آليات إنتاج المعنى أو الدّلالة في حلّها وترحالها
رمضان بن رمضان
1-الكتابة: النّص/ الجسد
النّص الأدبي ملغز في ولادته، تعتمل في نسج خلاياه عوامل لا يدرك كنهها إلّا من كابد أوجاعها وقد يعسر القبض عليها وتفسيرها. النّص بين الفكرة والإنجاز، بين مرحلته الجنينيّة وولادته مكتملا، رحلة مضنيّة، مليئة بالسّهاد والأرق والتّعب. فالكاتب/المبدع يقتطع من جسده، من فكره، من حياته شلوا ليعطينا نصّا قد نستمتع بقراءته، قد يحلّق بنا عاليا وبعيدا، قد يفتح لنا دروبا نحو جوهرها الفرد كما يقول محمود المسعدي، قد يفتح لنا نوافذ لتهوئة كياننا المنذور للزّيف والخراب، مخاض ولادة النّص مزيج من أسباب متعدّدة تبدأ برعب بياض الورقة ورعشة القلم واحتراق الأعصاب فلا عجب أن يولد النّص ” ملوّثا ” بأدران الجسد، بأبخرته المتصاعدة من جرّاء حمّى الإبداع. إنّ النّص ينبثق من احتكاك طاقة نفسيّة جوهرها الرّغبة في نحت الكيان وصياغة الوجود لغة، بطاقة فيزيولوجيّة أساسها اللّحم والدّم والأعصاب الجسد وعن الطّاقتين تتولّد فيزيولوجيا الكتابة: الحروف والكلمات والجمل أي النّص وقد قد من اللّغة. جوهر الإبداع يكمن في اللّغة ومن حقّ اللّغة على المبدع أن يكون قادرا على افتضاض بكارتها، وتطويع كنوزها لمراميه، وفتق أسرارها، وخلق شبكات دلاليّة جديدة…اللّغة هذا الكائن المخيف، مخترق للتّاريخ، يتردّد صداه عبر الأزمنة والعصور يقول رولان بارت:” إنّ النّص سيف مسلول على الزّمان والنّسيان “(1). النّص محتضن للأثر يضمن له شروط البقاء ويصحّح ما للذّاكرة من قصور وخلط. النّص نسيج لغوي يحصن الكلام/ الأثر الإبداعي لأنّه يفرض على متلقيه أن ينظر فيه ويحترمه. للنّص كاريزما يستمدها من ميتافيزقاه. في القديم كان النّص مرتبطا بميتافيزيقا الحقيقة، أي كان على النّص أن يثبت صحّة المكتوب كما يثبت القسم صحّة الكلام(2). والنّص من هذه الوجهة معبّر عن أثر قد استقرّ فيه معنى واحدا، معنى حقيقيا ونهائيا حيث يتطابق الدّال بالتّداول (3). إنّ اختراق التّطابق بين طرفي العلامة يفتح للغة مجالا للحلم وفضاء للتّخييل وإمكانيّة للمبدع حتّى يعيد توزيع نظام اللّغة، فيصبح للنّص ميتافيزيقا جديدة..هي ميتافيزيقا الحداثة تلك الّتي تحتاج لكلّ ما يسبقها حتّى تتميّز عن كلّ ما يسبقها فهي البدء من ذاتها (4). هاجسها تكريس نسبيّة المعرفة وتأصيل الإختلاف، من ذلك أصبح لكلّ نصّ الحقّ في تأسيس ميتافيزقاه.
2 المعنى: الذّاكرة/ التّاريخ
بآعتماد المقولات الماركسيّة يصبح الدّال ملكا مشاعا كما يقول بارت والمعنى من جهة الكاتب أو من جهة القارىء أمر حاصل. ويصبح النّص مسرحا لإنتاج يلتقي فيه منتج النّص ومستهلكه/ قارؤه. وتكون إعادة الدّال إلى الكاتب أو إلى القارىء أو إليهما معا بمثابة إعادة وسائل الإنتاج إلى المنتج وهكذا يتحوّل الأدب من مفهوم المنتوج إلى مفهوم الإنتاج. الإنتاج في هذه الحالة، حاصل المعاني الممكنة الّتي يحتملها النّص. للكلمة بما هي حروف سحر وفتنة وأسرار وتاريخ، وهي بما تحويه من دلالة ذاتيّة une denotation وبما تشيعه من دلالة حافة une connotation ذاكرة يمكن نبشها وإحالتها على التّاريخ. المعنى كائن حيّ، له لحظة ولادة ونمو وتحوّل، كما له لحظة ضعف ووهن. حضوره في التّاريخ رهين استعمال المبدع له تداولا وتجديدا وتوظيفا..إنّه ينفض عنه غبار الماضي وينتشله من غياهب النّسيان فيعيد له بريقه وألقه. والمعنى قد يترك فيخفت توهجه وقد تقتنصه إحدى المؤسّسات كمؤسّسة القضاء أو الفقه أو الأدب..فتدجنه وتكبح فيه نزوعه إلى التّجدد والعطاء. حين يستدعي المبدع المعاني القديمة، عليه أن يحذر من الوقوع تحت سطوة موروثها، فللماضي إغراؤه. عليه أن يخلصها مما علق بها من انحرافات و يزيل ما لحق بها من تشوهات ويفكّها من أسر المؤسسة لها، حتّى يمتلكها بكرا نقية، ثمّ يبعثها ثانية في سياقات جديدة، فتتحرّك لديها رغبتها المكبوتة في الابتداع والاغتراب والتّأسيس يقول د.حمادي صمود: ” ليست اللّغة في هذه النّصوص (يقصد النّصوص الرّاقية) أسماء لمسميات وإنّما هي إمكان يختزل ارتداد لكلّ أطوار التّاريخ الّتي علّقت بها ليفتح أحاسيسنا على بهاء البدايات ونقائها حتّى لكأنّ الكتابة الحقّ في جوهرها صراع مع ذاكرة اللّغة ومحاولة إقصاء ما علّق بها من تجارب الآخرين معها والرّجوع بها إلى هذا الزّمن السّحيق لتتمّ للكاتب لذّة التّفرد ومتعة الامتلاك لها نقية بكرا لم يمسسها أحد قبله، معه تكتشف وجودها وفي رحاب ما كتب يبدأ تاريخها..”(5). إنّ المعنى بقدر ما يؤثّر فيه التّاريخ لأنّه متداول في محيطه و في تفاعل المؤثّرات الخارجيّة، فإنّه في الآن نفسه شاهد على عصره، يحتكم إليه ليدلي برأيه في أمّهات القضايا. استنطاقه يكشف الرّهانات المنذور إليها والإستراتيجيات الّتي يرام تحقيقها.
3 المعنى: التّرحال / التّثاقف
المعاني حينما يكتمل تشكّلها في أفكار ومفاهيم ومقولات ترفض المصادرة والاحتكار، وتتمرّد على حدود المكان، يقول محمد لطفي اليوسفي: ” إنّ عمليّة نقل المفهوم من ثقافة إلى أخرى لا يمكن أن يحصل على التمام إلّا متى حدث فعل تحويله، فالأفكار والمفاهيم والمقولات تولد منذورة للسّفر وللهجرة والتّرحال ” (6). تأشيرتها في عبور الأقاليم والحضارات حملها المعرفي وكثافتها الدلاليّة وما تختزنه من رغبة جامحة في معانقة الآخر والانسلال داخل أنسجته المعرفيّة واختراق فضاءاته الثّقافيّة. إنّ تاريخ الأفكار تاريخ هجرة لا إقامة، تاريخ ترحال وعبور وهو ما يمنح الثّقافة أهميّتها وخطورتها (7). المعاني كائنات عاشقة، تبحث دوما عمن تحاوره وتجسر معه علاقات تواصل وتنافذ. الآخر ضامن لتجدّدها وسفرها يؤمن بقاءها. المعاني إنسانيّة حدّ النّخاع رغم ما يصيبها من انحسار وتكلّس في بعض الأحيان على يدي أقوام أسارى نرجسيتهم المرضيّة. كلّ الأمم تحمل في موروثها بصمات الآخر، رائحته، لونه وطعمه. ولكلّ مفهوم مهما تقادم فرصة الانتعاش والتّجدد. فرصة الانتقال من الدّلالة المتعارفة إلى ما وراءها من دلالات ممكنة ومحتملة (8). إنّ نقل المعنى من لغة إلى لغة أخرى ومن ثقافة إلى أخرى، لا يعني البتّة تبسيطه وإفقاره وإرغامه على النّزول في غير أوطانه، بل يعني إثراءه بفتحه على أبعاد جديدة وتوسيع دائرة دلالاته الممكنة والمحتملة، وبذلك يتساوى ناقل المفهوم بمبتدعه، لأنّ النّقل في هذه الحال يكون خلق وتأسيس. فالمفهوم حالما يحطّ رحاله في بيئته الجديدة يشرع في إحداث تغيرات في صميم الفكر الّذي استعاره و استدعاه. إنّه يفعل فعله في الفكر الّذي استقدمه خلخلة للسّائد فيه و تجديدا لأسئلته واغتذاء بنسغه، كلّ ذلك مرتهن بمدى قابلية الفكر لذلك المعنى في حله وترحاله، يقيم علاقة بين عالمين مختلفين وثقافتين متغايرتين، وجودهما قائم على انفتاحهما أخذا وعطاء ولا تفاضل بينهما. ففي الأدب المقارن يتجلّى بوضوح ترحال المعنى وهجرته. إنّه سفر قائم على مفهوم التّأثر الّذي اعتمدته الفرنسيّة التقليديّة في الأدب المقارن، والتّأثر يحول الطّرف المتأثّر إلى طرف سلبي وينسب العناصر الإيجابيّة كلّها إلى الطّرف المؤثّر وهو أمر وقع تجاوزه بل إثراؤه، فقد أمكن لنظريّة جماليات التّلقي الألمانيّة أن تبيّن أنّ التّأثير لا بدّ أن يسبق بتلق حتّى يؤتي أكله والتّلقي عمليّة إيجابيّة تتمّ وفق حاجيات المتلقي و بمبادرة منه وفي ضوء أفق توقعاته، فيصبح المتلقي طرفا فاعلا وإيجابيا وأصبح التّلقي شرطا لأي تأثير وأصبح بالإمكان إستبدال مصطلح التّأثير بمصطلح جديد هو “التّلقي المنتج والإبداعي ” (9). وهكذا تحوّلت دراسات ” التّلقي الإبداعيّ ” إلى ميدان خصب من ميادين الدّراسات الأدبيّة المقارنة، مجال آخر يسافر فيه المعنى، إنّه التّناص الّذي تعتبره جوليا كريستيفا أحد مميّزات النّص الأساسيّة والّتي تحيل على نصوص أخرى سابقة عنها أو معاصرة لها (10). وقد تكون هذه النّصوص تنتمي إلى نفس الثّقافة أو هي تنحدر من آداب مختلفة، والشّيء نفسه يمكن أن يقال عن السيميائيّة بآعتبارها علما تمحض للدّلالة على العلم الّذي يعنى بدراسة تآلف الظّواهر الّتي تستند إلى نظام علامي إبلاغي في الحياة الاجتماعيّة كنظام اللّغة والأزياء والمآكل..(11). و هي أنظمة يمكن أن تتبادل بين الثقّافات المختلفة.
*******
المراجع والإحالات:
- رولان بارت: ” نظرية النّص “، ترجمة: منجي الشملي، عبد الله صولة ومحمد القاضي، حوليات الجامعة التونسية، عدد27 السنة 1988، ص70.
- الأثر تحويه اليد والنص يحويه الكلام.
- الدّال: مادية الحروف وأخذ بعضها برقاب بعض في ألفاظ وجمل وفقرات وفصول، والمدلول معنى أصلي، أحدي الدلالة نهائي، حسب ميتافيزيقا الحقيقة.
- مطاع صفدي: ” الحداثة/ ما بعد الحداثة: من تأويل القراءة إلى تمعين التأويل “، مجلة الفكر العربي المعاصر، بيروت، العدد 54/55، أوت 1988.
- حمادي صمود، قراءة نص شعري من ديوان ” أغاني مهيار الدمشقي ” لأدونيس، ضمن أعمال ندوة صناعة المعنى و تأويل النص، منشورات كلية الآداب بمنوبة،1992، ص 353.
- د.محمد لطفي اليوسفي:” أكادميون جدا صنعوا النقد علما…ونسوا مكائد اللغة وثأر الكلمات ” جريدة أخبار الأدب، عدد 293، بتاريخ 21 فيفري 1989،ص 14.
- المرجع نفسه ص 15.
- المرجع نفسه ص 15.
- د.عبده عبود: ” الأدب المقارن والإتجاهات النقدية الحديثة “، مجلة عالم الفكر،المجلد الثامن و العشرون، العدد الأول، يوليو/ سبتمبر، 1999، ص ص293-294.
- د.سعيد علوش: معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، بيروت / الدار البيضاء، 1985، ص215.
- د.عبد السلام المسدي: الأسلوبية والأسلوب، تونس، الدار العربية للكتاب، ط 3، 1982، ص 182.
- المصدر: https://www.alawan.org/2020/01/22/%d8%a2%d9%84%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d8%a5%d9%86%d8%aa%d8%a7%d8%ac-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b9%d9%86%d9%89-%d8%a3%d9%88-%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%91%d9%84%d8%a7%d9%84%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%ad%d9%84%d9%91%d9%87/