حوارية الفهم عند هانز جورج غادمير

حمادي عبيد

 

مقدمة

يمثل الكتاب الرئيس لغادمير "الحقيقة والمنهج" مساءلة عميقة لما يسميه تجربة الحقيقة. هذا ويجدر التنبيه إلى اتساع دائرة الحقيقة عنده لتحيط بمباحث الاستيتيقا والتاريخ واللغة،... تتجاوز الحقيقة بحسب غادمير المنظورية العلمية؛ فالحقيقة ذات طابع إنساني لها القدرة على إعادة التفكير في علاقة الإنسان بذاته وبالآخرين وبالعالم[1] لا مجال إذا للاكتفاء بالتطبيق الصارم للبرادغيم العلمي الذي يتأسس على الموضوعية ذلك بالنظر إلى استحالة الفصل بين الذّات الدّراسية وموضوع الدراسة.

تعكس فلسفة غادمير بطريقة تأويلية مكانة الإنسان وفرادته، هذا الأمر هو الذي وسم فلسفة بكونها "فلسفة هرمينوطيقية" بهذا المعنى لا تنفصل الهرمينوطيقا عن الفهم الذي يستهدف في العمق ضربا خصوصيا من المعرفة. هذا الضرب من المعرفة ينهض فيه الحوار بتحقيق مطلب الفهم. يتعلّق الأمر بهرمينوطيقا حوارية تتأسس على ثنائية سؤال-جواب، بمعنى "هرمينوطيقا فلسفية تقترح تصورا للفهم يكون لسانيا وحواريا واجتماعيا"[2]. لها القدرة على بلوغ هدف "الفهم الجيّد".

بالحوار نستطيع أن نفهم بطريقة أفضل العلاقة مع العالم، وأن ندرك بكيفية أكثر وضوحا علاقة الإنسان بذاته وبالآخرين. لأمر كهذا تستجيب حوارية الفهم إلى مطلب المعرفة والمقصد الإيتيقي. ثمة تجربة من خلالها تتجلى محدودية الواقع الإنساني وتناهيه، لأنّ "التجربة الحقيقية هي التي تجعل الإنسان على وعي بتناهيه. داخل هذه التجربة يعرف كلّ من العقل المنّظم والقدرة على الفعل محدوديتهما."[3]

1. الفهم والحوار

لا ينفصل الحوار بالمرة عن فلسفة غادمير، وهو وطيد الصلة بالهرمينوطيقا التي أضحت في جوهرها حوارا في الفهم، لا تحجب بداهة معنى الحوار دلالاته المختلفة، ثم أنواع متعددة من الحوارات، بل توجد مستويات عدة داخل الحوار الواحد. مع غادمير يتم تعميق مفهوم الحوار الذي تعود أصوله إلى سقراط وتلميذه أفلاطون، وذلك بهدف إيضاح المقصود من حوارية الفهم.

يلجأ غادمير إلى تاريخ الفلسفة ليثري أطروحته الخاصة، يتعلق الأمر هنا باستثمار مهم لأجل هرمينوطيقا تعتبر أنّ تاريخ الفلسفة هو مجال تفكرها بامتياز

يتجلى الفهم عبر الحوار وبالحوار يتحقق الفهم. ثمة تماسك نسيجي بين الحوار والفهم، فأن نفهم هو أن تنخرط في حوار مع الآخر أو/و العالم. وفي نفس السياق، أن تنخرط في الحوار يعني السعي لضمان تحقق الفهم. ما يمكن الانتهاء إليه هو أنّ الحوار يعبر عن طريقة وجودنا في العالم، وذلك لأنّ الفهم هو فهم العالم بالدّرجة الأولى. جلي بذاته أنّ "الفهم لا يتحقق إلا داخل حوار يبحث أن يكون في مستوى الشيء؛ وذلك انطلاقا من التصورات السّابقة التي تسكننا".[4]

يلجأ غادمير إلى تاريخ الفلسفة ليثري أطروحته الخاصة، يتعلق الأمر هنا باستثمار مهم لأجل هرمينوطيقا تعتبر أنّ تاريخ الفلسفة هو مجال تفكرها بامتياز. في هذا المستوى يستلهم غادمير أفلاطون شروط الحوار ومعاييره، وذلك لبلوغ حوارية معاصرة هي الهرمينوطيقا ذاتها. يمكن القول مع غادمير: "أنّ الأثر الحواري لأفلاطون يعبر عن أنّ الفكر يشير إلى الواجد والوجود والخير، مؤثرات تتجسّد في نظام النفس ونظام المدنية ونظام الكون"[5].

يعتبر الحوار فنّا أو مهارة، وفنّ الحوار السقراطيُّ والذي يستند إليه غادمير، ينبني أساسا على تثمين ما يقوله الآخر. بهذا المعنى لا ينفصل الحوار عن فضيلة الإصغاء بوصفها احتراما وتقديرا لرأي الآخر. ثمة إذا أبعاد تربوية في الحوار الحق ومن هنا كانت الحاجة إلى تعلم الحوار. يستهدف تعلم الحوار غايات معرفية، كما تتنزل أهمية الحوار ضمن إطار إبستيمولوجي على الرّغم من "غياب منهج يعلّم المساءلة، ويعين ما هو إشكالي، فمثال سقراط يعلّمنا على العكس من ذلك أنّ ما يهم هو أن نعرف أننا لا نعرف شيئا"[6].

لا نبحث في الحوار عن دحض الآخر بحجة أن يكون الأنا دائما على صواب أو هو المرجع الأوحد للحقيقة. فمجال الحوار ليس مجال هيمنة، لأن هاجسه يتمثل في نحت تصور مشترك يُعنى بالحقيقة. بهذا المعنى يدور الهدف الرئيس للحوار حول الفهم الأفضل. يتعلق الأمر بحوار يحقق أفضل فهم ممكن بمعية الآخر، أو بعبارة أخرى. "إننا ومن خلال العلاقة بالآخر نرتقي فوق الضيق الذي تمثله الضمانات الذاتية للمعرفة. في هذا الإطار، ينفتح أفق نحو المجهول وهذا يحصل داخل كل حوار أصيل"[7].

بالاستناد إلى الحوار السقراطي، يمكن أن نشدد على الطابع البدائي لحقيقة تفرزها العلاقة بين المتحاورين، طابع يمثل شرط إمكان التفكير. إن الحوار السقراطي يمثل نموذجا بالنسبة إلى غادمير ينبني على قاعدة وجود متحاورين لكل منهما إجابة تختلف عن إجابة الآخر ولكنهما معا ينخرطان في هدف مشترك ولهما نفس إرادة بلوغ الحقيقة وبالتالي القبول بما ينتهي إليه الحوار. بهذا المعنى يعتبر الحوار حكمة عملية ولأجل ذلك "يجب إحياء المأثور السقراطي المتعلق بالحكمة الإنسانية التي تتجلى كوعي بالجهل"[8].

يعتبر الحوار الحقيقي أن الوجود المشترك هو الهدف الأساسي مع العلم أن مقصد الوجود بالمعية لا يعني محو فرادة المتحاورين. ثمة مجال للمحافظة على الغيرية وصون الاختلاف بين المنخرطين في الحوار وذلك بالاعتماد على ما يضمنه الحوار من مسافة. يوضّح الحوار القائم على المناظرة بين أفكار مختلفة، الوظيفة النقدية لهرمينوطيقا غادمير بوصفها احتراما للفرق، لأنه "كل حوار حقيقي يستوجب تفاعلا مع ما يقوله الآخر واعترافا بوجهة نظره، وأن نضع أنفسنا في مكانه."[9]

يتطوّر الفهم وينمو بواسطة اللغة، ولأهميتها خصص غادمير الجزء الأخير من كتاب "الحقيقة والمنهج" كي يبرز ظاهرة اللغة. ثمة قيمة أنطولوجية يضعها غادمير في اللغة، قيمة بواسطتها تتجلى الأشياء لتكون قابلة للفهم. تمثل هرمينوطيقا غادمير تفكيرا في اللغة، وإلى جانب قيمتها الأنطولوجية، فإنها تعبر عن قيمة سوسيولوجية، لأن "المجموعة التي نسمها بالإنسانية، تقوم على شكل البناء اللغوي لوجودنا المعيش."[10]

بين الحوار واللغة تماسك لا يمكن فك عراه، فكلاهما يحمل ذات الأبعاد الإتيقية والمعرفية. وبالفعل تعتبر "اللغة من حيث ماهيتها لغة حوار، تمكننا من التفاهم بالنظر إلى طبيعتها الخاصة."[11] هذا وتمثل اللغة لدى هيرمينوطيقا غادامير طريقة في الوجود وكيفية في التموقع ضمن العالم[12] لأننا نعيش باللغة وداخل اللغة.

لا شيء يفلت إذن من اللغة، والأشياء ذاتها تظهر بواسطتها، لأجل ذلك نؤكد أن الأشياء تبدو لنا وفق نظام اللغة. لا يمكن اختزال اللغة التي هي أساس الفهم، في نسق مجرد من العلامات يحكمه التناسق والانسجام الداخلي. في هذا المستوى، يعلن غادمير محدودية المقاربة اللسانية على الرغم من اعترافه بثرائها.

بالحوار يمكن مراجعة أحكامنا المسبقة وتوسعة آفاقنا، هذا هو المقصد من الفهم والهدف من الهرمينوطيقا. إن حوارية الفهم انفتاح على غيرية الآخر وغيرية العالم، فأن "نفهم هو بداية أن نتفاهم مع الآخر بخصوص شيء ما، فالفهم هو بالأساس تفاهم."[13] يقوم الحوار الذي يمثل انفتاحا على قيم ومعايير كي لا يصبح حوارا مغشوشا. بهذا المعنى، تصبح القدرة على الإصغاء شرطا ضروريا للحوار. هذا الشرط يسمح للمتحاورين بتجاوز أحكامهم الخاصة ووضعها موضع التساؤل.

يعتبر الحوار الحقيقي أن الوجود المشترك هو الهدف الأساسي مع العلم أن مقصد الوجود بالمعية لا يعني محو فرادة المتحاورين

تكمن فضيلة الحوار في تملّك فهم أفضل للشيء الذي هو أساس فهم أفضل للذات وللآخر. هذا الحوار الذي هو في صلب هرمينوطيقا غادمير يمثل عاملا ضروريا للفهم الذي لا ينفصل عن المعرفة بالمرة، فأن نفهم هو أن نعرف. ثمة مجال للتأكيد مرة أخرى مع غادمير على البعد الإبستيمولوجي للحوار. يتعلق الأمر بإبستيمولوجيا خاصة تختلف عن البراديغم العلمي بمعناه الدقيق. يستكشف غادمير تصوّرًا جديدا للمعرفة، تصوّرا يحترم فرادة الحقيقة الإنسانية، وفي كل الحالات تمثل الهرمينوطيقا وطريقتها في الفهم بواسطة الحوار طريقة نحو الحقيقة[14].

لا وجود مع الحوار لمعرفة مطلقة أو حقيقة مكتملة، ثمة انفتاح هرمينوطيقي تصبح معه كل حقيقة قابلة لفهم مغاير. إن الحقيقة في إطار منظورية هرمينوطيقية تستمد قيمتها من قدرتها على الفهم، وجلي بذاته أن هذه القدرة نسبية ومحدودة ومتطورة. ليس الفهم الحواري الذي يعبر عن التناهي الإنساني، بمعرفة علمية دقيقة ويقينية، للأجل ذلك "يجب علينا جميعا تجاوز حدودنا كي نفهم. وهذا لا يحصل إلا بالتبادل الحي الذي يجسده الحوار."[15]

يصدر الحوار الحقيقي عن ذات واعية واثقة من ذاتها لها القدرة على مساءلة أحكامها المسبقة، لأن الأشياء يمكن أن تفهم بطريقة مغايرة. فوعي الإنسان بتناهيه يدفعه للسعي نحو الاكتمال عبر ما يرسيه الحوار من انفتاح. في هذا المستوى "لا يتمثل التفاهم المطلوب بواسطة الحوار في التمسك بوجهة نظرنا والانتصار لها، إنه على العكس من ذلك الديناميكية الهادفة إلى جعلنا ننخرط في ما هو مشترك، وبفضلها لا شيء يظلّ على حاله."[16]

لا وجود لحوار ولا لفهم ولا لحقيقة دون الأخذ بعين الاعتبار الآخر في غيرته. نختلف عن الآخر في تصوراته وأحكامه، ولكنه اختلاف من أجل أن نكون معا؛ أي إن نلتقي حول حقيقة مشتركة هي الحقيقة الحوارية. يمكن التأكيد مع غادمير على "أنه في كل مرة يقع رفع الغموض عن لغز ما، أو توضيح شيء ما (...) نكون بصدد مسار هرمينوطيقي يتمثل في إيجاد لغة ووعي مشتركين."[17]

يميّز الطابع الحواري للفهم بطريقة صارمة بين انغلاق المعرفة وانفتاح التجربة. إنه في العمق تمييز بين مجال الطبيعة ومجال الإنسان. يصدر هذا التمييز عن تمييز أعمق يضع التناهي الإنساني في مواجهة لا تناهي المعنى، فهرمينوطيقا غادمير تستجيب إلى المطلب الفلسفي المتعلق بالمعنى والدلالة. في هذا المستوى، يؤكد غادمير أن "لا أحد يعرف مسبقا ما سينتهي إلى حوار ما. فنجاح التفسير أو إخفاقه يكون بمثابة الحدث الذي يباغتنا".[18] هذا الانفتاح على اللامتناهي من المعنى له أبعاد إيتيقية. إنه انفتاح يحتمل التفكير في إيتيقا الفهم، فنحن نفهم استجابةً لمطلب إيتيقي عن طريق قرار يمكن أن نقول بشأنه أنه قرار إيتيقي.

2. الحوارية انفتاح إيتيقي

ثمة أهمية للتسليم بالطابع العملي لفلسفة غادمير التي تتأسس على التجربة والتطبيق، وذلك لأن الهرمينوطيقا لا تبحث عن بناء نظرية شديدة التماسك وبالغة الانسجام للمعرفة أو نظام صارم للحقيقة. تمثل فلسفة غادمير إذن محاولة جديدة في إعادة صياغة العلاقة بين النظر والعمل. صياغة تتجاوز التعارض التقليدي بين النظرية والممارسة، لأجل ذلك "لا يكتفي غادمير بالتأكيد أن الفهم والتطبيق لحظتان متلازمتان، يتعلق الأمر بفهم نظري يتبعه تطبيق عملي".[19]

بالفعل تكمن قيمة الهرمينوطيقا في قدرتها على فك رموز المعاني الكامنة في الأشياء والنصوص والآثار الفنية. ثمة إذا محدودية تتعلق بالمقارنة التقليدية الباحثة عن التقاء المعنى النهائي والدلالة المطلقة ومن هنا كانت الحاجة إلى الهرمينوطيقا. الهرمينوطيقا في المقام الأول هي الممارسة التي بواسطتها يمكن التأكيد أن "الفلسفة التأويلية لا تفهم باعتبارها موقفا مطلقا، إنما هي طريق يتوجه إلى التجربة. فلسفة تؤكد على القول بأنه لا وجود لمبدأ أسمى إلا ذلك المنفتح على الحوار".[20]

يتمظهر الطابع العملي لهرميمينوطيقا غادامير بواسطة الحوار الذي يعد سلوكا نسلكه تجاه الآخر، وبما أن الحوار انفتاح على الغيرية فمن المتعذر فهمه خارج المنظومة الإيتيقية. يجدر التنبيه في هذا الصدد إلى أنه لا وجود لإتيقا معلنة لدى غادمير، بمعنى لا وجود لنظرية إيتيقية لديه. ثمة استتباعات إيتيقية لفلسفته الهرمينوطيقية.[21] في هذا السياق، يمثل الحوار واحدا من أهم هذه الاستتباعات، لأنه يمثل نمط وجود. إن الحوار بهذا المعنى هو الشرط الإيتيقي للغيرية بوصفه أداة فعّالة لمواجهة انغلاق الذات المعتدة بذاتها والمترفّعة عن الآخرين. يتعلق الأمر بإيتيقا الحوار بما هي ضرب من الفهم التأويلي بواسطته ندحض فكرة التمركز حول الذات، فأن "نفهم هو بالتأكيد أن نغادر وجهة نظر ذاتية ومحدودة ليس لمجرد قبول رأي الآخر، وإنما التوجه معه إلى مقصد فهم الأشياء ذاتها."[22]

يوجد مجال آخر للالتقاء بالغيرية، ويتمثل في التعاطي مع نص يعبّر عن نوع من الحوار بين الكاتب والقارئ. على ضوء هذا الفهم الحواري يمكن مراجعة أحكامنا المسبقة، وتعديل تصوراتنا بخصوص وجودنا في العالم الذي يحيط بنا. إن المهمة الأساسية للهرمينوطيقا تتركز على تأويل النصوص، لذلك "تسمح الطبيعة الحوارية للفهم بالتأكيد على كون النصوص تسمح دائما بإمكانية قراءة مغايرة. وهذه واحدة من مهمات المسؤول الذي يسائل النصوص لجعلها تقول أكثر مما تقول".[23]

إذا أمكن القول بوجود إيتيقا لدى غادمير، فإن المقصود من ذلك وجود قرار إيتيقي لا بناء نظرية في الأكسيولوجيا. ثمة فرضية إييتيقا على منوال الفرونيزيس الأرسطي الباحث عن حسن التدبير والروية والتعقل. لا نبحث مع غادمير على تأسيس المعايير الأخلاقية المحكومة بفكرة الواجب، يتعلق الأمر ببلوغ قرار عادل في مواجهة وضعيات تتصف بالفرادة والاستثنائية. يقول غادمير في هذا الصدد: "يبدو لي أن التصور الأرسطي للعلوم العملية هو النموذج الإبستيمولوجي الذي يمكن بفضله التفكير في علوم الفكر."[24]

يحاول غادمير ومن خلال الاعتماد على الفرونيزيس الأرسطي نحت تصوّر إيتيقي معاصر. وبمساعدة الفرونيزيس بما هو معرفة عملية، نحن دائما منخرطون ومنفتحون بالمعنى الإيتيقي للحوار؛ أي إن معارفنا تترجم كأفعال وسلوكيات. على هذا الأساس يبحث غادمير على بناء تماثل بين الفهم والفرونيزيس، بمعنى آخر "إذا ألحقنا، وصف المشكل الإيتيقي، ولا سيّما المتعلٌّق بحقيقة المعرفة الأخلاقية عند أرسطو، إلى إشكالياتنا الخاصة، يصبح التحليل الأرسطي نموذجا لمعالجة المسائل التي تطرحها المهمة الهيرمينوطيقية."[25]

يستلهم غادمير من الفرونيزيس الأرسطي الطابع العملي الذي يجعل تطبيق الهيرمينوطيقا أمرا ممكنا، ومع ذلك يجب التنبيه إلى كون المسؤول لا يمتلك معرفة سابقة جاهزة للتطبيق. بهذا المعنى "تكون الهيرمينوطيقا المعنية بفهم الذات فلسفة عملية. إن التعلّم هو فعل تربوي واكتساب لثقافة داخل سياق يحتكم للانفتاح."[26] يمثّل الفرونيزيس الذي يتباه غادمير صيغة من صيغ الفكر الناجع، وهو بهذا المعنى يعبر عن طريقة إيضاح طبيعة الفعل الإنساني في فرادته. ثمة مجال لفك ألغاز الطابع العلمي للفهم عند غادمير، وذلك بالنظر إلى كون الفرونيزيس لا يتنزل ضمن نظام المعرفة العلمية بقدر ما هو معرفة علمية.

يعتبر الفهم عند غادمير نموذجا معرفيا شديد الارتباط بكيفية وجودنا، وعليه يمكن التأكيد على كون الهيرمينوطيقا تجسّد التمفصل بين اللغوس والايتيوس. لا يتوجه الفهم من المسؤول إلى الشيء. على العكس من ذلك، فإن المسؤول ينوء بعبء الشيء الذي ينبغي فهمه. يمكن التأكيد إذن أن قراءة غادمير للفرونيزيس معنية بتطوير بعد إبستيمولوجي، على الرغم من وجود ملامح إتيقية في فعل الفهم بما هو معرفة منفتحة على الغيرية. في هذا السياق: "لا وجود لأساس أوحد لسلطة الأفراد في فعل الخضوع وتراجع العقل، إنما يتعلق الأمر بضرب من المعرفة والاعتراف."[27]

إذا كان الفهم يمثل طريقة في إدراك الحقيقة يجب أن نقبل بكون هذه الحقيقة تمرّ بوساطة الحوار. يمثل الفهم إذن انفتاحا على الغيرية؛ أي انفتاح على كلام الآخر بوصفه عمادا للحقيقة. يتعلق الأمر بحقيقة بيذاتية، حيث لا يختزل المعرفي في اقتدارات الذات المفكرة. لا يمكن بالمطلق أن ندخل في الحوار دون أن نكون لنا القناعة بأن لدى الآخر الحق في الكلام، وأن لأحكامه ما يمكن أن يسندها. الآخرون شركاؤنا معهم يستطيع التوصل إلى لغة مشتركة وقرار مشترك[28].

يتمظهر الطابع العملي لهرميمينوطيقا غادامير بواسطة الحوار الذي يعد سلوكا نسلكه تجاه الآخر، وبما أن الحوار انفتاح على الغيرية فمن المتعذر فهمه خارج المنظومة الإيتيقية

يستوجب الوجود المشترك الذي يؤثثه الحوار الحضورَ الفاعل للآخر، وهي علاقة تتجاوز البعد الإبستيمولوجي للحوار لتؤكد طابعه الإيتيقي. إن الحوار الذي يستهدف الحقيقة بما هي معرفة واضحة ومتميزة، يستهدف في الآن ذاته اللقاء مع الآخر على صيغة التضامن والتعاون. بالفعل لا يمكن الاكتفاء بالبعد الإبستيمولوجي للحوار؛ وذلك بالنظر إلى الجانب العلمي والذي لا يقلّ أهمية. يقول غادمير في هذا الصدد: "تجد جدلية التجربة اكتمالها الخاص، وذلك ليس في انغلاق المعرفة وإنما في الانفتاح على التجربة التي تحرر التجربة ذاتها."[29]

يرتكز الحوار الحقيقي على التضامن الإيتيقي وإيتيقا التضامن، هذا الحوار يحمل بالمثل بعداً اجتماعياً بما أن الوجود المشترك لا ينفصل عن المجموعة بالمطلق. هذا ويتمظهر التمفصل بين الإيتيقي والاجتماعي في الدور الذي ينهض به الآخر أو الآخرون في صلب فعل الفهم. ثمة إذاً مجال لتطوير تصوّر سوسيولوجي للفهم تلعب فيه اللغة دورا حاسما، وكما "بيّن أرسطو أن في جماعة لغوية أصلية لا ننطلق في الاتفاق، فالاتفاق قائم في كل الحالات."[30]

خاتمة

إذا كان الفهم يمثل ضرباً من الممارسة، فإن الهرمينوطيقا التي هي ضرب من المعرفة دائمة الارتباط بالممارسة كخاصة للوجود الإنساني. في هذا السياق "يرفض غادمير اخترال الهرمينوطيقا في مجموع من تقنيات البحث عن معنى نصيّ، وإنما يعمل على رفع منزلة الفهم إلى مرتبة البنية الأنطولوجية لنمط وجود الإنسان داخل العالم والتاريخ".[31] ثمة مجال إذًا للتأكيد على العلاقة التبادلية بين النظري والعملي، علاقة تنبني على تفاعل الفرونيزيس الأرسطي مع الفهم كما حدده غادمير.

تؤكد هرمينوطيقا غادمير على محدودية تصوراتنا في فهم الشيء أو العالم موضوع السؤال، فنحن لن ندرك الأشياء ولا الآخرين حين نتحدث عن ذواتنا. إن وضع أحكامنا المسبقة موضع سؤال تمثل فعل وعي، وعي بالغيرية يدفع إلى فهم مغاير فيه يصبح نداء الآخر يلزمنا بالتفكير بطريقة أخرى. يجب التأكيد على سلبية وعينا لأنه "حين نصغي إلى أحدهم أو حين نقرأ نصا، فذلك لا يعني أن نتنازل عن كل رأي خاص."[32] يتأسس الطابع الحواري للفهم إذًا على التفاعل والتبادلية بين الأنا والآخر.

إن الفهم بحسب غادمير هو انخراط في العالم الذي نتطلع إلى فهمه، ولأجل هذا يعتبر الفهم قرارا إيتيقيا يتخذ في مواجهة فرادة الحالات دون أن يكون وليد معرفة سابقة بما يجب فعله. لا وجود لقواعد تأويلية قائمة بذاتها تساعد على توضيح ما هو غامض، لأن "الهرمينوطيقا تعد تفكرات تتيح للمسؤول المرور من الجهل إلى المعرفة."[33] بهذا المعنى، يصبح الفهم فنّا ومهارة وصناعة. إنه في العمق تجربة انفتاح لا متناهية، تجربة خصبة تجسّد ما يصنعه الانفتاح الحواري من إبداع.


 

[1] يمثل موقف غادمير ضربا من النقد وجهه إلى العقلانية العلمية التقليدية التي تأسس على الموضوعية. يقول غادمير في هذا الصدد: »أن الطابع العلمي للعلم الحديث يتمثل بالتحديد في موضعة التراث والاستبعاد المنهجي لكل تأثير يمكن أن يضطلع به في فهم الحاضر الذي يعيش فيه المؤوّل.«

Voir à ce propos, Hans-Georg Gadamer, Vérité et méthode. Les grandes lignes d’une herméneutique philosophique, Trad. Pierre Fruchon, Jean Grondin et Gilbert Merlio, Seuil, Paris, 1996, p. 329

[2] Amar Djaballah, «L’herméneutique selon Hans-Georg Gadamer», in Théologie évangélique, Vol. 5. No. 1, 2006, p. 34

[3] Hans-Georg Gadamer, Vérité et méthode, éd. citée, p. 380

[4] Amar Djaballah, «L’herméneutique selon Hans-Georg Gadamer», éd. citée, p. 44.

[5] Hans-Georg Gadamer, La philosophie herméneutique, Tra. Jean Grondin, Puf, Paris, 1996, p. 53

[6] Hans-Georg Gadamer, Vérité et méthode, éd. citée, p. 389

[7] Carsten Dutt, Herméneutique. Esthétique. Philosophie pratique, Trad. Donald Ipperciel, Fides, Paris, 1998, p. 49

[8] Hans-Georg Gadamer, La philosophie herméneutique, éd. citée, p. 49

[9] Hans-Georg Gadamer, Vérité et méthode, éd. citée, p. 407

[10] Hans-Georg Gadamer, La philosophie herméneutique, éd. citée, p. 46

[11] Hans-Georg Gadamer, Vérité et méthode, éd. citée, p. 470

[12] إن فعل الفهم ممكن لأننا بواسطة اللغة ننتمي لعالم مشترك، أي »لعالم تكوينه لساني«. (Ibid, , éd. citée, p. 471).

[13] Jean Grondin, Introduction à Hans-Georg Gadamer, Cerf, Paris, 1999, p. 186

[14] يركزغادمير على القيمة الجمالية للفن، لأن »في كل تجربة جمالية هنالك مشروع حقيقة يتردد صداه في عمق من يقوم بتلك التجربة«. Voir à ce propos, Amar Djaballah, «L’herméneutique selon Hans-Georg Gadamer», éd. citée, p. 38 »إن الأثر الفني يتوجه إلينا بوصفه منطوقة Aussage، وبوصفه بيان أو رسالة لا يمكن أن نقف أمامها غير مبالين. «

Voir à ce propos, Jean Grondin, Introduction à Hans-George Gadamer, éd. citée, p. 67

[15] Carsten Dutt, Herméneutique. Esthétique. Philosophie pratique, éd. citée, p. 57

[16] Hans- George Gadamer, Vérité et méthode, éd. citée, p. 402

[17] Hans- George Gadamer, La philosophie herméneutique, éd. citée, p. 48

[18] Hans Georg Gadamer, Vérité et méthode, éd. citée, p. 405

[19] Amar Djaballah, «L’herméneutique selon Hans-Georg Gadamer», éd. citée, pp. 56-57

[20] Hans-Georg Gadamer, La philosophie herméneutique, éd. citée, p. 57

[21] على الرغم من أهمية الحوار والانفتاح على الغيرية، من الصعب التأكد من أن غادمير أراد صياغة مشروع إيتيقي. يمكن أن نستمد الأبعاد الإيتيقية من خلال تأويل هرميونطيقا غادمير التي قامت في هذا المستوى بمساءلة الإيتيقا الإغريقية بغية تناول البعد الحواري للفهم.

[22] Amar Djaballah, «L’herméneutique selon Hans-George Gadamer», éd. citée, p. 51

[23] Ibid, éd. citée, p. 55

[24] Hans-Georg Gadamer, La philosophie herméneutique, éd. citée, p. 50

[25] Hans-Georg Gadamer, Vérité et méthode, éd. citée, p. 346

[26] Amar Djaballah, «L’herméneutique selon Hans-Georg Gadamer», éd. citée, p. 36

[27] Hans- Georg Gadamer, Vérité et méthode, éd. citée, p. 300

[28] يقول غادمير في هدا الصدد: »أن في صلب العلاقة الإنسانية (…) من الأهمية بمكان ملاقاة الأنت بوصفه أنت؛ أي أن لا نتجاهل مطلبه، وإنما نترك شيئا ما يُقال من خلاله. «(Ibid, éd. citée, p. 384)

[29] Ibid, éd. citée, p. 378

[30] Ibid, éd. citée, p. 471

[31] Amar Djaballah, «L’herméneutique selon Hans-Georg Gadamer», éd. citée, p. 32

[32] Hans-Georg Gadamer, Vérité et méthode, éd. citée, p. 289.

[33] Amar Djaballah, «L’herméneutique selon Hans-Georg Gadamer», éd. citée, p. 58

الحوار الداخلي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك