كورونا كمفارقة
فريد العليبي
أي معنى يمكن خلعه على وباء أضحى حديث العالم؟ أي عناء فرضه على البشر وهو يبحث عن نحت معناه على أسرّة المرضى وقبور الموتى، وجموع المحجورين، القابعين وراء أبواب بيوتهم المقفلة؟ أيّة تعنيّة (constipation ) هو تجلّ لها في عالم به انقِباضٌ شديد لعجز سكّانه التّائهين على أرصفة المرض والبؤس والحرب، عن ولادة الجديد رغم حمل طويل؟
الإنسان والطّبيعة:
في صلة بالإجابة عن تلك الأسئلة عبر فيروس كورونا عن نفسه كمفارقة، ففيها ومن خلالها تجلّت ملامحه، وبرزت معانيه ومعه بدت الطّبيعة وهى في أوج غضبها من الإنسان، مخضعة إيّاه إلى سطوتها، فارضة عودته إلى جادتها، وهو الآن مختبئ في مملكة الحضارة، محكما غلق أبوابها، مرتعشا، ضعيفا، كما لم يكنه منذ سنوات طويلة، لكن من يضمن أنّه لن ينسى ذلك بعد مدّة وجيزة، ناسيا خسارته، ليعود إلى تدميرها كما كان دأبه غالبا.
إنّها حرب الطّبيعة على البشر، ولكنّها حرب على نفسها أيضا، فالبشريّة طبيعة مُقولبة، وليس الإنسان سوى ذلك الكائن الطّبيعي الّذي أدركت معه ذاتها بذاتها ( فريدريك أنجلس )، بما أعاد إلى الأذهان حقائق مفزعة، وهي أنّها إذا ما تأوّهت لبضع ثوان فقط كفت الكائنات العاقلة عن الوجود (نيتشة )، وأنّ ابن الطّبيعة الثّائر ليس طليق اليدين كما يعتقد، فهو يتحرّك ضمن القوانين الضّروريّة النّاظمة لحركتها، ولا يمكنه أبدا كسرها، وأن حريّته ليست سوى إدراك لتلك الضّرورة عينها (سبينوزا، هيجل، أنجلس) فللطبيعة جبروتها وهي تقدم أحيانا على تأديب الإنسان على نحو لم يتوقعّه. صحيح أنّه يُؤنسنها، ولكنّها في المقابل تطبعه بطابعها، ومن ملامح كورونا كمفارقة ما كشفته بيانات عن تراجع كبير في نسبة تركز الملوّثات الجويّة، وخصوصا ثاني أكسيد النيتروجين، جرّاء بقاء السّيارات والطّائرات في مرابضها وتوقّف مصانع عن نشاطها، بما يعني استعادة النّظام والتّناسق والتّرتيب، فكورونا يُعقلن العالم ويرجع الإنسان إلى رشده، بدفعه إلى حافة الهاويّة. ورغم ذلك فإنّ الطّبيعة لا تدمّر نفسها فالانتحار ليس من خصالها، إنّها ترجّ فقط نفسها والإنسان من ضمنها، لتتجدّد وهي في صيرورتها الدّائمة، لقد أساء معاملتها حتّى أنّه جعل حيوانات تتغذّى من لحمها، مُسبّبا خرابا إيكولوجيا مُفزعا فأفلتت الفيروسات من مخابئها. ولكنّ الإنسان ليس كائنا مجرّدا جاثما في مكان ما خارج العالم فهو كائن الدّولة والمجتمع (ماركس) ومن ثمة تطلّب الأمر التّفريق بين أصدقاء الطّبيعة وأعدائها.
الوباء والدّولة والعولمة:
نًظر إلى الوباء وكأنّه مناسبة للتّخلص من المُسنين الّذين أصبحوا دون فائدة، فهو يدفعهم إلى نهايتهم المحتومة، وعاضدته في ذلك جهود أطباء فحجبوا عنهم أجهزة التّنفس في تبجيل لمن هم أصغر سنّا، ووجدت الدّولة في ذلك بعض خلاصها، فقد أضحى هؤلاء عبئا اقتصاديا وجب التّحرر منه، فهم يتلقون رواتبا ورعاية صحيّة، بينما انتهى دورهم الإنتاجي، ومن ثمّة فإنّ ما تريده تلك الدّولة تنفذه الطّبيعة دونما انعكاسات أخلاقيّة مُقلقة.
أمّا العولمة المُتعبة بأعباء بروليتاريين ومهمّشين متمرّدين، وشعوب صانعة للمهاجرين، أكثر من صنعها للمُنتجين والمستهلكين، فقد وجدت في الوباء ضالتّها وتحقّق غايتها. وإذا كان هناك من اعتبر أنّ كورونا يسير ضدّ العولمة فإنّه لا شيء يمنع من القول أيضا إنّه يشتغل ضمن فضائها ويعمل وفق رغبتها، وفي الحالتين فإنّ المفارقة كامنة في لعن كورونا علنا وعشقها سرّا، بما أعاد إلى المالتوسية ألقها بترديد أنّ الغذاء ينمو بمعدل أقلّ من معدّل نمو السّكان فقد تضاعف عدد هؤلاء خلال سنوات قليلة فصعب توفير الطّعام لهم وأصبحت دول كثيرة في ورطة وتفاقمت مشكلة الهجرة ففائض البشر قد يأخذ طريقه إلى المقابر بفعل كورونا، محشوّا في أكياس من البلاستيك وهو على شاحنات العسكر، وسيكون ذلك وفق تلك النّظرة أمرا حسنا، ولا يهمّ هنا ما إن كان الله أم الطّبيعة هو من سيتكفّل بالمهمّة فالأهمّ هو تحقيقها، بعد أن توقّفت الحروب الكبرى عن تأدية ذلك الدّور جرّاء الرادع النّوويّ. غير أنّ الأرض لا تزال ترفل في خيراتها غير المستكشفة، كما أنّ الثّروات الطّائلة توجد بين يدي أوليغارشيّة ماليّة عالميّة جشعة، وبإمكان تلك الثّروات توفير الطّعام والصّحة والعمل وغير ذلك لسكّان الأرض قاطبة، وأنّ المعضلة ليست في فائض السّكان وإنّما في احتكار الثّروة.
على مدى السّنوات الأخيرة اهتزّت صورة الدّولة في عدد من البلدان وتبرّمت السّياسة السّائدة من الفوضى الّتي أضحت تحكم الشّوارع والسّاحات كما في العالم الافتراضيّ، وأصبحت الدّيمقراطيّة اللّيبراليّة نفسها مُزعجة، وازدادت النّزعات الشّعبويّة والفاشيّة نفوذا وقوّة، وجاء كورونا ليعلّم النّاس النّظام بما في ذلك كيفيّة الوقوف في الطّوابير، كما لو كانوا أطفالا في صفّ ابتدائي لشراء طعامهم.
لقد فرض عليهم ترك معابدهم وملاعبهم ومدارسهم وإلّا هلكوا، أمّا المتنطعون منهم فإنّ الدّولة وهي منتوج حضاري، قد أعادت تذكيرهم بطبيعتها الثّابتة باعتبارها وحدها من يحتكر العنف (ماكس فيبر)، وأنّ بإمكانها متى شاءت إشهار قبضتها في وجوههم. وفي تونس انتشر شريط فيديو يصوّر رجال شرطة وهم يضربون ويشتمون شبّانا غامروا بالتّجوال في الشّارع دون التزام بالحجر الصّحيّ. وعندما استنكرت رابطة حقوق الإنسان ذلك لامها كثيرون مبرّرين عنف الدّولة بفرض القانون، وتعجّب حقوقيون وسياسيون معارضون للقمع كيف أصبحوا مدافعين عنه. وفي شتّى البلدان تحاول الدّولة الآن إبراز أنيابها باعتبارها التّنين الّذي يخيف الجمهور، ولكنّها تحرص على تأكيد أنّها لا تفعل ذلك ضدّهم وإنّما لصالحهم وفي ذلك مفارقة وبائيّة أخرى فخلت الشّوارع والسّاحات إلّا من جندها.
كورونا والحريّة:
مع تعذّر إنتاج لقاح وانعدام الدّواء طرح السّؤال إلى متى سيستمرّ الحال على هذا المنوال والإنسان يرفل في قيوده المنزليّة؟ من المرجّح أنّه بعد مدّة لن تطول كثيرا سيصل عدد من الحكّام إلى أنّ الحجر الصّحي لم يعد مجديا وسيترك للوباء حريّة الجولان بين البشر، فإذا كان قد أصاب ملوكا ورؤساء في قصورهم المنيعة وجنرالات في ثكناتهم الحصينة فإنّه لا شيء يمنعه من إصابة الجميع وسيتم ّشيئا فشيئا التّقليل من خطره حتّى أنّ الرئيس البرازيلي قال عنه منذ الآن إنّه إنفلونزا بسيطة وخدعة إعلاميّة ولا يبدو الرّئيس الأمريكي متحمّسا للحجر فأضراره أكبر من منافعه، محذّرا من موجة انتحار جرّاء الإحباط النّاجم عن الانعزال في المنازل.
ومع انتشار الوباء انتشر الخوف من الموت فبعد أن أضحت الحياة المرفّهة جنّة يصعب التّفريط فيها انزوى الفرد في عزلته/عبوديته، متجوّلا بين المطبخ وغرفة النّوم وقاعة الجلوس، منتظرا مصيره، وبدت واضحة هشاشة الإنسان باعتباره جسما قابلا للانتهاك الفيروسيّ القاتل، متحوّلا إلى ظاهرة مهملة يمكنها الزّوال بسهولة لافتة.
قصّة الإنسان مع الأوبئة قديمة وقد تظلّت متجدّدة عبر العصور، وهي وضعيّة قصوى يدركها البشر فرادى وجماعات ويكتشفون خلالها أنفسهم متأملين وضعهم وهم يقيسون مدى قدرتهم على البقاء والتّمتع بحريّتهم ضمن ذاك المجال بالذّات وفي قلب الكارثة الحاليّة كان طفل يصيح في شرفة منزله الباريسي: إنّنا لا نزال على قيد الحياة، أمّا في روما فقد انطلقت الموسيقى والأهازيج من المعازل/ المنازل، مؤكّدة ما قاله ذلك الطّفل، وبدا أنّ المفارقة الكبرى في علاقة البشر بعضهم ببعض ماثلة في أنّ ما يربط بينهم هو في نفس الوقت ما يفرقهم، حتّى أنّك لا تجد اليوم ضيرا في الاقتراب من قطّ أو حصان بينما تهرب من البشر، وقد يكون أشنع فعل يقدم عليه أحدهم في حقّك الآن هو أن يقبّلك، أمّا إذا عطس أحدهم في وجهك فإنّ ذلك قد يصل إلى مستوى الجريمة الّتي يعاقب عليها القانون حتّى أنّه تمّ سنّ عقوبة في إنجلترا ضدّ من يسعل في وجه شرطي فكورونا لم يوحد دوما البشر كما روّجته شعارات الوحدة الوطنيّة والأخوة الإنسانيّة وإنّما أجّج الصّراعات بينهم أيضا، وقد عبّرت أغنيّة فرنسيّة عن ذلك بهذه الكلمات:
نحن هنا في الشّبابيك والشّرفات
نصفّق للمسعفين لا للحكومة
متضامنون مائة في المائة مع من هم تحت
محجورون وثوريون …لا ننسى
لقد خصخصوا كلّ شيء وباعوه لأصحاب المال
لن يسير الأمر بعد الآن على هذا النحو
لأنّنا هنا …
المستشفيات ملآنة والصّحة منهارة.
وفي الأثناء يكشف الوباء عمّا هو مخفي داخل البشر من غرائز وشرور كالأنانيّة والجشع، بما يعيد الإنسان إلى الحالة الطّبيعة وهو يسير على قوائم أربعة، وهذا ما يُعزّز للوهلة الأولى تلك الفرضيّة الهوبسيّة (توماس هوبس) عن الإنسان الّذي لا يعدو وقد تُرك لطبيعته أن يكون ذئبا للإنسان قبل أن تتقوّض أركانها فالخير والفضيلة والعقل والجمال إلخ …تعبّر عن حضورها أيضا ضمن ذلك الصّراع المتجدّد داخل الإنسان نفسه، ويؤدّي الوباء هنا وظيفة التّطهير والتّعريّة. وذلك الصّراع يتجاوز الأفراد إلى الدّول فقد تذمّر وزير التّجارة التّونسي من إيطاليا الّتي سطت على باخرة في عرض البحر كانت تجلب مادة طبيّة إلى بلاده، ناعيا الاتّحاد الأوربي، مقارنا ذلك بما قال أنّه سطو صربيا على شحنة كمامات صينيّة كانت في طريقها إلى إيطاليا، بما فُهم منه أنّ عصر القرصنة الدّوليّة قد حلّ، أمّا الاتّهامات المتبادلة بين الصّين وأمريكا حول تفشي الفيروس فإنّها لم تتوقّف، فالصّين لا تزعم تصنيع الفيروس في المخابر الأمريكيّة ولكنّها تتساءل عمّن نشره، مستغلّا منشأه الحيواني بينما تذمّرت ألمانيا من لصوصيّة أمريكيّة ساعية إلى السّطو على أبحاثها العلميّة المخصّصة للقاح كورونا. وفي خضم ذلك كلّه راجت الشّائعات واختلطت السّبل حتّى أنّه أحيانا أضحت الشّائعة حقيقة والحقيقة شائعة.
ومن مفارقات الأوبئة في سالف الزّمان أنّه في سنة 1270، غزا الملك الفرنسي لويس التّاسع تونس قائدا الحملة الصّليبيّة الثّامنة، مُخضعا قرطاج، محاصرا حاضرة تونس، الّتي تحصّن بها حكّامها الحفصيون غير أنّ تفشي وباء التّيفوس أنقذها، فقد توفّي قسم كبير من جنوده، بل إنّه قضى هو نفسه نحبه فغادر جيشه خائبا، أمّا الوباء الحالي فقد سرّع بمغادرة الجنود الفرنسيين العراق على عجل، ولا يُعرف ما إن كان سيعجّل برحيل آخرين، ليس من ذاك البلد وحده وإنّما أيضا ممّا يشبهه من البلدان فلكورونا هنا أيضا مفارقاته الّتي لا تختلف عن مفارقات أسلافه.
تتركز أنظار الإنسان الرّاغب في نيل حريّته البيولوجيّة على الأقلّ بعد فقدانه حريّته الاجتماعيّة على الطّب، ويكثر الحديث عن الجيوش البيضاء غير أنّ جنودها يعانون فقر السّلاح، أمّا ثكناتها فشبه عاجزة أمام اتّساع رقعة الوباء وتتساوى في ذلك البلدان الغنيّة والفقيرة. باستثناء الصّين وريثة مكاسب ثورتها وحملاتها الصحيّة المبكرة منذ جيش التّحرير الشّعبيّ والحزب الشّيوعىّ والمسيرة الكبرى حتىّ الأطباء الحفاة، فقد تمّ غالبا التّعامل مع الطّب باعتباره تجارة والدّواء باعتباره بضاعة، وتحوّل جراء ذلك المستشفى العمومي إلى فضاء للموت والمصحّة الخاصّة إلى متجر وقد عرّى كورونا ذلك الدّاء وكشف قبحه أمام الملأ بما يدعو اليوم إلى استعادة ما سمّاه ابن الجزّار القيرواني طبّ الفقراء والمساكين حيث التّلازم بين الطّب والإيتيقا.
وإذا كان المصابون يحتاجون تلك الجيوش فإنّ المحجورين يحتاجون جيوشا أخرى أيضا، فالصّحة البيولوجيّة وحدها لا تكفي وهناك حاجة إلى أخريات نفسيّة وعقليّة وذوقيّة إلخ …أين تؤدّي العلوم الإنسانيّة والفلسفة والفنون وظيفتها، وهناك مخاوف من حجر طويل قد يؤدّى إلى موجة انتحاريّة كما قلنا، ومن لم يقتله كورونا سيقتله الجوع والاكتئاب، غير أنّه خلال العزلة يمكن للذّوات المتأمّلة العودة إلى نفسها مسائلة عمقها، إنّها مناسبة لتفلسف الجميع والخلاص من تلك الحالة الّتي يسخر فيها “العبيد” من الفلسفة (طاليس) فالخوف من الوباء يمكن أن يكون سببا للنّوم على وسادة الأوهام و الفلسفة تقدّم العلاج إلى تلك الأنفس المعذبة بدفع أحزانها وطرد أشجانها ( الكندي )، كما أنّ هناك حاجة إلى الاقتصاد والاجتماع للتّعامل مع مطلب الطّعام الّذي تنطلق صرخاته من البطون الخاوية.
مأساة كورونا وملهاته:
في لوحة الوباء تعانق الملهاة المأساة، فأمام الشّاحنات العسكريّة الإيطاليّة النّاقلة للجثث، والممرضة المنتحرة حتّى لا تنقل العدوى إلى غيرها بعد ثبوت إصابتها، والأب الّذي رفض أبناؤه وداعه قبل موته في فرنسا، ومشاهد العراك في المدن والقرى العربيّة على الأغذيّة، تقف المأساة بكامل قامتها في نفس الوقت الّذي تقف فيه الملهاة قبالتها، حيث البابا وهو يحثّ خطاه في شوارع روما المقفرة، ومجالس يوذيين وهم يشربون بول البقر توقيا منه، ومظاهرات مسلمين ضدّه وقسمهم أنّه لا يصيب إلّا الكفرة، وحديث عن القرآن وال‘إنجيل وتحذيرهما من كورونا منذ قرون خاليّة، وقول زعيم ديني عراقي أنّ هناك “رسائل سماويّة” وراء فيروس كورونا، بما يذكّر برد العالم على رجل الدّين في طاعون كامو: إنّه لا يمكن قبول ما لا نفهم.
وكان أقصى ما أمكن للإصلاح الدّينيّ التّعبير عنه هذه الأيّام قول أستاذة عقيدة وفلسفة في جامعة الأزهر المصريّة أنّ الكمامة لا تفسد الصّلاة، وتعليق مفتي الدّيار التّونسيّة اعتناق الدّين الإسلاميّ أمام الوافدين من الملل الأخرى. وفي الأثناء بدا أنّه عندما تحلّ الكارثة الوبائيّة يبقى العلم وحده في ساحة المواجهة فحتىّ الكعبة والفاتيكان هجرهما روّادهما.
وفي تلك اللّوحة الكوميديّة أيضا نصح مغرّد أمريكي من لا قدرة له على توفير ثمن التّحليل الطّبي، بالسّعال في وجه ثري وانتظار نتيجة فحصه كي يعلم إن كان هو نفسه، مصاباً أو سليماً، كما انتشار شريط فيديو في مواقع التّواصل الاجتماعي يهزأ فيه صدّام حسين وقد بعث من قبره من كورونا مفتخرا بجدّه القعقاع وبطولاته في ملحمة القادسيّة، ممّا أعاد إلى الأذهان في الحالتّين الصّراعات المرتبطة بالدّين والأمّة والطّبقة.
بين الوباء والإيديولوجيا:
مع الوباء برز إلى الواجهة مجدّدا الصّراع الإيديولوجي بين اللّيبراليّة والاشتراكيّة، والمثير أنّ وزراء ليبراليين في فرنسا وإسبانيا لوّحوا بالتّأميم وتعزير القطاع العامّ، أمّا في أمريكا فإنّ أحد المتنافسين الرّئيسيين على ترشيح الحزب الدّيمقراطيّ وهو برني ساندرس قد بنى حملته الانتخابيّة على أنّ الاشتراكيّة هي الحلّ، غير أنّ اللّيبراليّة لم تتردّد في اتّهام الحزب الشّيوعيّ الصّينيّ بالمسؤوليّة عن تفشي الوباء جرّاء حجب أخباره في البداية، بالغمز من جهة الدّيمقراطيّة المفقودة، وحاول الرّئيس الأمريكي ترسيخ تسمية “الفيروس الصيني” مقابل ما سمّته منظمة الصّحة العالميّة ” كوفيد 19 “، ونحا إعلاميون ليبراليون باللاّئمة على الشّموليّة والكليانيّة، قائلين أنّه لو كانت الصّين مجتمعا ديمقراطيا ما تفشى الفيروس فيها، ولكنّ الإجابة سرعان ما جاءت من إيطاليا وفرنسا وأمريكا وغيرها، ففي تلك الدّيمقراطيات تفشّى الوباء أيضا محدثا أضرارا أكبر من تلك الّتي كانت الصّين مسرحها.
وإذا كان قد بدا كما لو أنّ العالم قد كان آمنا فجاء الوباء ليزرع فيه الخوف والهلع على حين غرّة في دفاع إيديولوجي عن العالم اللّيبراليّ باعتباره أفضل العوالم الممكنة فإنّ الاعتراضات على ذلك لم تتأخّر فالمدافع والصّواريخ والطّائرات ما فتئت تحصد الأرواح الّتي أين منها ما حصده كورونا الّذي بدا وكأنّه يستحثّ البشر لمحاربته والكفّ عن محاربة بعضهم البعض فالأوبئة تفرض في بعض الأحيان السّلام على طريقتها.
الوباء والتّاريخ:
يغيّر الوباء مثله مثل الحروب طبيعة الوجود البشريّ، مبدّلا المجتمعات من حال إلى حال، مُؤذنا أحيانا بزوال دول وولادة أخرى، وقد وصف ابن خلدون تأثيره في زمانه بقول مبين ورد فيه ”نزل بالعمران شرقا وغربا في منتصف هذه المائة الثّامنة، من الطّاعون الجارف، الّذي تحيف الأمم، وذهب بأهل الجيل وطوى كثيرا من محاسن العمران ومحاها، جاء للدّول على حين هرمها، وبلوغ الغاية من مداها، فقلّص من ظلالها، وقلّ من حدّها وأوهن من سلطانها وتوادعت إلى التّلاشي والاضمحلال أحوالها، وانتفض عمران الأرض انتفاض البشر، فخربت الأمصار والمصانع، ودرست السّبل والمعالم وخلت الدّيار والمنازل، وضعفت الدّول والقبائل، وتبدّل السّاكن وكأنّي بالمشرق الّذي نزل به، مثل ما نزل بالمغرب، ولكن على نسبته ومقدار عمرانه، وكأنّما نادى لسان الكون، في العالم بالخمول والانقباض، فبادر بالإجابة والله وارث الأرض ومن عليها. وإذا تبدّلت الأحوال جملة فكأنّما تبدّل الخلق من أصله، تحوّل العالم بأسره وكأنّه خلق جديد، ونشأة مستأنفه وعالم محدث”.
لقد كان الوباء لسان الكون وصرخته في العالم، وهو الّذي وضعه على سكّة معنى جديد، من خلال مفارقاته الكثيرة، فقلبه رأسا على عقب، غير أنّه يظلّ أعمى قياسا إلى الثّورات الّتي تؤدّي تلك الوظيفة من حيث اقترانها بالعقل والتّاريخ، وما نلاحظه اليوم أنّ المجتمعات مريضة وموبوءة بما هو أشدّ فتكا من كورونا، وقد يفرض عليها مداواة نفسها وإلّا كان هلاكها بغيره، الّذي سيكون من صنعها هي نفسها.