القبيلة والدولة: دينامياتُ التلاؤم والتنافُر*

القبيلة والدولة: دينامياتُ التلاؤم والتنافُر*

فيليب كارل سالزمان**

كيف نستطيع تقييم دور التنظيمات القَبَلية وثقافتها في الشرق الأوسط المُعاصر؟ أوَ ليس من الملائم القول إنها ذات أهميةٍ تاريخيةً، وما بقي لها دورٌ أو تأثيرٌ في المجتمعات الشرق أوسطية المُعاصرة؟ ففي النهاية هناك في الشرق الأوسط اليومَ مؤسساتٌ وجيوشٌ وأحزاب سياسية ومحاكم وشُرطة..إلخ. وما دامت البلدان الشرق أوسطية على هذا النحو، فينبغي أن تكونَ القبائل والعشائر ذات تأثير ضئيل أو بدون تأثير. لكنْ من جهةٍ ثانية نحن نعلمُ أنّ التكوينات العشائرية ما تزال داخلةً في ثقافة المجتمعات الشرق أوسطية، وبخاصةٍ فيما يمكن وصفه بـ: (المعارضة المُوازِنة)، والتي تبدو في حيوات الشرق الأوسط بمظاهر متعددة. وقد ذهبتُ في هذا الكتاب إلى أنّ التنظيمات القَبَلية ما تزال كبيرة التأثير في المجتمعات والدول. فالمجتمعات الشرق أوسطية ليست (عصريةً) بالمعنى المقصود من ذلك لدى الأوروبيين والأميركيين؛ وما تزال روحية أو عقلية القبيلة بارزةً وفاعلة. ولنحاول عرضَ ذلك واختباره فيما يلي.

القبائلُ وثقافتُها في الشرق الأَوسط المُعاصر

ذهبت إلى مقاطعة بلوشستان بجنوب شرق إيران للمرة الأولى عام 1968م. وكان بين أوائل الأسئلة التي طُرحت عليّ: ما هو مدى قوة واتّساع انتسابي القرابي؟! فقـد رأى البلوش الشبان الذيـن قابلوني أنني أتيتُ من مكانٍ بعيدٍ، وأنني غني بدليل أنني أركب لاندروفر، ولذا فلا بد أن أكون متحدراً من قبيلةٍ قويةٍ وغنية. وعندما ذكرتُ لهم أنه ليست في مجتمعاتنا قبائل، ما صدّقوا، وتساءلوا مستغربين: إلـى من تلجأون إذن إن حصل نزاع أو كنتم مهدَّدين؟ وقلتُ لهم: نلجأ إلى البوليس! فضحكوا واستغربوا وأجابوا: عند الاضطراب لا يبقى لك غير أقربائك!

والواقع أنّ مؤسسات الدولة وشرطتها وقضاءها، كلُّ ذلك وُجد في الشرق الأوسط منذ أربعة آلاف عام. لكنّ ذلك كلَّه ما وُجد لحماية مصالح الناس، بل من أجل مساعدة السلطات على ضبطهم وإخضاعهم؛ لفرض الهدوء، وجمع الضرائب. فتلك الدول القديمة ما كان عندها مواطنون، بل رعايا، ولذا ما كانت هناك احتياجاتٌ للتلبية، أو حقوقٌ لتُصان! أمّا المصالح نفسُها فقد كان أمر صونها وتنظيمها متروكاً للناس. وبذلك فإنّ التنظيمات القَبَلية ظلّت موجودةً لحماية مصالح أعضائها وأبنائها بعدة سُبُل: بالتحدي العسكري لسلطة الدولة، وإبعاد جيوشها بالقوة عن أراضي القبيلة، أو بمغادرة المناطق القريبة من مركز الدولة، والهجرة إلى النواحي القاصية، أو بإمكان الزحف والسيطرة على جهاز الدولة واستعماله لصالح القبيلة. وهذه الأشكال لكثرة ما تكررت؛ فإنّ ابن خلدون صنع لها نظريةً هي (نظرية العصبية)، أراد من خلالها تفسير مسار التاريخ لدى العرب والبربر. أمّا مسار التاريخ الإيراني، فقد تحدث عنه بيتر أفري (1965م) على النحو التالي:

أدخل كريم خان الصفوي مرضاً آخَرَ على السياسات بالداخل، من خلال نُصرة العامل القَبَلي لأنه كان من أصـول قَبَلية... وعلينا أن نتنّبه للطابع المزدوج (للأمتين) بداخل إيران: بين البدو، وأهل الحواضـر. وعندما خلف القاجاريـون الصفوييـن استمر الأمر على النحو نفسِه. فقد فهموا أنفسهم باعتبارهم قبيلة، وتعاملوا مع الآخرين على هذا الأساس.

والسبيل الرابعة لعمل القبيلة إزاء الدولة تتمثل في الدخول في خدمة الدولة ببيع خدماتها لها، من مثل آل مُرّة من الرُبع الخالي، والذين دخلوا في الحَرَس الوطني السعودي. والسبيل الخامسة بأن تتدخل القبيلة لحماية أفرادها وبطونها وعشائرها وانتزاع مراعي لمواشيها في المناطق التي تنتشر فيها. والسبيل السادسة بأن تؤمّن القبيلةُ لأعضائها وسائل العيش بالدخول في المشروعات الكبرى للدولة الوطنية أو لدول النفوذ والسطوة في منطقتها. كما شاهدْتُ ذلك من جانب عشائر يار أحمد زاي البلوشيين. وهكذا ففي حالاتٍ كثيرةٍ لا يصح اعتبار القبيلة نافيةً للدولة أو العكس؛ بل هناك أنواع شتى من التداخل والتحاوُر والتجاور بين الطرفين. فشاه إيران محمد رضا مَثَلاً تزوج السيدة ثريا من قبائل البختياري القوية والثرية لإقامة علاقة تحالُف من نوعٍ ما. بينما استخدمت سلطاتٌ أُخرى في السعودية والأردنّ البدو في الجيوش التي أنشأتْها فتألّفتْها بذلك. وفي عدة بلدان شرق أوسطية أُخرى، مثل إيران والكويت والعراق وسورية ومصر والمغرب والجزائر وتونس، توجد القبائل في الصحارى والجبال، لكنها تكون حاضرةً أيضاً في السهول والمناطق الزراعية. وفي كثيرٍ من الحالات، قد لا يكونُ العامل القبلي واضحاً، لكنه يظهرُ في الأزمات في مناطق ما كان معهوداً فيها. ففي مايو عام 2005م نشب نزاعٌ بين (القاعدة) وقبيلة أبو مَحَل، على خلفية خطف القاعدة لزعيم القبيلة نواف رجا فرحان المحلاوي. وانتهى الأمر بتبادل المخطوفين بين الطرفين. وظاهرةُ (الصحوة) التي دعمها الأميركيون إنما كانت بسبب الصراع بين القبائل المحلية، ومقاتلي القاعدة الآتين من الخارج، والعاملين تحت شعاراتٍ إسلاميةٍ جهادية. فبالنسبة للقبائل والعشائر هناك مفهوم (الشرف) والذي يعني عدة أمورٍ من بينها: حماية أفراد القبيلة في وجه الأميركيين ووجه القاعدة، وحماية أرض القبيلة وديارها، وحماية نفوذها في وجه الحاكمين الجدد بالعراق.

بناء الدولة في المجتمعات القبائلية: في ضوء هذا الإدراك لطبيعة التنظيم القبلي والثقافة القَبَلية؛ وبخاصةٍ مفهوم: (المعارضة المُوازِنة)، كيف يمكن فهم طرائق بناء الدولة في هذه المجتمعات؟ هناك إحدى حالتين: إمّا أن ينجح سلوك المعارضة الموازِنة، فيستمر النزاعُ بين الطرفين إلى ما لا نهاية - أو ينجح الطرف الأقوى في السيطرة، فيضطر الطرف الآخر إلى الانسحاب والهجرة. ففي الصراعات الكبرى ليست هناك تنازُلاتٌ متبادَلة أو تسوياتٌ بين الطرفين غير المتوازنين في القوة. بل إنّ الغالب يميل لأخذ كل فوائد الانتصار وإلغاء الآخَر. فالانتصار ليس أفضل الحلول، بل هو الحلُّ الأَوحد أو يضيع كل شيء. ويمكن متابعةُ ذلك في عدة حالاتٍ وبلدان:

- ففي العراق خلال النصف الثاني من القرن العشرين، كانت البلاد خاضعةً لأُناسٍ ذوي أُصولٍ عشائريةٍ من السُنّة، تحت عنوان حزب البعث العربي الاشتراكي. أما المعارضة فقد كانت مقموعةً بشتى الوسائل. وكانت ثروات البلاد منحصرةً بأيدي المجموعة الحاكمة وأنصارها. وعندما انهار نظام الحكم تحت وطأة الغزو الأميركي، انتشر الاضطراب بين المجموعات، وتمثّل في مذابح كثيرة وكبيرة، ما تزال مستمرةً عبر التفجيرات الانتحارية وغيرها. فالخيار قد لا يكون بين الديمقراطية والاستبداد، بل بين غلبةٍ وغلبةٍ أُخرى!

- وفي سورية، ظلت البلاد خلال أكثر عقود النصف الثاني من القرن العشرين، خاضعةً لنخبةٍ من الأقلية الحاكمة، وأيضاً تحت عنوان حزب البعث العربي الاشتراكي. أما المعارضات فقد أُخمدت بفعالية. وفي أواخر القرن العشرين مدت سورية سيطرتها على لبنان، وحمت هيمنتها بجيشها ومخابراتها في ذاك البلد. والتحدي الآن هو: هل يمكن تطوير نظام الغلبة باتجاه وظائف الدولة العصرية العادية؟

- وفي الجزائر اصطدم الجيش بالإسلاميين بعد فوزهم في الانتخابات، وسادت خلال التسعينات ظروفٌ شبيهة بالحرب الأهلية.

- وفي ليبيا، وبعد انقلابٍ عسكريٍ بقيادة العقيد القذافي أواخر الستينات، سيطرت أجهزة الأمن، وما أمكن للمعارضات أن تزحزحها بأي شكلٍ.

- وتسود في السعودية والمغرب تحالُفاتٌ قَبَليةٌ ودينيةٌ واسعةٌ ونشِطة. وللمعارضات هامشٌ بالمغرب، لكنها لا تؤثر في الجوهر.

- وخارج العالم العربي في إيران، حلّت نخبةٌ دينية محلَّ حكم أسرة بهلوي، التي كانت بدورها قد وصلت للسلطة في انقلابٍ عسكري. والنخبة الدينية -منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979م- تنفردُ بالسلطة، رغم وجود الانتخابات، التي لا تؤثّر في القرارات الكبرى للنظام السائد. وليس للمعارضة الدينية أو المدنية، أيّ هامشٍ معتبر.

- وما تزال أفغانستان تحت الحكم القَبَلي حتى اليوم. وكانت خلال النصف الثاني من القرن العشرين قد مرت بتجارب مختلفة ما خرجت عن (المعارضة المُوازِنة) بين أُمراء الحرب القَبَليين، والأحزاب المركزية القوية مثل الحزب الشيوعي، وطالبان. أما الحكومة المركزية الحالية الضعيفة فهي محاطةٌ ومحاصرةٌ بالقبائل البشتونية القوية، وتعتمد في بقائها على الأميركيين، وقوات حلف الأطلسي.

والواقع أنّ الأنظمة المسيطرة بالشرق الأوسط الأوسع، لا يمكن تعليلُها بالاستيلاء السياسي أو نقص الديمقراطية وحسب، بل باجتماع الثروة في أيدي النُخبة الحاكمة وأنصارها. وبأنّ العنصر القَبَلي ما يزال يلعبُ دوراً كبيراً في عصبيات النظام.

الأصوات العربية الناقدة: أقبل كثيرٌ من المراقبين والدارسين، وفي طليعتهم الراحل إدوارد سعيد (1978م) على نقد الاستعمار والثقافة الاستعمارية الغربية. وللاستعمار مساوئ كثيرةٌ بالفعل، وكذلك لثقافته. لكنّ التجربة السياسية والاجتماعية العربية والشرق أوسطية، ما لقيت مراقبةً وانتقاداً تستحقُّهما أيضاً. بيد أنّ ما يستحقُّ الذكر في هذا السياق، ما قام به مثقفون عربٌ من إصدار تقارير للتنمية العربية بإشراف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بين عامي 2002و2006م. وقد نقدت تلك التقارير وجوه القصور والفشل في التجربة العربية لجهات المعرفة والحريات والنموّ، وحقوق المرأة، والعلاقة بحقوق الإنسان، وثقافة العالم الحديث، والإنفاق على الترجمة عن لغات العالم الحية، وعلى البحث العلمي، ومكافحة الفقر والأمية.

وفي المحصِّلة؛ فإنّ كثيراً من بلدان الشرق الأوسط الأوسع، ما تزال تعتمد في مجتمعاتها على تكوينات قَبَلية أو شبه قَبَلية، وتضبطُها أو تُسيطر عليها أنظمةٌ يسودُها العسكريون أو أعقابُهُم. وما كان هناك تحديثٌ في البنى الأساسية إلاّ في تركيا. ولا شكّ أنّ السياسات الدولية، والحرب الباردة، كان لهما دورٌ كبيرٌ في الوصول إلى هذا الواقع؛ لكنّ النُخَب المحلية التي سيطرت على مقاليد الأُمور تتحمل مسؤوليةً رئيسيةً فيما جرى ويجري. وهذه حصيلةٌ مخيِّبةٌ بالفعل؛ وبخاصةٍ إذا أخذنا في الاعتبار أنّ هذه المنطقة من العالَم (كما يقول وليام ماكنيل) تقدمت على سائر أرجاء المعمورة طوال أكثر من ألف عامٍ، قبل الصعود الأوروبي والغربي، وقبل اكتشاف النفط والثروات الأُخرى.

*********************

الحواشي

*) تلخيص فصل من كتاب Philip Carl Salzman, Culture and Conflict in the Middle East. 2008.

**) أستاذ الأنثروبولوجيا في الجامعات الأميركية.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=529

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك