الإسلام والتحديث السياسي في المجتمع العربي: جدل الحضور ودور الإقصاء

الإسلام والتحديث السياسي في المجتمع العربي: جدل الحضور ودور الإقصاء

طارق أحمد المنصوب*

محددات التحديث السياسي وإشكالياته في المجتمع العربي
مفهوم التحديث السياسي (Political Modernization) في الكتابات الغربية يتخذ عدة صور، ويتحرك -في مرجعيته الغربية- ضمن محدداتٍ معينة(1)؛ حيث يجعل البعض من قيام الرأسمالية الليبرالية، أو اقتصاد السوق، والعلمانية، أو فصل الدين عن الدولة وعن السياسة...إلخ، شروطاً ضرورية لقيام الديمقراطية والتحديث السياسي، وهم يفترضون أنه لا يمكن إقامة الديمقراطية أو نجاح التحديث في أي بلد، ما لم يكن نظام الحكم فيه علمانياً ورأسمالياً؛ ولهذا فلا يمكن -برأي هؤلاء- إقامة الديمقراطية إذا اتبع البلد نظاماً اقتصادياً غير رأسمالي، أو إذا كان حكمه نظاما سياسيا منبثقا عن الدين كالنظام السياسي الإسلامي(2) قوربما وجد هذا الطرح في بعض المراحل التاريخية من القرن الماضي سنداً قوياً له في التحولات التي عرفتها العديد من المجتمعات الاشتراكية، والعديد من الدول (العالم ثالثية) باتجاه الديمقراطية، واقتصاد السوق، نتيجة انهيار المنظومة الاشتراكية، وفشل العديد من تجارب التنمية والتحديث التي حاولت إنجاز التحديث والتنمية خارج إطار (النموذج الغربي) قوفي السياق نفسه، يرى أحد الباحثين(3) أن معاناة الديمقراطية، وعدم ولادتها في بعض البلدان العربية، قد ترجع إلى سيادة النمط التقليدي في التفكير، أو في الأشكال الاجتماعية. ويتساءل: كيف يمكن تحقيق الديمقراطية على أرضية تقليدية/ قبلية، في حين أنها انتعشت في أوربا في بيئةٍ ومناخٍ حداثيٍ، وعلى أرضيةٍ اقتصاديةٍ ليبرالية متجاوزة كلياً النمط التقليدي؟ وهذا قد يدفعنا إلى طرح مجموعة من التساؤلات:

هل يقتضي التحديث السياسي الأطر الفكرية أو نفس المحددات في كل المجتمعات؟ وهل يمكن تطبيق التجربة في كل المجتمعات بنفس الكيفية؟ أو أنها عملية تخضع لخصوصيات كل مجتمع، ومن ثم تفترض التحرك ضمن أطر ومحددات ومرجعيات مختلفة؟ وإذا افترضنا أن هناك اختلافاً واقعياً بين المجمتعات فما هذه المحددات أو المرجعيات؟

أعتقد أن الإجابة عن العديد من التساؤلات السابقة ممكنة من خلال الحديث عن مجموعة من المحددات التي كانت -ولازالت- تشكل مرجعية وإطاراً مغايراً، وفي بعض الأحيان، معادياً للنموذج الغربي للتحديث السياسي؛ حيث تتحرك فيه كل الجهود المبذولة للتحديث السياسي في المجتمع العربي، وسنناقش (إمكانية) تجاوزها في الواقع على أساس أن بعضها مثّل -ولايزال يمثل إلى وقتنا الحاضر- عوائقَ تحول دون أن يأخذ مسار التحديث في المجتمع العربي الوجهة التي يفترض أنها وجهته المقصودة.

وسنعمد إلى تحديدها من خلال ثلاثية محمد عابد الجابري المعروفة والمتمثلة في: العقيدة بوصفها محدداً ثقافياً وقيمياً؛ القبيلة بوصفها محدداً اجتماعيا؛ الغنيمة أو (الريع) بوصفها محدداً اقتصادياً؛ ولكن بكيفية تتفاوت وتتجاوز قليلاً الكيفية التي عالج بها الجابري محددات العقل السياسي العربي في المجتمع العربي، في العصور الأولى لبروز الدعوة الإسلامية؛ بسبب أن إسقاطها بصورة آلية قد لا يكون هو السبيل الأمثل لدراستها، كما أنه لا يبين الفروقات التي ربما تكون موجودة بين المجتمعات العربية والإسلامية، ويرجع ذلك -كما يلمح أحمد ثابت في عرضه لكتاب الجابري- إلى أن: (تكثيف المحددات الثلاثة في اللاشعور السياسي العربي: القبيلة، الغنيمة، العقيدة، يختلف ولا شك حتى في إطار المجتمعات ما قبل الرأسمالية بين خبرة مجتمع الجزيرة العربية في صدر الدعوة والفتوحات، عن خبرة مجتمعات نهرية مثل العراق وفارس ومصر. من هنا كان ينبغي دراسة تفاوت مفعول المحددات الثلاثة من مجتمع لآخر داخل الحضارة العربية الإسلامية)(4) وبالأحرى -في حالتنا- دراسة تفاوت هذه المحددات بين المجتمعات العربية والإسلامية في الظرفية التاريخية الراهنة.

وعليه سينصب التركيز هنا على تحديد الكيفية التي يتحرك في إطارها الفعل، أو السلوك السياسي في المجتمع العربي، وبيان ما إذا كانت هذه المحددات لا تزال تحتل بالفعل -حتى الوقت الحاضر- مركزاً أساسياً ليس فقط على هامش الوعي السياسي (Political Consciousness)، أو ما يسميه الجابري (اللاشعور السياسي)، بل في قلب هذا الوعي أو الشعور؛ باعتبار أن السلطة -أية سلطة- تخضع لحتميات أو (دوافع داخلية) وضرورات أو (تأثيرات خارجية)(5).

فالفاعل السياسي في أي مجتمع من المجتمعات لا يمكنه التحرك بمعزل عن البيئة التي يمارس فيها فعله السياسي -سواء أكانت هذه البيئة محلية أم إقليمية أم دولية- وهي التي تمثل الإطار الذي يتحرك فيه، ولا يتجاوزه إلا في حالات محددة، وفي ظرفية زمنية معينة: كما هو الأمر في حالات؛ الثورة، أو الانقلاب، أو القطيعة Alienation، وحتى في هذه الحالات الاستثنائية يبقى الحديث عن القطيعة في العديد من المجتمعات العربية والإسلامية غير ممكن بالشكل الذي حدث في العديد من المجتمعات الغربية.

وعلى الرغم من أن العديد من التجارب التي حدثت في هذه المجتمعات قد تبدو منقطعة الجذور، ومعزولة تماماً عن التجارب التي حدثت في المجتمع نفسه، وفي فترة تاريخية سابقة، وهو الأمر الذي يحول دون التراكم في التجارب السياسية، وفي البناء والتحديث السياسي، فإنها تنطلق -في الغالب- من نقطة انطلاق المرحلة السابقة نفسها؛ أي في الكثير من الحالات من المرحلة الصفرية، وفي إطار المحددات نفسها، والاستثناءات في هذا المجال محدودة للغاية.

والفعل السياسي في مجتمعاتنا يبقى محكوماً بتلك المحددات، وقد أبانت التجربة التاريخية للعديد من مجتمعاتنا العربية والإسلامية -سواء في الماضي أم في الوقت الحاضر- أن المحاولات المبذولة لتجاوز -أو على الأقل لإنقاص أوتقليل- أثر هذه المحددات كان يبوء في العديد من المحاولات بالفشل، ولأسباب مختلفة، بعضها محلي وذاتي، والآخر موضوعي خارجي؛ نتيجة تدخل عدد من القوى الإقليمية والدولية.

ويبدو لي أن من الضروري الإشارة إلى أن البيئة في كل واحدٍ من المجتمعات العربية يتسم بالعديد من (الخصوصيات) التي تطبع الفعل السياسي بالعديد من السمات التي قد تتفق أو تختلف من مجتمعٍ إلى آخر، وعليه وجبت الإشارة إلى أن أمر التعميم في هذه الدراسة يبقى منهجياً ومحدوداً في غالب الأحيان، ومن جهة ثانية؛ ونظراً لاتساع الموضوع وتشعب عناصره، وبسبب تعدد المحددات فسنكتفي بدراسة حضور واحد من أهم المحددات، ويتعلق الأمر بالمحدد المتمثل في العقيدة (الدين الإسلامي)، ولن نتطرق إلى باقي المحددات الأخرى؛ لاقتصار الدراسة على هذا المحدد دون سواه.

الإسلام بوصفه محدداً قيمياً - ثقافياً للتحديث السياسي في المجتمع العربي

ليس من العسير على المرء أن يلاحظ وجود العديد من الاختلافات الجوهرية بين الدول والمجتمعات من حيث تصور طبيعة التنمية، والتحديث، ومضامينها، وأهدافها، ومنطلقاتها، وغاياتها النهائية. فعلى الرغم من أن هناك شبه اتفاق بين العديد من المجتمعات -أياً كانت طبيعة تلك المجتمعات، وأياً كانت ديانتها، أو درجة تقدمها- حول بعض المعايير، أو المؤشرات التي يعدها البعض بمثابة مقاييسٍ لتحقق التنمية الاقتصادية مثل: زيادة الدخل القومي، ومتوسط الدخل الفردي، واستكمال البنية الأساسية، وتبني سياسات التصنيع، وتوفير الرعاية الاجتماعية والصحية والغذائية، ورفع متوسط استهلاك الفرد من الطاقة…، وغيرها من الأمور ذات الطبيعة المادية، فإن هناك العديد من الخلافات الجوهرية، سواء بين المفكرين، أم فيما بين المجتمعات والدول، حول تصور الإنسان، وحقوقه، وحرياته، وعلاقته بالمجتمع، وبالأساس حول علاقة الدين بالتنمية، وحول الضوابط الأخلاقية، والقيمية للتنمية(6).

وقد عد أحد الباحثين أن: (.. من أهم القضايا محل النقاش في عملية التحديث ما يتعلق بدور الدين Role، فالاتجاه نحو التقنية ونشرها في المجتمع يضعف بالضرورة من سلطة الدين، على الأقل في بعض مجالات الحياة،...، وتاريخياً يبدو حصول توافق عام بين العلمانية Secularization (أي التحرك من الاعتقاد الديني إلى الاعتقاد الدنيوي كأساس لصنع القرار)، والتحديث Modernization، ومع ذلك فالمسألة أكثر من أن تكون حالة عادية من المواجهة أو التضاد بين الدين والتحديث)(7).

فهذه القضية أثارت -ولازالت تثير- الكثير من الجدل و(السجال) الفكري سواء بين المثقفين، أم بينهم وبين السلطة، وقد يتعدى هذا النزاع الفكري -في بعض الأحيان- النطاق الجغرافي المحدد لمجتمع من المجتمعات ليتجاوزه إلى الخلاف مع المجتمعات الأخرى.

- فهل يقتضي إنجاز التحديث، التخلي عن الدين في إطار ما يصطلح عليه الفصل بين الدين والدولة؟

- وهل يمكن اعتبار الدين أحد المعوقات للتحديث والتنمية السياسية في المجتمع العربي، كما تذهب إلى ذلك العديد من التيارات الفكرية الغربية، بل وحتى بعض التيارات الفكرية العلمانية العربية؟

- أو أنه على العكس، يبقى الدين محدداً أساسياً من محددات عملية التحديث السياسي، لا يمكن فهم عملية التحديث في المجتمع العربي دون استحضاره؟ بمعنى أنه لا يمكن التحرك في المجتمع العربي بمعزل عن الدين؛ حيث يذهب البعض أبعد من ذلك؛ حين يرى أن الدين يمكن أن يكون له دور محوري في الدفع باتجاه التحديث السياسي.

سنحاول التطرق لبعض جوانب الموضوع، مع الإحالة -في بعض الأحيان- إلى بعض الدراسات التي تناولت الموضوع بكيفيةٍ أكثر تفصيلاً؛ حيث لا يمكن في هذا الحيز التطرق إلى مختلف جوانب الإشكالية التي تثيرها العلاقة بين التحديث السياسي والدين، وبخاصة الدين الإسلامي؛ نظراً لتشعبها وتعدد أبعادها واختلافها من مجتمع إلى آخر.

الدين والتحديث السياسي: أية علاقة؟

لقد مثل الدين الإسلامي في المجتمع العربي -ولا يزال- عاملاً مهماً في تحديد الهوية الحضارية لهذا المجتمع؛ فالدين -كما يرى البعض- لا يزال يتصل -وبشكلٍ مباشرٍ- بالأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي شهدها ويشهدها المجتمع، و يمكن في ضوء ذلك عد الدين الإسلامي مظلة النظام الاجتماعي السائد في المجتمع العربي. ويلاحظ أن العلاقة بين الدين الإسلامي، والتحديث السياسي بشكلٍ خاص، أو التغير الاجتماعي بشكلٍ عام، علاقة مميزة، ومعقدة، ومتعددة الأبعاد(8).

وعلى الرغم من انطلاق العديد من المفكرين من التسليم بهذه الحقيقة الواقعية على مستوى المجتمع العربي، فإنه يمكن القول: إن وجهات النظر متباينة حول ما إن كان الدين عاملاً من عوامل دفع عملية التحديث السياسي، أو أنه على العكس من ذلك، يعد واحداً من العوامل التي تعيق عملية التحديث. وهو ما يستدعي تحليل أبعاد هذه العلاقة في ضوء التباين الحاصل في وجهات النظر بين العديد من المفكرين.

وانطلاقاً من التباين الحاصل بين العديد من الاتجاهات الفكرية، يمكن لنا أن نحدد أبعاد تلك العلاقة، كما تطرحها العديد من الأدبيات التنموية، في الاتجاهين التاليين:

أ- الاتجاه الذي يعتبر الدين واحداً من معوقات التحديث السياسي.

ب‌- الاتجاه الذي يعتبر الدين محركاً لعملية التحديث السياسي.

أ- اعتبار الدين معوقاً لعملية التحديث السياسي

فبالنسبة إلى بعض المفكرين الغربيين -وبخاصة الذين يضمنون التغريب والعلمنة في تعريفهم للتحديث السياسي Political Modernization(9)- تبدو الإجابة واضحة على العديد من الأسئلة المتعلقة بالدور المتوقع للدين الإسلامي في عملية التحديث التي تشهدها مجتمعات الشرق الأوسط والمجتمعات العربية؛ فالإسلام يمكن أن يكون عائقاًObstacle أمام عملية التحديث، ومن ثم فإن ارتباط الإنسان بالدين الإسلامي سوف يقل ويضعفDiminish كلما تقدمت شعوبها باتجاه الحداثة، حيث يقول البعض بأن: (.. أية محاولة لبعث الإسلام (برأيه) هي ببساطة وقتية وغير عقلانية، ونكوصRetreat أو انسحاب إلى الماضي)(10).

وقد أسهم في ترسيخ هذا الاعتقاد مجموعة من التطورات التي عرفتها العديد من المجتمعات العربية والإسلامية، وبروز حركات الإسلام السياسي فيها بأطروحاتها الرافضة -في معظم الحالات- للحداثة الغربية وقيمها. ويمكن استحضار العديد من النماذج الواقعية لبروز الحركات الإسلامية في العديد من المجتمعات العربية، كما هو الشأن مع تجربة الجبهة الإسلامية في السودان، وحزب النهضة في تونس، والإخوان المسلمين في كل من اليمن ومصر والأردن، ولعل النموذج الأبرز يتمثل في النموذج الجزائري مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ؛ فالملاحظ أن هذه النماذج أفرزت كما يقول برهان غليون: (.. أن الإسلام قد أصبح رمزاً للمقاومة ضد الدولة العصرية، بقدر ما تحولت الدولة العصرية إلى استعمار داخلي حديث، أي بقدر ما ارتبطت الأيديولوجيا العلمانية والعصرية واستثمرت ووظفت في نطاق مصالح طبقة اجتماعية)(11).

وتجدر الإِشارة هنا إلى واحدة من أهم النقاط أو (الحقائق) التي يسجلها العديد من المفكرين والباحثين في مجال التنمية والتحديث السياسي، وهي أن الحركات الإسلامية قد برزت في العديد من الحالات، كرد فعل على فشل الأنظمة العربية في إنجاز التحديث والتنمية، وكبديلٍ (شعبي) لها.

إضافة إلى ذلك تعطي التجربة الإيرانية -في عهد الشاه- وما رافقها من أحداث صورة معكوسة عن الإسلام؛ فعلى الرغم من أنه كانت توجد العديد من المبررات والأسباب التي أدت إلى الاستياء الشعبي من حكم الشاه، فإن عجزه عن التحرك وبشكل فعال لشرعنة السلطة بالإسلام من خلال تأكيده على أن موروث الإمبراطوريات الفارسية ما قبل الإسلامية هو حجر الزاوية في إضفاء طابع الشرعية السياسية على السلطة، لم يضعف سلطته فقط، بل أيضاً وضع السلاح الحاسم والبات في أيدي المعارضة، وأسهم في إعطاء (المظهر الإسلامي) للثورة الناشئة، وأكثر من ذلك، فقد أوحى هذا البحث عن الشرعية خارج إطار الموروث الديني للمجتمع الإيراني -كما يشير البعض- إلى الاعتقاد: (.. بوجود ارتباط ولو محدود بين التغييرات المحدثة والعلمانية، وبين رؤية الانبعاث الإسلاميResurgence كتراجع واندفاع مفاجئ إلى الخلف backlash في مواجهة التغيير)(12).

وفي إطار الفكر العربي الإسلامي المعاصر يمكن ملاحظة حضور تلك الإشكالية بصورة واضحة؛ حيث يمكن القول: إن الموقف من الإسلام شكل -وبصورة مستمرة- مركزاً للصراع والسجال العنيف على امتداد المجتمع العربي الإسلامي المعاصر، ويكاد تقدير المواقف المتخذة من الإسلام يختلف من النقيض إلى النقيض، فهناك من جهة أولى، من يعد الإسلام السبب الأول في واقع التخلف والاستبداد والانهيار الذي يعرفه المجتمع العربي؛ ولذا لا يقبل أنصار هذا الاتجاه بغير إزالته من الوجود معتبرين ذلك شرطاً من شروط التقدم والتحديث السياسي والاجتماعي(13).

ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى العديد من الدراسات الحديثة التي ركزت -وبصورة واضحة- على بعض الجوانب التي تتضمن رؤية الدين كعامل من العوامل التي تعيق عملية التحديث، ونظرت بالخصوص إلى الوظائف السلبية للدين بسبب(14):

- الدور المحافظ للدين؛ حيث يعمل الدين على منع قوى الاحتجاج من أن تتطور، ومن أن تصبح قوى للتغيير الاجتماعي، بمعنى آخر، تعقم الظاهرة الدينية مجمل مستويات قوى الاحتجاج، وتحول دون تطورها ونضجها إلى مستوى قوى تغييريه شاملة. هذه القوى التغييرية التي قد تكون أساسية وربما ضرورية في مرحلة تاريخية ما من نمو المجتمع.

- الجمود؛ حيث تنزع السلطات الدينية إلى تقديس الآراء الظرفية، والمواقف المحلية، واحترام التصورات والمواقف الآنية إلى حد الوقوف في وجه أي تطور في مجال المعرفة بصفة عامة؛ كما تؤدي السلطة الكهنوتية إلى نوع من السلطوية التي تجهض أي محاولة تغييرية، وأي فعل يهدف إلى تجاوز الواقع، وتصبح -بالتالي- عنصر ثبات يركز كل ما هو موجود، ويحُول دون التقدم الفكري في العديد من الاتجاهات، بما في ذلك الاتجاهات الدينية نفسها.

- الوظيفة الانتمائية؛ حيث تعني الديانة -فيما تعني- نوعاً خاصا من الولاء، وهذا الولاء (الديني) قد يتناقض مع تكوين هويات أخرى ضرورية قد تقتضيها الوضعيات الجديدة التي يجد فيها الناس أنفسهم، فالتركيبة المجتمعية لا تقوم بالضرورة على هوية دينية.

كما يرجع بعض الباحثين والمفكرين العرب والمسلمين غياب التعددية السياسية والديمقراطية في العديد من المجتمعات العربية والإسلامية إلى العديد من العوامل ومنها، بطبيعة الحال: الثقافة السياسية التقليدية المستمدة من الإسلام؛ فبعض الجماعات الإسلامية تفسر الإسلام تفسيراً محافظاً يقوم على العداء للغرب وقيمه الثقافية والسياسية معاً، مما يلعب دوراً مهماً في تقليل فرص نمو الوعي الصحيح بشروط تكون هذه (البنية المفقرة) وآفاق تغييرها، كما يلعب دوراً كبيراً في عرقلة نشوء وعي ديمقراطي صحيح، أو في إبطائه، أو على أقل تقدير، تشويشه، خاصة عندما تظهر الديمقراطية لقطاع كبير من الرأي العام وكأنها معادية للدين(15).

ب– الدين باعتباره محركاً لعملية التحديث السياسي:

يعتقد البعض أن الدين الإسلامي لا يتعارض بالضرورة مع التحديث، (.. فالإسلام دين عالمي، يهتم كثيراً بالتطور التاريخي، وتحسين الوضعية الاجتماعية...، (و) بالفعل فقد علّم أتباعه احترام الملكية الخاصة، ودعم أخلاق العمل، وربط علاقة بين النجاح المادي والجزاء Reward الخالد والأبدي)(16).

وهناك العديد ممن يعتقدون أن الإسلام يمثل المنبع الأول والأخير لكل القيم والخيرات، وأن التمسك به هو مبرر الحياة والمخرج الوحيد، وأن تخلف العرب والمسلمين وتراجعهم، ومن ثم هزيمتهم أمام الأمم والدول الأخرى ينبع من تخليهم عن الدين الإسلامي، ويدخل في هذا المجال معظم أطروحات المفكرين، والحركات الإسلامية، ويدعو أنصار هذا الاتجاه إلى العودة للدين، والسياسة الدينية والشرعية، وتطبيق الشريعة الإسلامية، باعتبار أن هذه الشروط تمثل الأساس الضروري للخروج من الوضع الراهن (وضع الاستبداد والتخلف)، وإخراج الدولة نفسها من المأزق الذي تعيش فيه، وهو المأزق المتمثل في ضياع هيبة السلطة، ومشروعيتها وكفاءتها في آن، ويؤمن أنصار هذا الاتجاه أنه من دون الإسلام والقيم، والشرائع المرتبطة به، والنابعة منه لن يكون مصير المجتمعات العربية إلا الموت والفناء والاحتواء من قبل الدول الغربية والضياع فيها(17).

يدفعني التباين المشار إليه في النقاط السابقة إلى محاولة معالجة إشكالية العلاقة بين الدين والتحديث السياسي، ومناقشة الآراء المختلفة حول قضية المكانة أو الدور الذي يمكن أن يلعبه الدين في عملية التحديث.

التحديث السياسي: بين الدين الإسلامي والعلمانية

يعد موضوع العلاقة بين الدين -وخاصة الدين الإسلامي- والتحديث السياسي من أهم الموضوعات التي لقيت اهتماماً كبيراً من قبل العديد من المفكرين، يستوي في ذلك المفكرون الغربيون، والمفكرون العرب والمسلمون؛ حيث مثل الموضوع في الماضي -كما يمثل في الوقت الراهن- جوهر العلاقة بين العالم العربي الإسلامي والغرب؛ ولهذا فليس من المستغرب أن نجد ذلك الكم الكبير من الكتابات التي انصبت على معالجة هذه العلاقة. والواضح من ذلك الكم الهائل من الكتابات حول العلاقة بين الدين والتحديث السياسي هو حجم التباين والاختلاف في وجهات النظر حول الدور الذي يمكن للدين أن يضطلع به، أو في مدى التأثير المتوقع للدين في عملية التحديث. ولذا فمن المهم أن نشير -ومنذ البداية- إلى أن هذه العلاقة تختلف من مجتمع إلى آخر، سواء أكان المجتمع عربياً أم غربياً، بل ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى داخل نفس المجتمع تبعاً للموقع الاجتماعي للدين في المجتمع من جهة، وللخصوصية الثقافية لهذا المجتمع من جهة أخرى.

فمثلاً: في العديد من المجتمعات الغربية المعاصرة، ونتيجة لعملية التحديث التي شهدتها تلك المجتمعات من جهة، وللفصل القائم بين الدين والسياسة أو الدولة أو ما يسميه البعض العلمانية Secularization -وهو الفصل الذي أملته ظروف واعتبارات تاريخية معينة في تلك المجتمعات- من جهة أخرى، تتضاءل مكانة الدين ويقل تأثيره في الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وفي التحولات التي تشهدها تلك المجتمعات، وينحصر دور الدين فيها على المسائل الشخصية.

أما في المجتمعات العربية، وبالخصوص منها تلك التي يغلب عليها الطابع التقليدي، فيبقى الدين محتلا لمكانة مهمة، وأحياناً مركزية في هذه المجتمعات، وهو يتصل مباشرة بالأوضاع السياسية، والاقتصادية، وبالتحولات المختلفة التي تعرفها هذه المجتمعات(18).

- فما الظرفية التاريخية التي أدت إلى ظهور العلمانية في المجتمعات الغربية؟ وهل عرفت المجتمعات العربية ظروفاً مشابهة، أو على الأقل مقاربة لتلك الظروف؟

بات من المعلوم اليوم أن العلمانية Secularizationانتشرت انتشاراً كبيراً في الغرب نتيجة فشل العديد من السلطات –وخاصة الدينية في فترات تاريخية سابقة- في مواكبة العصر والتطورات الحضارية. وقد كان لتزامن الفصل بين الدين والدولة مع عصر النهضة الأوربية أثر واضح في ترسيخ اعتقاد ربما يكون خاطئاً لدى الكثيرين، يتلخص بأن النهضة جاءت نتيجة الفصل بين الدين وشؤون الدولة(19). فليس بخافٍ على أحد -في الوقت الحالي- أن العلمانية في المجتمعات الغربية (الأوربية تحديداً) قد ظهرت نتيجة العديد من الأسباب أهمها(20):

- أسباب سياسية: الصراع الكنسي مع الحكام، أو الصراع بين السلطتين الكنسية والمدنية على السيادة. وهو ما أدى إلى ظهور العديد من النظريات التي حاولت الفصل بين نطاق سيادة كل من السلطة الزمنية، والسلطة الدينية، أو الفصل بين عالم الروح وعالم الجسد المادي؛ حيث حاولت تلك النظريات الانتصار لهذا الطرف، أو ذاك: كنظرية السيفين، ونظريات العقد الاجتماعي، وغيرها.

- أسباب علمـية: نتيجة مقاومة رجال الكنيسة للنظريات العلمية الحديثة (كمأساة جاليليو (http://www.galileo-galilei.org) وغيره من المفكرين مع الكنيسة).

وعليه يمكن الإشارة إلى أن مفهوم العلمانية -الذي تأسس في سياق معارك نظرية متتابعة، ومعارك تاريخية سياسية- قد شكل واحداً من أصول السياسة الليبرالية، بدأه ماكيافيلي (Nicolo Machiavelli) بدفاعه -أولاً- عن تأسيس حقل السياسة خارج دائرة الأخلاق، والدين، واليوتوبيا، ثم بإبرازه لعجز دولة البابا في روما عن تأسيس الوحدة الإيطالية التي كانت أملاً تصبو إليه كل الدويلات الإيطالية الخمس في عصره، وأيضاً عند حديثه عن الإخفاق الذي كان من نصيب مشروع حاكم فلورنسا سافونارولا(Jerome Savonarole) وقد كان معاصراً له، كما أن المفهوم تأسس بشكلٍ أكثر تحديداً بفضل جهود فلسفة توماس هوبز (Thomas Hobbes) السياسية التي كانت تروم بصياغتها للملامح الأولى لدولة التعاقد نقد نظرية الحق الإلهي للملوك، والتفويض الإلهي للسلطة، وتلتها العديد من الجهود الفلسفية لسبينوزا (Spinoza)، وجون لوك (John Locke)، وجان جاك روسو (Jean J. Rousseau)؛ لتشكل في نهاية المطاف رؤية فلسفية مؤطرة لمفهوم العلمانية إلى جانب العديد من المفاهيم السياسية الأخرى(21).

هذه الظرفية التاريخية التي ظهر فيها مفهوم العلمانية، جعلت العديد من المفكرين الغربيين ينظرون إلى الدين على أنه يتناسب مع المجتمعات البدائية والمتخلفة؛ كما أن هذه الرؤية لعلاقة الدين بالسياسة جعلت العديد منهم يصنفون المجتمعات من هذا المنظور إلى فئتين:

- مجتمعات (ما قبل الديمقراطية) وهي المجتمعات التي لا يمكن أن تشهد الديمقراطية أبداً، وتستند هذه النظريات على فكرتين: أولاهما تضع تقابلا بين مفهومي دنيوية العلاقة السياسية وقدسيتها؛ بحيث أنه إذا كانت هذه العلاقة ذات طبيعة دنيوية فإن المفترض فيه أن تتبلور تلك العلاقة رويداً رويداً، بفعل الاختيار الإنساني الحر، دونما إحالة إلى الإرادة الإلهية. أما إن كانت ذات طبيعة مقدسة فإن الناس لا يستطيعون -بأي حال- اغتصاب سلطة يعود أمرها في نهاية المطاف إلى الله وحده. وتتعلق الفكرة الثانية: باستقلالية الفرد الأساسية حيال محيطه الاجتماعي؛ فحيث طغت الهوية الجمعية على الهوية الشخصية، كانت إقامة الديمقراطية أمراً مستحيلاً(22)، بمعنى أن هذه المجتمعات تبجل قيم الجماعية والقدسية أو الماضوية، وهي لهذا تبقى بعيدة عن تحقيق الديمقراطية والتحديث.

- المجتمعات الغربية، التي تفوق -على حد زعمهم- نظائرها جميعاً بفضل التمييز الذي أقامته منذ القرون الوسطى بين ما هو ديني، وما هو دنيوي؛ فقد جعلت هذه الأخيرة الأمور السياسية داخلة في الإطار الدنيوي. وهذه الميزة جعلت المجتمعات الغربية -برأيهم- مؤهلة ومستعدة لحوار عقلاني حول مسائل الدولة والحكومة، بينما بقيت الشعوب والمجتمعات الأخرى عاجزة عن إدراج السياسة في مثل هذا السياق الدنيوي، فالدين يتماهي مع السياسة أوالسلطة على العديد من المستويات، وهو الأمر الذي يحول دون إعادة النظر في تلك الطاعة الخارجة دواعيها عن إرادة المحكومين، باعتبار أن هذه الأخيرة نابعة عن أصول إلهية،...، وهذا الأمر يتجاوز العالم الإسلامي لينطبق على العديد من مجتمعات المعمورة بما فيها العديد من المجتمعات المسيحية الأرثوذكسية في أوربا الشرقية، باعتبارها فضاءات واحدية لا تفرقة فيها، ولا تمييز بين الدين والسياسة(23).

ويمكن تصنيف الفكر الغربي، وموقفه من علاقة الدين بالتحديث السياسي والتنمية إلى الاتجاهات التالية(24):

أولاً: الاتجاه الذي ربط الدين بالتخلف الفكري، وفشل العقل الإنساني في تفسير الظواهر، وعدم التقدم العلمي؛ فالتفسيرات الدينية تشير إلى الفشل في الوصول إلى العوامل العلمية التي يمكن الوصول إليها من خلال البحوث العلمية التجريبية. أما مناهج التفكير الديني فهي ترتبط عادة –لديهم- بالخرافة، والأسطورة، والبدائية. ومن أبرز المفكرين في هذا الاتجاه: كونت (Comte)، و دوركهايم (Durkheim)، وفيبر (Weber)، وماركس (Marx)، ونيتشه(Nietzsche).

ثانياً: الاتجاه الذي يرى أهمية الدين، وعدم تناقضه مع العقل والعلم، غير أن كل من العلم والدين له مجاله ووظائفه، فهما غير متصادمين، ويؤكد أنصار هذا الاتجاه ضرورة الدين للحياة الإنسانية الاجتماعية؛ فهو يؤسس الضوابط الأخلاقية الضرورية التي تنظم هذه الحياة بعلاقاتها، وسلوكياتها، ونظمها. ويمثل هذا الاتجاه كل من: إميل بترو(Petrow)، وبيرجسون(Pergssone) خاصة في كتابه: (منبعا الأخلاق والدين). وهذا الاتجاه يقول بفصل الدين عن العلم، وترك الدين كخيار شخصي، أي أنه بدوره يكرس العلمانية.

ثالثاً: الاتجاه البراجماتي النفعي الذي يعكس واقع المجتمع الغربي بشكل عام، والأمريكي بشكل خاص. فهو يعكس النزعات المادية والفردية، واعتبار المنفعة المادية هي المقياس لكل شيء بما في ذلك الدين، والروابط الاجتماعية، والقيم، والأفكار، والمبادئ الأخلاقية. وكل تلك الأمور ينبغي حسابها في ضوء مقولات اقتصادية خالصة. ويمثل هذا الاتجاه أنصار التبادلية السلوكية مثل: بيتر بلاو (P. M. Blau) في كتابه عن (التبادل والقوة في الحياة الاجتماعية)، وشيللر (Schiller)، فهذا الأخير يؤكد أن مقياس الصواب والخطأ، والحق والباطل هو صالح الإنسان، فلا حق ولا باطل بمعزل عن المنفعة المادية.

رابعاً: الاتجاه الذي يتجاهل الدين ولا يبالي به مدعياً التركيز على قضايا حرية الإنسان في الاختيار، وممارسة الحرية في السلوك و العلاقات. وهذا ما ادعاه الوجوديون، وما ذهب إليه ماركس (Karl Marx) في نهاية حياته. ويمثل هذا الاتجاه أنصار الاتجاه الوجودي، والفينومينولوجي، والفوضوي.

من جهة أخرى فإن العلمانية في المجتمعات العربية لا تطرح بمثل هذا الوضوح، بل قد لا نعدو الحقيقة إن قلنا: إنها تعتبر واحدة من أكثر قضايا الفكر العربي التباساً ومدعاة لسوء التفاهم -كما يشير الجابري(25)- فقد ظهرت في ظروف مغايرة تماماً لتلك الظروف التي أملت وجودها في المجتمعات الغربية؛ حيث طرحت في البداية (كشعار) في منتصف القرن التاسع عشر، وكان الذين طرحوه هم مفكرون مسيحيون من الشام؛ حيث أراد أولئك المفكرون التعبير عن رفضهم البقاء في كنف الدولة التركية التي كانت تحكم باسم الخلافة الإسلامية؛ أي أنه طرح بارتباط عضوي مع شعار (الاستقلال عن الترك)، ولم تطرح لتعني وجود نوع من التعارض بين الدين والدولة، خاصة في مجتمع يدين أهله بالإسلام، فهذا الطرح غير مبرر، وغير مشروع، ولا معنى له.

وطرحت العلمانية مجدداً في بعض المجتمعات نتيجة تعرضها للعديد من الصدمات التي تتالت عليها؛ ويتعلق الأمر بـ(صدمة الحضارة) و (صدمة الاستعمار)، ولذلك فقد حاول الفكر العربي النهضوي تلمس سبل الخلاص من ربقة التخلف، والبحث عن وسائل لتحقيق (النهضة)، واتخذت تلك المحاولات محورين أساسيين:

أولهما- يعتبر أن النهضة ممكنة عبر محاكاة الغرب، والأخذ بحضارته؛ أي تقنياته وربما أنماط تفكيره.

وثانيهما- يجد النهضة عبر محاكاة النموذج السلفي، أي العودة إلى الإسلام والفكر الإسلامي.

ويبدو واضحاً اتساع نطاق التناقض بين هذين المحورين، وهو التناقض الذي لايزال مستمراً حتى يومنا هذا في الفكر العربي المعاصر، ويعرف تقاطباً ثنائياً بين النموذجين السابقين خاصة بعد فشل التجربة الاشتراكية السوفياتية وسقوط الكتلة الشيوعية(26).

وقد حل مفهوم الدولة الإسلامية محل مفهوم الخلافة (أو طوبى الخلافة بحسب تعبير العروي)(27)، أومفهوم الإمامة (بحسب الرؤية الشيعية)، في حين أصبحت العلمانية رديفة للحداثة القومية. وبهذا فقد أعيدت صياغة التعارض البدئي في الفكر السياسي العربي المعاصر، وهذه المرة على أسسٍ جديدة أكثر قوة في التمايز والانغلاق مما كانت عليه خلال الحقب الماضية، وتزايدت حدة القطيعة حول أسس، وكيفية بناء الدولة في المجتمعات العربية بين فريقين:

- الفريق الأول: يعتقد أن بناء الدولة في المجتمعات العربية والإسلامية لن يتم إلا بما يظن أنه نظرية الدولة الحديثة بامتياز؛ أي فلسفة العلمانية كدين للدولة.

- الفريق الثاني: يؤمن بأن العرب والمسلمين لن يتمكنوا من الخلاص، وتحقيق الأمن والاستقرار والسعادة الأرضية والأخروية إلا إذا نجحوا في إعادة بناء الدولة العربية على نفس الأسس التي قامت عليها دولة الرسول الكريم محمد (ص)، وهي التي كانت وراء تحول العرب من قبائل وعشائر منقسمة ومتخلفة إلى أمة عظيمة وإمبراطورية عالمية(28).

ونتفق مع ماذهب إليه الجابري(29)، في أن الطرحين معاً فيهما تجاوز للواقع العربي:

- فالطرح الأول يتغافل -سواء عن عمد أم عن غير عمد- الواقع العربي المتعدد، وتجري فيه محاولة لتعميم المشكل من الإطار الخاص إلى الإطار العام؛ أي المجتمعات العربية كلها.

ولعل من المنطقي القول بأن العلاقة بين الدين والدولة لا تطرح نفسها بنفس الدرجة من الحدة في كل المجتمعات العربية، بل قد لا تكون مطروحة بالمرة في بعض المجتمعات العربية؛ حيث لا تطرح العلاقة بين الدين والدولة نفسها كمشكل، لا على الفكر، ولا على المجتمع، ولا على السلطة، إلا في الأقطار التي توجد فيها الطائفية الدينية كمكون أساسي من مكونات المجتمع، والمجتمعات العربية التي تعاني من تلك المشكلة الطائفية بدرجة واضحة هي بالتحديد: لبنان وسورية ومصر والسودان، وربما برزت مؤخراً وبصورة أشد وضوحاً في العراق خاصة بعد انهيار النظام العراقي السابق.

أما في باقي المجتمعات العربية فلا تطرح فيها مشكلة الطوائف الدينية، إما بسبب عدم وجود الطوائف الدينية نهائياً، أو لأن الأقليات الدينية في تلك المجتمعات لا تمثل نسبة تجعل منها مشكلاً اجتماعياً، وبالتالي سياسياً.

- كما أن الطرح الثاني يتجاهل الكثير من الحقائق التاريخية التي يفرضها منطق التعامل اليوم، سواء على المستوى الإقليمي أم الدولي.

ولذا فقد بات من المؤكد أننا في المرحلة الحالية لم نعد نعيش وحدنا، وكذلك لن نكون وحدنا في المستقبل، وبالتالي فالنموذج الذي ينبغي استلهامه من أجل إعادة بناء الذات، وتحصينها ضد الذوبان والاندثار والاستلاب لن يكون من نوع (نموذج السلف) الذي يقدمه أنصار هذا الطرح، هذا النموذج الذي يقدم نفسه كعالمٍ مكتفٍ بذاته. بل يجب أن يضم خلاصة التجربة التاريخية للأمة الإسلامية مع الاستفادة من التجربة التاريخية للأمم التي تناضل من أجل الوجود، والحفاظ على الوجود، وأيضا -ولم لا؟- من التجربة التاريخية للأمم التي أصبحت تفرض حضارتها اليوم كحضارة للعالم أجمع(30).

وفي هذا الإطار يذهب كمال عبد اللطيف إلى القول: (.. قد لا نكون مجازفين إذا ما اعتبرنا أن استمرار الحنين المتواصل إلى النموذج السياسي الإسلامي للسلطة -رغم عدم وضوحه كنموذج تاريخي- يعود إلى عدم إنجاز مهمة التفكير في أسئلة السياسي في الفكر الحديث بصورة عميقة وجذرية، بما يتيح لنا إعادة إنتاج المجال السياسي في ضوء أسئلة واقعنا، ومقتضيات النظر السياسي الحديثة والمعاصرة، وهي مقتضيات تهمنا من حيث إنها نتاج لتجربة إنسانية بيننا وبينها صلات من الوصل والتقارب لا يمكن إنكارها أبداً...) وهو ما يقتضي برأيه الاستعانة بتجارب الآخرين، ومحاورتها -ولم لا؟- للتعلم منها(31).

وعليه وجب القول: إن بعض تيارات الفكر السياسي العربي المعاصر تتغافل -أحياناً عن عمد أوعن غير عمد- عن دراسة الواقع، وتمارس نوعاً من القفز على ذلك الواقع، إما في اتجاهها صوب تَمَثُّلِ (النموذج الغربي العلماني) بداعي التبيئة أو محاولة نقل ذلك النموذج إلى المجتمع العربي، أو في محاولتها إعادة التأصيل لـ(نموذج السلف)، وسعيها لمعالجة الإشكاليات التي تواجهها المجتمعات العربية بنوعٍ من تعميم الخاص، ورفعه إلى مستوى العام دون مراعاة الفروق التي قد تكون موجودة بين هذه المجتمعات.

الخــــاتمة

إشكالية الثنائية -أو التوفيقية بمعنى أصح- ستظل حاضرة وبشكل دائم في المجتمع العربي، سواء على مستوى الفكر أم الواقع، باعتبار الحضور القوي للدين الإسلامي في وجدان الشعب والمفكر العربي، ولن يكون في الإمكان تجاوزها، على الأقل في المدى المنظور؛ فالمجتمع العربي -معزولاً عن الدين الإسلامي- كيان دون روح، والممارسة السياسية دون تحديث وتجديد بمثابة تكريس للانغلاق والجمود، ومحكوم عليها بالفشل والمراوحة في دائرة مغلقة، وهو مايجعل الاختيار بينهما أمراً في غاية الصعوبة.

وبين السير بدون روح أو تعطيل السير إلى الأبد تكمن -في اعتقادي- إشكالية التحديث السياسي في المجتمع العربي. لكن سيكون من العسير تحديد المجالات التي لابد فيها من الرجوع إلى الدين الإسلامي، وتلك التي يمكن فيها للعقل البشري أن يتدخل لإيجاد الحلول، وابتكار البدائل التي لا تتعارض مع الدين الإسلامي، خاصة في المجال السياسي(32)، أو التمييز بين الثوابت (الأصول) التي لا يجوز تجديدها أو تعديلها، وبين المتغيرات التي لا يسري عليها هذا الحكم، دون أن يدفعنا ذلك إلى الحديث عن تسييس الدين(33) أو (تديين) السياسة.

ألم يكن التاريخ العربي والإسلامي منذ خلاف السقيفة هو تاريخ الاختلاف حول هذه القضايا؟! ما هو ديني في مقابل ما هو سياسي؟

في خاتمة هذه النقطة ربما أفادتنا الإشارة إلى ما قاله برهان غليون، في خاتمة كتابه (نقد السياسة: الدولة والدين)؛ حيث يقول: (.. على سؤالنا في المقدمة: هل تحتاج النهضة (التحديث) أو الارتقاء إلى مستوى المعاصرة، وهل يحتاج التقدم بالفعل لإزالة تأثير الدين في الحياة العمومية الاجتماعية والسياسية؟ وهل تحتاج الوطنية والإبقاء على الهوية المحلية والذاتية محاربة الواقع ومنظوماته القيمية الجديدة، أو ما يطلق عليه اليوم بالعلمنة أو العقلنة، أي في الواقع ميلاد نمط عقلاني مختلف في أسبقياته عن النمط العقلاني الماضي؟ ليس هناك إلا إجابة واحدة: إن النهضة تفترض الاهتمام بالدين كما تفترض الهوية استملاك الواقع الراهن المعاصر بمعاصرته وحداثته، في الوقت نفسه، إنها تفترض وحدتهما وتعاونهما لا التفريط بأي منهما، أو استمرار الصراع بينهما..)(34).

*******************

الحواشي

*) أكاديمي من اليمن.

1- المصدر نفسه، ص18 ومابعدها.

2- محمد عبد الجبار، و عبد الرزاق عيد، الديمقراطية بين العلمانية والإسلام، (سلسلة حوارات لقرن جديد)، دار الفكر العربي، دمشق، سورية، الطبعة الأولى، 1999م، ص179. ويمكن أيضاً مراجعة الفصل الأول من المدخل التمهيدي المذكور في المرجع رقم (6).

3- بومدين بوزيد، (الفكر العربي المعاصر وإشكالية الحداثة)، في: بومدين بوزيد (وآخرون)، قضايا التنوير والنهضة في الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، سلسلة كتب المستقبل؛ 18، الطبعة الأولى، 1999م، ص7، ص29.

4- أحمد ثابت، (عرض لكتاب محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي: محدداته وتجلياته)، المستقبل العربي، العدد 145 (3/1991م)، ص165.

5- المصدر نفسه، ص154.

وراجع كذلك: محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي: محدداته وتجلياته، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الثانية،1991م، ص7.

6- نبيل السمالوطي، التنمية بين الاجتهادات الوضعية والدينية: دراسة مقارنة، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية، 1996م، ص4.

7- Andersen, Roy R, (and others), Politics and Change in the Middle East: Sources of Conflict and Accommodation, (Prentice Hall, July 1997), pp97.

8- عاطف العقلة غضيبات، (الدين والتغير الاجتماعي في المجتمع العربي الإسلامي: دراسة سوسيولوجية)، في: عبد الباقي الهرماسي(وآخرون)، الدين في المجتمع العربي، وقائع الندوة التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية والجمعية العربية لعلم الاجتماع، بيروت، 1990م، ص127.

9- مثلاً: يقول (صموئيل هنتنجتون Samuel P.Huntington) - وهو أحد أبرز المفكرين الغربيين الذين كتبوا في موضوعات التنمية والتحديث السياسي- إنه:

(.. بالإمكان تصنيف الوجوه الأهم في العصرنة السياسية)يفضل الباحث استخدام مفهوم التحديث السياسي كترجمة لمصطلح Political Modernization) تحت ثلاثة عناوين عريضة:

- أولاً: تفترض العصرنة السياسية عقلنة السلطة، واستبدال عدد كبير من السلطات السياسية التقليدية والدينية والعرقية بسلطةٍ سياسية قومية علمانية واحدة.

- ثانياً: تفترض العصرنة السياسية التمييز بين الوظائف السياسية الجديدة، وتطوير بنى متخصصة لتنفيذ تلك الوظائف.

- ثالثاً: تفترض العصرنة السياسية المشاركة المتزايدة في السياسة من قبل فئاتٍ اجتماعية من المجتمع ككل.

راجع: صموئيل هانتنتون، النظام السياسي لمجتمعات متغيرة، ترجمة: سمية فلو عبود، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 1993م، ص47- 48.

10- Andersen , Roy R, (and others), op. cit. PP 102-103.

11- راجع: نور الدين الطاهري، الجزائر بين الخيار الديمقراطي والخيار العسكري، سلسلة الحوار رقم (8)، منشورات الفرقان، الدار البيضاء، لطبعة الثانية، 1992م، ص7.

12- Andersen, Roy R, (and others), op. cit. PP 105.

13- برهان غليون، (الإسلام وأزمة علاقات السلطة الاجتماعية)، راجع: عبد الباقي الهرماسي (وآخرون)، الدين في المجتمع العربي، المصدر السابق نفسه، ص299.

14- عبد الباقي الهرماسي، (علم الاجتماع الديني: المجال – المكاسب – التساؤلات) راجع: عبدالباقي الهرماسي (وآخرون)، الدين في المجتمع العربي، المصدر السابق نفسه، ص19-20.

15- برهان غليون، معوقات الديمقراطية في الوطن العربي، بحث منشور في موقع الجزيرة على شبكة الإنترنت: (http://WWW.aljazeera.net) بتاريخ 18/ 06/ 1422هـ، الموافق 07/ 09/2001م.

16- Andersen , Roy R, (and others), op. Cit. pp103.

17- برهان غليون، الإسلام وأزمة علاقات السلطة الاجتماعية، مرجع سابق، ص299.

18- عاطف العقلة غضيبات، (الدين والتغير الاجتماعي في المجتمع العربي الإسلامي: دراسة سوسيولوجية)، راجع: عبد الباقي الهرماسي(وآخرون)، الدين في المجتمع العربي، المصدر السابق نفسه، ص142.

19- راجع حول هذه النقطة: محمد عمارة، الإسلام والعروبة والعلمانية، دار الوحدة، بيروت الطبعة الأولى، 1981م، ص57 ومابعدها.

20- أم سلمى محمد صالح، (الإسلام والعلمانية)، راجع: حسن حمدان العلكيم (وآخرون)، قضايا إسلامية معاصرة مركز الدراسات الآسيوية، جامعة القاهرة، الطبعة الثانية، 1997م، ص64 - 65.

21- راجع: كمال عبد اللطيف، (إعادة بناء المجال السياسي في الفكر العربي: قراءة في علمانية فرح أنطون)، عالم الفكر، العدد 3، المجلد 29، يناير – مارس 2001م، ص106.

22- غي هيرمي، المرور إلى الديمقراطية، ترجمة: صلاح الوديع، منشورات مكتبة المواطن، باريس، 1996م، ص80.

23- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

24- نبيل السمالوطي، المرجع السابق، ص42 وما بعدها.

25- قارن في هذه النقطة بين: محمد عابد الجابري (وجهة نظر: نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر) المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1992م، ص109 ومابعدها. وبين برهان غليون(نقد السياسة: الدولة والدين) المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى،1991م، صص 280 – 283.

26- بومدين بوزيد، (الفكر العربي المعاصر وإشكالية الحداثة)، راجع: بومدين بوزيد (وآخرون)، قضايا التنوير والنهضة في الفكر العربي المعاصر (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، سلسلة كتب المستقبل؛ 18، الطبعة الأولى، 1999م، ص29.

27- راجع حول هذه النقطة: عبد الله العروي، مفهوم الدولة، بيروت، دار التنوير؛ الدار البيضاء: المركز الثقافي، الطبعة الثالثة، 1984م. والعروي ينتهي في كتابه إلى القول: بأن (المفكرين العرب لا يهتمون بالدولة القائمة، وبالتالي لا يرون فائدة في البحث عن السؤال: ما هي الدولة؟ وكما كان الفكر الكلاسيكي يدور حول طوبى الخلافة فإن الفكر المعاصر يدور حول طوباويات مستحدثة: المجتمع العصري الليبرالي، المجتمع اللاطبقي الماركسي، المجتمع العربي الاشتراكي الموحد). ص170.

28- برهان غليون، نقد السياسة: الدولة والدين، مرجع سابق، 10.

29- محمد عابد الجابري، وجهة نظر، مرجع سابق، ص106 وما بعدها.

30- المصدر نفسه، ص44.

31- كمال عبد الطيف، المرجع السابق، ص106، وص 108..

32- يمكن الإشارة في هذا المجال إلى إسهام محمد عابد الجابري، في كتابه العقل السياسي العربي: محدداته وتجاياته، لمعالجة ما أسماه (الفراغ الدستوري) في نظام الحكم الإسلامي الذي قام بعد وفاة الرسول (ص)، هذا الفراغ المتمثل في: - عدم إقرار طريقة واحدة مقننة لتعيين الخليفة - عدم تحديد مدة ولاية الأمير - عدم تحديد اختصاصات الخليفة (ص368)؛ حيث يرى ضرورة إعادة تأصيل الأصول التي تؤسس النموذج الذي يمكن استخلاصه من مرحلة الدعوة المحمدية: (وأمرهم شورى بينهم) و (شاورهم في الأمر) و (أنتم أدرى بشؤون دنياكم) و (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) والتي يعتبرها معالم ثلاثة في (نموذج) الحكم (ص366)، على أنه يشير في موضع آخر إلى أنه ليس هناك غير الأساليب الديمقراطية الحديثة، التي تمثل إرثاً للإنسانية كلها: الانتخاب، تحديد مدة ولاية رئيس الدولة في النظام الجمهوري، إسناد مهام السلطة التنفيذية لحكومات مسؤولة أمام البرلمان في النظام الملكي والجمهوري، تحديد اختصاصات كل من رئيس الدولة والحكومة ومجلس الأمة، باعتبار أنها المبادئ التي لا يمكن ممارسة »الشورى« في العصر الحاضر دون إقرارها والعمل على ضوئها (ص372) معتبراً أن هذه التدابير غير كافية للاستجابة لمتطلبات النهضة والتقدم في العصر الحاضر إن لم تترافق مع تجديد محدداته الثلاثة من خلال النفي التاريخي لها، بإحلال البدائل التاريخية المعاصرة محلها(ص373).

33- حيث يشير محمد سبيلا إلى أن عملية تسييس الدين أو أدلجته، (.. تعني إقحامه في الصراعات الدنيوية، واستثماره في هذا الاتجاه أو ذاك، دعماً لهاته السلطة أو تلك، مما ينتهي في الأخير إلى تلويث الدين بالسياسة، وتسخيره كأداة للصراع السياسي، والانتقال به من كونه قوة روحية ضابطة وموجهة روحياً وأخلاقياً للأفراد والمجتمع وللنظام الاجتماعي، وملهمة للنظام السياسي إلى كونه قوة أيديولوجية مندرجة في أتون الصراع الاجتماعي).

راجع: محمد سبيلا، النزعات الأصولية والحداثة، سلسلة المعرفة للجميع، منشورات رمسيس، الرباط، العدد (13)، فبراير – مارس 2000م، ص17.

34- برهان غليون، نقد السياسة، المرجع السابق، ص400.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=524

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك