرة على ما مضى من أيامهم. كما أعرب الفريق الذي تقوده الدكتورة “ريبيكا ليفي” عن اعتقادهم بأن التعامل السلبي مع عملية الشيخوخة، يكون له تأثير مباشر على التشبث بالحياة.

وقال العلماء: إن إيجابيات القبول بقانون الشيخوخة، أكبر بكثير من العمليات ذات الطابع الفيزيولوجي؛ كخفض ضغط الدم، والكوليسترول، اللذين يعتقد أنهما يمنحان فرص حياة تبلغ أقصى درجاتها أربع سنوات إضافية.

وهذا يعني أن العامل النفسي أهم بكثير من العامل الفيزيولوجي، بمعنى آخر؛ فإن التعاليم الإيجابية التي يتلقاها الإنسان ويمارسها، لها أثر كبير على سعادته وطول عمره أكثر من تأثير الدواء والعناية الطبية. ولذلك فإن القرآن مليء بالتعاليم الإيجابية والتي لا يتسع لها هذا البحث، ولكن كمثال على ذلك، نتأمل قوله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(الزمر:53)؛ إنها آية مفعمة بالرحمة، ومليئة بالتفاؤل وعدم اليأس. وهذا يذكرنا بقصة سيدنا يعقوب عليه السلام بعد ما فقَد ابنيه يوسف وأخاه، فلم ييأس من رحمة الله، حيث خاطب أبناءه: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ((يوسف:87)؛ لقد اعتبر القرآن أن اليأس هو كفر بالله تعالى، وذلك ليعطينا رسالة قوية بأن اليأس من رحمة الله محرم في الإسلام، وهذا ما مارسه المسلمون الأوائل، فمنحهم القوة، وفتحوا به الدنيا.

كما أن تأثير التعامل الإيجابي مع التقدم في السن، يكون أوضح من عوامل أخرى؛ كالحفاظ على خفة الوزن، والامتناع عن التدخين، وممارسة التمارين الرياضية… وهي عوامل يسود الاعتقاد بأنها يمكن أن تضيف -في أقصى الأحوال- ثلاث سنوات إلى حياة المرء.

وقد بنى الباحثون خلاصتهم على بحث شمل 660 متطوعًا، تتراوح أعمارهم بين خمسين عامًا فما فوق. وقد قورنت معدلات الوفاة عند من شملهم البحث، بكيفية إجابتهم على استطلاع للرأي أجري قبل اثنين وثلاثين عامًا. فقد سئل المستَجْوبون عن موافقتهم أو اعتراضهم على مجموعة من المقولات من قبيل: “بقدر ما تصبح كبيرًا في السن بقدر ما تصبح عديم الفائدة”. ويقول فريق الدكتورة “ليفي”: إن التشبث الأكيد بالحياة يفسر -بشكل جزئي- العلاقة بين التفكير الإيجابي وطول العمر.

غير أن هؤلاء الباحثين يشيرون إلى أن هذا ليس السبب الوحيد لذلك، فبرأيهم يلعب الإجهاد دورًا آخر في التأثير على القلب. وكان بحث سابق قد أظهر أن قلوب وشرايين المتشائمين من التقدم في السنّ، لا تستجيب بشكل جيد للإجهاد والضغط.

ويقول الباحثون: إنه من المحتمل أن التشبع بمواقف المجتمع السلبية من الشيخوخة، قد يكون لها تأثير على المرء وفيه، من دون أن يعلم بذلك. ويؤكد العلماء أن دراستهم تحمل رسالتين؛ أولاهما محبطة، ومفادها أن النظرة السلبية للذات، تقلل من احتمالات الحياة. والأخرى مشجّعة، وفحواها أن النظرة الإيجابية للذات، يمكن أن تطيل العمر. ونبه العلماء في الوقت ذاته، إلى أن تعامل المجتمعات الغربية بشكل غير إيجابي مع المتقدمين في السنّ، يمكن أن يفاقم المشاكل.

ونستطيع أن نستنتج من هذه الدراسات ما يلي:

1- التفاؤل يزيد من مقاومة الجسم للأمراض، ويمنح الإنسان السعادة في حياته. وهذا سلوك نبوي، لأن سيدتنا عائشة رضي الله عنها عندما سئلت عن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم قالت: “كان خُلُقُه القرآن” (رواه مسلم)؛ فقد طبق صلى الله عليه وسلم القرآن تطبيقًا كاملاً، ولذلك حصل على السعادة الحقيقية، ويجب علينا أن نقتدي به في سلوكنا، فتكون أخلاقنا هي القرآن.

وعلى سبيل المثال، هناك قاعدة إلهية للتعامل مع المصاعب والمشاكل اليومية، وحيث يعجز الطب النفسي عن إعطاء الرضى بالواقع، نجد القرآن يمنحنا هذا الرضى، يقول تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)(البقرة:216)؛ فلو طبقنا هذه الآية، زالت جميع المشاكل والهموم وما تسببه من قلق وخوف، لأن المؤمن يرضى بقضاء الله ولو كان الظاهر أن فيه الشر والسوء، ولكن الخير قد يكون بعد ذلك، فينتظر المؤمن هذا الخير، فيكون قد حقق التفاؤل المطلوب، وابتعد عن الحزن، وهذا علاج ناجع للقلق.

2- التفكير الإيجابي أهم وأكثر فاعلية في علاج الأمراض من العلاج الطبي. بل إن أطباء الدنيا فشلوا في منح الأمل أو السعادة لإنسانٍ أشرف على الموت، ولكن تعاليم القرآن تمنحنا هذه السعادة مهما كانت الظروف.

لقد قالت فاطمة رضي الله عنها وأبوها صلى الله عليه وسلم على فراش الموت: وا كرباه، فقال لها صلى الله عليه وسلم: “لا كرب على أبيك بعد اليوم”. انظروا إلى هذا التفاؤل؛ النبي صلى الله عليه وسلم لحظة الموت، كان سعيدًا وفرحًا بلقاء ربه، فماذا عنا نحن المسلمين؟

3 – التعامل مع الواقع برضى نفس وقناعة، يجعل الإنسان أكثر سعادة. والإنسان الذي يتذمر ولا يرضى بما قسم له من الرزق، نجده أكثر تعاسة، ويكون نظامه المناعي ضعيفًا. وهذا دليل على أن التفكير بالأمراض والخوف والحزن والتفكير السلبي، يزيد من احتمال الإصابة بالأمراض المزمنة. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس تفاؤلاً برحمة الله، وكان يحضّنا على التفاؤل والرضى، حيث يقول: “ما من عبدٍ مسلم يقول حين يُصبح وحين يُمسي ثلاث مرات: رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا، إلا كان حقًّا على الله أن يُرضيه يوم القيامة” (رواه الترمذي).

إن كل ما سبق تلخصه لنا آية خاطب بها الله نبيَّه، ليعلمنا كيف نسلك سلوكًا إيجابيًّا في حياتنا، يقول تعالى: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)(النحل:127). الصبر وعدم الحزن وعدم التذمر والضيق، كل هذا له نتيجة، ولكن ما هي؟ هذا ما نجد الجواب عنه في الآية التالية: (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)(النحل:128).

(*) باحث في الإعجاز العلمي والرقمي في القرآن والسنة / سوريا.

المراجع

(1) http://news.bbc.co.uk/hi/arabic/sci_tech/newsid_3652000/3652066.stm

(2) http://news.bbc.co.uk/hi/arabic/sci_tech/newsid_2159000/2159103.stm

المصدر: https://hiragate.com/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%84%d9%88%d9%83-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d9%8a%d8%ac%d8%a7%d8%a8%d9%8a/

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك