أثر الاختلالات الاجتماعيّة الكبرى في تحقيق المنعطفات التّاريخيّة

خالد المطلوب

 

تحقّقت المنعطفات التّاريخيّة المهمّة الّتي مرّت على البشريّة، عقب حركات مجتمعيّة كبرى هدّامة أو بنّاءة على حد سواء، فالهدم والتّدمير يمثّل صفعة قويّة تضع المجتمعات الإنسانيّة أمام تحدي البدء بالبناء مرّة أخرى، فتستلهم في هذا البناء مجموع الخبرات المتراكمة لتنهض من جديد. أمّا البناء فوق ما هو قائم فيبدو تحدّيا من نوع آخر، ولعلّنا يمكن أن نضع في هذه الخانة كلّ ما تمكّن إنسان ما قبل التّاريخ من اكتشافه بالصّدفة أو اختراعه قصدا، بناءا على حاجة ملحّة قادته إليها دوافع المحافظة على النّوع ومواجهة المشكلات الكبيرة الّتي تقف عائقا في طريق الحياة، فيما كان تطوّر قدرات الدّماغ البشريّ وتفرّده في ميزة الإبداع عاملا رئيسيا في هذ السّياق، يضاف إلى هذين العاملين عاملا آخر يكمل ثالوث التّقدّم البشريّ؛ هو البيئة وما توفّره من خامات ومواد. وفي كلّتا الحالتّين تجيء القفزة التّاريخيّة المتحقّقة واضحة وراسخة وتصبّ في صالح التّقدم البشريّ عامّة.

أخذت التّحوّلات العميقة الّتي مرّ بها الإنسان في تاريخه الطّويل، مكانها في تعزيز تقدّمه وتحسين حياته، فقد توصّل الإنسان -من ضمن ما توصّل إليه خلال تطوّره الحثيث- إلى صناعة الحجر المشذّب واستخدمه كأداة للصّيد ولتقطيع اللّحوم، ومن ثمّ صنع الفؤوس والنّصال وتوسّع في استعمالها. وكان من نتيجة تكتّل البشر في مجموعات بدافع الإحساس بالأمان -إزاء مخاطر الطّبيعة والحيوان- أن اخترعوا لغة الكلام لتسهيل التّواصل فيما بينهم، وجاء الاهتداء للزّراعة واستئناس الحيوان ومن ثمّ بناء البيت والقرية، منعطفا جبّارا في تقدّم الإنسان المتواصل نحو خلق مجتمعات أكبر فأكبر، تتمتّع بالاستقرار النسبيّ وبحيازة قطعة صغيرة من الأرض وما عليها من بيوت ونبات وحيوان. واختُرعت الكتابة استجابة للحاجة لعدّ القطع المباعة وتسجيلها، ثمّ تفتق ذهن البشر عن تطوير الكتابة لتثبيت النّصوص الدّينيّة الّتي قدّسها شفاها، حتّى شمل استخدام الكتابة مناحي الحياة كافّة، وكانت تلك هي الحقبة الّتي دخل الإنسان فيها إلى العصر التّاريخيّ الكتابيّ، والّتي تُعدّ بحقٍّ تغيّرًا نوعيا أصيلا للحياة على الأرض. ولعلّ معظم تلك الابتكارات -عندما شقّت طريقها- لم تتسبّب في المصادمات المجتمعيّة القاسية -أو هكذا يمكن الافتراض-، لأنّها جاءت لخدمة الجميع على حدّ سواء، وبالتّالي يمكن القول إنّها انتقالات تنتمي للنّوع الّذي لا يسبقه عنف وتخريب.

وقد أخذت التّغيّرات الجذريّة الّتي مرّت على البشر أشكالا عديدة منها؛ أن تبرز بهيئة تبدّل ديني وتحوّل عقائدي، أو أن تقوم على هيئة انقلاب اقتصادي اجتماعي، أو أن تطفو على السّطح ظاهرة فلسفيّة تقترح منهاجا جديدا لحياة مقبلة، وقد تتبلور التّغيّرات الجذريّة بصيغة ثورة سياسيّة تطيح بنظام حكم قائم. ومن الطّبيعيّ ألّا يقف التّغيّر الجوهري عند وقوع التّبدّلات الكبرى في حدّه الظّاهر -الدّيني أو الاقتصادي والاجتماعي…-، بل تتبعه تبدّلات عميقة في مناحي الحياة كافّة. وبخصوص ظهور الدّيانات والفلسفات المنبثقة منها يمكن القول؛ إنّ الفكر الدّيني وتطبيقاته ما هو إلّا مرحلة من مراحل التّقدّم العامّ الّتي مرّت وتمرّ على حياة البشر، ويمثّل الدّين نمطا مهمّا من أنماط الإجابات عن الأسئلة الوجوديّة الكبرى الّتي تستعصي على الحلّ طويلا.

فقد كان ظهور الدّين الإسلاميّ وسيطرته السّياسيّة على مكّة، المركز الدّيني الرّئيسي في جزيرة العرب، إيذانا بحلول عقيدة لاهوتيّة جديدة، ونشوء مؤسّسة سياسيّة وعسكريّة ملائمة تحمي المنظومة الحاكمة النّامية، يضاف إلى ذلك تبدّلات في البنى الاجتماعيّة حيث ارتقت طبقة محكومة ومضطهدة، بينما تراجعت طبقة حاكمة وخسرت نفوذها وقوّتها. وتلا ذلك أن توسّعت الدّولة-المدينة الّتي أرسى دعائمها الإسلام الدّين-الدّولة في “يثرب” الّتي تغيّر اسمها إلى “المدينة المنوّرة”، فتحوّلت تلك الدّولة بأقلّ من قرن من الزّمن إلى امبراطوريّة كبيرة تبسط نفوذها على أجزاء واسعة من شرق الأرض. وفي ذات الوقت شهدت امبراطوريّة المسلمين خلق حضارة علميّة نشرت منجزاتها في أرجاء الأرض كافّة، ناهيك عن دوام الإسلام كدين حتّى بعد تفتّت إمبراطوريته السّياسيّة، الأمر الّذي يكشف عن عمق وأصالة التّغيير التّاريخيّ الّذي أنجزه الإسلام؛ الدّين والثّقافة والفكر.

لم يتأسّس الإسلام كدين جديد وضع ركائز انعطافة كبيرة في إقليم جغرافي واسع، إلّا على قاعدة واقع مناقض تماما وصل إلى نهايات مغلقة يصعب معها ابتكار الحلول الجدّيّة. فعلى الصّعيد الفكريّ الفلسفيّ كانت الدّعوة إلى إله واحد مدبّر للكون ومسؤول عنه، قد جاءت على حقيقة تعدّد الآلهة حدّ الإسفاف الّذي أفقد الفكرة إمكانياتها الجمعيّة التّنظيميّة لطيف واسع من المجموعات السّكانيّة. وبرغم وجود الدّيانتين اليهوديّة والمسيحيّة وثقل حضورهما في شبه جزيرة العرب، إلاّ أنّهما كانتا قد دخلتا نفق المذهبيّة  المعبّر عن احتياجات زمانيّة ومكانيّة محدّدة، لمجتمعات معيّنة في طور مشخّص من تاريخها، فالمذهبيّة تفسير ضيّق لمعنى ديني أكثر رحابة واتّساعا. يضاف إلى ذلك أنّ حضور هاتين الدّيانتين مع معتقدات أخرى، لعلّه لم يفِ بمتطلبات الإجابة عن الأسئلة الكبرى الّتي تلحّ على بعض المجتمعات في فترات معينة من تاريخها، كما أنّ وجود تلك المعتقدات -على تنوّعها- لم ينجح في تخليص الواقع الاجتماعيّ والاقتصاديّ من حالته المزريّة. أمّا على صعيد الفكر الاجتماعيّ فكانت أطروحة العدالة والمساواة الّتي جاء بها الإسلام، قد انبثقت من واقع ظلم وجور حاقّ بفئات واسعة من المجتمع، وبالمثل قدّم الإسلام حلّ الأنسنة والالتزام بقيمها الشّاملة، والّتي حلّت بديلا لواقع الانتماء القبليّ القائم ذي النّزعة التّفتيتيّة. وهكذا كان التّحوّل الدّيني دافعا ومنطلقا لتغيير شمل مناحي الحياة كافّة.

ويمكن القول إنّنا لو أمعنا النّظر إلى نهاية سلسلة أحداث مّا من زاوية أخرى لوجدنا -بالمعنى التّاريخيّ- أنّها تأخذ مظهر بداية جديدة لحدث مختلف، برغم الأهوال الّتي تطبع فترة الانتقال والأثمان الكبيرة الّتي تدفعها أجيال من السّكان، ومقدار القلق واللاّاستقرار الّذي يطغي على المجتمعات فتبدو الحياة وكأنّها عتمة بلا أفق ضوء. فإذا انتقلنا -وفق هذا المعنى- إلى القارّة الأوروبيّة في ألفيتيها الأولى والثّانية، نتمكّن من الكشف عن آليّة الانقلابات العميقة الّتي شهدتها تلك القاّرة: فكان الضّعف السّافر للدّولة الرّومانيّة حافزا لفتح شهيّة قبائل الجرمان للهجوم على مراكز الحضارة الأوروبيّة، وبالتّالي انهيار الدّولة الرّومانيّة الغربيّة برمّتها في القرن الخامس الميلاديّ، وكان الخوف الطّويل للشّعوب من القبائل الشّماليّة الجرمانيّة هو الّذي دفعهم إلى الاحتماء بقصور أسيادهم وحصونهم، “فتوطّدت بذلك دعائم النّظام الاقطاعيّ الّذي يصون السّيد في ظلّه حياة الفلاح مقابل استثماره لعمله، وحلّ الأسياد محلّ الملوك في حكم البلاد حكما فعليا وإن بقي لهؤلاء الحكم الإسمي”. غير أنّ “وِل ديورانت” ينظر إلى ذلك السّقوط المدوّي للدّولة الرّومانيّة من زاوية أخرى، لا تبتعد كثيرا عن النّتائج المتمخّضة عن الهزّات المجتمعيّة العنيفة، حيث يرى أنّ الحدث الكبير الّذي أعقب ذلك السّقوط هو أنّ “دول أوروبا الغربيّة قد وُلدتْ – لقد دخل إيطاليا قبل المسيح بألف عام غزاة من الشّمال، أخضعوا أهلها لسلطانهم، وامتزجوا بهم وأخذوا عنهم حضارتهم، وبنوا وإيّاهم في خلال ثمانيّة قرون حضارة جديدة، وبعد المسيح بأربعمائة عام تكرّرت العمليّة نفسها، ودارت عجلة التّاريخ دورة كاملة، وكانت البداية هي نفس النّهاية، ولكنّ النّهاية كانت على الدّوام بداية” .

وهكذا –ونعود إلى القول بوتائر متشابهة إلى حدّ بعيد-؛ لم تأتِ الأحداث والتّبدّلات الجسيمة إلاّ على واقع أحداث جسيمة ولكن معاكسة لها، فلم يكن الإصلاح الدّيني المتمثّل بظهور المذهب اللّوثري كثالثّ مذهب كبير في العقائد المسيحيّة، ودعوة هذا المذهب لأن تكون العلاقة بين المؤمن وربّه مباشرة دون تدخّل طرق ثالث- أقول؛ لم يأتِ ذلك التّجديد إلاّ بناء على تاريخ من التّدخل الكنسيّ الطّويل -القابض على أنفاس النّاس- كوسيط بين عامّة المسيحيين وربّهم، ومن ذلك قيام الكنيسة ببيع “صكوك الغفران” للمؤمنين كي يضمن هؤلاء بواسطتها الجنّة، وكانت تلك المرحلة بداية لتراجع دور الكنيسة في الحياة الاجتماعيّة والسّياسيّة، والّتي ستعقبها خطوات أخرى تحجّم من دور الدّين أكثر فأكثر حتّى ينكفئ إلى صوامعه. وبالمثل؛ لم تتحقق النّهضة العلميّة الأوروبيّة الّتي ما فتئت إنجازاتها تظلّل عموم بني البشر، إلاّ لأنّها جاءت انقلابا مدويا على تردّي الواقع العلمي وسيادة الخرافات وتمسّك الكنيسة بعلوم الإغريق القديمة دون سواها، واتّهام المخالف بالهرطقة الّتي تقود إلى المقصلة، برغم أنّ الكثير من علماء النّهضة الكبار كانوا على درجة عاليّة من الإيمان والورع الدّينيّ. على أنّ الانقلابات الجذريّة قد تواصلت بعد ذلك في أوروبا -وبخاصّة الفكريّة منها- وامتدّ معها زمن الاختلال، حتّى دخول القارّة لعصر الحداثة الّذي افتتحته الثّورة الفرنسيّة سنة 1789م سياسيا من أوسع أبوابه.

ويشار كذلك إلى دور الأوبئة الفتّاكة ومساهمتها الفاعلة في انهيار التّوازنات القائمة داخل الأمم الّتي تصيبها ممّا يؤدّي إلى التّعجيل بمخاض التّغيّرات الكبرى، وأوّل ما يرد إلى الذّهن في هذا المضمار هو جائحة الطّاعون الّتي حلّت بأوروبا في العصور الوسطى، والّتي أدّت إلى نفوق الملايين من بني البشر. لم يكن الطّاعون هو الجائحة الوحيدة الّتي ألمّت بالسّكان، بل ظهرت أمراض معدية أخرى كالجدري والملاريا والحمّيات المعويّة المتمثلة بالجفاف أي إسهال الأطفال، والزّحار “الدوسنطاريا” والّتي كانت كثيرا ما تتكرّر خلال سنوات متقاربة. وكان للتّناقص السّكاني النّاتج عن تلك الأوبئة تأثيرات اقتصاديّة، “أهمّها أنّها أثّرت في حياة ما يقدر عددهم بثمانين بالمائة من السّكان من حيث زراعتهم للأرض وحيازتهم لها، فقد أجهز التّناقص السّكّاني على نظام الضّيعة” ، ومن المهم الإشارة إلى أنّ تأثير الأوبئة في القضاء على هذا النّظام، كانت سببا يضاف إلى الأزمات الّتي عاناها نظام الضّيعة منذ عقود زمنيّة سبقت ظهور الجوائح. كما “كان الانحدار السّكاني مسؤولا كذلك على نحو مباشر عن التّقدم الّذي تمّ إحرازه في مجال التّقنية الصّناعيّة. فقد كان العصر الّذي يمتدّ من 1250م حتّى 1500م واحدا من أهمّ العصور في مجال الابتكار… فهناك علاقة مباشرة بين التّقنيّة والانحدار السّكانيّ” .

من المهمّ أن نتمثّل المفاهيم البليغة الّتي انطوت عليها الأحداث الماضية فيما يخصّ الموضوع المطروح، لعلّ من بينها أنّ حركة التّاريخ لا تسير بوتيرة واحدة؛ تصاعديّة أو تنازليّة، بل نراها متأرجحة بين تقدّم وتراجع وسكون نسبي يتوسّط الحالتين. فإذا أسقطتنا الصّدف وعشنا في حياة ملؤها الأزمات، فلنا في اختناقات الماضي البعيد والقريب خير مؤنس يحيد بنا عن طريق اليأس والإحباط إلى حالة من التّفاؤل البعيد عن السّذاجة، هذا الدّرس يتلخّص في أنّ الحركات الهدّامة الّتي خلخلت التّوازن المجتمعي -وكذلك الأوبئة والمجاعات والحروب الكبرى والحركات المتطرّفة- مهما بلغت ضراوتها وقسوتها وهمجيتها وقدرتها على إثارة الشّعور باللاّجدوى والعدميّة وانسداد الأفق، فهي -أوّلا- تسرّع في القضاء على نفسها بسبب من ذلك، وهو ما يفتح الطّريق –ثانيا- على صبّ جهود الإنسان في إقامة الإصلاح وقلب الأوضاع رأسا على عقب وتحقيق الانعطاف التّاريخيّ.

المصدر: https://www.alawan.org/2020/04/19/%d8%a3%d8%ab%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%ae%d8%aa%d9%84%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%ac%d8%aa%d9%85%d8%a7%d8%b9%d9%8a%d9%91%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%83%d8%a8%d8%b1%d9%89-%d9%81%d9%8a/

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك