تقول إحدى المُسلّمات الأخلاقية التي تحكم عديدًا من النظريات في العالم الحديث إن هنالك تعارضًا مبدئيًّا، لا مفر منه، بين الإيثار والأنانية. هذا التعارض يعني أنه كلما بذلنا جهدًا لتحقيق مصالحنا الشخصية، يغدو من الصعب أن نهتم بمطالب الآخرين، على الأقل بالدرجة نفسها، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى شعورنا بالذنب، حين نكتشف عدم قدرتنا على إيجاد توازن بين هذين المطلبين المتعارضين.
لكن ماذا لو كان هذا التناقض الذي يحكم حياتنا الراهنة زائفًا؟ ماذا لو كانت هنالك طريقة تجمع بين اهتمامنا بالآخرين وبأنفسنا في نفس الوقت؟
عندها، سيصبح تحقيق مصالحنا جزءًا من تحقيق مصالح الآخرين، وهي الفكرة المحورية في مفهوم «الكوزموبوليتانية»، أو المواطَنة العالمية. فمنذ بداية تداول ذلك المصطلح في اليونان القديمة، يبدو أنه ما زال صالحًا في عالمنا المعاصر، بحسب ما جاء في مقال منشور على موقع «Aeon».
كلنا ننتمي إلى العالم نفسه
فكرة الفلسفة الرواقية عن العالمية تنطلق من فرضية بسيطة: ما دمنا جميعًا نحيا على الكوكب نفسه، هذا يعني أننا مرتبطون ببعضنا.
ارتبط مفهوم الكوزموبوليتانية بمذهب الفلسفة الكلبية الذي أسسه أحد تلامذة سقراط، وضم هذا المذهب فلاسفة راديكاليين كرّسوا حياتهم لتحدي المعايير المجتمعية السائدة، بالعيش ببساطة وتجنب حيازة أي ممتلكات.
طور الفلاسفة الرواقيون، الذين تأثروا بأفكار الفلسفة الكلبية، فكرة العالمية إلى فلسفة عامة توجه أفكارهم وأفعالهم وتحكم نظرتهم للعالم. ويذكر الفيسلوف «إبيكتيتوس» في كتابه «The Discourses» كيف ينبغي نبذ النظرة المنغلقة التي تحصر انتماء الفرد في رقعة معينة، إذ المفروض أن يكون انتسابه إلى العالم بأكمله،
أي أن يكون مواطنًا عالميًّا.
فكرة الفلسفة الرواقية عن العالمية تنطلق من فرضية بسيطة: ما دمنا جميعًا نحيا على الكوكب نفسه، هذا يعني أننا مرتبطون ببعضنا، وأن وجودنا يعتمد على وجود الآخرين، ولهذا يتحتم علينا أن نتصرف وفق هذا الواقع كي نضمن استمرارنا وبقاءنا.
تعبيرًا عن هذه النظرة، قسّم الفيلسوف الرواقي «هايروكليس» مجال اهتمام الفرد إلى دوائر عديدة لكنها متحدة، تحتوي كل دائرة على انشغال معين. يأتي في مركز تلك الدوائر اهتمامك بنفسك، ثم عائلتك، فأصدقائك، وبعدها اهتمامك بمواطني مدينتك وبلدك، وأخيرًا اهتمامك بمصلحة الإنسانية ككل.
يرى هايروكليس أنه ينبغي تقليص حجم هذه الدوائر بقصد تقريب الآخرين إلينا، بدلًا من الفكرة التي ترى ضرورة توسيع نطاق اهتمامنا ليشمل مزيدًا من الناس، فبتقليص المسافة بيننا وبينهم، سيتلاشى التعارض القائم بين «الأنا» و«الغير»، ما سيُسهِم، حسب قوله، في المواءمة بين مصالحنا ومصالح المجتمع.
لذا نرى هايروكليس يحثنا على مخاطبة الغرباء بكلمات مثل «الإخوة» و«الأخوات» كي نبدل تصوراتنا وأفكارنا المسبقة عنهم، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى تغيير كيفية تعاملنا معهم.
قد يهمك أيضًا: هل نتجه نحو حكومة عالمية موحدة؟
المواطنة العالمية مضاد للانقسامات
الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس - الصورة: Prado Museum
في كتاب «التأملات»، يلخص الإمبراطور الروماني «ماركوس أوريليوس» فكرة المواطنة العالمية وواجبنا تجاه الآخرين بقوله إننا «إذا كنا نشترك في مَلَكة التفكير، فهذا يعني أننا نتشارك القدرة على استخدام العقل. وما دام الأمر هكذا، فإننا نشترك في القدرة على التفريق بين الصواب والخطأ. وإذا كان الأمر على هذا الحال، هناك قانون عام يحكمنا، أي أننا مواطنون ننتمي إلى وطن واحد.
ومن ذلك نستنتج أننا أعضاء في نفس الكيان السياسي».
في هذه الأوقات العصيبة، ربما ينبغي أن نتذكر أننا كلنا نقطن الكوكب ذاته، وأن مصيره يعتمد علينا جميعًا.
أكد الرواقيون ضرورة العيش في وئام مع طبيعتنا البشرية، التي تميل إلى الاجتماع واستخدام العقل لتحسين ظروف عيشنا ومآل حياتنا، ما سيحسن أحوالنا وأحوال الآخرين على حد سواء، إذ أن رفاهيتنا تعتمد على إنشاء مجتمع عادل ومستقر.
يعني هذا أن الانقسام بين «الأنا» و«الغير»، الذي ابتدعته حضارتنا المعاصرة، يقارب الموضوع من وجهة نظر مبسطة تضلل الواقع، لأنها تصطنع صدامًا لا أساس له بين المصلحة الفردية ومصلحة المجتمع، عوضًا عن النظر إلى المجتمع على أنه وحدة تعاونية متكاملة.
لا تلغي فكرة المواطنة العالمية الصفات الفردية المميزة لكل إنسان، ولا تتطلب الانسلاخ عن ذواتنا لصالح الذات الجمعية. العكس، فالفلاسفة الرواقيون دافعوا عن حرية الإنسان واستقلاليته، لكن تصورهم عن الفردية وسعي الإنسان إلى تحقيق أهدافه انطلق من مُسلّمة ترى ضرورة وجود مجتمع من الأفراد المتشابهين يشاركون في النشاط نفسه، وهذا المجتمع يتحقق فقط إذا أدركنا أن مصالحنا العامة واحدة ومشتركة.
في هذه الأوقات العصيبة، التي يحرِّض فيها على كُره الأجانب قادةٌ سياسيون مثل دونالد ترامب، فيدعون إلى مزيد من الانغلاق على الذات، وينشرون الذعر والخوف من الآخرين لمجرد كونهم آخرين، وفي هذه الأوقات التي شهدت خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وصعود التيارات اليمينية المتطرفة، ربما ينبغي علينا العودة إلى حكمة القدماء، ربما ينبغي أن نتذكر أننا كلنا نقطن الكوكب ذاته، وأن مصيره يعتمد علينا جميعًا.