ملاحظات حول تاريخ اليهود في سبتة
ملاحظات حول تاريخ اليهود في سبتة
إبراهيم القادري بوتشيش*
من المنشورات الهامة التي أضيفت إلى لائحة الكتب الصادرة سنة 2007م كتاب (ملاحظات حول تاريخ اليهود في سبتة من القرن 11 إلى القرن 16م)"Notas para la historia de los Judios en Ceuta (siglos XI-XVI)" من تأليف إنريكي غوزالبيس كرافيطو Enrique Gozables Cravioto، وتعريب الأستاذ محمد الشريف، وهو من منشورات دار أبي رقراق للطباعة والنشر بالرباط.
والكتاب عبارة عن دراسة تاريخية موثقة حول يهود مدينة سبتة، يمتد خيطها من القرن 11 حتى القرن 16م، وإن كان المؤلف قد رجع إلى جذور تأسيس هذه المدينة وألقى أضواء على مشهدها التاريخي منذ عصر الأدارسة (القرن 8م).
ويعد المؤلف -دون منازع- من ألمع الباحثين الإسبان الذين اهتموا بدراسة تاريخ سبتة وشمال إفريقيا في العصرين القديم والوسيط، بل إنه ينتمي إلى عائلة كرست حياتها لكتابة تاريخ هذه المدينة، وهو ما تعكسه دراسات أبيه المؤرخ (غييمو غوزالبيس بوستو)، وأخيه (كارلوس) حيث أفاد المؤلف من رصيدهما البحثي في تأليفه لهذا الكتاب.
في تناوله لتاريخ يهود سبتة يبحر بنا المؤلف عبر 5 فصول:
سلط الضوء في الفصل الأول على مجمل الأساطير المرتبطة بتأسيس مدينة سبتة، وهي أساطير ابتدعت بعضها العقلية العبرية التي رامت تبرئة اليهود من تهمة قتل المسيح، فجعلت تاريخ نشأة هذه المدينة قبل وفاته وأرجعتها إلى عصر التوراة (ص21). وقد ارتحل المؤلف في عالم هذه الأساطير المشكّلة لتاريخ ظهور هذه المدينة بين الأساطير السامية والحامية، وبين أساطير أخرى تنسب تأسيسها للرومان دون ترجيح كفة أي منها.
وفي الفصل الثاني (يهود سبتة من القرن 11 إلى القرن 12م)، يبدأ المؤلف باستعراض الخطوط العريضة لتاريخ المدينة منذ عهد الأدارسة حيث يتحدث باقتضاب –حسب محدودية المادة التاريخية– عن استقرار اليهود بسبتة منذ تأسيسها، وتوافد اليهود عليها بعد ثورة الربض (202هـ / 817م) المشهورة في تاريخ الأندلس، بالإضافة إلى هجرة اليهود الوافدين من تونس والبلاد العربية المشرقية. كما يشير إلى هجرة أخرى حدثت نحو المدينة بسبب تفاقم الصراع الأموي - الفاطمي خلال القرن 10م.
ويعرض بعد ذلك لتطور وضعية الطائفة اليهودية خلال العصر المرابطي، فيذهب إلى دحض بعض الآراء التي وصمت المرابطين بالتعصب ضدها، مؤكدا أن الدولة المرابطية اعتمدت على اليهود في بناء القوة الاقتصادية المرابطية، ومستعرضا النشاط التجاري الذي قام به يهود سبتة من خلال وثائق الجنيزة (ص27)، ليستخلص أنهم أصبحوا في العصر المرابطي من أكبر وأغنى الجاليات اليهودية في الغرب الإسلامي.
أما في الفصل الثالث (يهود سبتة في الفترة الموحدية)، فقد كرسه صاحب الدراسة لمعالجة القمع الذي تعرض له يهود سبتة على ي0د السلطة الموحدية، مؤسسا رؤيته تلك على بعض المصادر اليهودية كابن داود وابن عقنين، فضلا عن بعض الدراسات الأجنبية. وقد أشار إلى أن قمع يهود سبتة جاء متأخرا لأنهم ساندوا الموحدين بعد سقوط الدولة المرابطية، ولكنهم لعبوا بعد ذلك دورا في ثورة المدينة ضد النظام الموحدي، مما جعلهم يتعرضون للتنكيل والاضطهاد.
وفضلا عن إمعان الباحث في إبراز المشهد القمعي الذي خيم على يهود سبتة في الفترة الموحدية، أسهب في تناول شخصية ابن عقنين (ص61)، وتعرض على المستوى الاجتماعي لمسألة إجبار اليهود على ارتداء لباس خاص، مفسرا ذلك بأنه جاء نتيجة فشل الموحدين في إجبارهم على اعتناق الإسلام (ص68).
في الفصل الرابع (يهود سبتة على عهد المرينيين)، يستحضر المؤلف بعض المؤشرات التي تدخلت لتحدد وضعية اليهود بسبتة في هذا العصر، منها فشل الهجوم الجنوي على سبتة سنة 1235م، ثم زوال شبحه نهائيا، إلى جانب هزيمة العقاب التي حولت أنظار الموحدين عن اليهود للتفرغ لمشاكلهم الداخلية، فطويت بذلك (صفحة من الحلم المزعج بالنسبة لليهود) على حد تعبير المؤلف (ص71-72). لذلك يعد العصر المريني -في منظوره- فرصة استعاد فيها اليهود عافيتهم، واستأنفوا نشاطهم التجاري مع الضفة المتوسطة الشمالية، خاصة مرسيليا وإسبانيا في القرن 14م.
ويؤكد صاحب الدراسة أن احتلال بني نصر لسبتة زاد من توطيد علاقة يهود هذه المدينة مع يهود غرناطة على المستوى الاقتصادي على الخصوص (ص74)، كما توطدت علاقتهم مع مملكة أرغون. وبنفس الجدية واعتمادا على الشواهد الأثرية، ينبش المؤلف أيضا على المستوى العمراني في الأحياء السكنية لليهود بسبتة خلال هذه الفترة، ويعرض لنشاطهم التجاري. ومع الإقرار بهذه التطورات الإيجابية التي عرفتها الطائفة اليهودية بسبتة، فإنه ينهي هذا الفصل بحكم قاس مفاده أنها كانت عشية الاحتلال البرتغالي للمدينة تعيش في وضعية سيئة (ص86).
ويختم كرافيوطو دراسته، بفصل خامس تحت عنوان (اليهود في سبتة البرتغالية) (القرن 15و 16م )، فيرجع عوامل الغزو البرتغالي للمدينة إلى عاملين أساسيين أولهما: وجود روح صليبية ترمي إلى توسيع الهيمنة المسيحية على الأراضي التي يسيطر عليها المسلمون. وثانيهما: سعي الطبقة البورجوازية البرتغالية تحت ضغط الجالية اليهودية إلى إيجاد أسواق بشمال إفريقيا.
واعتمادا على الوثائق البرتغالية المتنوعة، يصل المؤلف إلى القول بأن يهود سبتة لم يناهضوا الاحتلال البرتغالي، بل إن البورجوازية اليهودية ساندته ماديا، مقدما إحصائيات تزكي طرحه (ص94).
وقد قادته المادة الوثائقية أيضا إلى رصد تطور التركيبة البشرية ليهود سبتة خلال المرحلة البرتغالية، فأوضح أن قسما من اليهود المغتربين عادوا إلى سبتة، وأخذوا يمارسون التجارة إلى جانب التجسس، بينما بقي اليهود الآخرون المقيمون في ضواحي المدينة تحت السيطرة الإسلامية، مشيرا إلى أن وضعية الفئتين معا قد تحسّنت (ص95). واعتمد على دراسة أخيه (كارلوس) في تحديد موقع الحي اليهودي بسبتة خلال الفترة البرتغالية.
أما على الصعيد الديني فإن أهم التحولات الحاصلة في هذا المجال تكمن في أن اليهود الذين كانوا قد اعتنقوا المسيحية نبذوها، كما تنصر جزء من اليهود الذين كانوا يقيمون في سبتة (ص99).
وعلى المستوى الاقتصادي، استمر يهود سبتة في ممارسة عملياتهم التجارية حتى القرن 17م، حيث وقع الملك الإسباني فيليبي الرابع وثيقة سنة 1625م تنظم بنود تجارة اليهود الإسبان مع سبتة (ص102).
تلك أهم الطروحات التي تحويها هذا الكتاب الهام. ونسعى بعد هذه الخلاصة التقديمية أن ندلي ببعض الملاحظات حوله:
لا سبيل إلى إنكار أهمية هذه الدراسة، وهي أهمية تزكيها على كل حال تجشم المترجم عناء نقلها إلى لغة الضاد، فهي دراسة مونوغرافية جادة وموثقة، رغم ما يعتور التوثيق من صعوبات لا يدركها إلا من عارك الميدان المونوغرافي، خاصة بالنسبة للعصر الوسيط الذي تشح مصادره. بل تتسع دائرة شح المصادر الوسيطية كلما تعلق الأمر بدراسة الأقليات الدينية التي دثرها المؤرخون الوسيطيون بغطاء التهميش والتكتم، مما يشكل مطبة حقيقية تجهض صيرورة البحث في هذه الفئات. ومع ذلك فقد أفلحت الدراسة في سدّ كثير من الثغرات التي كان ينوء تحت وطأتها تاريخ يهود سبتة. ومما يزيد في قيمتها، اعتماد المؤلف على مصادر متنوعة شملت وثائق بشقيها العربي والأجنبي، حيث اعتمد على مصادر تاريخية مغربية، وعلى مشاهدات وأوصاف الجغرافيين العرب من أمثال البكري والإدريسي وابن خرداذبة وغيرهم. كما نهل من الوثائق اليهودية المتاحة في مؤلفات ابن داود وابن عقنين، فضلا عن وثائق الجنيرة. وأفاد أيضا من الحوليات الإسبانية اليهودية للقرنين 15و 16م، ومن أرشيف التاج الأرجوني، وكذلك من المصادر البرتغالية والنقائش واللقى، والمصادر الأثرية الأخرى. كما استثمر الشهادات الأدبية والأساطير المتعلقة بالوجود اليهودي في المغرب القديم ومن البقايا الخزفية. ويحمد للمؤلف أيضا استناده على الأركيولوجية البحرية من خلال بقايا السفن السبتية القابعة في قاع البحر، ليستخرج منها معلومات حول تجارة السمك المملح. كما اعتمد على بعض الدراسات الجامعية لإكمال نظرته التاريخية.
ولعلّ ما يزيد من قيمة الوثائق التي اعتمدها المؤلف في دراسته، كونها وثائق جديدة لم تكن متاحة للباحثين فيما قبل، لذلك ظل تاريخ سبتة مجهولا مدة 70 سنة حسب تعبيره.
ومع أهمية طروحات المؤلف في هذا الكتاب وإضافاته الغنية للخزانة التاريخية، فإننا نسجل بعض الملاحظات:
1- على المستوى المنهجي
إن فحص منهجية التحليل لدى المؤلف يحيل على مؤشرين دمغا إنتاجه بوضوح:
الأول: التأويل الخاطئ
أمام فقر النصوص، أطلق المؤلف العنان للافتراضات والتأويلات الفجة التي لا تسندها أدلة دامغة. ففي ثنايا الكتاب نلمس نماذج من هذه التأويلات المبنية عل فرضيات خاطئة، من قبيل تأويله لإشارة بنيامين التطيلي لوجود يهوديين من سبتة في مدينة جنوة الإيطالية على أنها مؤشر دال على وجود هجرة يهودية من سبتة نتيجة القمع الذي مارسته السلطة الموحدية ضدهم. والغريب أنه يقر بأن ما أوّله يندرج في عداد (الحقائق) (ص59).
وبالمثل، أوّل إشارة نص البكري حول وجود جبل بسبتة يشمل بعض المزارع، بأن يهود سبتة كانوا ميالين إلى الاستقرار في منازل منعزلة في الأرباض، وهو ما يتسق نظريا مع وجود حيّ منعزل خاص باليهود. كما أوّل زراعة الكروم بهذا الجبل بأنه دليل على تواجد اليهود بها (ص43-44).
صحيح أنه إذا تجاوزنا نظرة المتشددين القائلين بعدم إمكانية تأويل النص التاريخي، فإن الاجتهاد في التأويل أمر ممكن في غياب نصوص صريحة، لكن ثمة ضوابط ينبغي مراعاتها وأهمها احترام القراءة السياقية للنص، وتجنب الإسقاط والتأويل الموجه، وغير ذلك من الضوابط التي تناولناها في إحدى دراساتنا، وهي ضوابط لم يلتزم بها المؤلف البتة في تأويلاته.
الثاني: طابع التعميم وعدم التثبت في قراءة النصوص
يلاحظ أن كرافيوطو يذهب أحيانا إلى توظيف حادثة ما وتعميمها ليصدر حكما فضفاضا أقل ما يقال أنه يزيغ عن سكة الصواب. فعند تناوله لمسألة اضطهاد اليهود دينيا وممارستهم لشعائر دينهم في الخفاء، يستشهد بشهادة أحد اليهود حول التعصب الديني الذي لحق ببني جلدتهم (ص53)، دون أن يكون على يقين بأن هذا اليهودي من مدينة سبتة، فالدراسة المونوغرافية العلمية الرصينة تستلزم التحرز من التخريجات المعممة المهلهلة التي تنبو على الحقيقة، وتشوش على البحث التاريخي الرصين، خاصة إذا لم يكن ثمة نصوص أو على الأقل بعض السياقات التي تعضدها.
ومن المزالق التعميمية التي شابت إنتاجه أيضا نتيجة التسرع في قراءة النصوص، تقويله بعض المؤرخين ما لم يقولوا، ومن هذا القبيل الخبر الذي نقله عن المؤرخ ابن أبي زرع حول إصدار السلطان المريني أبو سعيد سنة 1328م، مرسوما في سبتة يلزم فيه جميع مدن مملكته بإقامة أحياء خاصة بالمرضى المعدمين واليهود، والحال أن ابن أبي زرع المذكور أورد ما يفيد أن أمر السلطان المريني اقتصر على بناء حي خاص باليهود في مدينة فاس، وليس سبتة.
وبالمثل لم يتمكن صاحب الكتاب -رغم محاولته- في وضع سبتة ضمن سياقين هامين: السياق المتوسطي الذي شكل مفتاح سيرورة تاريخ المدينة.، ثم السياق العربي - الإسلامي الذي شكل المرجعية الأساسية لهوية المدينة حتى أن تعبير (سبتة الإسلامية) غاب كليا من قاموس المؤلف.
يضاف إلى ذلك، أن المؤلف اتبع منهجا كرونولوجيا يعالج تاريخ يهود سبتة من خلال تاريخ الأسر الحاكمة، وهو منهج يفرض تتبع تطور الظواهر الموضوعاتية بطريقة متقطعة، ويختلط في الفصول التاريخ السياسي بالتجاري والعمراني والاجتماعي، مما يتمخض عنه انقطاع في متابعة سيرورة تاريخ الظاهرة اليهودية.
2- على مستوى الشكل والمضمون
- عدم انطباق العنوان على الكتاب
رغم أن الكتاب يبحر بالقارئ بتاريخ مدينة سبتة من التأسيس حتى القرن 16م، فقد ترك فجوات عميقة، وانقطاع تاريخي مفاجئ يفصل ما بين الفصل الذي خصصه للتأسيس والقرن 11م، إذ تظل وضعية اليهود خلال فترة الفتح الإسلامي لسبتة غامضة. كما أن فترة العزفيين السبتيين تظل كذلك في طي الإبهام. وإذا كان عنوان الكتاب يحيل على فترة زمنية تمتد من القرن 11 حتى 16م، فإننا لا ندري كيف أقحم الملف الفصل الأول الذي تناول فيه أصول سبتة وتأسيسها، وهي مساحة زمنية خارجة عن موضوع الدراسة، مما يشكل شرودا علميا وقع في فخه المؤلف. وفي المقابل، فإن معظمه الأساطير التي يتطرق إليها في هذا الفصل، تنتمي مرجعياتها للعصر القديم، رغم أن كتابها ينتمون زمنيا للعصر الوسيط، مما لا ينطبق مع عنوان الفصل الأول.
والملاحظ كذلك أن المادة الخاصة بالقرن 11م لا تحتل سوى خانة ضيقة من الكتاب، مما يشكل فجوة عميقة ملفتة للنظر. صحيح أن المادة التاريخية تندر في هذه الفترة الزمنية، لكن ثمة إشارات أخرى وردت في المصادر العربية كان بإمكان المؤلف استغلالها.
ويخيل إلينا أن الكتاب في حجمه الصغير، وفضائه الزمني الشاسع الممتد عمليا من أساطير التأسيس حتى مشارف القرن 17، والطريقة التي تم بها عرض الموضوعات، تستلزم أن يكون العنوان الملائم للكتاب هو: (مجمل تاريخ يهود سبتة من بدايات التأسيس حتى القرن 16م)، خاصة أن مصطلح (ملاحظات) الوارد في العنوان الأصلي لم يشكل في المضمون جوهر الكتاب.
ويلاحظ على مستوى الشكل والمضمون أيضا خلو الدراسة من أي خريطة أو رسم توضيحي لموقع الأحياء اليهودية التي تحدث عنها المؤلف، وكذا موقع ربض المدينة، وما إذا كان يوجد في شرق أو غرب المدينة أو في أي ناحية أخرى، إذ لا يمكن تجاهل الأهمية العلمية التي تكتسيها مثل هذه الكارطوغرافيا والأشكال المبيانية في توضيح المواقع والأماكن لإفادة المتلقي.
من جهة أخرى، يعطي كرافيوطو للقارئ صورة قاتمة عن يهود سبتة في عصر الموحدين، إذ لا نقرأ من خلال الفصل الثالث إلا العنف والتنكيل، حتى أنه بدأ معالجته لهذا الفصل بالبطش الذي سلطه الموحدون على رقابهم، وكأن هؤلاء لم يكن لهم إلا هدف واحد جاؤوا من أجله وهو إبادة اليهود، متناسيا أن المدينة عرفت تحت ظل الحكم الموحدي تطورا تجاريا هاما كان لليهود ضلع في إشعاعه والاستفادة منه. ولا شك أن القارئ لهذا الفصل يخرج بقناعة أن عنوانه الذي جعله موضوعا للدراسة، سرعان ما يخرج عن سكته فيتحول إلى فصل يروم إدانة النظام الموحدي، واستنزال اللعنات عليه. لذلك كان من الأولى أن يعدل كرافيوطو هذا العنوان ليصبح (الاضطهاد الموحدي ليهود سبتة) أو ما شابه هذه الصيغة بدل (يهود سبتة في الفترة الموحدية) حتى ينطبق العنوان مع المضمون، أو يتبنى -وهذا هو الأصح- العنوان الأخير، ويبحث فيه بموضوعية، بعيدا عن أي تحامل ضد الموحدين. ناهيك عن أن الأعراف العلمية تقتضي أن تنصب الدراسة في بداية كل فصل على إبراز المحاور الأساسية التي سيتم معالجتها سواء الإيجابية منها أو السلبية، وليس استهلال الفصل بتهجم على الموحدين كما فعل المؤلف...
ويلاحظ القارئ كذلك بعض الاضطراب والخلط الذي وقع لكرافيوطو في تحديد بعض المدن، إذ يفسّر إشارة ابن داود للمهدية بأن المقصود منها مدينة الجزائر... (ص49-50)، دون أن يستند على أي دليل أو مقاربة تؤكد ترجيحه.
3 – على المستوى المصدري والتوثيقي
مع تنويهنا بالجهد المحمود الذي بذله الباحث في لمّ شتات النصوص والروايات المتفرقة من بطون المصادر، فإننا نسجل غياب كتب النوازل الفقهية التي تنبث فيها بعض الإشارات والإيماءات الهامة حول يهود المغرب، ولو بصفة عامة تستلزم الحذر، إلا أن بعضها متميز يستحق التوظيف مثل الفتوى التي أفتى بها شيوخ بني مرين في عهد السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق المريني،والتي وردت في الجزء الثاني من كتاب المعيار للونشريسي، ص250 حول اتفاق الفقهاء على أنه لا ذمة لليهود الذين (قتلوا لذلك وسبوا ببلاد بني مرين كلها حسبما ذكره الخزرجي قاضي بادس). ولا شك أن مصطلح (كلها) الوارد في النص يؤكد أن عملية القتل والسبي شملت يهود سبتة أيضا لأن لفظ (كلها) يحيل على جميع المدن المغربية، مما يؤكد صحة الواقعة وانطباقها على يهود سبتة. ونفس الشيء ينسحب على الأجوبة اليهودية Responsa التي استبعدها المؤلف من مصادره، والتي تحوي قضايا مهمة حول اليهود بصفة عامة وضمنها يهود سبتة. ومن هذا القبيل لا يمكن إغفالResponsa of Rabbi Simon ben Zamah, New york 1982. وكان بإمكان المؤلف -لو استعمل هذا النوع من النصوص الدينية- إضاءة الجوانب التي ظلت في زوايا النسيان في تاريخ الأقليات بالمغرب.
كما وقع في شراك الخلط في زمنية المصدر إذ ينسب رسالة ابن عبدون إلى العصر الموحدي، بينما ينتمي ابن عبدون إلى العصر المرابطي.
وفي زعم المؤلف بالأصل العبراني لمدينة سبتة، يستشهد بما كتبه الوراق والقاضي عياض، علما بأن المصدرين ضائعين. ورغم إقراره بعدم وجود المصدرين، فإنه يقول بصيغة اليقين: (ولكنهم -الوراق وعياض- يدافعون من دون شك في كتاباتهم عن أقدمية مدينة سبتة وعلاقاتها بالعهود التلمودية (ص24)، وكأنه اطلع على الكتابين وتثبّت من نصوصهما تثبتا حرفيا. وحتى البكري الذي اعتمده، فإنه لا يذكر تأسيس اليهود لسبتة أو نسبتها للعصر التلمودي.
ورغم أهمية الأساطير في البناء التاريخي، فإنه لا ينبغي كما -فعل المؤلف- التعامل معها وكأنها حقائق تاريخية، بل مجرد مؤشرات ومعطيات يمكن أن تساهم في فك بعض الألغاز التاريخية.
وأحيانا نجد التوثيق العلمي يخون المؤلف؛ ففي ذكره لوجود مدارس تلمودية بسبتة (ص39)، يستند في ذلك على (سلوش) Sloush في دراسته(Etude sur l'histoire des juifs du Maroc …) المنشورة في المحفوظات المغربية، مجلد 5، سنة 1906م، علما بأن (سلوش) نفسه لم يعتمد في هذا الخبر على أي مصدر.
ورغم البعد المتوسطي لتاريخ التجارة اليهودية بسبتة، فإن المؤلف أغفل دراسة (هنري بيرين) حول (تاريخ أوروبا في العصور الوسطى: الحياة الاقتصادية والاجتماعية) التي تفيد الموضوع في قراءة رأسية وعمودية في فهم علاقات ضفتي البحر المتوسط. فعلى سبيل المثال لا الحصر ليست ثمة أدنى إشارة إلى ما كان يقوم به تجار مرسيليا عن طريق وكلائهم اليهود في سبتة من بيع عملات عربية عرفت بأنصاف دراهم Millares لضربها في مدينة مونبيليه.
من ناحية أخرى، لم يلتفت كرافيوطو إلى بعض الدراسات العربية الجادة حول مدينة سبتة كالدراسات القيمة لكل من محمد الشريف، وحليمة فرحات وأمين توفيق الطيبي، وغيرها من الدراسات الجادة التي أضاءت الجوانب المعتمة من تاريخ هذه المدينة. ونعتقد أنه لا يمكن دراسة اليهود في سبتة دون الرجوع إلى هذه الدراسات. والغريب أنه في الوقت الذي أهمل مثل هذه الدراسات الجادة، اعتمد على أبحاث من مستوى درجة الإجازة فحسب كالبحث الذي أنجزته (ريكا عمر كاهين) سنة 1986م (ص75).
ومع ما يعتور الكتاب من هفوات، فإنه يعتبر نقطة مضيئة في كتابة تاريخ الأقليات وفي تاريخ المونوغرافيات، خاصة بالنسبة لسبتة المدينة المغربية السليبة.
تعليقات حول الترجمة
لا شك أن ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العربية يعد إنجازا هاما يتيح لقراء لغة الضاد المزيد من الوقوف على تاريخ مدينة سبتة. وقد وفق المترجم في نقل أفكار المؤلف بكل أمانة وموضوعية من لغتها الأصلية التي هي الإسبانية، وتحاشى التدخل في النص المترجم سوى ما أشار إليه في الهوامش أو في مقدمة الكتاب، وذلك بأسلوب عربي سليم، بعيدا عن شطحات الأسلوب (العجمي) الذي نلمسه في العديد من الترجمات المبتذلة. ومن باب الإنصاف أن نقر للمترجم بالإيجابيات التالية:
1- ترجمة منبثقة من قناعات علمية
لم تأت ترجمة الكتاب من قبل الأستاذ محمد الشريف من فراغ أو ترف فكري، بل تولدت من قناعة علمية من خلال رصيده المعرفي، ودراساته القيمة حول مدينة سبتة التي كرس مساحة هامة من عمره العلمي الذي يربو عن العقدين من الزمن لبحث واستقصاء تفاصيل تاريخها والنبش في تاريخها الاقتصادي والاجتماعي. ومن خلال دراساته المثمرة والمتواصلة، تبيّن له الدور الهام الذي لعبه اليهود في النشاط التجاري مع حوض البحر المتوسط، فتشكلت لديه قناعة بأهمية ترجمة الكتاب الذي قرأه بلغته الأصلية، وأبى إلا أن يفيد القارئ العربي بمحتواه الثري، فجاءت ترجمته مطبوخة على نار هادئة، ومنطلقات رصينة تنم عن حرص على تبادل المعرفة العلمية بين (الأنا) و(الآخر).
2- التعليقات الهامشية المفيدة
لا مراء في أن أمانة المترجم أملت عليه ضرورة نقل النص المترجم كما ورد في الأصل. لكن بعض المغالطات التي تلونت بها كتابة المؤلف جعلت المترجم (يتدخل) ليضعها تحت مجهر التحقيق والمساءلة، لكن في مساحة الهوامش فقط، ليعلق على تلك المغالطات بأسلوب علمي موثق. ففي فصل (يهود سبتة في عصر الموحدين) أشار إلى التهمة التي حاول مؤلف الكتاب إلصاقها بالموحدين، فردّ عليها في المقدمة من خلال الدارسين اليهود أنفسهم من أمثال David Carcos وجورج ناحوم، وبذلك دفع التهمة عن الموحدين من خلال الباحثين اليهود أنفسهم، (ص10-11)، وهو ما نعتبره تعليقات علمية إضافية.
ومع ذلك، نلمس موضوعية المترجم، فرغم اعتماده على دافيد قرقوص في دفع تهمة التعصب عن الموحدين، فقد أشار إلى اعتراضات (أشتور) في تقديمه لكتاب (دافيد) السالف الذكر بخصوص الرسالة التي أراد أن يمررها حول تسامح الموحدين. وفي الوقت ذاته يستشهد بآراء بعض الباحثين المغاربة حول تسامح الموحدين والحرية التي نعم بها اليهود في ظلهم، فتدخلاته تبحر يمينا وشمالا بين مختلف الآراء والتوجهات دون التعصب لأي فكرة أو الانطلاق من موقف مسبق.
3- تصحيح بعض الأخطاء التي وقع فيها المؤلف
لم يتوان المترجم عن التنبيه لبعض المزالق التي سقط فيها المؤلف من قبيل نسبة كتاب ابن عبدون للعصر الموحدي، بينما ينسب في الحقيقة للعصر المرابطي. كما نظر بعين صاحية إلى بعض الأوهام والخلط الذي وقع في شراكه المؤلف حول نسبة بعض الأوامر السلطانية المرينية والزعم بأنها كانت موجهة إلى مدينة سبتة، بينما كانت في الواقع أوامر موجهة إلى القائمين بشؤون مدينة فاس. كما أفاد في تصحيح ما ذكره المؤلف اعتمادا على (روض القرطاس) من أن الأمير الإدريسي المولى إدريس الأول استقدم اليهود إلى فاس مقابل مساهمة مالية هامة، إذ طعن المترجم في صحة هذه القراءة للنص وأثبت -بعد الرجوع إلى النص الأصلي- أن هذا النص لا يفيد ما ذكره المؤلف (ص36).
وبالمثل، أقدم المترجم في بعض الحالات التي تستدعي التدخل على إتمام بعض النقص الذي يعتور نسيج معلومات المؤلف، فعلى سبيل المثال عند معالجة هذا الأخير لاحتلال مدينة سبتة من قبل البرتغاليين، وبعد ملاحظة التقصير في موضوع احتلال المدينة، أحال على مراجع تفيد القارئ الذي يروم التوسع في الموضوع (هامش 1ص89).
4- الحاجة إلى مساحة إضافية للتعليقات
مع أهمية هذه الترجمة، فإننا نرى أنه كان يستحسن للمترجم، إمعانا في تحصين تاريخ سبتة وتاريخ الموحدين من ترهات الأغاليط، وتمشيطه من الأحكام المبيتة كمسألة اضطهاد اليهود من قبل الموحدين وغيرها من التخريجات العرجاء، أن يخصص مساحة في آخر الكتاب للتعليقات المسهبة كما يفعل بعض المترجمين. فمثل هذه التعليقات لا تعتبر (تدخلا) في أصل النص المترجم أو سطوا على سلطة المؤلف، وإنما إثراء وإغناء وتوجيها لذاكرة القارئ نحو تلمس مسار الحقائق التاريخية.
من ناحية أخرى ذهب المترجم إلى ترجمة اسم Ibn Aknin بـ (ابن أقنين) والراجح أن الترجمة الصحيحة هي (ابن عقنين) بالعين، وليس بالألف كما ورد في النص المترجم.
5- (تقادم) النص المترجم
ثمة تساؤل يمكن أن يطرح أيضا حول جدوى ترجمة الكتب التي مر عليها عقدان من الزمن (نشر الكتاب بلغته الأصلية سنة 1988م). ألا تكون المادة التاريخية والوثائق المعتمدة قد تجووزت، أو ظهرت مادة جديدة أكثر أهمية، أو يكون المؤلف نفسه قد تراجع عن بعض آرائه التي تمت ترجمتها؟ لقد مضى على ترجمة الكتاب عشرون سنة كما يؤكد المترجم نفسه في المقدمة، ولكننا لا نزعم البتة أن (التقادم) ينقص من قيمة هذه الترجمة، بيد أن تسارع عقارب الأبحاث والدراسات التاريخية بفضل الاكتشافات الوثائقية والأثرية خلال عشرين سنة خلت قد يجعل الترجمة للكتب الحديثة النشر أكثر فائدة حتى بالنسبة للقارئ وجمهور الباحثين إبان صدورها. حقا أن ثمة ترجمات خاصة بنصوص موغلة في القدم تمثل أصولا مصدرية، إلا أن الأمر ليس كذلك بالنسبة للدراسات المعاصرة إذ كلما كانت ترجمتها حديثة كلما رفع ذلك من حرارة النقاش وزاد من إيقاع الإفادة العلمية.
6 – وختاما أعتقد أن للمترجم زاد معرفي كبير بخبايا أرشيف مدينة سبتة وتاريخها الحضاري، وقد يكون النصيب الأكبر من هذا الزاد أو جزء منه على الأقل لا يتطابق مع تخريجات المؤلف، أو ربما يناقضها ويصححها، خاصة في مجال التاريخ الاقتصادي والاجتماعي، إلا أنه لم يوظفه كليا في تعليقاته الهامشية، ولا شك أن توظيفه قد يشكل مادة دسمة لأبحاث مستقبلية واعدة.
***********************
*) باحث من المغرب.