العنف والشرط الإنساني
عبد الله إبراهيم
يتربّع العنف في قلب الثقافات الإنسانية، ولا تكاد تبرأ منه ثقافة قديمة أو حديثة، شرط أن يؤخذ في الحسبان أنه يتجسّد بضروب كثيرة، منها: القتل، والسجن، والتعذيب، والإبادة، والاستعباد، والتنازع، والتنافس، والتباغض، والتحاسد، والاغتياب، وكل ما يلحق ضررا جسديا أو نفسيا أو اعتباريا بالإنسان، ويرغمه على ما لا يرغب فيه، فيتعرّض للإقصاء، والإبعاد، والنبذ، وتتدهور أحواله الاجتماعية أو العائلية أو الشخصية، وقد يكون مقصودا يختاره أفراد عن سابق عزم لإلحاق ضرر بالآخرين بهدف التخلّص منهم، أو السيطرة عليهم، أو الاستئثار بأملاكهم، وقد تُدفع الشخصيات إليه دفعا بذرائع الخشية على معتقداتها الدينية والقومية، وهوياتها الثقافية. وقد يؤدّي العنف إلى إبادة شاملة لجماعات عرقية أو دينية أو مذهبية، أو تهجير شعوب كاملة من مكان إلى آخر لدواعي الاستيطان أو إعادة التوطين، ما يفضي إلى تدمير مقومات حياة تلك الجماعات، وتغيير أنماط عيشها، وقد يؤدي إلى قتل عدد كبير من النفوس، وربما يتسبب في إعاقة بدنية أو عطب نفسي لأفراد معدودين، وفي سائر ضروبه يتجلى العنف بممارسة للقوة ضد الآخرين بذرائع شخصية أو وطنية أو قومية أو دينية، حتى يكاد يكون شرطا إنسانيا ملازما للنوع الإنساني ولتمثيلاته الثقافية، وإلى ذلك فالعنف يلاقي قبولا عاما في سائر المجتمعات البشرية، فبه تستفرغ رغباتها الدفينة عن الآمال المؤجّلة أو الرغبات المكبوتة.
وقد يكون العنف مقصودا يختاره أفراد عن سابق عزم لإلحاق ضرر بالآخرين بهدف التخلّص منهم، أو السيطرة عليهم، أو الاستئثار بأملاكهم، وقد تُدفع الشخصيات إليه دفعا بذرائع الخشية على معتقداتها الدينية والقومية، وهوياتها الثقافية. وقد عالجت الثقافات الإنسانية موضوع العنف، إما على أنه طبع راسخ في النفس، أو أنه هوس طارئ، يعبّر عن نفسه بأمواج من الغضب، والانتقام، والعدوان، أو يتخذ شكل الخداع، والاحتيال، والمراوغة، للإيقاع بالآخرين، أو زهق الأروح، أو تعريض سمعة الآخرين للخطر، أو ظلم النفس، وقد يقع مزج هذا بذاك؛ فينتج عنه تغيير مواقع الشخصيات في العالم المتخيّل بحملها على الخضوع والاستسلام، أو بإجبارها على القيام بأعمال لا تقبل بها، والراجح أن يفضي العنف إلى الموت والهلاك أو الإذلال والتبعية.
في ضوء كل ذلك، يصحّ القول بأن العنف هو كل فعل خشن يلجأ إليه الفرد أو الجماعة أو المؤسسة عن حقّ أو باطل؛ بهدف إرغام الآخرين على أمر يريده الفرد، أو ترغب فيه الجماعة أو تفرضه مؤسسة الدولة، ويبدأ من الاعتداء الشخصي وينتهي بالحرب، ويتّخذ أشكالا منها التحريض على الآخرين، أو التجاسر عليهم، أو إرغامهم على شيء لا يرغبون فيه، ويخالف معتقداتهم الشخصية أو الجماعية، وقد يكون العنف ناعما كالكراهية، والتعصّب، والتحيّز، والرقابة، وقد يكون خشنا كالاغتصاب، والاعتقال، والقتل؛ تبدأ دائرة العنف بالإبعاد، والتهميش، والإقصاء، وتنتهي بالاعتداء الذي يؤدي إلى أذى بدني قد ينتهي بالموت.
العنف هو كل فعل خشن يلجأ إليه الفرد أو الجماعة أو المؤسسة عن حقّ أو باطل؛ بهدف إرغام الآخرين على أمر يريده الفرد، أو ترغب فيه الجماعة أو تفرضه مؤسسة الدولة
ابتداء، ينبغي الوقوف على المفهوم الدقيق للعنف عند كبار المفكرين الذين انصب جهدهم عليه، باعتباره ظاهرة إنسانية شديدة الخطورة، والوقوف عليه بوصفه سلوكا شائنا، يختزن عدوانا، ويسوّغ لأصحابه الأخذ به أسلوبا في الحياة، وأداة لتحقيق الأهداف، ووسيلة لإخضاع الآخر- بما فيهم الخصوم- لاعتقادهم أنّه الوسيلة المثلى للتعبير عن الحقّ الشخصي والعام، ورفع الظلم، وردع الآثمين، واسترجاع الحقوق، وإثبات الذات، وصيانة القيم الدينية والاجتماعية، وحماية الجماعة من الخطر، وترسيخ الأمن في المجتمع، بل وينحرف اتجاهه إلى الذات، وذلك بتسليط الضرر على النفس بالانتحار، أو بالقهر الذاتي الذي يمارسه الفرد ضدّ نفسه. ولم يكن هذا السلوك طارئا في حياة الإنسان، فقد ضرب بجذره في الثقافات القديمة والحديثة، وعرفته المجتمعات والأمم عبر التاريخ، ونال حظّه من الذمّ والثناء، وانفلت أمره بدعاوى الحقّ أو بذرائع البهتان، وعدّه "روبرت براون" في أشكاله كافة "انتهاكا للشخصية، واعتداء على الآخر، أو إنكاره، أو تجاهله، وهو ضربان: عنف فردي يُؤذي الآخرين نفسيّا، وعنف مؤسّساتي تنتهك فيه هويّات الجماعات.
العنف، والحال هذه، هو التصرّف بالقوة في غير ما ينبغي أن تتصرف به، وبمجرّد فتح باب الاجتهاد في متى، وأين، وكيف، ينبغي اللجوء إلى العنف، فسوف تنهار الحدود المانعة للعدوان، فذرائع اللجوء للعنف جاهزة، وفيها سيل لا ينضب من الأسباب التي بقليل من التكييف تصبح مسوّغات لإطلاق العنف من عقاله. وقد يكون جملة من الميولات الذهنية أو النفسية الرامية إلى الإذلال، فيكون الأخذ به نتاج أفكار عدوانية لا تقرّ بحقوق الآخرين، ولا تعترف بهوياتهم الفردية أو الجماعية، فيلوذ المعتدي بالتعسّف وسيلة في فرض رغباته على المعتدى عليه، وإذ رأى فرويد في الإنسان كائنا مجبولا على العنف في خلقه؛ لانقياده للأهواء والغرائز التي تريد إشباعا لها، فإن بعض الجماعات أو الشعوب أو الأمم تنساق وراء كراهيات تفضي إلى الأخذ بالعنف ضد المناوئين لها. وقد يعبّر العنف عن نفسه بالسلوك أو الموقف أو وجهة النظر، ومثاله الكراهيات الدينية، والأحقاد العرقية، والتحيزات المذهبية، والإيمان بالتفاضل على أساس الدين والمذهب، ويقع التعبير عنه بالممارسات الدينية أو الثقافية، غير أنّ أخطر أشكال العنف هو الممارسة المسببة للأذى الجسدي، والإبادة الجماعية، وفي مقدمة ذلك الحروب التي تبيح القتل بدعاوى شرعية.
وبالإجمال، يعبّر العنف عن نفسه بممارسة القهر النفسي أو البدني على الآخرين أو على الذات، بما يلحق بهم أو بها ضررا يفضي إلى المشقّة أو الإذلال أو الهلاك، وأغلبه يكون سلبا للحقوق الشرعية، والإكراه على أعمال غير مرغوب فيها، وقد يتخذ سمة العدوان الصريح، أو التعبير الضمني عنه، ويرثه الشخص عن البيئة التي يتربّى فيها، وبخاصة في مجتمعات المراقبة، حيث يصبح العقاب وسيلة للإصلاح، وقد يكون تعبيرا عن رغبات عدوانية دفينة تنبعث حالما تخف الرقابة عنها، أو ربما يكون تعويضا عن شعور بالإحباط جراء الإحساس بالظلم، وغياب العدالة، وقد يجنح الإنسان لإلحاق الأذى بنفسه أو بغيره بحسب اتجاه العدوان، والعثور على ضالته، وقد يكون العنف نتاجا لرسوخ عقائد فكرية أو دينية، أو تعبيرا عن أعراف اجتماعية راسخة، لها صلة بالهيبة والشجاعة والفروسية، أو بحثا عن تعديل الأحوال الاجتماعية السيئة، كما قد تلوذ بالعنف النخب المسيطرة لتقهر به الأغلبية، أو تعتمده الأغلبية في قهر الأقليات بدوافع من عدم الاعتراف، ولا نعدم للعنف أسبابا ثقافية لها صلة بالمتخيلات الأدبية، وكيفية توظيفها في بناء الثقافات القومية على قاعدة من الرفعة والسمو، ويغدو العنف خطرا ماحقا، حينما تأخذ به مؤسسة الدولة وسيلة لبسط نفوذها الغاشم، وإرغام الآخرين على الأخذ بالأيديولوجية الخاصة بها، وبسط النفوذ للاستئثار بالحكم وبالثروة، ولا يستبعد أن تكون للعنف أسباب دينية تخلع عليه سمة التقديس من أجل إحقاق الحق، وإزهاق الباطل، وقد عرضت الآداب السردية تمثيلا لسائر أشكال العنف، ووقفت على أسبابه ونتائجه.
لم تفت فرويد ملاحظة ظاهرة العنف التي رآها لصيقة بالتاريخ الدنيوي، ولابثة في سلوك السلالة البشرية منذ بدء الخليقة، وقامت فرضيته في رصد ظاهرة العنف، وتحليل أسبابها على مبدأ الازدواج الغريزي في خلق الإنسان، فتوصّل إلى أنّ الغرائز تتألف من نوعين: غريزة تُبقي الإنسان على قيد الحياة، وتوحّده مع الآخرين، وتمدّه بأسباب الديمومة، وهي الغريزة الجنسية، وغريرة عدوانية تؤدي إلى الهلاك والفناء، وهما تجسيد للتناقض بين الحبّ والكراهية، وتتألف الحياة منهما معا، ولا يمكن لأحداهما العمل بمنأى عن الأخرى، فغريزة حبّ البقاء، وهي جنسية، تحتاج إلى امتلاك الروح العدوانية، إذا ما أرادت تنفيذ رغبتها، فلا عجب أن ترتبط الدوافع النبيلة بالشهوات التدميرية، ويحافظ الكائن الحي على حياته بإتلاف ما هو غريب عنه، فالنزعات العدوانية جاثمة في عمق الوجود الإنساني.
ميّز فرويد بين عنف شرعي مُنح تغطية اجتماعية، فأصبح مباحا، وهو خاص بمؤسسة السلطة، وعنف غير شرعي لا يوجد له أي غطاء قانوني، هو العنف الفردي
يفضي بنا الإطار العام لمفهوم العنف وتجلّياته إلى القول بأنه لم تتفق الآراء حول حوافزه، ولا حول مكامنه، فقد يكون متأصلا في بني البشر الذين جبلوا عليه، أو مكتسبا بالتنشئة التي يتلقّاها الناس، فيصبح جزءا من عاداتهم، وأعرافهم، وركنا في تنظيم علاقاتهم فيما بينهم، وفي علاقتهم بالآخرين، وما يلبث أن يكون باعثا للحظوة والاجلال، ثم وسيلة للامتهان والإذلال. وحسب أكثرية الباحثين الذين شغلوا بهذه الظاهرة، فلا يبرأ من العنف فرد كلّ البراءة، ولا تخلو أمة من الأمم من اللجوء إليه في وقت الشدّة للدفاع عن نفسها، أو في وقت الرخاء طمعا في المجد، أو التوسّع، أو الاستئثار بالأرض وما عليها. وعلى الرغم من ذلك، فقد جرت محاولات، لا تُعدّ ولا تحصى، للحيلولة دون الإفراط في استخدامه، بل لجمه، وتقييده، وتهذيبه، ليتوارى فلا يعود حاضرا في كل نزاع، أو محفّزا لكل نزوة، وبخاصة أنه ثبتت استحالة اقتلاعه من النفوس اقتلاعا نهائيا، فهو ينحبس برهة ثم يتفجر بغتة لأي استفزاز حتى لو كانت أسبابه مختلقة، ولم يتمكّن معتقد ديني، أو تمدّن مجتمعي، أو قانون وضعي، أو تنشئة تربوية من لجمه باعتباره انفعالا مستنكرا، فهو يتدفّق حالما تخفّ الرقابة عليه؛ لأنه استقر في الطباع كما قال فرويد، وأصبح جزءا من الغريزة البشرية.
ميّز فرويد بين عنف شرعي مُنح تغطية اجتماعية، فأصبح مباحا، وهو خاص بمؤسسة السلطة التي من أولى مهامّها السيطرة على عنف الآخرين بعنفها هي الذي شرّعت له بالقانون، واحتكرته، وجعلت منه قاعدة من قواعدها، وعنف غير شرعي لا يوجد له أي غطاء قانوني، هو العنف الفردي، الذي يهدّد المجتمع إذا مارسه أفراد شذّوا بأفعالهم عن المشترك الاجتماعي العام، فنكون أمام ضربين متوازيين من العنف، اتّخذ الأول منهما شكل قانون غايته صون الجماعة، وضمان حقوقها، واتّخذ الثاني منهما شكل عنف فردي يلجأ إليه الأفراد لأسباب شخصية في انتزاع حقوقهم، أو الاستئثار بحقوق أقرانهم. يوجد تناقض صريح بين القانون والعنف، على الرغم من أن الأول تطوير للثاني في أنه كابح للضرر الخارجي، وحافظ للجماعة، ذلك أن "صراعات المصالح بين الناس تُحسم مبدئيا عن طريق العنف"، وهذا العنف مشروع عند فرويد الذي شرح كيفية التواطؤ على القبول به من كونه عنفا فرديا مجردا إلى عنف وظيفي صائن للحقوق العامة "في البدء كانت قوى العضلات هي التي تقرّر ملكيّة هذا الشيء أو ذاك، فتفرض هذه الإرادة أو تلك على الثلّة البشرية الصغيرة، ثم سرعان ما تمّ استبدال القوى العضلية بالآلات، وبات من يمتلك الأسلحة الأكثر فعالية أو كل من يستخدمها بشكل أفضل، يُكتب له النصر. وباستخدام السلاح بدأ التفوّق الفكري يحلّ محلّ القوة العضلية الفظّة. ومع ذلك، بقي الهدف النهائي للقتال على حاله، وهو إجبار أحد الطرفين على التخلّي عن مطلبه أو التنازل عن اعتراضه من خلال تدميره، أو شلّ قواه الحربية. ويتحقّق هذا الهدف إذا ما تمكّن العنف من إزالة الخصم على نحو دائم أو قتله. وهنالك فائدتان تتمخّضان عن ذلك، وهما: عدم قدرة الخصم على استئناف القتال مرة أخرى، ومن ثمّ ردع الآخرين كيلا يقتدون به؛ فضلا عن أن قتل العدو يرضي النزعة الغريزية".
لم يقتصر دور الدولة على احتكار العنف بهدف صون الجماعة؛ لأنها أعادت توظيفه لتشمل به جماعات معينة من المناهضين لها في داخل الدولة نفسها، فالوظيفة الأساسية للدولة الحديثة تأمين الحماية لمواطنيها؛ أي إنها تحميهم من بعضهم، وتدافع عنهم ضد الأخطار الخارجية، ومع ذلك فقد تنكّرت الدولة لهذه الوظيفة، في كثير من الأحيان، واتجه عنفها إلى شعبها، وكما قال دوموشيل، فإن "ممارسة العنف ضد الشعوب المدنية، والإبادات الجماعية، وصنوف التطهير العرقي، والمذابح، ترتكبها الدولة بشكل أساسي، وعلى نطاق واسع ضد مواطنيها أنفسهم".
وقد لاحظ "سلافوي جيجيك" ظاهرة جديرة بالانتباه في سياق النزاعات الأهلية والعسكرية تدعم هذه الفكرة، وتؤكدها، ومما يؤسف له أنها من كثرة تكرارها ما عادت ملفتة للاهتمام؛ فالأشخاص الذين يبالغون في ممارسة العنف ضدّ أعدائهم يكونون قادرين على إبداء العواطف الإنسانية الدافئة، والاهتمام اللطيف تجاه جماعتهم، أفليس غريبا أن يكون الجندي الذي ذبح مدنيين أبرياء مستعدا للتضحية بحياته في سبيل وحدته العسكرية، وأن يكون بمستطاع القائد الذي أمر بإطلاق النار على الرهائن أن يدبّج لعائلته رسالة مفعمة بالحبّ الصادق في الليلة نفسها؟ فهؤلاء متورّطون في تناقض شنيع؛ لأنهم ينتهكون القواعد الأخلاقية الداعمة للجماعة التي يتكلّمون لغتها، فحرمان أولئك الذين هم خارجها من الحقوق الأخلاقية المتاحة لمن هم في داخلها لا يتوافق مع أي وجود إنساني طبيعي. إنه انتهاك لنزوع الإنسان الأخلاقي العفوي، وهو أمر ينطوي على ظلم قاس، وإلغاء للذات. نعثر على أمثلة كثيرة من ذلك في آداب الحروب العالمية والقومية والوطنية، حيث تحتكر الدولة العنف، وتعيد توجيهه طبقا لمصالحها وأهدافها، وتجعل من مواطنيها وسيلة للنيل من خصومها بذريعة الدفاع عن السيادة أو الذود عن القيم الكبرى، وينتشي مواطنوها في التعبير عن زهوهم الوطني في التنكيل بالأعداء، والمبالغة في إيذائهم.