المجتمع الإنساني في الرؤية القرآنية والتجربة التاريخية العربية الإسلامية

المجتمع الإنساني في الرؤية القرآنية والتجربة التاريخية العربية الإسلامية

رضوان السيد*

أولاً: الرؤية القرآنية للمجتمع: الآية الجامعةُ في القرآن الكريم لرؤية المجتمع، هي آيةُ (التعارُف)، ونصُّها في (سورة الحجرات: 12-13): ﴿يا أيُّها الناسُ إنّا خلقْناكم من ذكر وأُنثى وجعلْناكم شعوباً وقبائلَ لِتَعارفوا. إنّ أكرمكم عند الله أتْقاكُم. إنّ اللهَ عليمٌ خبير﴾. تذكر الآية الكريمةُ أربعةَ أُمورٍ أساسية: وحدة الخالق والخَلْق، ومسائل الطبيعة البشرية الأساسية، ومسألة نمط الحياة والتنظيم الاجتماعي، ومآلُ الوجود البشري والمصير الإنساني: التعارُف، ومقياس النجاح الفردي والجَماعي: التقوى.

في الأمر الأول، أي وحدة الخالق والخَلْق، يأتي قولُهُ تعالى: إنّا خلقْناكم، فالخالقُ واحدٌ: ﴿له الخََلْقُ والأمر﴾ (سورة الأعراف: 54). ويتكرر ذلك في القرآن الكريم مئات المرات لتثبيت ثلاثة مبادئ بالفعل: مبدأ وحدانية الخالق، ومبدأ وحدانية التصرُّف (الأمر)، وأخيراً: مبدأ وحدة المخلوقين: ﴿خلقكم من نفسٍ واحدةٍ...﴾ (سورة النساء:1، وسورة الأعراف: 189). فوحدةُ المخلوقين تتضمن أنّ الخالقَ واحد، وأنّ الأصلَ واحد، وأنّ الطبيعة الإنسانية واحدة. وبذلك فإنّ الحديثَ عن مسائل الطبيعة البشرية في الركن الثاني، هو حديثٌ عن جدليات الأصول التي تدفعُ باتجاه تكامُل تلك الطبيعة ووحدتها؛ بدليل قوله تعالى: ﴿كان الناسُ أمةً واحدةً..﴾ (سورة البقرة: 213).

وهكذا ففي الأمر الثاني بالآية الكريمة: مسائل الطبيعة البشرية، حديثٌ عن أُسُس التكامُل ضمن الوحدة: الذكر والأُنثى، واختلاف الألوان، واختلاف الأخلاق باختلاف البيئات: ﴿ولو شاء ربُّك لجعل الناسَ أمةً واحدةً، ولا يزالون مختلفين إلاّ مَنْ رَحِمَ ربُّك ولذلك خَلَقَهُمْ﴾ (سورة هود: 117-118). فالمتبادرُ من الجمع بين الآيات التي تتحدث عن الطبيعة البشرية، وعن تاريخ الهداية أنّ المقصودَ بالاختلاف أنه تكامُليٌّ وناجمٌ عن الذكورة والأنوثة، وعن اختلاف الألوان والبيئات وبالتالي الأخلاق. لكنّ المفسّرين ربطوا الاختلاف بإرسال الرسل، وما ترتّب عليه من اتجاه فريقٍ للإيمان، وآخر للكفر أو للبقاء عليه. وقد أحسَّ ابنُ الأنباري في كتابه الأضداد (ص270- 271) بهذا الاختلاف، فذكر الرأْيين دون أن يحسم الأمر لأحدهما فقال: (ويفَسَّرُ هذا الحرفُ -الاختلاف- من كتاب الله -تعالى- تفسيرين متضادَّين فيقول بعضُ المفسِّرين: معناه: كان الناسُ كفاراً كلهم؛ فالذين قالوا الأمة ها هنا المؤمنون ذهبوا إلى أنّ الله عزَّ وجلَّ لَمَّا نَجّى نوحاً والمؤمنين الذين معه كان الناسُ كُلُّهم عند ذلك الوقت مؤمنين.. ومن قال الأمة في الآية معناها الكافرون، قال: كان الناسُ قبل إرسال الله نوحاً كافرين كلّهم..). وفي الخلاصة إنّ الأَولى الذهاب إلى أنّ الاختلاف الأول المقصود هو الاختلافُ التكامُلي أو الذي يكونُ ضرورياً للتكامُل من ضمن أصل الخَلْق ووحدته. بينما يأتي اختلافُ الاتجاه لاحقاً، وهو الاختلافُ الثاني، ولا علاقةَ له بالطبيعة البشرية. وفائدةُ هذا التبايُن في الرأْي حقيقةً التفرقةُ بين ما هو من ضمن الطبيعة الإنسانية، وما هو من ضمن تاريخ الهداية، أي بعد تكوُّن الأُمم، وإرسال الرُسُل. فالأول أصلي تكامُلي، والثاني فرعي تطوري.

وبقاءً مع الطبيعة الإنسانية، والرؤية القرآنية أو النظرية القرآنية لتلك الطبيعة، يأتي الأمر الثالث، أمرُ نمط الحياة، والتنظيم الاجتماعي، والذي تذكُرُهُ آيةُ التعارُف: ﴿وجعلْناكم شعوباً وقبائل..﴾:

- ففي روايةٍ منسوبةٍ لعمر بن الخَطّاب أنّ الشعوب الشِعاب، والقبائل العرب (تفسير الطبري 26/88، وصحيح البخاري4/216).

- وفي روايةٍ أنّ المُراد بالشعوب بطون العجم، وبالقبائل بطون العرب (تفسير ابن كثير4/217).

- وذكر المفسِّر سُنيد بن داود أنّ الشعوب أهل الجبال الذين لا يعْتزُون لأحد، والقبائل قبائل العرب (زاد المسير لابن الجوزي 7/474).

- وذكر سفيان الثوري أنّ (حميّر كانوا ينتسبون إلى المخاليف (شعب)، بينما ينتسب الحجازيون إلى القبائل) (تفسير ابن كثير 4/217).

فالأمرُ كما أدرك سفيان الثوري، أنّ القرآن الكريم يتحدث عن شكلين للتنظيم الاجتماعي ونمط الحياة: الشكل القائم -كما يقول ابن خلدون- على النَسَب الحقيقي أو الموهوم (القبائل)، والشكل القائم على التجاوُر الجغرافي، ونمط العيش (الشعب).

فالحديث دائماً في هذه التفرقة بين الشعب والقبيلة عن شكل التنظيم الاجتماعي، ونمط العيش، وهل هو الاستقرارُ أو الترحُّل. ويقول رودي بارت في كتابه (محمد والقرآن) إنّ المسألة فيها بعض التعقيد أو التركيب، فقُريش بمكة، وثقيف في الطائف كانتا مستقرتين، وفي الوقت نفسِه كانوا جميعاً يعتبرون أنفسَهم من أبٍ أو جدٍ واحد. وهم ينقسمون إلى بطون مثلما تنقسمُ القبائل البدوية. ولذلك فهو يريد أن يقسم العرب إلى مستقرين وأهل بادية بغضّ النظر عن انتسابهم إلى جدٍ واحدٍ أو عدم قولهم بالاعتزاز القَبَلي. لكنْ هناك من الإشارات لدى النسّابين ما يدلُّ على أنّ الانتساب إلى جدٍ قَبَليٍّ لدى أهل الحواضر لاحقٌ على وجودهم بالمدينة أو البلدة. واسمُ قُريش نفسه معناه التجمُّع والاستقرار. وكذلك اسمُ تنوخ، الذين أقاموا بالحيرة، وأتوا من جهاتٍ مختلفة، ثم اعتبروا أنفُسَهم قبيلةً واحدةً ليحقّقوا التماسُك، ويمنعوا الصراع. وما استطاع أهلُ يثرب ذلك، فظلُّوا أَوساً وخزرجاً، وظلّت الصراعاتُ ناشبةً بينهم إلى أن وَحَّدهُمُ النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- تحت اسم الأنصار.

وفي الخلاصة فإنّ القرآن الكريم يتحدث عن نمطين للتنظيم الاجتماعي: النمط الحَضَري المستقر أو شبه المستقر، والنمط البدوي المترحّل كلياً أو جزئياً. وفي حين تحضُرُ في النمط البدوي دائماً (العصبية) القائمة على النَسَب؛ فإنّ التحدُّر النَسَبيَّ قد يحضُرُ لدى (الشعب) في الحواضر والمستقرات وقد لا يحضُر.

وتكتملُ الرؤية القرآنيةُ للاجتماع البشري أو الإنساني بالأمر الأساسي الرابع، وهو التعارُف. فالتعارُفُ (وهي صيغةُ مُفاعلة أو تفاعُل) يعني التعايُش من طريق الاعتراف المتبادَل بين الأفراد والجماعات، من أجل إقامة المجتمعات الصغيرة والكبيرة. ولا شكَّ أنّ الانتساب إلى الأب أو الجدّ الواحد عاملٌ مهمٌّ في إحداث تضامُنٍ وتَوادٍ. لكنه إذا كان كافياً في نطاق الأُسرة أو البطن الصغير، فليس كافياً أو فعّالاً في التجمعات الكبيرة. في التجمعات الكبيرة (الأُمّة) يحضُرُ التضامُن والتعايُش بوجود أمرين: المبدأ أو الاعتقاد الواحد، والسلطة الواحدة. ولذا فسَّر القرآن الكريمُ في آية التعارُف تلك العملية الزاخرة من التفاعُلات التضامنية بقوله تعالى: إنّ أكرمكم عند الله أتْقاكم. فالدينُ إذن هو الأساسُ في إقامة الأُمّة، أو ما يُعبَّرُ عنه بالانتماء الواحد، في الانتسابات الحديثة. وفي كتاب المدينة الذي وضعه النبي –صلى الله عليه وسلم- بين المجتمعين من حوله في العام الثاني للهجرة يبدأُ البيان بالقول: (هذا كتابٌ من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم: إنهم أمةٌ واحدةٌ من دون الناس...). وما أسقط النبي -صلى الله عليه وسلم- الاعتبار النَسَبي، لكنْ في الوحدات الصغرى، فتحدث في الكتاب عن بني عوف وبني ساعدة وبني الحارث وبني جُشَم..إلخ. وفي الكتاب نفسِه (وادع يهودَ وعاهدهم، وأقرَّهُمْ على دينهم وأموالهم، وشرط لهم واشترط عليهم). فالتعارُف على أساس الانتماء للمبدأ هو الذي يقيمُ الأُمّة، وهو الذي يضعُ العيشَ المشترك مع أهل الدين الآخَر، بينما لا يستطيع الانتسابُ إلى جدٍ واحدٍ أن يحقّق هذا الأمر؛ بل قد يدفع للتنابُذ والخصومات على أساس العصبية. فمنذ البداية لا تقومُ أمةُ الإسلام على العصبية النَسَبية أو القَبَلية، ولا يمكنُ تحقيقُها بين المترحلين في البوادي. ولذلك كان الشرطُ الآخَرُ الذي أفضى أيضاً إلى قيام الدولة في المدينة.

ثانياً: التجربة القرآنية والنبويةُ مع القبيلة والبداوة:

أ- يُرِدُ لفظُ (الأعراب) (بالجمع) عشر مراتٍ في القرآن، ويبدو أنه تعبيرٌ قرآنيٌّ خالص ٌغير معروفٍ بالعربية الشمالية من قبل، تماماً مثل مفرد: إنسان، بمعنى آدمي أو بَشَري. فهو الآخَرُ إنتاجٌ قرآني بحت. وبهذا الاستعمال للأعراب (جمع أعرابي) صارت كلمة (عرب) تعبيراً عن الجنس (المُسمَّى عربياً)، بينما تشير الكلمةُ الأُخرى إلى أهل البادية من العرب. والطريف أنّ ابن خلدون في (المقدّمة) المشهورة ما يزال مُصِراً على استخدام العرب بمعنى الأعراب، بينما صارت التفرقةُ واضحةً منذ أيام النبي-صلى الله عليه وسلم- بإطلاق لقب الأعراب على صنفين من الناس: الذين لم يهاجروا إلى المدينة، والذين ثابروا على النمط البَدَوي في العيش (من طريق تربية المواشي، والسُكنى المؤقتة في الخيام) والترحُّل. وهذا واضحٌ من آيتين قرآنيتين في سورتي التوبة والأحزاب. في سورة التوبة: 120 قوله تعالى: ﴿ما كان لأهل المدينة وَمَنْ حولَهُمْ من الأعراب﴾. وما جاء في سورة الأحزاب: 20 أصرَح، وهو قولُهُ تعالى: ﴿وإنْ يأتِ الأحزابُ يودُّوا لو أنّهم بادون في الأعراب﴾.

ب- يردُ ذكْرُ الأعراب في القرآن الكريم في الأكثر في سياقٍ سلبي؛ من مثل: ﴿الأعرابُ أشدُّ كفراً ونفاقاً﴾ (سورة التوبة: 97)، ومن مثل: ﴿ومن الأعراب من يتخذ ما يُنفقُ مَغْرماً﴾ (سورة التوبة: 98)، ومن مثل: ﴿وممن حولكم من الأعراب مُنافقون﴾ (سورة التوبة:101)، ومن مثل: ﴿قالت الأعرابُ آمنّا قُلْ لم تَؤمنوا ولكنْ قولوا أسلْمنا﴾ (سورة الحجرات: 14). وهناك آيةٌ واحدةٌ في سورة التوبة أيضاً (آية 99)، يُذكَرُ فيها البدوُ في سياقٍ إيجابي، وهو قولُهُ تعالى: ﴿ومن الأعراب من يؤمِنُ بالله واليوم الآخِر ويتخذُ ما يُنفقُ قُرُباتٍ عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قُربةٌ لهم سيُدخِلُهُمُ الله في رحمته، إنّ الله غفورٌ رحيم﴾.

يأخذ القرآنُ الكريمُ على (الأعراب) وبالترتيب أربعة أمور: عدم الإقبال على الإيمان، وكراهية أداء الزكاة من الذين أسلموا منهم، وعدم الإقبال على الهجرة إلى المدينة، وكراهية القتال إلى جانب المسلمين عندما يُستنفَرون. والواضحُ من وقائعهم مع النبي -صلّى الله عليه وسلَّم- أنّ أصعب المسائل عليهم أمران: تغيير نمط الحياة والعيش، والانتظام في جماعةٍ ونظام. وقد حاول النبي-صلى الله عليه وسلم- بعد بدر أن يقيم معهم علاقاتٍ وتحالُفاتٍ وبخاصةٍ القريبون من المدينة من قيس وعامر بن صعصعة، وبدون اشتراط الهجرة. لكنهم كانوا لا يفُون، ويعودون للإغارة على سَرْح أهل المدينة، والمنفردين منهم. وعندما اجتمع (الأحزابُ) مع قريش وحاصروا المدينة، والأحزابُ هم الأعرابُ؛ ما ظلَّ بدويٌّ من حول المدينة إلاّ ضَعُف أمام الإغراء أو غيَّر الاتّجاه. فالدين اعتقادٌ والتزامٌ داخلي، مِن دانَ وسيطرَ أو استولى، وهذا معنى الإسلام، إسلام النفس والوجه والهمّ لله عزَّ وجلّ. والمدينةُ هي إمّا من دانَ وحكَم وسيطَر، أو من مَدَنَ أي استقرّ وأقام؛ والأمْرانِ مشروعُ الإسلام لإقامة الأمة والدولة التي لا تتمُّ إلاّ في الحاضرة. ولذلك بقيَ الأمر حتّى سورة التوبة، في فترةٍ متأخرةٍ بعد الهجرة، على هذا النحو من السلْبية والسوء بين النبي والأعراب. وعندما فُتحت مكّة، وانْساحَ المسلمون في الجزيرة، اضطُرّ الأعرابُ للإسلام، وبخاصةٍ بعد سقوط شرط الهجرة في قوله -صلّى الله عليه وسلّم-: لا هجرةَ بعد الفتح، ولكنْ جهادٌ ونيّة؛ وإذا استُنفرتم فانفِروا. وفي هذه المرحلة يتحدث القرآن عن المعذِّرين (أي المعتذرين) من الأعراب، الذين لا يريدون المشاركة في الحملات العسكرية التي استُنفروا إليها. كما أنّ بعضَهم ظلَّ كارهاً لأداء الزكاة، رغم أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بإنفاقها في فقرائهم، وجلْب ما تبقّى للمدينة فقط. لكنْ في هذه الفترة بالذات (بين العامين الثامن والعاشر للهجرة) ظهرتْ فئةٌ من مهاجري البدو، أثنى عليها القرآن بأمرين: الإقبال على أداء الزكاة، والإقبال على الانتظام في الجماعة. وبَلَغَ الأَمْرُ الذروةَ في (عام الوفود) حين أقبلت القبائلُ أو بطونُها الكبرى ومن شمال الجزيرة وجنوبها على مبايعة النبي -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام والانتظام. وقد عنى الانتظام البقاء بالمدينة للذين يريدون ويستطيعون، أو العودة إلى ديارهم مع والٍ ومعلِّمٍ للدين كان غالباً من قُرّاء القرآن، ومُصَدِّق. وفي العادة كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبعثُ والياً من عنده من المهاجرين أو الأنصار إذا كان الغالبُ على الآتين أو العائدين الطابع الحَضَري، بينما إذا كان الغالبُ الطابع البدوي فإنه كان يعيِّنُ واحداً منهم وفي العادة أقدمُهُمْ إسلاماً. وفي هذه الفترة بالذات يعلنُ القرآنُ الكريمُ المصالحة الكبرى بقيام الأمة والدولة في سورة (النصر): ﴿إذا جاء نصر الله والفتح. ورأيتَ الناسَ يدخلون في دين الله أفواجا. فسبِّح بحمد ربِّكَ واستغفِرْهُ إنه كان توابا﴾. لقد جرى استيعاب الشعوب والقبائل، أو أن المشروع صار قيدَ التحقُّق. والناس، وليس العرب وحسْب، يُقْبلون على الإسلام. وما دامت الرسالة قد اكتملت؛ فإنّ الأمةَ قد حضر زمانُها، وهو زمانٌ لا ينقضي إلاّ بانتهاء الزمان، أَوَلم يقل -صلّى الله عليه وسلّم-: يبقى هذا الدين ما بقي الليل والنهار؟

ثالثاً: التجربةُ التاريخية العربيةُ الإسلامية: بوفاته -صلّى الله عليه وسلّم- واجه أصحابُهُ -عليه الصلاةُ والسلام- بالمدينة مشكلتين: مشكلة السلطة السياسية، ومشكلة العلاقة بالبدو من جديد. في مسألة السلطة، رأوا أنّ الأمة التي قامت تقتضي نظاماً سياسياً جديداً مختلفاً عن الكِسْروية والقيصرية، ومختلفاً أيضاً عن المشيخة أو السيادة القَبَلية المعروفة عند العرب. وقد عبَّروا عن هذا الفهم بتسمية رئيسهم السياسي: الخليفة. وقد تأثّروا في هذه التسْمية بالقرآن الكريم، الذين تحدَّثَ عن الاستخلاف بمعنيين: استخلاف الإنسان في الأرض لإعمارها، واستخلاف الأُمَم المؤمنة والصالحة لنشر الدين وشرْع الله. والواضح أنّ المقصود بالخليفة المعنى الثاني. ففي السنتين الأخيرتين من حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت هناك عدة حملات باتجاه تخوم الشام بعد أن كان النبي قد أرسل رسائل للملوك والأُمراء بداخل الجزيرة وخارجها يدعوهم فيها للإسلام. وما خَلاَ الأَمرُ لدى بعض الصحابة من فهمٍ آخَر للسلطة عبّروا عنه بمصطلح (أمير المؤمنين)، أي أنهم كانوا يريدون قَصْرَ الأمر السلطوي على إدارة شؤون الجماعة المؤمنة. وما جرى نقاشٌ كثيرٌ، بل عمدوا للجمع بين المصطَلَحَين. وتابع ذلك بنو أمية وبنو العبّاس من بعد، فكان الناس ينادون رئيسهم بأمير المؤمنين بينما لقّبوه على النقود بـ (خليفة الله)! أمّا الاختلاف على مَنْ هو الأحقُّ بالوصول إلى الإمْرة، وكيف يجري انتخابُهُ، فهما لاحقان ولا شكّ على هذه الفترة التي نتحدثُ عنها.

تحدَّد اتجاه الأمة إذن ومنذ أواخر عهد النبي –صلى الله عليه وسلم- بإقامة الدولة المستخلَفة والانسياح في الأرض. لكنْ عادت مصاعبُ استيعاب البدو إلى الظهور. وما يزال الخلافُ مستعراً بين الباحثين إلى اليوم في مسألة (الردَّة) ومعناها. فالذين تمردوا على سلطة المدينة كانوا في شمال الجزيرة وجنوبها. واللافتُ أنّ الحواضر ما شاركت في التمرد، بينما شاركت الأكثريةُ البدوية. وتباينت آراءُ الصحابة في كيفية مواجهة المشكلة: فالذين رأَوا أنّ التمرد ديني، أي أنّ المتمردين تركوا الإسلام، رأوا قتالَهُم باعتبارهم مُرتدّين. والذين اعتبروا التمرد سياسياً، رأَوا أنّ في الأمر فُسْحةً، ويمكن التفاوض معهم ومُطاولتهم إلى أن يعودَ بَعْثُ أُسامة بن زيد -الذي أمر النبي وهو على فراش المرض بإرساله- من تخوم الشام. وانتصر رأْي أبي بكرٍ القائل إنه حتى لو كان التمرد سياسياً فإنه لا يمكن مُهادنته: فلو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتُهُمْ عليه! وهكذا غلب لديه حِسُّ الدولة والخلافة. وخلال أقلّ من عام أمكن إخمادُ التمرد على مدى الجزيرة؛ في الوقت الذي بدأ فيه إرسالُ الحملات إلى الشام ثم إلى العراق. واللافت أنّ البدو العرب على تخوم العراق لم يرتدّوا، وهم الذين بادروا للاشتباك مع الحاميات الفارسية، مُرغمين السلطة بالمدينة على إمداددهم بالجند، والقتال بذلك على جبهتين. ومع ذلك فإنّ مشكلة استيعاب الأعراب تأخَّر حلُّها بعض الشيء. فأبو بكر ما قَبِلَ بإرسال الذين كانوا متمردين (أو مرتدّين؟) مع الحملات الذاهبة إلى الشام والعراق. ثم فعل ذلك عمر بن الخطّاب بعد مُضيّ سنتين على خلافته.

وعلى مدى التاريخ الإسلامي، ظلَّ هناك (بين العرب) بدوٌ وحَضَر. ودخلت في الإسلام شعوبٌ مثل الديلم والتُرك، كان بينهم بدوٌ وحَضَرٌ أيضاً. وما حدثت مشكلاتٌ تتعلق بالإيمان والكفر. لكنّ الأعراب (عرباً وتُركاً وبربر) ما كانوا يحبُّون الخضوع دائماً للسلطة الكاسرة الآتية من المُدُن والحواضر. بيد أنهم لم يبقوا على سلبيتهم، أي يخضعون أو لا يخضعون. بل أقبلوا هم أنفُسُهُمْ على إنشاء الدويلات في الحواضر. وحتّى عندما كانت قبيلةٌ بدويةٌ أو نصف بدوية من العرب أو الديلم أو البربر أو التُرك تستقلُّ في بيئتها بسلطةٍ ما؛ فإنها كانت تعمدُ لبناء حاضرةٍ تمارسُ زعاماتُها سلطتَها منها. وقد دفع ذلك المؤرّخ المعروف عبد الرحمن ابن خلدون (-808هـ) إلى تقديم فَرَضية أو فلسفة لتفسير التاريخ الإسلامي على هذا الأساس: أي عصبية قَبَلية + دعوة دينية= دَولة. فالعَصَبية تعني الإحساس المشترك بالتضامُن على أساس القرابة النَسَبية الحقيقية أو الموهومة. والدعوةُ الدينيةُ هي في الغالب اجتهادٌ يتقَّدمُ به فقيهٌ أو ثائرٌ كارزماتي، يريد أو يدعو للإصلاح بداخل الإسلام، فيتحمس لذلك قَبيليون لديهم زعيمٌ طَموحٌ، فيندفعون باتجاه المدينة القريبة للسيطرة عليها وإقامة السلطة الجديدة باسم الفكرة الجديدة. وهذه السلطة قد تبقى على الأطراف إن قاومَها المركز. وإن اتّسع نفوذُها، وازداد القائلون بها، فقد تُنشئ إمبراطورية. وهذا ما فعلتْهُ عدةُ عصبياتٍ كبرى في التاريخ الإسلامي.

رابعاً: الدولةُ الوطنيةُ والقوميةُ والقبيلة: اندفع الغرب منذ القرن الثامن عشر ليس للاستيلاء على العالَم فقط؛ بل ولإعادة صَوغه على مثاله. وفي عالَم الإسلام، ومنه الجزءُ الناطقُ بالعربية، كان النَمَطان البدوي والحَضَري ما يزالان قائمين. بيد أنّ ذاك العالَم صار يمكن تقسيمُهُ إلى ثلاثة أنماطٍ للعيش وليس إلى نمطين فقط: عالَم الحواضر الكبرى والوسطى أو الأمصار والمُدُن والبلدات، وعالَم الأرياف، وهي القُرى المستقرة وشبه المستقرة والتي يقومُ عيشُها على خليطٍ من الزراعة وتربية المواشي، وهي تابعةٌ في الأعمّ الأغلب للحواضر القريبة. وفي حين يغيبُ التنظيمُ القَبَلي في المُدُن، يحضُرُ على مستوى العائلات والأُسَر والبطون الصغيرة والوُسطى في الأرياف. أمّا القسمُ الثالثُ فهو عالَم البوادي، ويتوزع بين بدوٍ خُلَّصٍ يعيشون على تربية الماشية والترحُّل، وأنصاف بدو، يمارسون الزراعة أيضاً، لكنّ تربية الماشية غالبةٌ عليهم، وهم ينتقلون موسمياً فقط. وهؤلاء ما يزال تنظيمُهُمْ قَبَلياً بحتاً. وفي حين كانت المدن والأرياف في أواسط القرن التاسع عشر، تشكّل حوالي ثلاثة أرباع السكان في مجالنا الحضاري، كان البدو ما يزالون يشكّلون ما نسبتُهُ رُبع السُكّان. بيد أنّ (المبادرة) سواءٌ لجهة نمط العيش، أو لجهة إقامة الكيانات السياسية، انتقلت إلى المدينة تماماً في أكثر ديار العروبة والإسلام. وتضاءلت المشكلاتُ بين البادية والحواضر، لأنّ الريفَ شكَّلَ حاجزاً كبيراً بينهما.وظلّت الأرياف على حفافي الصحراء معرَّضةً لإغارات البدو، وفي الوقت نفسِه للتعامُل معهم من أجل الاستمرار ضمن مُواضعاتٍ وأعراف، وضمن اتجاه الحواضر التي تقومُ فيها السلطة السياسية للدفاع عن الأرياف بالقوة الحديثة للعسكر المديني.

وعندما نقولُ: إنّ أوروبا الاستعمارية اتجهت منذ القرن الثامن عشر للاستيلاء على العالم وإعادة صَوغه على مثالها؛ فإننا نعني بذلك: إنتاج نمط المجتمعات القومية، والكيانات القومية. والإثنية أو القومية صيغةٌ للتماسُك الاجتماعي والسياسي، حلّتْ في أوروبا منذ القرن السادس عشر، محلَّ الدين المسيحي. فقد اختفى النمط البدويُّ من أوروبا وما بقي غير الغَجَر وهم ليسوا بدواً خُلَّصاً، ولا يشكّلون نسبةً معتبرةً بين السكّان. وبدلاً من التضامُن على أساس الدين أو العُرف، صار التضامُن بين (القوم) على أساس الانتماء إلى عِرقٍ أو جنسٍ واحدٍ، تطمحُ نُخَبُهُ لإقامة دولةٍ لذاك العِرْق تجمعُ في أسطورتها بين الدم والجغرافية والثقافة واللغة.

وقد استطاع الأوروبيون بالفعل نشْر وعيٍ إثنيٍّ حادٍّ في البلدان الناطقة بالعربية، والأُخرى الناطقة بالتركية، وفي البلقان. وأدّى هذا الوعي- إلى جانب الحروب الاستعمارية- إلى انهيار الإمبراطوريتين: النمساوية الكاثوليكية، والعثمانية الإسلامية. وبدلاً من (الأمة) المتعددة الفئات والإثنيات والقبائل، ظهرت (الشعوب) الحقيقية والمصنوعة، والتي سُمح لها بإقامة ُدوَل، أو أن ّالكيانات القائمة اكتسبت نُخَبُها وعياً قومياً، واعتبرتْ نفسَها دُوَلاً قومية. وفي الدولة القومية يسودُ الطابعُ الاندماجيُّ الحادّ، الذين لا يترك مكاناً للتمايُزات حتى بين المدينة والريف، فكيف بالتمايُز بين الحاضرة والبادية، أو بين الفئات المختلفة داخل المجتمع التقليدي. ولذلك وبسبب الوعي الجديد بالذات الكلية المندمجة، والصراعات الاستعمارية، ازداد الريفُ استتباعاً للمدينة، وازداد التناقُض أو عاد مع البدو الذين جرى النظر إليهم من جانب المستعمرين-مثل الطوائف الدينية- باعتبارهم إثنيات مستقلّة. وهذا فضلاً عن بروز التناقُضات بين المجتمعات المتآلفة التي صارت فجأةً منفصلةً وقائمةً في دول أو كيانات ينافسُ بعضُها بعضاً باسم الذاتيات الإثنية أو القومية أو التاريخية أو الدينية أو الجغرافية.

في المرحلة القومية من الوعي والممارسة ظهرت التمايُزات والتناقُضاتُ في الوعي الواقع بين الأكثريات والأقليات على هذا الأساس. وفي المرحلة الإسلامية الحاضرة، ظهرت تناقُضاتٌ من نوعٍ آخَر ذي طابع ديني، بعد أن كان الإسلامُ في تجربتنا التاريخية هو عمادُ الانتظام. وللخروج من هذا المأزق، لا بد من استعادة مفهوم الأمة، الذي يجمعُ الشعوب والقبائل، فتكون الوحدات السياسيةُ ذات وظائف تنظيمية وإدارية وتنموية، من ضمن الكلّ الشامل، وليس في مواجهته: ﴿أمّا الزبدُ فيذهبُ جُفاءً، وأمّا ما ينفعُ الناسَ فيمكثُ في الأرض﴾.

****************

*) مفكر وأكاديمي من لبنان، ومستشار تحرير مجلة التسامح.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=511

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك