ابن خَلدون والطّاعون الجارف

فهمي رمضاني

 

إنّ المتأمّل في ما خطّه ابن خلدون في المقدمة  من أفكار  ونظريات ورؤى  سيدرك حتما  الوشائج العميقة الّتي تربطها  بالواقع المغاربيّ في القرن الرّابع ميلادي عشر فما أورده ابن خلدون  في هذه المدوّنة هو  انعكاس لما كان يعتمل في رحم المجتمعات المغاربيّة من تحوّلات سياسيّة وثقافيّة واقتصاديّة وما رافق ذلك من أحداث صاخبة وكارثيّة استطاع من خلالها العقل الخلدوني الوعي ليس فقط بالأزمات الّتي فتكت بالمغرب الإسلاميّ والّتي كانت لها تأثيرات على البنى الدّيمغرافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة وإنّما كذلك الانتباه إلى المنعطف التّاريخيّ الخطير الّذي وصفه بأنّه “خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث”.

ولعلّ الطاّعون الجارف كما أسماه صاحب المقدمة  أو الطّاعون الأعظم كما ورد في بعض المصادر  أو الطّاعون الأسود كما كان يسمّى في أوروبا الوسيطة  آنذاك  يعدّ من أهمّ الأحداث الّتي فتكت بالبشريّة  في أواخر العصور الوسطى وقد انتشر هذا الوباء الّذي انطلق من منغوليا في  كامل أقطار العالم وقد عاصر الشّاب ابن خلدون  هذه الجائحة الكونيّة  الّتي أثّرت فيه أيّما تأثير حيث فقد  فيها  والديه و أغلب الشّيوخ الّذين تتلمذ لديهم.

وقد ترك لنا ابن خلدون نصّا عميقا يكشف  عن صورة قاتمة لبلاد المغرب  الإسلاميّ في منتصف المائة الثّامنة حيث أورد  “و هذا ما نزل بالعمران شرقا وغربا في منتصف المائة الثّامنة من الطّاعون الجارف الّذي تحيف الأمم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيرا من محاسن العمران ومحاها وجاء للدّول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها فقلّص من ظلالها وفل من حدها وأوهن من سلطانها وتداعت إلى التّلاشي والاضمحلال أحوالها وانتقض العمران بانتقاض البشر فخربت الأمصار والمصانع ودرست السّبل والمعالم وخلت الدّيار والمنازل وضعفت الدّول والقبائل وتبدّل السّاكن وكأنّي بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب لكن على نسبته ومقدار عمرانه وكأنّما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة والله وارث الأرض ومن عليها …”

إذن بإمكاننا أن نستشفّ من خلال ما أورده ابن خلدون تفطّن هذا الأخير إلى العلاقة بين كارثة الطّاعون والتّحولات الحضاريّة الكبرى الّتي شهدتها آنذاك المخازن المغاربيّة والمتمثلة في أزمة شاملة قال عنها “جاك بيرك” أنّها “كانت من أسوأ العصور الّتي عرفتها حضارات البحر الأبيض المتوسّط”  فقد تراجعت الفلاحة الّتي أصبحت ” معاش المستضعفين ” وانحسرت الحياة الزراعيّة كما استشرى الفقر وعمّ الانحطاط والتّخلف البني الثّقافيّة والاقتصاديّة على حدّ السّواء هذا بالإضافة إلى القلاقل الّتي كانت تثيرها من حين إلى آخر المجموعات البدويّة والقبليّة و ازدياد التّفوق المسيحي عسكريا واقتصاديا في المتوسّط.

فمن ناحيّة أولى  نرى أنّ ابن خلدون كان واعيا تمام الوعي بما خلّفه الطّاعون من آثار ديمغرافيّة مدمّرة كان قد وصفها وصفا هيروشيمائيا  حيث يقول ” كانت أقرب منها إلى الفناء العامّ” وربّما قد فتح الوباء عيني ابن خلدون على ما تمثّله الدّيموغرافيا وقوّة العمل من أهميّة في حياة الشّعوب وهذا ربّما جانب من جوانب العبقريّة الخلدونيّة فربط الدّيموغرافيا بالعمل دليلا واضحا على وعي ابن خلدون بالعلاقة بين العمل والتّقدم فقد كان رائدا ربّما في الإرهاص والإيماء إلى مفهوم القيمة-العمل  la valeur travailحيث يقول ” والأعمال هي أصل المكاسب وحقيقتها ” “و الأمصار القليلة السّكان يقلّ الرّزق والكسب فيها أو يفقد لقلّة الأعمال الانسانيّة” فثروة أي دولة  إذن بالنسبة إليه لا تقاس بما تملكه من معادن ثمينة وبضائع وإنّما بالعمل وبالزّيادة في القدرة الانتاجيّة للبشر.

إذن بالنّسبة لابن خلدون هناك ارتباط بين الطّاعون الّذي حلّ بالمغرب الإسلاميّ والأزمة الّتي أخذت تنهش جسد المخازن المغاربيّة الثّلاث وعلى رأسها المخزن الحفصي في نهاية القرن الرّابع عشر كما يمكننا أن نفهم من خلال ما أورده ارتباط الطّاعون بحركة التّمدين والتّعمير فقد ساهم الطّاعون في تراجع التّمدين والعمران وبالتّالي تعميق أزمة المجتمع المغاربيّ ذلك أنّ هذا الوباء حسب ابن خلدون قد حلّ بالمغرب في فترة انحطاطه ودوله تتداعى إلى التّلاشي وهذا يقودنا إلى الإشارة إلى أنّ ما أبرزه هذا الأخير  يندرج تحت نظريته العامّة عن الدّولة فعندما تقترب هذه الأخيرة من نهاية عمرها يكون ذلك مقترنا بالفتن وبارتفاع النّفقات العسكريّة اللاّزمة لإخمادها كما يكون مقترنا بأزمة اقتصاديّة شاملة تزيد من استفحال البؤس وانتشار الأوبئة حيث يقول في هذا الاطار ” ثمّ إنّ المجاعات والموتان تكثر عند ذلك في أواخر الدّولة وأمّا كثرة الموتان فلها أسباب من كثرة المجاعات كما ذكرناه أو كثرة الفتن لاختلال الدّولة فيكثر الهرج والقتل أو وقوع الوباء “.

هذه الصّورة القاتمة الّتي يرسمها ابن خلدون تؤكّد وعيه بأزمة منتصف القرن الرّابع عشر وربّما الأكثر من ذلك وعيه ببداية أفول شمس الحضارة العربيّة الإسلاميّة وانتقال العالم الإسلاميّ “من حال إلى حال”  على حدّ قوله فمن خلال ما أوردناه نلتمس بعض التّشاؤم الّذي أظهره ابن خلدون حيال الواقع الحضاريّ للعالم الإسلاميّ فتراجع الاقتصاد وانحطاط الثّقافة وضعف المخزن وانتشار الأوبئة وتفوّق العالم المسيحيّ كلّها إشارات جعلت عقل ابن خلدون المتوقّد غارق في القلق وما تنقلاته القلقة بين المشرق والمغرب إلاّ مثال ساطع عن ذلك فعصر ابن خلدون ربّما كان عصرا منعرجا فإمّا الاقلاع الحضاري ودخول العصور الحديثة كما سيفعل الغرب المسيحي  أو النّزول إلى الهاوية وقد كان كما قلت ابن خلدون متشائما وحبذا لو كذب تاريخه تشاؤمه ألم يقل لتيمورلنك حينما عرض عليه الدّخول في خدمته ” لقد جئت متأخّرا” …

*****

قائمة المصادر والمراجع:

– ابن خلدون (أبو زيد عبد الرحمان بن محمد): المقدمة، دار الكتاب اللّبناني، بيروت، 1967.

– أومليل (علي): الخطاب التّاريخي دراسة لمنهجيّة ابن خلدون، دار التّنوير للطّباعة والنّشر، الرّباط، 1985.

– الجابري (محمد عابد): العصبيّة والدّولة في فكر ابن خلدون، مركز دراسات الوحدة العربيّة، 1992.

– التّيمومي (الهادي): الغائب في تأويلات العمران البشريّ الخلدوني، دار محمّد علي الحامي للنّشر، صفاقس، 2007.

المصدر: https://www.alawan.org/2020/04/19/%d8%a7%d8%a8%d9%86-%d8%ae%d9%8e%d9%84%d8%af%d9%88%d9%86-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b7%d9%91%d8%a7%d8%b9%d9%88%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%a7%d8%b1%d9%81/

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك